.
*****
كلمة الأستاذ إبراهيم فودة
ثم جاء دور المحتفى به الأستاذ إبراهيم فودة الذي ألقى الكلمة التالية:
- يرجعني أخي الأستاذ عبد المقصود خوجه الليلة إلى ما قبل 45 عاماً بذكرى عزيزة هي تحية من أبيه أخي الكبير الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود. لقد كانت أول تحية لقيتُها في شبابي، فكأنما أراد ابنه أخي أن يعيد إلي التحية في شيخوختي أيضاً.
- في 1353هـ أنشأ الشيخ محمد سرور الصبان في جمعية الإِسعاف بمكة المكرمة نادياً أو قاعة للمحاضرات وكنت يومئذٍ من الرعيل الثاني بالنسبة إلى من يسمون الآن الجيل الأول من الأدباء. وكان لا بد للشيخ محمد سرور أن يبدأ بداية لبقة فلم يستدعِ أحداً من الرعيل الأول، الأستاذ العواد أو الأستاذ العمودي أو الأستاذ عبد الوهاب آشي وإنما استدعى الذين يسبقونهم كالشيخ أحمد إبراهيم الغزاوي، الشيخ محمد المغيربي فتيح. والشيخ محمد المغيربي فتيح كان أول من حصل على شهادة الحقوق من تركيا في زمن الشريف الحسين وكان مستشاراً للملك عبد العزيز، ثم عضواً في مجلس الشورى وأردف هؤلاء بالذين كانت لهم صفة رسمية يتحملون فيها مسؤولية الكلمة. أما الذين كانوا في عداد الشباب من الرعيل الأول أو الثاني فكانوا مرجئين إلى حين. لكني كنت شاباً ككل الشباب ومن طبيعة الشباب أن يكون متطلعاً، وأن يكون وثاباً ربما إلى ما يستحق وإلى ما لا يستحق.
- لكنها محاولة بلا شك أحمدها وأرجو أن تكون اليوم في الشباب. وأنا حين أسمع النقد من الشباب للأندية الأدبية لا أساء أبداً وإنما أُسَرَّ وأعتبرها محاولة أو ظاهرة صحية جيدة. وليت الشباب اليوم يمارسون ما مارس شباب الأمس من محاولات فعّالة ليست مجرد الهجوم ولكن المشاركة في البناء. على هذا النمط كنت وزملائي نحس أن لدينا ما يمكن أن نقوله. وكان هناك مجموعة من الأطباء يحاضرون في بعض الليالي وكان يحصل فيها من المواقف الظريفة ما يمكن أن أحكيه ولا أرى مانعاً من ذكرها لأن مراجعة التاريخ مما تجعلنا نشعر بالسعادة لما وصلنا إليه من مستوى.
- ذات ليلة كنا على موعد مع محاضرة الأستاذ الشيخ محمد المغيربي فتيح الذي كان عضواً في مجلس الشورى وكان من الضروري أن يحضر أعضاء مجلس الشورى والأطباء، وحضرنا نحن الشباب تسللاً من حولهم. وكان الشيخ المغيربي يجيد الفرنسية ويجيد الإِنجليزية. وقد ألقى محاضرة في الفيزياء أو علم وظائف الأعضاء. وكان يطعم المحاضرة بين الحين والآخر بكلمات من الفرنسية أو الإِنجليزية وأذكر في تلك الليلة أن المذيع المعروف يونس البحري كان حاضراً وبيده عصا. يحاول أن يداري بها بعض انفعالاته وبعد انتهاء المحاضرة سأل الشيخ عبد الله الشيبي رحمه الله الأطباء الموجودين: هل ما قاله الشيخ محمد المغيربي فتيح صحيح. قالوا: نعم. قال: أما وقد شهد لك أهل الفن والمعرفة أما نحن فلم نفهم شيئاً فزاد اتساع فم يونس بحري بعصاه. على هذا النمط كنا نجد أننا نستطيع أن نقول شيئاً، وقبل أن يحاول الشيخ محمد سرور أن يستفيد من الرعيل الأول وإذا كنت اليوم وقد عدوت الستين إلى السادسة والستين يبدو الفرق بيني وبين الأستاذ السباعي الذي قارب الثمانين بسيطاً لكن طبعاً يوم كنت في العاشرة وكان هو في نحو الثلاثين كان الفرق بيننا كبيراً وهكذا كان الفرق بيني وبين الأستاذ العواد فحين كنت في السابعة والعشرين كان هو في نحو الخامسة والثلاثين وهكذا تبدو الفوارق.
- وبرغم أن الشيخ محمد سرور الصبان لم يستفد من هذا الرعيل الأول تقدم إبراهيم فودة الذي كان طالباً يومئذٍ في مدرسة تحضير البعثات فكتب إليه رسالة يطلب فيها منه تحديد موعد لإِلقاء محاضرة، وكان من الطبيعي أن الشيخ محمد سرور يستعمل أسلوبه الإِداري فأحال الموضوع إلى هيئة أو لجنة الإِسعاف فقررت عدم السماح لهذا الطالب بالوصول إلى المنبر، فأحال الخطاب إلى مديرية المعارف وكان فيها رجل مجدد هو السيد محمد طاهر الدباغ الذي أحال الخطاب إلى مجدد آخر هو السيد إسحاق عزوز وكان يومئذٍ مديراً لمدرسة تحضير البعثات وقد لا يدرك المعاشرون لِمَ سميت تحضير البعثات؟ لأن الملتحقين بها كانوا إما من خريجي المعهد العلمي السعودي، أو خريجي الفلاح وهؤلاء وأولئك كانوا بالنسبة لعلوم الدين واللغة العربية والعلوم الاجتماعية يساوون خرّيجي المراحل العليا من التعليم وإنما كانت تنقصهم اللغة الأجنبية فأضيفت اللغتان الفرنسية والإِنجليزية كما كان ينقصهم المزيد من علوم الكيمياء والأحياء والجبر والهندسة، فلذلك استكثروا أن يسموها الثانوية مراعاة لمشاعر الملتحقين بها. وكان الغرض منها أن تهيِّئ هؤلاء بإضافة معلومات تسمح لهم بالانضمام إلى الجامعة فسمّوها تحضير البعثات.
