سوريا .. الفرَج قادم
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 75/1433هـ بعنوان: "سوريا .. الفرَج قادم"، والتي تحدَّث فيها عن بلاد الشام وما ألمَّ بها من خُطوبٍ ومِحَنٍ وبلايا، وهو يُذكِّرُ المسلمين عامَّةً وأهلَنا فيها خاصَّةً بوجوب الصبر والاحتِسابِ؛ فإن نصرَ الله قريبٌ، وبتمسُّك الأمة بعقيدتها، وتلاحُمها وتراحُمها فيما بينها تُنصَر على أعدائها، ثم ختمَ خُطبتَه بدعَواتٍ مُبارَكاتٍ لإخواننا المُستضعفين في سوريا وغيرها من بُلدان المُسلمين.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، سبحانه وبحمده ابتلَى النفوسَ بالسرَّاء والضرَّاء فزكَّاها واحتثَاها، ورقَّاها واصطفاها.
لك الحمدُ حمدًا يملأُ الأرضَ والسما
كثيرًا غزيرًا ما يُعدُّ ويُحسَبُ
لك الحمدُ يا غفَّارُ ما هلَّ صيِّبٌ
بزاخرِ وبْلٍ فيضُهُ ليس ينْضَبُ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً ندرأُ بها الفتنَ اعتقادًا وشفاهًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من تصبَّر في النوائبِ فانتصَرَ بفضلِ الله وتلافاها، ومحا معالمَ الظلم والطغيانِ فعفَّاها، اللهم فيا ربِّ صلِّ وبارِك عليه، وعلى آله الطاهرين الميامين أزكى البريَّة قلوبًا وأصفاها، وصحبهِ الكرامِ البَرَرة خيرِ من اعتصَمَ بالشريعة الغرَّاء وتقفَّاها، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين يرجو من الباري رحماته ومُوفَّاها، وسلَّم تسليمًا كثيرًا عديدًا مُبارَكًا مزيدًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
خيرُ ما يُوصَى به في أول الأمر وبادئِهِ، وخِتامه وعائِدِه: تقوى الله - عز وجل - في كل الآناء، في الكُرَب واللأواء، والمِحَن والبأساء؛ فتقواه - سبحانه - تكشِفُ كُرَبًا وقلقًا، وتُبدِّدُ فزعًا وفرَقًا، ويأسًا وأرَقًا، وكم تُحقِّقُ نصرًا وألَقًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[الطلاق: 2، 3].
وتمسَّكوا بجَنابِ تقوى ربِّكم
كي تسلَموا من سُخطِهِ وعقابِهِ
وتجنَّبوا سبقَ الخُطى فلكم هوَى
عبدُ الهوى من حِصنِهِ وعُقابِهِ
أمة الإسلام:
في حوالكِ الكُروب، ومعامِعِ الخُطوب، ومُدلهِمَّات الدُّروب، وتحت وطأةِ مناسنِ اللُّغوب التي تعتوِرُ المُسلِمَ إبَّان الشدائدِ والضوائق، والأرزاءِ والعوائق؛ تشرئِبُّ النفوسُ إلى إشراقات الطمأنينة، وبشائرِ الانبلاجِ والسَّكينة، وتتطلَّعُ الأرواحُ إلى أرَجِ الرحمات المُسرِّيَات، وعبَقِ النَّفَحات المُسلِّيَات، ويزدادُ الأمرُ إلحاحًا وتأكيدًا في هذه الآونةِ العصيبة، والحِقبةِ التأريخية اللهيبة التي أحدَقَت بأمتِنا اللهيفَةِ من أطرافِها، وتناوشَتْها المِحَنُ من سِواها وأكنافِها، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21].
أيها المؤمنون:
من استلهَمَ حقائقَ الغِيَر السَّوَالِف، واستنطَقَ دقائقَ الفوادِحِ الخَوالِفِ، وراضَ بصيرتَهُ في رياض الوحيَيْن الشريفين؛ أيقَنَ دون أدنى مَيْن أن المُسلِمَ غرضٌ لفواجِعَ ونوائِب، تذَرُ القلوبَ ذوائِب، سُنَّةُ الله في الخلق ماضية، وحِكمةٌ منه في البرايا قاضية، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[محمد: 31].
ولنا في إمام الأتقياء - صلى الله عليه وسلم - خيرُ قُدوةٍ وعزاء، والناسُ في صُروفِ المِحَن صِنفان:
من أناخَ رِكابَهُ في جنبِ الله واستكفاه، وتوكَّل عليه ورجاه، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[الطلاق: 3].
