عرض مشاركة واحدة
قديم 03-02-2011, 01:54 AM   رقم المشاركة : 12

 

الزهور تبحث عن آنيـة


بقلم: عبدالعزيز مشري

يا للحب.. يا للعذاب .. يا للخجل
قل لنفسك الآن :
أين تضع هذه الزهور المخنوقة داخل هذه اللفافات الورقية؟
قل لي بصدقك .. من أين تأتي لها بآنية ؟ إنها سوف تمرض وتموت، وإلا فانقذها . قلت للممرضة ياسيستر لو سمحت.. هل لديك آنية تصلح لهذه الزهور ؟

يبدو أنها لم تفهم من أنجليزيتي المكسرة .. توقفت برهة ثم نفخت :

أوه .. زهور جميلة .. لحظة .

عادت بعد أن خرجت من الغرفة المزدحمة بأربعة أسرة (كلها بمرضاها، كنت أنا الخامس) خرجت لا أدري إلى أين ، ولكنها عادت ومعها إناء بلاستيكي معوج وله قاعدة تشك في أنها تصلح للثبات، اعتقد أنها ستطلب مني بولاً للتحليل كالعادة.. آسف لا يوجد غيره ، لكن يصلح للزهور ، لقد ملأته بالماء النقي .

بالطبع ، قالت :

شكراً، وذهبت تقص سيقان الزهور عن أسفلها وتقحمها بلا عناية في الإناء الخبيث .

لا عليك أيتها الزهور .. كم في السجن من مظاليم ..

كنت أتمدد على طولي فوق السرير حاشراً انفي في هواء الغرفة المختلط بأنات المريض المقابل(يقول الأطباء.. إن حالته ليست في وضع سيء ، وأن الأنات التي لا يريح بها نفسه ولا الجيران، ما هي إلا وهم تنامت عادته ليلاً ونهاراً) .

أما ظهري فكان قد يبس كالخشبة.. فكل ثقلي كان يربض على فقراته.

فمنذ خمسة أيام وفي يدي أنبوب طويل يمنع كلي من الحركة يميناً أو يساراً .

لم أكن لآبه بكثير من المضايقات أمام الممرض الذي وقف كالشوكة في حلقي .. صباحاً ومساء، وكأنه قد وظف لعذابي فقط .

في الصباح الباكر جداً يأتي بعربية ويطلب مني الذهاب معه إلى الحمام ليغسلني من رأسي إلى قدمي، بحذائي وسراويلي.. يقول لا زم النزافة .. ده مستشفه .

طبعاً تأكد لي من لهجته .. أنه من مصر ، ولكن – مع احترامي لمهنته – فإن هيئة صلعته، وأسلوبه في عمله، يوحيان لي بأن له سابق خبرة بـ الجزارة والله أعلم .

يظنون .. إني أرى عندما أبحلق بعيني المجردتين من نظارتيهما ..

يقول لي جاري الملاصق لسريري في كل ربع ساعة على الأقل عبد العزيز .. يا خوك وأراك ما نمنت لها لحين؟

أرد عليه بشفة ملوية العنق :

بارك الله فيك يا بوسالم.. بانام إن شاء الله .

يقول بلهجة بدوية خالصة :

يا خوك ، لا تتفكر في النما .

عرفت منه أنه يعني الأطفال، فقد كذبت عليه، وقلت إن لدي طفلين .. أكبرهما – عادل ثلاث سنوات، وكان يدعوني مراراً بـ أبو عادل يا مصيبتي لو دعاني بها أمام أحد أصدقائي من الزوار .

حكي لي بغير مناسبة قصة حياته .. قال : تزوجت بمئتي بارة ، وقال : زوجتي أكبر مني باثنتي عشرة سنة، وأنجبت لي ثلاثة أولاد.. أكبرهم في البحرية برتبة ضابط، والثاني في شركة أرامكو، والثالث طالب في جامعة العلوم (ولا أدري أي علوم) .