- طلب مني السيد إسحاق عزوز أن يطلع على المحاضرة فاطلع عليها وكتب فيما يبدو تقريراً مناسباً ومع ذلك جاءتني إجابة الشيخ محمد سرور أنه نظراً لضيق الوقت نعتذر عن تحديد الموعد. نشرت هذه المحاضرة بنصها، وأشرت في أول الصفحة إلى اعتذار جمعية الإِسعاف الخيري عن تحديد موعد لإِلقاء هذه المحاضرة نظراً لضيق الوقت، ثم صبرت قليلاً وكتبت ثانية للشيخ محمد سرور قبل أن يأتي إخواني الذين يكبرونني والذين سبق ذكرهم بطلب تحديد موعد آخر لإِلقاء محاضرة أخرى بعنوان (ساعة رهيبة في التاريخ). وجد الشيخ محمد سرور شاباً يلاحقه، وهو يعرف والد هذا الشاب وعلى صلة به. فاختصر الطريق فبعث إلى أبي برسالة يقول فيها: إن إبراهيم طلب مني السماح له بإلقاء محاضرة فهل تسمح فضيلتك؟ فأجابه: إني أسمح. وحدد الموعد وكانت الجمعية تعلن عن محاضراتها في لوحة توضع أمام الباب واستكثروا يومئذٍ أن يقولوا الأستاذ إبراهيم فودة كما يقال عن غيره فقالوا: الأديب لأن هذه الكلمة كانت أقل شأناً من كلمة الأستاذ ولكني مع ذلك وزملائي فرحنا بهذا ومع ذلك تجمهرنا فكان المستمعون في جمعية الإِسعاف أكثر من أي يوم مضى حتى وصلوا إلى الباب. وجاء الشيخ محمد سرور الصبان ليرى هذا الذي يلاحقه ولكنه جلس في مقصورة كالعادة، وكان الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود معه في هذه المقصورة. ووقفت يومها.
- وكنت في ذلك الوقت أتحدى الشيوخ وألقيت إلقاءً ظننت أنه فريد عصره وفعلاً كسبت الجولة وكانت أول بداية لمعرفة الشيخ محمد سرور بي. أما أنا فأعرفه وعندما دخلت لأثبت في سجل التوقيعات أنني ألقيت محاضرة كالمعتاد إذا بالأستاذ محمد سعيد عبد المقصود وكان طويلاً يستقبلني بحماس واحتضنني كابن من أبنائه الأعزاء مهنئاً وشدَّ على يدي وبلا شك كان لهذه الحركة مفعولها في نفسي.
بالنسبة لأدباء الجيل الأول:
- يمكن أن نقسمهم إلى قسمين: الرعيل الأول والرعيل الثاني، لكن في مجموعهم يمكن أن يسموا جيلاً واحداً لأن الفرق بين أصغرهم سناً وبين أكبرهم لا يزيد على العشرين عاماً. أما بالنسبة لي كشخص يجمعني بالرعيل الثاني صلة الدراسة وتجمعني بالرعيل الأول صلة الأستاذ المشترك. مثلاً كان يقول أخونا الأستاذ حسن محمد كتبي: إن من أساتذته الأستاذ عبد الوهاب آشي والأستاذ حامد الكعكي وهكذا. هؤلاء الذين كانوا أساتذة بعض الرعيل الأول. كان أستاذهم الشيخ محمد أمين فودة الذي كانت لي على يده التلمذة المباشرة ولذلك جمعتني بهذا الرعيل صداقة وصلة، وصلة روحية أيضاً فكل هؤلاء السيد محمد أمين كتبي والسيد علوي مالكي والسيد حمزة عزات، والأستاذ عبد الوهاب آشي ومحمد حسن فقي وحسين جستنية وإسحاق عزوز وكلهم من التلامذة المقربين إلى والدي رحمه الله فأنا أتصل به اتصال التلميذ مباشرة، وهم يتصلون به على الوفاء لأيام التلمذة. عقد بيني وبين هذا حتى لم يكن لأحدهم عليَّ تلمذة مباشرة. وهذه النقطة أثارت بيني وبين الأستاذ العواد جدلاً حين أراد أن يكتب مقدمة لديواني الأول، وكانت القصة في هذا أن الأستاذ العواد سمع أنني أعد ديواني "مطلع الفجر" فشرفني بالزيارة وكنت في وزارة المالية في جدة وهو في مكتب المعارف. وقال إنه يحب أن يطلع على الديوان وأخذ الديوان ليطلع عليه لكن الأستاذ العواد رحمه الله ألف أستاذية مباشرة لبعض الإِخوان مثل حسين عرب وأحمد عطار وغيرهم إذا جحدوا هذا، فمن حقه أن يسجل وإذا اعترفوا به فهو فضل منهم ومنه، فجاء يستعمل معي هذه الأستاذية نفسها فجاءني بقصيدة من ديواني كانت أولى القصائد وله تأشيرات وملاحظات عليها وبعد أن أنتهي من شرحها، قلت له: لكن يا أستاذ عواد لو انتقلت هذه القصيدة من هذه الصيغة التي صنعتها إلى الصيغة التي ترغبها لأصبحت القصيدة شعر محمد حسن عواد وليست شعر إبراهيم فودة قال: إذن أنا سأعمل هذه المحاولة في صورة مستقلة لأخذ الديوان ورأيت أن أخلص من هذا المأزق مع اعترافي بالفارق وبالسن وبالأستاذية، فأرسلت إليه أن الشيخ محمد سرور يريد أن يطلع على الديوان فكانت تلك هي الحيلة الوحيدة التي أعادت إلي الديوان.
