تقوى الله بصيام رمضان
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 5/8/1432هـ بعنوان: " تقوى الله بصيام رمضان"، والتي تحدَّث فيها عن شهر رمضان وما فيه من عِظات وعِبر، وذكر أبرزَ الأعمال التي يملأُ بها المسلمُ فراغَه ووقته في هذا الشهر المبارك، وأشار إلى أهمية الالتفات إلى إخواننا المنكوبين والعطف عليهم.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي أفاضَ علينا من خيره ولم يزَل يُفيض، يدُه سحَّاء الليل والنهار، لا تُعجِزها نفقةٌ ولا تغيض، له المحامدُ والمكارم فلا يُحيطُ بحمده نثرٌ ولا قَريض، أحمده تعالى أشكره، وأُثني عليه وأستغفره، تفضَّل علينا بسيد الشهور، ويسَّر لنا فيه ما نحوزُ به عظيمَ الأجور، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم البعث والنشور.
أما بعد:
فالوصيةُ المبذولةُ الكبرى هي الوصيةُ بالتقوى؛ بها تكفيرُ الذنوب، والنجاةُ من الخُطوب، ومعرفةُ الحق حين التباسِ الدُّروب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الأنفال: 29].
ترفَّعوا عن هذه الدنيا كما زهِد فيها الصالحون، وأعِدُّوا الزادَ لنُقلةٍ لا بد لها أن تكون، واعتبِروا بما تدور به الأيامُ والسنون، وتنبَّهوا فالغفلةُ قد تناهَت، والفتنُ عاصفةٌ قد تدانَت، ورحِم الله من تداركَ نفسَه، فشتَّان بين من عصَى اللهَ وخالفَ أمره وبين من قطع عمره في معاملة ربه وذكره، ولزِمَ الوقوف ببابه، ومرَّغ خدَّه على أعتابِه، فيا خجلةَ الخطَّائين، ويا ندامةَ المُفرِّطين.
أيها المسلمون:
شهرُكم المُعظَّم قد حلَّ، وفرصتُكم في التزوُّد حانَت، والعبدُ في هذا الشهر إما مُوفَّقٌ أو مخذول، أما وقد مضى من شهرنا ليالي، فستمرُّ أيامه سِراعًا، وتمضِي تِباعًا، وسيكون من شأن المُوفَّقين تحصيلُ وافِر الأجور، والسعادة في الدنيا وفي يوم النُّشور.
وسيبكي أقوامٌ أسًى وندمًا على ضياعِ الليالي وفواتِ الأوقات، ولاتَ ساعة ندمٍ ولا بكاء، فاستبِقوا الخيرات، وتدارَكوا الأيام بالباقيات الصالحات، وقد صحَّت الأخبارُ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان - أن «من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قامَ ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه».
وصحَّ عن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رغِم أنفُ امرئٍ أدركه رمضان فلم يُغفَر له».
فكم رغِمت أنوفٌ ألهَتها شهواتُها والأهواء، ويا أيها الراكبون خلف سراب الدنيا قد حبسَت الأشغالُ أنفاسَهم، ويا أيها اللاهِثون وراء متابعة الأخبار، الباحثون عن كل تفاصيل الأنباء وإشاعاتها، وإلى اللاهين بالمسلسلات والقنوات السادرين في غفلة المُوبِقات، قد أعشَت الشاشاتُ أبصارَهم؛ إنها فرصتُكم لتتوقَّفوا قليلاً، وإنه شهرُكم لتهدأ فيه الأنفاس، ويطمئنَّ القلبُ، وتؤوبَ الروحُ إلى باريها، تبحثُ عن السعادة في جنَبات المسجد، ومن خلال آي القرآن، وتأنسُ بالجلوس للأسرة والأولاد.
ليكن شأنُكم التقلُّل من أعراض الدنيا، والإحسانَ إلى الأقربين، وإدامةَ ذكر الله، وتحقيقَ التقوى التي شرعَ الله الصيامَ لأجلها: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183].
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفُث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتَلَه فليقل: إني امرؤٌ صائم»؛ رواه البخاري ومسلم.
فهذا توجيهٌ لما يجبُ أن يكون عليه الصائم من كمال النفس، وطِيب الروح، وتأثير التقوى؛ لأن رمضان يصِل النفوس بالله فيُشرِقُ عليها من لدُنه النور حتى تذوقَ حلاوةَ الإيمان، ومن ذاقَ حلاوةَ الإيمان لم يعرفِ البغضاء ولا الشر ولا العُدوان.
وإذا تحقَّقت التقوى في القلوب فإنه تمحُو الغشَّ من نفوس أهلها محوًا، ويملؤها خوفُ الله ورجاؤه فتعِفُّ نفوسهم عن الحرام، وتغضُّ أبصارهم عن المحارم، وتقِف ألسنتُهم عن الكذب؛ لأنها جرَت بذكر الله واستغفاره، وهانَت عليهم الدنيا حين أرادوا اللهَ والدار الآخرة، فغدَا الناسُ آمنين أن يغشَّهم تاجر، أو يعتدِي عليهم فاجِر.