والصِّنفُ الثاني: من إذا ضافَتْه رزِيَّةٌ جَزِعَ وتسخَّطَ، وفي أودِيَةِ اليأسِ اضطربَ وتخبَّطَ، وظنَّ بالله الظنُون، واستصرَخَ ريبَ المَنون، مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ[الحج: 15].
فضاؤُهُ - سبحانه - نافِذٌ صائر، وحُكمُه في البريَّة سائِر، لا رادَّ لما قدَّرَه، ولا مُعقِّبَ لما أبرَمَه ودبَّرَه، وما يمَسُّ المُؤمِنَ من فوادِحَ وضرَّاء، ومِحَنٍ وبأساءٍ فهو لفريقٍ كفَّارةٌ وإمهالٌ، وتذكيرٌ بالرَّغَب والرَّهَب والابتِهال، ولآخرين مَرقاةٌ لدرجاتِ الكمال. فلا يضجَرنَّ المؤمنُ البصيرُ إن عَراهُ خَطبٌ عسير؛ فأثبتُ الناسِ عند الصُّروف وأعظمُهم صبرًا أفضلُهم عند الله منزلةً وقدرًا، وما يبتلِي اللهُ عبدَه إلا ليُطهِّرَه من الذنوب أو يُعظِمَ له أجرًا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[البقرة: 177].
وجلَّت حكمةُ الله عن الإعناتِ والتعذيبِ؛ بل هي للاجتباءِ والرحمةِ والتهذيبِ، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19]، فدونَ الشهدِ لا بُدَّ من إبَرِ النَّحْلِ، ودون الرُّطَب سُلَّاءُ النَّخْلِ، وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد: 4].
إخوة العقيدة:
والمؤمنُ راسِخُ الإيمان يُوقِنُ أن الشدائدَ - لا مَحالةَ - إلى تقشُّعٍ وانقِضاء، متى فزِعَ إلى من بيده تصاريفُ القضاء، فكأيٍّ من مكروهٍ وافاه الفرَجُ في طرفَة عينٍ، وتضوَّعَ منه السرورُ دون عناءٍ وأَيْن.
إذا اشتملَت على اليأسِ القلوبُ
وضاقَ لما به الصدرُ الرَّحيبُ
أتاكَ على قنوطٍ منك أمرٌ
يمُنُّ به اللطيفُ المُستجيبُ
معشر المسلمين:
وما يكونُ من المِحَن في الأفراد والذَّوات يُصيبُ أيضًا الأُمَمَ والمُجتمعات، وها هو واقِعُنا الرَّاهِنُ خيرُ شاهدِ عيانٍ وأصدقُ مُنبِئٍ وبُرهان؛ فكم من أُمَمٍ وانِية عزَّت بعد هُمود، ونهَضَت بعد خُمُود، وسادَت بعد جُحُود! وكم من أقوامٍ بطِروا معيشتَهم تحطَّموا في الوجود، وشيَّعَتهم الدعواتُ السَّاخِطاتُ إلى الأرماسِ واللُّحود؛ جزاءً وِفاقًا بما كان منهم من العِنادِ والكُنُود، والإفسادِ الذي طبَّقَ شرُّه السُّهُولَ والنُّجُودَ، وأشباهُهم - دكَّ الله جِباهَهم - تناسَوا في عُتُوِّهم قوةَ الله التي لا ترُدُّها الحُصون، وسطوتَه التي لا تحُولُ دونَها الوُكونُ، وجبرُوتَه الذي لا يعزُبُ عنه الانسِرابُ والكُمُون.
أنَّى كان طاغيةُ الشامِ ويكونُ؟! وإن كان في عُقر القِلاعِ الحَصينةِ المَشيدة، وخلفَ المتارِسِ الشديدة؛ فاللهُ المُنتقِمُ طَليبُه، والديَّانُ الجبَّارُ حَسيبُه؛ جزاءَ بغيِهِ وطُغيانه، وتمرُّده وعُدوانه، فاللهم دمِّر أهلَ الظلم والطُّغيان والعِناد، كما دمَّرتَ قومَ نوحٍ وعاد، وثمود وفرعون ذي الأوتاد.