- لكن بعد أن أتممت طباعة الديوان بعثت بنسخة منه إليه رجاء أن يكتب المقدمة كما طلب ففوجئ بأن الديوان مطبوع وأن مجال التصحيح قد انتهى فكتب مقدمة أشكره عليها وأسجل أنها كانت أيضاً باعثة من بواعث التفاتي إلى الشعر لكن ناقش مقدمتي مناقشة حادة. وكان الواحد منا إن لم يتتلمذ مباشرة على يد أديب كبير فقد تتلمذ على هذا الإِنتاج الكبير الذي جادت به قرائح ومشاعر الأدباء والشعراء السعوديين والعرب، وهذا أمر معترف به فقد تتلمذنا على مؤلفات أدبائنا في المملكة وفي البلاد العربية الأخرى. وأردت ذات مرة زيادة حماس الأستاذ العواد عندما انقطع عن الكتابة فكتبت أبياتاً موجودة في الديوان أحييه وأطلب منه الاستمرار في الكتابة وأقول فيها:
إيه يا شـاعر الحجـاز تـرنَّم = بشـجيِّ الغنـاء والألحـان
وتنزل مستلهمـاً مـن أبولو = بسـماء الألمـب غَضَّ البيان
- لكن مع كل هذه الإِثارة أحمد للأستاذ العواد أنه بالرغم من لمسات النقد أنه كان له الحق في بعض ما أشار إليه من نقاط الضعف لبعض ما قد ألغيته من الديوان، وأنه قد حَيَّا الديوان تحية طيبة.
- الحقيقة أنني أدين في حياتي - مع عدم نكران الفضل لكل الذين علموني في المدارس التحضيرية والابتدائية والمعهد العلمي وتحضير البعثات - لأستاذيتين. أستاذية والدي رحمه الله وكانت أستاذية أخلاقية علمية إلى بعض النواحي الإِدارية وطبعاً النواحي الاجتماعية، لكني لم أشاركه حياته الإِدارية لأنه يوم كان وكيلاً لرئيس القضاة كنت في الخامسة ويوم كان مديراً للمعارف كنت في التحضيرية.
- وأدركته وهو قاض لكن لم أدركه كأستاذ يدرس في المدارس، كان قبل ذلك أستاذاً في المدرسة الرشدية على عهد الأتراك وكانت مدرسة واحدة في مكة، وكانت تدرس حتى اللغة العربية والصرف والنحو باللغة التركية وكان أستاذاً فيها أيضاً يدرس العربية على هذا النحو، ثم كان أستاذاً في الفلاح الذي كان بسببه الفلاح أستاذاً له. ومدرسة الفلاح من ضمن ما لا يعرف الناس عنها نشأت كما نشأت كل المدارس في عهد الشيخ حافظ وهبة في المملكة، ثم في عهد والدي ثم من بعده نشأت على أساس استعمال الكتاتيب الموجودة وتحويلها إلى مدارس كذلك نشأت مدرسة الفلاح في البداية من كتاب الشيخ عبد الله حمدوه الذي أخبره الحاج محمد علي أو خدمه وأنشأوا منه مدرسة الفلاح. وبالرغم من علم وفضل الأستاذ عبد الله حمدوه إلاَّ أن الذين كانوا يشاركونه التدريس في مدرسة الفلاح بعد إنشائها ربما كانوا من الناحية العلمية على مستوى أكبر منه، لكن الشيخ الحاج محمد علي زينل أراد أن يجمع بين ذلك وهذا، فجعل إدارة مدرسة الفلاح تتم سنوياً بالقرعة بين أربعة هم: الشيخ عبد الله حمدوه صاحب الكتاب وبين السيد محمد طاهر الدباغ والشيخ الطيب المراكشي والشيح أمين فودة. ويقول والدي رحمة الله عليه: إن القرعة كانت كل عام من نصيب الشيخ عبد الله حمدوه فكان ملأها وكفأها. ومرة واحدة كانت للسيد محمد طاهر الدباغ فكان كما يعبر عنه أسبق من زمانه ومرة واحدة كانت من نصيب الشيخ الطيب المراكشي فكان كما يصفه متأخراً عن زمانه، وكان من حظه أن القرعة لم تكن لصالحه مطلقاً.
- الأستاذية الثانية: هي أستاذية الشيخ محمد سرور الصبان وهي أستاذية إدارية بالنسبة للأستاذية الأولى، استفدت منها معاني عديدة كان أبي رحمه الله وهو شيخ من شيوخ الدين يقوم كل صباح فيتلو ما تيسر من القرآن وكان يحفظه بأربع عشرة رواية بسند متصل عن أبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة طويلة عريضة، ثم يقرأ تفسير ما قرأ، ثم يقرأ ما تيسر من الحديث، ثم ما تيسر من الفقه، وقد أدركته وهو قاضٍ لا يدرس لكن كان يواظب على هذه الدروس الأربعة صباح كل يوم، فإذا انتهى من القرآن أعاد قراءته وإذا انتهى من قراءة حديث أعاد غيره وإذا انتهى من كتاب فقه انتقل إلى آخر، وهكذا حتى إذا استوعب ما عنده أعادها مرة أخرى حتى أصبح شبه فهرست للعلماء فكان مرجعاً لهم عما يرغبون الاطلاع عليه في شتى العلوم الدينية فيرشدهم إلى مواضعها من أمهات الكتب مبيناً فصولها وأماكنها.
