ساحات وادي العلي

ساحات وادي العلي (http://www.sahat-wadialali.com/vb/index.php)
-   الساحة الإسلامية (http://www.sahat-wadialali.com/vb/forumdisplay.php?f=91)
-   -   خطب الجمعة من المسجد الحرام (http://www.sahat-wadialali.com/vb/showthread.php?t=14234)

ابوحاتم 03-23-2012 11:00 PM

ذم الانتقام
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "ذم الانتقام"، والتي تحدَّث فيها عن وجوب خلوِّ الصدر وسلامته من الغَشَش والدَّخَن، وبراءة النفس من نَزعة التشفِّي والانتقام، وذكرَ أن الانتقام مذمومٌ في الإسلام في الجُملة، ولا يُحمَد بحالٍ إلا إذا انتُهِك الحُرُمات، وذكرَ الأدلةَ على ذلك من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل لا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء: 1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أما بعد، فيا أيها الناس:
إن سلامةَ الصدر وخُلُوَّه من الغَشَش والدَّخَن، وبراءةَ النفس من نَزعَة التشفِّي وحب الانتِصار من المُخطِئ تلبيةً لرغبَاتِ النفس المُنتشِيَة في مُعالَجة الخطأ بالقوةِ الضارِبةِ لهِي سِمةُ المؤمنِ الصالحِ الهيِّن الليِّن، الذي لا غِلَّ فيه ولا حسَدَ؛ إذ ما قيمةُ عيش المرءِ على هذه البَسيطةِ وقلبُه مُلبَّدٌ بحبِّ الذات، مُتفنِّنًا في الفَظَاظَةِ والغضَاضَة والغِلظَة، يُعزِّزُ من خلالها قسوةَ قلبه، وضِيقَ عطَنه، فيُصبِحُ سيِّئَ الطبع، سافِلَ الهمَّة، شرِهَ النفس، يأنَفُه الناسُ عند كل مرصَدٍ.
كثيرون هم الذين يبحَثون عن مصادر العِزَّة والفلاح مع كثرتها، وتنوُّع ضرُوبها، وقِلَّة المُؤنة في تحصيلها، دون إجلابٍ بخيلٍ ولا رَجِلٍ، إنما رِكابُها شيءٌ من قوة الإرادة، وذمٍّ للنفسِ عن تجرُّع حُظوظها المُتمثِّلة في الأنانية؛ فطِيبُ النفسِ، وحُسن الظنِّ بالآخرين، وقَبول الاعتذار، وإقالَةُ العَثرة، وكظمُ الغيظ، والعدلُ في النَّصَف أو العقوبة، كلها معاييرُ نقاءٍ وصفاءٍ، وعلاماتٌ للنفسِ الراقيةِ المُتشبِّثةِ بهديِ الإسلام الراقِي في التعامُل مع النفس ومع الآخرين.
ومتى ما خرجَ الانتصارُ للنفسِ ممن أخطأَ في حقِّها أو ظلمَها عن تلك الصور والمعايير؛ فإنه الولوجُ في دائرة حبِّ الانتقامِ، ولا شكَّ.
وإذا اصطبَغَت النفسُ بحبِّ الانتقام ووقعَت في أتونه؛ فإن الغِلظةَ والجَبَروت والبطشَ والإسرافَ والحَيف هي العلاماتُ البارِزةُ التي تحكُمُ شخصيةَ المرءِ الذي سيُشارُ إليه بالبَنَان على أنه رمزُ الظلمِ والنَّذَالة والوحشيَّة؛ لأن المعروفَ عن الانتقام أنه: إنزالُ العقوبةِ مصحوبةً بكراهيةٍ تصِلُ إلى حدِّ السَّخَط، والحقد، والإسرافِ في العقوبة.
الذي يُفرِزُه جنونُ العظمة وحبُّ القهر، كما قال فرعون: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى[غافر: 29]، وكما جاء عن قوم عاد: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت: 15]. الانتقامُ يُذكَرُ غالبًا في معرِضِ الذمِّ؛ لكونه مقرونًا بالقسوةِ والغِلظةِ وموت الضمير، وعامةُ الناسِ لا يعرِفون منه إلا هذا المعنى.
وعندما حضَّنا الإسلامُ على العفوِ والتسامُحِ وكظمِ الغيظِ لم يُرِد لنا أن نكون ضُعفاء، ولا جُبَناء، ولا أن يغرِسَ في نفوسِنا الذِّلَّةَ والهَوَان، كلا؛ فإنما أرشدَنا إلى ذلكم ليُبيِّن لنا أن اللِّينَ والسماحَة هُما أفضلُ وسيلةٍ لاستلالِ السَّخِيمةِ والكُرْهِ من قلبِ من أساءَ إلينا.
