عرض مشاركة واحدة
قديم 07-02-2012, 09:45 PM   رقم المشاركة : 99
معلومات العضو
عضو مميز
 
الصورة الرمزية ابوحاتم
 
إحصائية الترشيح

عدد النقاط : 10
ابوحاتم is on a distinguished road


 

الاستقرار وأهميته في حياة المسلمين
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 2شعبان 1433هـ بعنوان: "الاستقرار وأهميته في حياة المسلمين"، والتي تحدَّث فيها عن أهمية الاستقرار في حياة كل مسلمٍ؛ بل كل إنسانٍ على وجه هذه البسيطة؛ إذ النفوسُ تهفُو إليه، وتسعَى بكل ما تملِك لتحقيقه ونَيْلِه، وبيَّن أن الكتابَ والسنةَ جاءا مُجلِّيان هذه المعاني، مُنبِّهًا إلى أن الدعوةَ إلى الاستقرار لا تعنِي عدم التصحيحِ للأخطاء، مُشيًا إلى خطأ بعض المُصطلحات التي تناثَرَت في وسائل الإعلام في هذه الآونةِ بشأن الفوضى والاستقرار.

الخطبة الأولى
الحمد لله الواحد الأحد، الفردِ الصمد، الذي لم يلِد ولم يُولَد، ولم يكن له كُفُوًا أحَد، خلقَ فسوَّى، وقدَّر فهدَى، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[القصص: 70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، وخليلُه وخِيرتُه من خلقه، بعثَه الله بين يدَي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، فبلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأمَّة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى الصحابة والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -؛ فإنها مفتاحُ السعادة، وبريدُ النجاةِ والفوزِ بالنعيم المُقيم، أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[يونس: 62، 63].
عباد الله:
مطلبٌ منشود، وحاجةٌ مُلِحَّة، وغايةٌ تركَنُ إليها الخلائِقُ على هذه البسيطة؛ لعلمِها وإدراكِها بأن الحياةَ بدونها خِداجٌ. هو مطلبٌ شرعيٌّ ودنيويٌّ، وهو مطلبٌ دُوليٌّ ومحليٌّ، وأُسريٌّ، وسياسيٌّ، واقتصاديٌّ، وتربويٌّ. إنه - يا رعاكم الله -: الاستقرار؛ نعم، الاستقرار بكل ما تحمِلُه هذه الكلمة من المعنى الكبير والمِفصلٍ المُهمِّ في تحديدِ المصير؛ حيث إن جميعَ شؤون الحياة مرهونةٌ به وجودًا وعدَمًا.
إنه الاستقرار الذي يعني: الهدوءَ والثبوتَ، والسُّكونَ والطمأنينةَ، والتكامُلَ والتوازُنَ. إنه الاستقرار الذي يُقابِلُ الشَّغَبَ والاختلالَ، وإنه الانتظام الذي يُقابِلُ الفوضى والاستِهتار، فبالاستقرار يسودُ الأمنُ، وبالأمن يؤدِّي المرءُ أمرَ دينه ودنياه بيُسرٍ وسهولةٍ، وطمأنينة بالٍ.
والاستقرارُ نعمةٌ كُبرى يمُنُّ الله بها على عباده في حين أن فُقدانَه بلاءٌ وامتِحان، كما قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[البقرة: 155].
ومن تأمَّل نعمةَ الاستقرار حقَّ التأمُّلِ فسيرَى بصفاءِ لُبِّه وفِكره أن هذه الضرورةَ يشترِكُ فيها الإنسُ والجنُّ والحيوانُ الأعجَمُ، كلُّ هذه المخلوقاتِ تنشُدُ الاستقرارَ، ولا حياةَ هانِئةً لها بدونِه؛ فقد جاء النهيُ عن البولِ - أجلَّكم الله - في الجُحْرِ؛ لأنه من مساكنِ الجنِّ، والبولُ فيه سببٌ في إيذائِها المُفرِزِ إيذاءَها للإنسِ.
وأما الحيوانُ الأعجمُ؛ فقد قال أبو مسعودٍ - رضي الله عنه -: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، فانطلقَ لحاجته، فرأينَا حُمَّرةً معها فَرْخان، فأخذنا فرْخَيْها، فجاءت الحُمَّرة فجعلَت تفرُشُ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «من فجَعَ هذه بولدَيْها؟ رُدُّوا ولدَيْها إليها»؛ رواه أبو داود.
وأما أثرُ الاستقرار، وحاجةُ بني الإنسان إليه؛ فقد جاء في كلماتٍ يسيراتٍ من فمِ صاحبِ الرسالةِ - صلوات الله وسلامه عليه - الذي أُوتِيَ جوامعَ الكلِم؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبحَ آمنًا في سِربِه، مُعافًى في بدنه، عنده قُوتُ يومه؛ فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافِيرها»؛ رواه الترمذي، والبخاري في "الأدب المفرد".