أتُداسُ أقداسُ الجُدود تعنُّتًا
ومساجِدُ التقوى تُهانُ وتُزدَرَى
ودمُ الثَّكَالَى واليَتَامَى مُهرَقٌ
يجري على أشلائهم مُتحدِّرًا
وإزاءَ تلك العظائمِ القواصِم، والويلاتِ الحواطِم، تتوهَّجُ في الأفئدةِ أقباسُ الغضبِ والحمِيَّة، وتتردَّدُ في نفوسِنا الكَلْمَى لوعَاتُ الفَجيعةِ الدموِيَّة حِيالَ أولئك الجَلاوِزَةِ العُتاة، والجَعاظِرَة القُساة، الذين تأجَّجَت في عيونِهم جُدَى التدمير والتَّنكيل، واسوَدَّت في قُلوبهم جِمارُ الإبادةِ والتَّقتيل، رُعونةٌ تجاوَزَت النَّظير، وصَفاقَةٌ فاقَت المَثِيلَ، مما يتطلَّبُ - وعلى الفورِ - وقفَ العُنفِ وإراقةِ الدماءِ، ويُؤذِنُ بكارثةٍ إنسانيةٍ لن ينسَها التأريخُ المُعاصِر.
وإن دماءً أُهدِرَت سوف يصطلِي
بموَّارها الطُّغيان والمارِدُ النَّكْرُ
فإن يجرِي في الأعماقِ تيَّارُ ثأرها
فقد ضاقَت الأرواحُ وامتلأَ الصَّدرُ
أيها المسلمون:
وفي كتابِ ربِّنا أعظمُ العِبَر والدُّروس، والعِظاتِ التي تُثبِّتُ النفوس، نفوسَ الأعِزَّة القِلَّة، والأبطال الأجِلَّة، الذين يُقارِعون الطُّغاة في دمشق الصامِدة، وحلَبَ الشَّهباء، وحِمصَ الصابِرة، وإدلب وحماةَ الباسِلة، ودَرعا وبابا عمرو، وسِواها من تلك الرُّبُوع الشامخة؛ فدمشقُ دمعٌ لا يُكفكَف، وآهاتٌ لا تُخفَّف، لكنَّ بشائرَ النصر تلُوح، وراياتِهِ خفَّاقةٌ تُرفرِف، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ[الحشر: 2]، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ[البقرة: 249].
الله أكبر، الله أكبر! إنه النصرُ المُبينُ المُؤزَّر؛ فاللهَ اللهَ في الصبر والثبات، فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال: 45، 46].
إخوة الإسلام:
وإن المقاصِد العظيمة والغاياتِ السَّامِية النَّبيلة لإخواننا في سُورية المُضمَّخة بنور العقيدة لتتَهاوَى حِيالَها شُمُّ المتارِسِ والمَعاقِل، ويُؤازِرُها كلُّ غَيُورٍ عاقل، ولا يُصادِمُها إلا فَدْمٌ أعيَى من باقِل؛ كيف وشِعارُهم: الله أكبر، ولن نركَعَ إلا لله، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ[الحج: 40]، إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد: 7]،
ونِعْمَ الشِّعار! وثَغرُهم دارُ الشامِ، ونِعمَ الدَّارِ! أولئك الذين يستجمِعون أخلاقَ النصر وأسبابَه، وايْمُ الله هم المُنتصِرون، والذين يستلئِمون بأخلاقِ الهزيمةِ هُمُ المُنهزِمون.
يا رِجالَ الإسلام هُبُّوا وكونوا
دائمًا للبُغاةِ بالمِرصادِ
لا يرُدُّ الحُقوقَ إلا إباءٌ
يصطلِي من أُوارِهِ كلُّ عادِي
أمة النصر والأمجاد:
وإننا لنتفاءَلُ - بإذن الله - بانبِلاجِ صُبح النصر المُبين، في كل مكانٍ على الضِّرابِ والآكام لإخواننا في بلاد الشامِ الأبِيَّة، هاتِفين: صَبرًا صَبرًا .. فإن مع العُسرِ يُسرًا، إنَّ مع العُسر يُسرًا، ومع اليُسر نصرًا، وطُوبَى لكم طُوبَى، وستبرُقُ بين بيارِقِكم بوعدِ الله بوارِقُ الفجر، وتباشيرُ النصر، وسيُسطِّرُ التأريخُ بمِداد البُطُولةِ ملحَمَة العِزَّة والفخر؛ فالبغيُ مهما زمجَرَ فإلى تتبيرٍ وزَوالٍ، ومهم دمَدَمَ فإلى غُبُورٍ ودَوالٍ.
يا ربِّ! حِمصٌ مُزِّقَت أوصالُها
والسِّترُ يُهتَكُ في رُبوعِ الشَّامِ
فاجعَل عيونَ المؤمنين قريرةً
بدمشق ترفعُ رايةَ الإسلامِ
ألا بحبلِ الله فاستعصِموا، وبالعزيز القدير استنصِروا، تُنصَروا وتستبصِروا، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة: 214]، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
بارك الله ولي ولكم في الوحْيَيْن، ونفعني وإياكم بهَدي سيدِ الثَّقَلَيْن، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[يوسف: 100]، وتوبوا إليه واستغفِروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.