ولذا فإن الانتقامَ مع ما فيه من القسوة والجبَروت فإنما هو علامةُ ضعفٍ لا قوةٍ، والضعفُ هنا يكمُنُ في أن الغِلظةَ والتشفِّي لهُما السيطرةُ في قلبِ المُنتقِم على التسامُح والاعتِدال، فمن هُنا صارَ المُنتقِمُ ضعيفًا؛ لأن سجِيَّة الشرِّ والحُمق والهوى هي الغالبةُ أمام نَزوَته ورغبته، وهذا سببُ الضعفِ لدى المُنتقِم؛ لأن التشفِّي طرفٌ من العَجزِ ليس بينه وبين الظالمِ إلا سترٌ رقيقٌ وحجابٌ ضعيفٌ.
ولقد كان من أميَز سِمات النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ، وأن رِسالتَه إنما هي رحمةٌ للعالمين، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107]، وهذه الرحمةُ والشَّفَقةُ واللِّينُ التي أزهَرَت في فُؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - هي ما جعلَتْه يتلقَّى الثناءَ من العليِّ الأعلى من فوق سبعِ سماواتٍ: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم: 4]، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[آل عمران: 159].
ومن هنا نُدرِكُ أن المُنتقِمَ كالأعمَى، لا يُدرِكُ ويُحِسُّ إلا بنفسه، المُنتقِمُ ليس أهلاً للعدل ولا للإنصافِ؛ لأن همَّتَه في تحقيق هدفه وشفاءِ غيظه، ليس إلا، فهو عدوُّ عقله؛ لأنه يشينُ حُسنَ الظَّفَر فيقبُحُ بالانتِقام دون أن يتزيَّن بالعفو أو القصد.
المُنتقِمُ بليدُ الإحساسِ، قد تجرَّدَ من العاطفة، إذا استُغضِبَ زَأرَ، وإذا زأَرَ افترَسَ، وإذا افترسَ أوجعَ، وإذا كان القتلُ يُعدُّ من أنكَى جِراحات الحياة، فإن الله - جل وعلا - قال فيه: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا[الإسراء: 33].
غيرَ أن المُنتقِمَ من الناس لا يقِفُ عند هذا الحدِّ، ولن يُدرِكَ عقلُه ولُبُّه قولَ الله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[النحل: 126]، فهذه الآيةُ دلَّت على الانتِصار من الظالمِ، لكنها في الوقتِ نفسِهِ بيَّنَت أن العفوَ أخيَرُ وأفضلُ، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[الشورى: 40]،
ومن أراد أن يلِجَ التقوى من أسهل أبوابها فليعمل بقول الله - جل وعلا -: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[البقرة: 237].
لقد ضربَ الانتقامُ والتشفِّي بأطنابِه في قلوب بعضِ الناسِ، وقد ظهرَ ذلك جلِيًّا في تعامُل الأبِ مع ابنِه أو أخيه، أو الزوجِ مع زوجته، فلربما ضربَها، أو حبسَها، أو علَّقَها فلا هي زوجة ولا هي مُطلَّقة، وأذاقَها صُنوف الهوان والذلِّ والإيلام، كلُّ ذلك انتِقامًا وبَطشًا وانتِصارًا لرُجولةٍ زائفةٍ، وقلبٍ مُلتاثٍ، وقولوا مثلَ ذلكم في تعامُل جارٍ مع جارِهِ، أو مُديرٍ مع موظَّفٍ، أو أُسرةٍ مع خادمها، أو ما شابَهَ ذلكم من أمثلةِ تبلُّدِ الإحساسِ والدُّونيةِ في التعامُلِ مع الآخرين بعيدًا عن مبادِئِ الدِّين الحنيفِ والأخلاقِ الحميدة.
وليتَ أمثالَ هؤلاء يُدرِكون جيِّدًا أن أفضلَ وسيلةٍ للانتِقام ممن أساؤوا إليهم: هي ألا يكونوا مثلَهم في الإساءة؛ ليزدادوا حقارةً لأنفسهم، وامتِهانًا لسَجَايَاهم؛ فقد جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطعُوني، وأُحسِنُ إليه ويُسيؤُون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهَلون عليَّ. فقال: «لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك»؛ رواه مُسلم.
والمعنى: فكأنما تُلقِمُهم الرَّمادَ الحارَّ في أفواههم.
وقد قال جعفرُ الصادقُ - رحمه الله تعالى -: "لأَن أندمَ على العفوِ عشرين مرةً أحبُّ إليَّ من أن أندمَ على العقوبةِ مرةً واحدةً".
وقد جرَت سنةُ الله أن من انتقَمَ ممن هو دونه انتقَمَ منه من هو فوقَه، وسُنَّةُ الله لا تُحابِي أحدًا.