- وكان والدي رحمه الله إذا قام ليشرب الشاي بعد العصر أمسك بكتابين في موضوعين متشابهين كأن يمسك بديوان شعر وكتاب آخر في تاريخ الأدب أو أن يمسك بكتاب في علم النفس وآخر في علم التربية وقد يمسك بكتاب في الفلسفة وآخر في الاجتماع أو المنطق وحتى في الفلك والحساب وسألته مرة: كيف تسنّى لك أن تقوم بتدريس الجبر في مدرسة الفلاح وأنت خريج المسجد الحرام؟ فقال: قرأتها في مترجمات الحملة الفرنسية أيام محمد علي في القاهرة ومنها تعلمت الجبر. وكان يطلع حتى على كتب الطب والهندسة بل كل العلوم فيما لا يعني التخصص ولكن يعني الثقافة العامة. ورغم أنني لم أستطع أن أواظب على شيء من ذلك، لكني أقر أن العلم هواية، وأن العلم دراية وأن طالب العلم لا يشبع مدى حياته تحقيقاً لكل ما في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن حبه للقراءة أنشأ مكتبة ورثنيها تحتوي على كل علم وفن وأنشأ في نفسي هذه الهواية وحقق في نفسي معنى الأديب، كما كان يعنيه القدماء حيث يعرفونه بما يسمى الآن المفكر أو رجل الفكر فقد كانوا يقولون: إنَّ الأديب من أخذ من كل علم بطرف وبقدر مدخله من الأطراف تعتبر قيمته في حدها الأدنى أو قيمته في حدها الأعلى، ولذلك فرقوا فيما بعد بين الأديب والكاتب وفرقوا في عصر متأخر بين الأديب والكاتب والمنشئ. ثم أقر في نفسي معاني أخر. وذات مرة وأنا شاب حينما رأيت عنده من السيد عبد الحي الكتاني إجازة في الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أردت أن أحصل على شيء من ذلك فطلبت إليه أن أقرأ بين يديه صحيح البخاري فرحب. فقرأت البخاري وجلس يشرح وبعد أن انتهينا من دراسة صحيح البخاري قراءة وشرحاً قلت له: هل تسمح بإجازتي في الحديث؟ فقال لي: هل حفظت صحيح البخاري؟ قلت: طبعاً لا. قال: دعك من الأسانيد هل حفظت المتن؟ قلت: طبعاً لا. قال: إذن ففيمَ أجيزك؟ إن الإِجازة معناها أن هذا الشخص هو الأصل لصحيح البخاري لا أن يكون المطبوع هو الأصل له. وأنت ترى أن عندي إجازة الحديث أليس كذلك؟ قلت: بلى. قال: هل سمعتني قط أحدث بها؟ قلت: أظن لا. قال: لأني لا أعتبرها إجازة في الوقت الحاضر ولكني أعتبر هذه الإِجازات هدايا بين العلماء.
- أما الإِجازة الأصل فتقضي أن يكون المجاز أصلاً للكتاب أو بديلاً عنه. طبعاً ربما تجد في مكتبتي الآن على طريقة الشباب أني كتبت على ظهر الكتاب قرأت صحيح البخاري على والدي وهو أخذه عن كذا وكذا وكذا ولم أذكر الإِجازة لأنها لم تحصل فعلاً. وقد كان من أسبق الناس إلى كل جديد، فيوم كانت البيوت في مكة ومنها بيتنا لا يزيد فرشها عن الطواويل والمساند وملحقاته. استورد والدي من مصر طقماً بـ 20 جنيهاً ذهباً فكان بيتنا من أوائل البيوت في المملكة التي عرفت واستخدمت الطقم. وكان أول أو من أوائل من أدخل أجهزة المذياع إلى المملكة فقد اشترى مذياعاً من صنع شركة "باي"، فكان الناس يقفون تحت بيتنا ليستمعوا لقراءة الشيخ محمد رفعت رحمه الله أو قراءة غيره، لقد كان مجدداً ملتزماً. فقد لاحظت أنه إذا جاء الغناء يقوم ويتركنا جلوساً فسألته وكان لا يتحدث غير العربية الفصحى بصفة مستمرة دون تكلف مما دفعني أن أتحدث بها أيضاً وربما مر بي ظرف استصعبت فيه الكلام بالعامية أكثر من صعوبة الكلام باللهجة العربية الفصحى لقد كان أستاذي في هذا فهو يتكلم بلا تكلف. فسألته بالفصحى أترون أن الغناء حرام؟ قال: لا. ولكني إذا كنت بين الناس في مجلس أيليق بي أن أستمع إليه؟ قلت: ربما لا. قال: فما أستحي منه بيني وبين الناس أولى أن أستحي منه بيني وبين نفسي.
- وزرت المدينة في معيته وكان له فيها صديق كبير السن رافقنا في جولاتنا وزياراتنا التي قمنا بها وحدث ذات يوم ونحن في طريقنا إلى بيت داعٍ دعانا لزيارته في منزله أن وجد جماعة يلعبون السيجا بالبعر في الشارع فنهاهم ورماهم ولما ولجنا بيت الداعي الشيخ زميل الوالد وإذا بنا أمام تماثيل وأمور أخر سكت عنها الشيخ، ثم استأذن والدي في أسلوب عتاب مهذب أن يستمع إلى شيء من الموسيقى أو الطرب، فقال له سيجا بالبعر في الشارع للفقراء حرام. وطرب وغناء لنا الآن يجوز! هذا تناقض وتقلبت به الوظائف فكان يوماً ما يتقاضى مثلاً 33 جنيهاً عندما شغل وظيفة وكيل رئيس القضاة.