أيها المؤمنون:
الصومُ الحقُّ يسوقُ المؤمنَ إلى تقوى الله سوقًا، ويحدُوه إلى العمل الصالح، والسعي والمسارعة إلى الحسنات تدارُكًا للزمن الفاضل، ومُبادرةً قبل الفوات؛ بَيدَ أن المُشاهَد في الحال أن رمضان لا يعدُو عند الكثيرين أن يكون توقُّفًا عن الطعام والشراب فحسب من غير زيادة عمل، ولا مزيد ورع، والله تعالى يقول: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
فإن لم يزدَد إيمانُك، وتكثُر أعمالُك، وينتهي عصيانُك، فراجِع نفسَك لئلا تكون من المُفرِّطين.
وإذا آمنَ الإنسانُ بالله العظيم، وأيقنَ باليوم الآخر والحساب والجزاء دفعَه ذلك إلى استرضاء ربه والاستعداد للقائه والاستقامة على صراطه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183]، بدأ بالإيمان وختمَ بالتقوى.
ومن الضلال أن يهبِط الإنسانُ بحقيقة الدين، فيجعلُ الإسلامَ كلمةً لا تكاليفَ لها، وأمانيَّ لا عمل معها، فلا يقوم إلى واجب، ولا ينتهي عن محرم، فيكون من الذين اتخذوا دينَهم لهوًا ولعبًا وغرَّتهم الحياةُ الدنيا.
وما من آيةٍ في كتاب الله ذكرت الإيمانَ مجردًا؛ بل عطَفَت عليه عملَ الصالحات أو تقوى الله أو الإسلامَ له؛ بحيث أصبحت صلةُ العمل بالإيمان آصرةٌ لا فَكاك عنها، وكثيرًا ما يُشار إلى الإسلام وحقيقته الشاملة بمظاهر عمليةٍ محدودة، فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ[البلد: 11- 16].
بل إن العلامة التي ينصِبُها القرآنُ دليلاً على فراغ النفس من العقيدة، وخراب القلب من الإيمان هي في النُّكوص عن القيام ببعض الأعمال الصالحة، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ[الماعون: 1- 3].
يتقرَّر هذا - أيها المسلمون - في مشهد الضعف العام والتوانِي عن الأعمال، وهناك أناسٌ مزَّقَت المعاصي صِلَتهم بالله شرَّ مُمزَّق، وظلَّت أهواؤهم تجنحُ بهم بعيدًا عن الله حتى نسوا اللهَ أتمَّ نسيان، ولم يعرِفوا قدرَ رمضان.
وإنكم - أيها المسلمون - تعرفون تاريخَ أممٍ هلَكت بسوء عملها، وتعرفون أن الله نقم على قوم لوط لارتكابهم الفاحشة، وعلى قوم شُعيب لبخسِهم المكيال والميزان، وقد عرفتُم مصائرَ أولئك الفاسقين؛ فهل أمتُنا وحدها هي التي تريد أن ترتكب السيئات دون حذرٍ أو وجَل، إن الإسلام ليس بِدعًا من الشرائع السابقة فيُوجِبُ الإيمان دون العمل؛ بل إن القرآن الكريم ليقُصُّ علينا عِبَر السابقين لنتَّعِظ منها، ثم لنسمَع قولَ الله بعد ذلك: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[يونس: 13، 14]، هكذا نُمتَحن، وتُراقَب تصرُّفاتنا، ويُكلِّفُنا الله بالإيمان والعمل جميعًا، ثم ينظر وفاءَنا بما حُمِّلنا من أعباء.
وقد خاطَبَ الله بني آدم بهذه الحقيقة الجليَّة، وأفهَمهم أن نجاتَهم في الصلاح والتقوى لا في النفاق والدعوى: يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[الأعراف: 35، 36].
فرمضان شهرٌ يُثمِر التقوى والعملَ الصالح لا مجرَّد الإمساك عن الأكل والشرب، و«من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ أن يدَع طعامَه وشرابَه»، ومن كان صادقًا فليجعل رمضان شهرَ عبادةٍ وخشوعٍ وتوبةٍ وإنابةٍ، يلتزِم فيه الأدب، ويترفَع عن الدنايا والرِّيَب، ويستحضِر العبودية بصيامه، ويعمُر وقتَه بالقُربات، ويستزيدُ من الطاعات، ما بين تلاوةٍ للقرآن، وتدبُّر لآياته، أو صدقةٍ وصلة، وإحسانٍ وبرٍّ، وذكرٍ لله تعالى بأنواع الذكر مع الخشوع والسكينة.
ويمضِي النهارُ كلُّه على ذلك، فإذا كان الأصيلُ ودنا الغروب تجلَّى رمضان على الكون بوجهه، فهشَّت له وجوهُ الناس، وهتفَت باسمه الشِّفاه، وانظر إلى رمضان وقد سكَّن الدنيا ساعة الإفطار، وأراحَ أهلَها من التكالُب على الدنيا والازدحام على الشهوات، وضمَّ الرجلَ إلى أهله، وجمعَ الأسرةَ على أطيب مائدةٍ وأجمل مجلس، وأنفع مدرسة.
ثم يتلو ذلك قيامُ الليل وتلاوة القرآن والدعاء والتضرُّع والإنابة والاستغفار، فيا باغِي الخير أقبِل، ويا باغِي الشر أقصِر.
تقبَّل الله منا ومنكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون[البقرة: 183- 186].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.