قال : إن نفسه نهقة أبو زيد منذ اعوام طويلة، ويرغب في الزواج.

قال : إنه شاب، ولو أن عمره يتجاوز الخمسين (كنت أسمع لأسنانه الصناعية قرضاً كقرض الفأر في الليل.. بعد أن نهج جميعاً في الغرفة ، وكل يوم يقرر الطبيب الذي يدعوه الدختور بتأخيره يوماً آخر .. نظراً لظهور السكر المرتفع في تحاليل المختبر – اعتقد لأنه يأكل أشياء محظورة في الليل) .

لقد كان يتهم الدختور والمستشفى بالغفل والبلادة. فهم كما يقول يتعلمون ويقررون فيه بلاء السكر!

يقول، وهو يستوي جالساً متربعاً كأنه على باب خيمة، وأمامه كرقاب الإبل نار تشتعل يا عبد العزيز .. الدنيا ما ريحتني ويعود بعد شيء من الشكوى، يحمد الله الذي هداه فاشترى أرضاً كبيرة على طريق الميناء وبنى عليها ثلاث فلل عام ثلاثة وسبعين (كنت أظنها بالتاريخ الميلادي عدة أيام فصححها لي) .

قال إنه كان يملك عبداً وعبده (أي زوجها) فهرب العبد، وبقيت العبدة ومعها ثلاثة أطفال.. جاء يوم فباعها لكنها خرجت أمام الجيران، ودعت الله أن يشتت شمله، لأنه فرقها عن أولادها.. قالت الناس، هذا حرام. يتمتها من أولادها، فرد الثمن وأعادها .. قال إنه باعها هي وأولادها بعد تردد طويل، واشترى بالثمن غنماً، فجاء الخير، وانتشرت البركة، وباع واشترى في الغنم حتى صار مالكاً فحلاً .

كنت أحاول مراعاة انفعالاته في سرده لقطيع الأحداث، فأومىء برأسي، وأفعل مثل قعدته، وأردد :

عجيب ، يا سلام الله أكبر وهكذا .

بعد أن فرغت من عذاب الممرض المصري ذاك الصباح .. دخل الغرفة شيخ كبير اللحية نقيها، وكان يهمهم بكلام لم يتبين منه شيء لكنني تبين أنه من أهل المنطقة ، قال لي بوضوح أخيراً :

قالوا لي .. خبز ما تأكل .. جام ما تأكل .. عسل ما تأكل .. طيب وش تأكل ؟

قلت له وكأن الأمر يهمني .

طول بالك يا حجي .. كله لأجل مصلحتك .

فجأة قلب الموضوع ، وحوله بعيداً.. قال :

عمري ضاع ، وأنا أراجع الدوائر والمحاكم .. أدور أرضي أو قرض .. ويا ليتني حظيت بشيء.. أطفالي مشردون، ما عندي سكن، ولا راتب ، ولا زوجة .. حتى الماء مقطوع في حارتنا .

وفجأة أخرى قلب الموضوع الذي كان يتحدث عنه، قال عندك ورقة وقلم ؟

قلت ، نطلب الممرضة (وكنت أخاف أن يطلب مني شيئاً أكتبه له فأقول إنني لا أرى الخط، فلن يصدق.. سيقول أنه يهزأ مني أو يتهرب) .

لكنه جال بنظرة غامضة كل الأسرة في الغرفة، ثم استدار وخرج . الزهور لا تزال في تلك الآنيـة، ولا تزال على ما اعتقد أنها تتوجع، لا تزال تنتظر ماءً جديداً أو عناية ملائمة .

في الممر الطويل .. كان هناك جرس الهاتف يرن ، ويرن .. لم ترفع سماعته يد ، أما الممرضات فكن في صخب لغة غير مفهومة على الإطلاق.. وكنت أترك كل ثقلي على ظهري المنكسر و أغفو .

 

 
























التوقيع

   

رد مع اقتباس