- وكان رئيس القضاة رجلاً بطلاً فحلاً، عالماً جليلاً هو الشيخ عبد الله بن بليهد وهو صاحب تاريخ طويل وجدير بالتكريم والعناية والدراسة، وكان رجلاً قصيراً ذا لحية حمراء طويلة وكان في منتهى الحكمة والذكاء والعلم والمشاركة في كل فن متحلياً بكرامة العلم وربما زاد فيها قليلاً، وكان نُزُل مكة الوحيد هو بيت الأشراف ذو البرجين الذي يقع بعد عمارة الأشراف بمكة. ويعتبر نزل الحكومة، فإذا جاء الشيخ بن بليهد بعد أن ترك السلطة والوظيفة ينزل فيه. وقد رأيت الأمير فيصل يومئذ وهو نائب جلالة الملك يزوره، فيجلس بجواره ولا يتناول الشاي ولا القهوة قبل الشيخ، وإذا تحدث الشيخ قال: علمت وأخبرت وتحدثت مع عبد العزيز بكذا وكذا، فكان الملك عبد العزيز يزوره في رئاسة القضاء ويزوره في بيته إذ جاء للحج وهو يحتفظ بقضاء حائل إلى جانب رئاسة القضاء، ثم يترك رئاسة القضاء لرئيس القضاة ويذهب إلى حائل، فإذا جاء الحج جاء في معية الملك عبد العزيز ولما كان والدي وكيله كان ينزل في بيت الوالد مع الضيافة اللازمة من الحكومة، وإذا وضعت ميزانية الدولة كلها حملت إلى الشيخ عبد الله بن بليهد ليضع رواتب القضاة دون أن تضعها وزارة المالية ويجعل راتب وكيله 30 جنيهاً ذهباً ويعتبر ذلك أعلى راتب في المملكة لأمثاله ثم يضع لنفسه 100 جنيه. وكانت له بعض الحركات التي تعتبر متطرفة وغير مستحبة ولكنه يعدها في نظره من كرامة العلماء ومن ذلك: جاء رجل إلى الملك عبد العزيز وهو يزور المدينة والشيخ ابن بلهيد معه يشكو إلى الملك عبد العزيز، فبعد أن انتهى الرجل من شكايته سأله الشيخ أين قضيتك؟ فقال: في القضاء، فقال له: اذهب ما دامت في الشرع. غير أن الملك عبد العزيز لم يكن ينقصه الذكاء، وكان يعرف أيضاً كيف ينفذ إلى حقه بالحجة الشرعية أيضاً، فالتفت إلى الشيخ وقال: فإذا لم ينصفه القضاء ألا يرجع إلى ولي الأمر؟ فأحس الشيخ ابن بلهيد أن هذا رد سليم جداً. ثم دعا الرجل واستمع إلى قضيته وعندئذ أيقن الشيخ أن الوضع قد اختلف عن ذي قبل وأن الملك عبد العزيز لا تنقصه الحجة، فاستقال فقبلت استقالته، إن سبب ذكرى هذه القصة أن الشيخ ابن بلهيد رجل ينبغي أن يؤرخ له. ولقد سمعته يتحدث إلى الأطباء وإلى الشعراء وإلى أحمد الغزاوي في الشعر وفي الطب على طريقة الثقافة العامة، وعلى ذكائه يمكننا الاستشهاد بهذه الحكاية.
- كان ابن بليهيد أيضاً له أثر في كل حائل وكان كريماً يذبح في حائل كل يوم 20 خروفاً ويطعم الناس، وكان يعرف بأنه إذا قام ابن بليهيد قام معه عشرون ألف رجل وكان ذكياً ومن ذكائه تروى عنه هذه القصة؛ أنه حين ثار ابن دويش على الملك عبد العزيز مسك الملك عبد العزيز لحيته وهو يقول: حسبنا الله عليك يا ابن بليهيد، حسبنا الله عليك يا ابن بلهيد، فسئل: فيما يا طويل العمر؟ قال: والله إنه لما جاءني فيصل ابن دويش في الحج يسلم عليَّ وابن بليهيد بجانبي، قال: أمسك الرجل يا عبد العزيز فأنا غير مطمئن إليه وربما خرج وشق عصا الطاعة وأعلن العصيان وكان يقصد من ذلك أن يمسكه بجواره مستشاراً لشؤون أخرى ولا يعني أن يمسكه سجيناً. لذلك كان والدي في معية هذا الرجل الذي اكتشف الرجال يومئذٍ؛ فقد كان يمرُّ على حلقات الدرس في المسجد الحرام ليؤسس منها مناصب القضاء، وفي هذه الفترة بعد استقالة الشيخ ابن بليهيد كان من المطلوب أن تحدث تغييرات أخرى في الجو فعلى سبيل المثال أخذ والدي إلى الطائف في شبه تحديد إقامة في قصر الحكم المسمى قصر شبرا.
- وقد استمرت فترة تحديد الإِقامة في الطائف مدة شهرين أو ثلاثة. فالمهم أن هذا الموقف يجب أن يكون درساً من عبد العزيز إلى كل الولاة من بعده وليس عيباً أن يدرس الناس على من سبقهم.
- عندما رجع والدي رحمه الله لم يذهب للسلام وإنما ذهب للمسجد الحرام يدرس. كان الشيخ عبد الله بن حسن قد عين رئيساً للقضاة، فطلبه ليكون وكيلاً عنه فقال: لا، إن عملاً تركته لن أعود إليه، فجاءه الشيخ حافظ وهبه، وقال له: إذن تكون معي في مديرية المعارف معاوناً فكان لا بد أن يقابل الملك عبد العزيز للسلام عليه فإذا الملك عبد العزيز العظيم يستقبله من وسط المجلس ويقول له أمام الناس جميعاً: لقد أخطأت في حقك أيها الشيخ، اِشهدوا أيها الناس إني أخطأت في حق الشيخ، فإني أطلبه السماح. قال له والدي: ما أرى ما كان إلا تصرف والدٍ مع ولده. فقال: لا يكفي حتى تقول من قلبك سامحتك لوجه الله. فقال له: سامحتك لوجه الله.
- هذه عظمة الرجال ربما يستكثر الذين لا يبلغون هذا الحد من العظمة أن يعتذروا حتى فيما بينهم وبين إخوانهم أو بين الآخرين. هذه علمتني أنني إذا غضبت؛ ألجأ إلى الصمت خشية أن ألفظ بما لا يليق بي وأنا إلى اليوم أعتذر إلى خادمي والموظف الصغير إذا أخطأت في حق أي منهما.