ولما كان الإسلامُ هو شِرعَةَ الله ومنهاجَه، وصِبغتَه وفِطرتَه التي فطَرَ الناسَ عليها، وهو - سبحانه - أعلمُ بخلقه وبما يصلُحُ لهم في حياتهم ودينهم ودنياهم، وعاقبةِ أمرِهم وآجِلِه؛ فقد شرعَ لهم من الدين ما يكونُ سببًا للاستقرار.
ولما كانت نُظُمُ المُجتمع المُختلفة - سياسيَّةً واقتصاديَّةً، ودينيَّةً وتربويَّةً - تُشكِّلُ البناءَ الاجتماعيَّ الذي يُشبِعُ احتِياجَ المُجتمعات دون تنغيصٍ؛ فقد جعلَت الشريعةُ الغرَّاءُ الاستقرارَ مِقياسًا رئيسًا في كل مشروعٍ، ووجودُه سببٌ في النجاحِ، وفُقدانُه فشلٌ في السيرِ الآمِن في مَهامِهِ الحياة ودُرُوبِها، واختلالٌ لكل مشروعٍ مطروحٍ؛ لأن الاستقرارَ هو التكامُلُ والتوازُنُ وحارِسُ المسيرة.
وعندما نرى أن الأُسرةَ مُجتمعٌ صغيرٌ؛ فقد ظهرت عنايةُ الإسلام بالاستقرارِ في رِحابِها، ورأْبِ كل صَدعٍ يُخِلُّ بمنظومةِ الأُسرةِ التي هي لبِنَةٌ من لبِناتِ المُجتمع الكامِلِ؛ فقد حرِصَ الإسلامُ على توطيدِ الاستقرارِ فيها، وبَذلِ الجهود في ألا تخسرَه أيُّ أُسرةٍ إلا في حالاتِ الفَشَلِ الذَّريعِ وتعذُّر الاجتماع، فقد قال الله - جل وعلا - عن الزوجين: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا[النساء: 35].
فإذا كان هذا هو موقفَ الإسلام في حقِّ الأُسرة الصغيرة؛ فما ظنُّكم بحقِّ الأُسرة الكبيرة التي هي المُجتمعُ المُسلِم المُجتمِعُ تحت لواءٍ واحدٍ وإمامٍ واحدٍ؟ ولا شكَّ أن الأمر أشدّ والثُّلْمَةَ فيه أخطرُ من أيُّ ثُلْمَة؛ لأن بانعِدامَ الاستقرار فيه انعِدامًا لقيمةِ الحياة الحقيقية.
وربُّ أسرةِ المُجتمع الكبير هو قائدُها وإمامُها ووليُّ أمرها الذي يرعَى شُؤونَها بالعدلِ والحقِّ والرحمة، ولأجل هذا جاءت شريعتُنا الإسلاميةُ سادَّةً لكل ثغرٍ يُمكنُ أن يُنغِّصَ هذا المفهومَ، أو أن يتسلَّلَ من خلاله لِواذًا؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «من أتاكم وأمرُكم جميعٌ يُريدُ أن يُفرِّقَ جماعتَكم فاقتُلُوه»؛ رواه مسلم.
وما ذاكَ - عباد الله - إلا حمايةً للمُجتمع، وتوطيدًا للاستقرار؛ لأن في قتلِ المُزعزِعِ وحده حياةَ المُجتمع كلِّه.
بَيْدَ أن الدعوةَ إلى الاستقرار لا تُلغِي تصحيحَ أي خطأٍ ألبَتَّة، كما أنها لا تقِفُ حجر عثرةٍ أمام السعيِ إلى الانتقالِ من الأمر الفاسدِ إلى الأمر الصالح، أو من الأمرِ الصالحِ إلى الأمرِ الأصلَحِ، أو درء الأمر الفاسدِ بالأمر الصالحِ، أو درء الأفسَد بالأقلِّ فسادًا. فهذه هي أُسُس التصحيحِ المُلائِمِ لمبدأ الاستقرار.
وحُقَّ لنا أن نستلهِمَ هذه السياسة الشرعيَّة واعتبار قيمة الاستقرار في اتخاذ الخُطوات والتدابِيرِ والمُوازَنة بين المصالحِ والمفاسِدِ من قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -: «لولا حداثةُ قومِك بالكُفر لنقضتُ البيتَ - أي: الكعبة - ثم لبنَيتُه على أساس إبراهيم - عليه السلام - ..» الحديث؛ رواه البخاري، ومسلم.
ومثلُ هذه المواقف كلما كانت هادِئةً مُتَّئِدةً مُتدرِّجة فإنها ستُوصِلُ إلى الغايةِ المنشودة؛ لأن الفوضَى لا تُثمِرُ إلا تفكُّكًا، والشغبَ لا يَلِدُ إلا عُنفًا واضطرابًا، والسعيُ الهادئُ بلا التفاتٍ يُوصِلُ إلى المُبتَغَى قبل السعيِ المشُوبِ بالالتفاتِ؛ لأن المُتلفِّتَ كثيرًا لا يصِلُ سريعًا، والالتفاتُ لا يكونُ ما دامَ الاستقرارُ هو المُهيمِنَ على مراحلِ العملِ والمسيرِ، ولقد صدقَ الله: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال: 46].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفرُ الله إنه كان غفَّارًا.

 

 

   

رد مع اقتباس