- ومن الصفات الحسنة التي تعلمتها من والدي عدم اللجوء إلى الشتم والسباب فلم أسمع منه كلمة نابية ولم يشتمني قط ولذلك لم أشتم أحداً من أولادي في حياتي غير أنه ضربني في حياتي مرتين مرة وأنا في التحضيرية، وأخرى وأنا في الابتدائية وكان لكل منهما معنى؛ أما الأولى، فكنت أصعد إلى قاعة المدرسين في المدرسة التحضيرية فاقضي بعض الوقت معهم وأنزل، وذات يوم عدت إلى البيت بعلبة طباشير، وسألني والدي رحمه الله وهو مدير المعارف من أين لك هذا؟ كان السؤال مفاجأة لي كأنني صنعت خطأ فقلت: اشتريتها، قال بكم؟ قلت: بقرش لأني لا أملك يومئذ إلَّا قرشاً، فقال: لا إنك أخذته من المدرسة وهذه تسمى سرقة وضربني. هذا أعطاني درساً أني قبل أن أسأل أحد أولادي أقول له: إني أسألك فإذا أجبت الصحيح فلن أعاقبك أما إذا كذبت علي ضربتك.
- أما الثانية ففي الابتدائية جرى اتفاق بين الطلبة أن يستضيف بعضنا بعضاً على حفلات غذاء، فاستضفتهم فلبوا واستضافهم زميل ثانٍ وثالث، فلم يعترض، وكنت ذات يوم مستضافاً مع زملائي عند شاب ليس من المدرسة ولا أعرفه، لكن ذهب الفريق فذهبنا ولما نجلس بعد على مائدة الطعام حتى جاء الخادم ليسوقني إلى البيت، ثم أخذت (علقة بالتعبير البلدي) (1) ولم أتنبه لمعنى هذا إلا حين كبرت عرفت الهدف منذ ذلك فقد كان تحذيراً لي كيلا أخرج خارج محيط المدرسة وزملاء المدرسة وحين كبرت أيضاً عرفت الشاب الذي كنا في بيته فأيقنت أن أبي كان يعرف الرجال وكان يجري ورائي حتى يعرف أين أذهب. مما جعلني، وأنا شاب، وأنا كبير، وأنا موظف، إذا دعيت إلى قيلة (2) في الششة أو في الشهداء (3) أو إلى قيلة في مكان ما أن أسأل عن الحضور واحداً واحداً حتى أتأكد من أني لا أحضر إلا مع من ينبغي أن أحضر معه.
- لا أريد أن أطيل فأنا ألمس أن الوجوه تطلب مني أن أغيَّر الموضوع. الأستاذية الثانية كانت من وجهة نظري فيها جوانب امتداد لهذا الجانب. حقيقة لم يكن الشيخ محمد سرور أديباً بقدر ما كان رائداً للأدباء، ولم يكن عالماً بقدر ما كان يلف حوله العلماء، لكن أخلاق الشيخ محمد سرور هي التي جعلت منه الرجل الذي كان. وربما كان الشيخ محمد سرور مستعداً أن يعامل الناس أيضاً على تصنيفات هو قادر على أن يصنفها، لكنني قبل أن أسترسل في أستاذية محمد سرور الصبان أرجع مرة أخرى إلى الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود بذكرى ثانية لها صلة وثيقة بملازمتي لمحمد سرور وذلك أنني كنت وأنا في تحضير البعثات أنشر في الصحف مقالات وأصبحت ممن يعرفون آنئذ بالأديب أو الأستاذ حتى أن بعض أساتذتي في تحضير البعثات كانوا يقولون لي: يا أستاذ إبراهيم ما هو كذا أو كذا إذا أرادوا أن يسألوني. وتوفي الأستاذ محمد سعيد عبد المقصود فشغرت بوفاته وظيفة هامة في إدارة مطبعة الحكومة كما شغرت وظيفة رئيس تحرير جريدة أم القرى في الوقت نفسه.
- وكانت هذه بلا شك يومئذٍ وظيفة كبيرة لها قدرها وكان صاحبها يجعل لنفسه شخصية مماثلة في الجانب السياسي لشخصية محمد سرور في وزارة المالية. فقام حديث بين والدي رحمه الله وبين الشيخ إبراهيم السليمان وكان رئيس ديوان نائب جلالة الملك وبين الشيخ محمد سرور في أن أكون مكان الأستاذ محمد سعيد، وكان هذا جديراً بأن يغريني بأن أقطع الدراسة وأن أنقطع عن مشاركة زملائي الابتعاث إلى الخارج، ولكن الشيخ محمد سرور عندما قابلته قال لي: ألسنا أولى بك؟ فقلت له: وأنا أولى بكم ولكن أين؟ فقال: في وزارة المالية. فوافقت. فسلمني اللائحة الداخلية لوزارة المالية وقال لي: اختر وظيفتك فنظرت، فوجدت ديوان المحاسبة يحتاج إلى تخصص، وديوان الموظفين يحتاج إلى تخصص، وديوان الجمارك يحتاج إلى مثل ذلك إلى آخره، فاخترت ديوان التفتيش ظناً بأني أتعلم منه كل اختصاصات وزارة المالية.
- ومرة أخرى لم أختر بغرور الشاب وظيفة رئيس الديوان ولا مساعد رئيس الديوان، لكن طلبت من الشيخ محمد وظيفة سكرتير ديوان التفتيش ويبدو أن هذا الطلب زادني عنده إكباراً فقد أحس أنني لم أتخط حدودي. وعندما باشرت العمل قابلني أول من قابلني - وأنا أذكر هذه القصة كي أشير إلى بعض النقاط التي تهم الشباب - عبد العزيز جميل بالتحية والترحيب، ثم نكص عن ذلك لكنني أشهد أنه كان كبيراً حتى في خصومته. لم يعاملني أبداً معاملة سيئة ولا معاملة استفزازية بالمعنى الصحيح، لكنه وضعني عن يمينه ووضع من يرشحه مثلاً عن شماله لأن الذي رشحه قديم في وزارة المالية وأنا كنت حديثاً عليها فأصبح يشعرني أني أحتاج إلى مراجعته الدقيقة فيما أكتب وأن زميلي ليس في حاجة إلى ذلك. لكن مع ذلك لا أكاد أذكر أنه صحح مذكرة لي أبداً لأنه كان دقيقاً في ألا يكون صغيراً إنما هذه سببت له ولزميلي الآخر مشاغل أخرى مع الشيخ عباس صيرفي. ومن جهة أخرى فإني لا أذكر أنني عاملته بغير ذلك إلا مرة واحدة حينما أردت أن أستعمل حركات الشباب فقد أردت أن أفهمه أنني أفهم علمياً وأدبياً بعض ما لا يفهم الآخرون، فاستعملت كلمة في مذكرة رسمية هي كلمة ينماث فاضطر أن يسألني ما معنى ينماث؟، وقد أردت ذلك فقلت له: يذوب، فقال: ولكن مثل هذه الكلمة لا تكتب في مذكرات رسمية. وعلمت أن معه الحق. أحمد الله أني لم يكن لي من حركات الشباب إلا بعض هذه الحركات الخفيفة.
- بعد ذلك عاشرت الشيخ عبد الرزاق هنداوي، ثم جاء بي الشيخ محمد سرور إلى وظيفة سكرتير لإِدارة وزارة المالية، ووجدتني بعد أن كنت مفتشاً مالياً في الإِدارة العامة أجلس على مكتب لا عمل لصاحبه، فزرت الشيخ محمد سرور فسألته: ما هي المهام المنوطة بالسكرتير؟ فأجابني، بقدر ما تتحمل من المسؤوليات تأخذ من الصلاحيات، فقلت له: فهمت، وأدركت ما قصده، وكان وارد وزارة المالية على ثلاثة أصناف بالنسبة للإِدارة كل ما يرد من الجهات المختلفة إلى وزارة المالية يأتي أولاً إلى المدير العام أو مساعده وهناك يتم فرز الرسائل الواردة فهذا للمحاسبات وهذا للواردات وإلى جهات مختلفة وبعد أن تعدّ الدواوين المختلفة الإِجابات على البريد، ترده إلى الإدارة للتوقيع عليه من المدير العام أو مساعده أما الوزير أو وكيل الوزارة فلا يوقعان إلا إذا وقع المدير العام أو مساعده، ولائحة وزارة المالية كانت تقول يومئذ: إن الوزير والوكيل غير مسؤولين عما يوقعانه وإن المدير العام للوزارة هو المسؤول، فإذا أراد أن يحملهما شيئاً وضع ورقة حمراء وهذا ما لم يكن يحدث، أما النوع الثالث فهو أن هناك معاملات لا يجب أن يبت فيها رؤساء الدواوين فيعيدوها إلى الإِدارة العامة للسؤال من المدير العام أو وكيل الوزارة أو الوزير فحاولت أولاً أن أتتلمذ على عمل المدير المساعد، فطلبت من رئيس الفراشين وكان يدعى عم عرابي أن يمر بالأوراق عليَّ قبل تقديمها للشيخ إبراهيم، ثم يمر بها بعد تقديمها وعودتها من الشيخ إبراهيم، لأتعلم كيف يتم التأشير عليها وتحويلها للجهات المختصة وبعد أسبوع طلبت الأوراق من ديوان التمرير وبدأت أشرح عليها وأوجهها هذا إلى ديوان الموظفين وذاك إلى ديوان المحاسبة إلى كذا وكذا، ثم أقوم بتقديم هذه الأوراق إلى الشيخ إبراهيم، فيتفقدها مرة أخرى، حتى أطمأن إلى صحة عملي، أصبح في دقائق يمضي ما كان يمضيه في ساعات.
- ثم جئت يوماً وبمكر الشباب تركت الأوراق لم أطلبها، فقدمت للشيخ إبراهيم كما هي فإذا هو يسألني أما رأيت يا أخ إبراهيم الأوراق؟ قلت له: ما مرت علي. فأصدر أمراً رسمياً ألاَّ تعرض الأوراق عليه حتى تمر على إبراهيم، ثم بدأت آخذ الأوراق التي تأتي من الدواوين وهي مكتوبة ومعدة ليوقعها الوزير أو الوكيل وبدأت أقرؤها وأنا شاب متحمس وبدأت حتى أراجع بعض الحساب وأراجع ديوان المحاسبات في بعض الحسابات وأكتب أوراقاً صغيرة تحمل بعض الملاحظات، ثم أتركها للشيخ إبراهيم ليوقع. مرت أيام فاستحسن الشيخ إبراهيم هذا الكلام وارتاح إليه وأصبح يمضي بعض هذه الأوراق دون مراجعة ويراجع الأوراق الباقية.
ثم ازدادت المسؤولية وازدادت تبعاً لها الصلاحيات فأدخلت تحسينات جمة على الجهاز الإِداري حتى استطعت في النهاية أن ننشئ السكرتارية، فإذا هي إدارة موظفين جاء فيها محمد طيبة ومحمد غلام وآخرون وأصبحت قلماً مستقلاً يسمى قلم السكرتارية.
- ثم أصبحت بعد ذلك أتولى الشرح والتوقيع والإِعداد وعندئذٍ احتج المفتش العام فكتبت مذكرة مفادها أن المدير العام قد خول السكرتير في حالة غياب المدير المساعد التوقيع على الأوراق فلم يوقعها الشيخ إبراهيم. فقلت له: هل أنت موافق على المبدأ؟ قال: موافق. قلت له: أمضِ في المسودات فأمضى في المسودات، فبعثتها للشيخ محمد سرور، فأمضاها، فوزعتها تعميماً من عدة صور. أريد من هذا أن الذي يريد أن يوجد نفسه لا بد أن يكافح ليوجد نفسه، أما أن يطلب من الناس أن يوجدوه كما يحاول كثير من الشباب اليوم فذلك أمر عسير لا يمكن أن يقبل. هذا الذي علمني أيضاً حتى بالنسبة لنادي مكة الثقافي، لم أطلب من ثري مساعدة ولم أطلب من أحد أن يتبرع، لكنني استأجرت أولاً الدار ووجدت الدار المناسبة الكبيرة وصرفت فيها أكثر ما يمكن أن تستحق ودفعت واقترضت وقلت لصاحب الثراء: هل تشتري لنا أو تشارك في الشراء، فقال: أنا أشترك فلم أدعه يتحول إلى سمسار بيوت يدور لي على البيت بل باشرت البحث بنفسي. لذلك أنا الآن أقول للشباب: إنّ النادي لكم فاحتلوه اقترحوا ونفذوا كل شيء مقبول.
ولكي أبرهن أن النادي قد فتح قلبه وبسط ذراعيه مرحباً بالشباب ومشجعاً أذكر هذه الحادثة لقد زارني إبّان رئاستي لنادي مكة الثقافي مجموعة من الشباب وأعطيتهم فرصة أن يجتمعوا وأن يقترحوا وقلت لهم كل ما قلتموه مقبول. لكنها بيضة الديك انفض الشباب ولم يأتوا ثانية، وجاءني من يقول: إننا نقترح صدور مجلة. قلت: إننا سوف ندرس هذا المشروع، لكنني أقدر أن وزير الإِعلام سيشعر بحرج أن يعطي لنادي مكة أمراً بإصدار مجلة ويحرم بقية الأندية وربما لا يقتنع وزير الإِعلام بكل هذا فيضطر أن يحجب الموافقة عن نادي مكة لكن من المستحسن أن توجد الأندية الأدبية مجتمعة إتحاداً لها ومن ثم أن تصدر عنها مجلة.
- أنتقل من هذا إلى أن أتحدث عن أستاذي في الإِدارة الأستاذ الشيخ محمد سرور الصبان وقبل كل شيء أسجل له اعترافي بأنه لم يشطب لي كلمة من شرح قط ولا من مذكرة، ويعرف هذا الذين كانوا يرافقونني في المكتب وهم أحياء: الأخ محمد غلام والأخ محمد طيبة، ثم أشهد أنه - وهو مدير عام لوزارة المالية أيضاً برغم كل ما يقال - لم يرد أي شرح شرحته وحين يكتب مذكرة من سطرين لم يكن يتورع برجولته عن أن يبعثها مع أحد هؤلاء فيقول: إذا لم يكن للأخ إبراهيم اعتراض فليبيضها وإذا كان له ملاحظة فليقلها، وقد يحدثني بالهاتف ويبعث المذكرة مع الفراش. وكان إذا ناقشني في موضوع علمي كما يناقش العلماء يقول: أنت أعرف، وكان يقدمني بعد ذلك وقبل ذلك إماماً إذا لم يجد إماماً متفرغاً من المتخصصين، فإذا قلت له: الطاعة خير من سلوك الأدب كما يقول بعض المذاهب، قال لي: أنت أحق بها وأهلها.
- وكنت إذا كتبت للشيخ محمد سرور ملاحظة على بعض ما يكتبه لا يجد حرجاً من أن يكتب لي أنا مخطئ عدل كما ترى. بهذه الثقة عملنا، وبهذه نفسها أيضاً ينبغي أن أشكر الشيخ عبد الله السليمان ويعرف الشيخ عبد الله السعد - وهو حي يرزق أطال الله عمره - كيف كان يستقبلني الشيخ عبد الله السليمان، وكان أحياناً إذا قدم له الشيخ محمد سرور أو الشيخ سليمان الحمد أي اقتراح يتعلق بالإِذاعة فيقول الشيخ عبد الله السليمان: كلموا إبراهيم فإذا وافق فبها. ولذلك استطعت أيضاً أن أصنع من الإِذاعة شيئاً ولي معه قصة ظريفة حورها بعض الصحفيين سامحهم الله إلى صورة أخرى ولذلك أمسك ما استطعت عن الأحاديث الصحفية؛ لأني لم أعد قادراً على الكتابة في كل حين؛ والكلام أحياناً ينقل بطريقة أخرى. ربما كان مركزي في وزارة المالية يومئذ كسكرتير للإِذاعة العامة لا يغريني أن أنتقل إلى مدير الإِذاعة. بل إن مكتبي كان مكتب المشرف على الإِذاعة والزراعة والحج.
- وهذه قصة أخرى من أخلاق الرجال: كان الشيخ محمد سرور والشيخ عبد الله السليمان يختلفان أحياناً وأذكر أنني كنت في الإِذاعة يوماً، وبالرغم من أن الأخ حسين جستنية من تلاميذ والدي وصديقي، وكان رغم خلافه مع الشيخ محمد سرور فهو صديق لي لكن اختلفنا في الإِذاعة، وكان الشيخ محمد سرور في شبه معزل عن العمل في بيته في مكة، فذهبت إليه وقلت له يومها: هل تترك الأمور هكذا وأنت في معزل؟ فقال لي كلمة رائعة: "إن خصمي ليس حسين جستنية ولكني لو أردت أن أخاصم فخصمي عبد الله السليمان ولو أردت أن أخاصم عبد الله السليمان لدى الملك عبد العزيز لاستطعت أن أنتصر عليه لكن عبد الله السليمان هو الذي ساعدني في أن أكون في هذا المركز عند الملك عبد العزيز، ولذلك لا أخاصمه". وسأروي لكم قصة تحقق هذه العبارة. سمع الملك عبد العزيز عن خلاف بين الشيخ عبد الله السليمان والشيخ محمد سرور فاستدعي محمد سرور وعاد محمد سرور إلينا يحمل ثلاثة مراسيم ملكية بإسناد الإِشراف على الإِذاعة والحج والزراعة إليه، وكان المشرف عليها جميعاً الشيخ عبد الله السليمان، لكن محمد سرور أعطاني هذه المراسيم لتحفظ في مكتبي، وما زالت موجودة لو راجعها الذين يراجعون ملفات وزارة المالية، ولم تعلن ولم يطلع عليها عبد الله السليمان، لكن بعد أسبوع كان عبد الله السليمان قد استمع إليها من جهة أخرى، فإذا محمد سرور يأتينا بقرار وزاري من عبد الله السليمان بإسناد الإِشراف على الإذاعة والزراعة والحج إلى محمد سرور نيابةً عنه.
(يتبع)
*****