ولأجل هذا - عباد الله - فإن لذَّة العفو أطيبُ من لذَّة التشفِّي، وذلك أن لذَّة التشفِّي يلحقُها ذمُّ الندَم، ولذَّةَ العفو يلحقُها حمدُ العاقبة، وقد قال الله - جل وعلا -: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ[الشورى: 37]، وهذا دليلٌ على أن الانتِقام يقبُحُ على الكِرامِ.
ومن طَبعُهُ الانتقامُ فهو كالغَيمِ الذي لا يُرجَى صحوُه، يغضبُ من الجُرمِ الخفِيِّ، ولا يُرضيهِ العُذرُ الجَلِيُّ، حتى إنه ليُبصِرُ الذنبَ ولو كان كسَمِّ الخِيَاطِ، ويعمَى عن الحسناتِ ولو كانت كجِبال تِهامة، له أُذُنان يسمعُ بإحداهما البُهتان، ويصُمُّ بالأخرى عن الاعتِذار، وله يَدَان يبسُطُ أحدُهما للانتِقام ويقبِضُ الأُخرى عن الحِلمِ والصفحِ، مثَلُه كمثَلِ من قال اللهُ عنه: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ[البقرة: 205، 206].
فهل يعِي هذا أولئك الجبَّارون المُنتقِمون المُسرِفون الذي يسومون أقوامَهم سُوءَ العذاب، فيُذبِّحون أبناءَهم، ويُرمِّلون نساءَهم، ويُيتِّمون أطفالَهم، أولئك الذين باعُوا الضميرَ، ونحَروا الرحمةَ، وأخذَتهم العِزَّةُ بالإثمِ، فعلَوا في الأرضِ، وجعلوا أهلَها شِيَعًا، وقالوا مقولةَ فرعون الأول: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ[الأعراف: 127].
غيرَ أن المؤمنين الصابرين يُردِّدون قولَ الله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ[الزمر: 36، 37].
باركَ الله ولكم في الكتابِ والسنةِ، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكرِ والحِكمة، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن لله الأسماءَ الحُسنى التي هي غايةٌ في الحُسن والجمال، ومنها الصفاتُ العُلَى التي تليقُ بجلالهِ وعظيمِ سُلطانه؛ فمن صفاته - سبحانه وتعالى -: الانتقام الذي يقصِمُ به ظهورَ الجبابرةِ بعد الإعذارِ والإنذارِ؛ فقد قرَنَ انتقامَه بعِزَّته، فقال - جل وعلا -: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[إبراهيم: 47]، وقال - سبحانه -: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[المائدة: 95].
والانتقامُ في شريعتنا الغرَّاء مذمومٌ في الجُملة، غيرَ أن ثمَّةَ انتقامًا محمودًا شرعَه الله لنا لإيجاد مبدأ التوازن بين المصالحِ والمفاسِدِ، وعدمِ الإخلالِ بها عن منازلها التي أُنيطَت بها لتحقيقِ مصالحِ العباد ودرء مفاسِدهم، وهذا الانتقامُ المحمودُ إنما يكون لمن انتهَكَ محارِمَ الله، وذلك بالحُدود والتعزيرات والعقوبات المشروعة؛ فقد قال - سبحانه -: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[النور: 2]، فنهانا - سبحانه - عن الرحمةِ في حُدوده وإقامةِ شِرعتِه وفقَ ما أرادَه لنا - سبحانه وتعالى -.
وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: "ما ضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا بيده قطُّ، ولا امرأةً، ولا خادِمًا إلا أن يُجاهِدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقِمُ من صاحبه إلا أن يُنتهَكَ شيءٌ من محارمِ الله، فينتقِمُ لله - عز وجل –"؛ رواه مسلم.
فالانتقامُ لغير محارمِ الله معرَّةٌ، كما أن الحِلمَ والبُرودَ أمام محارِمِ الله خيانةٌ عُظمى.
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ.
ونسألُك اللهم نعيمًا لا ينفَد، وقُرَّةَ عينٍ لا تنقطِع، ونسألُك اللهم لذَّةَ النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضرَّاء مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين.
اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَكَ يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام، يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-23-2012 11:08 PM

الفقر وعلاجه في الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الفقر وعلاجه في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن مشكلةٍ عامَّةٍ في كل مُجتمعٍ من قديم الزمان، ألا وهي: مشكلة الفقر والفقراء، وبيَّن أنَّ الإسلام جاء بالحلول الكثيرة لها، ولم يُهمِلها، وذكرَ العديدَ من الحلول التي كفَلَها الإسلام لحل هذه المشكلةِ وعلاجِها.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله فالقِ الإصباح، وجاعلِ الليل سكَنًا، القائمِ بأرزاق خلقه، فما لأحدٍ منهم عنه غِنًى، الخلائقُ كلهم إليه فُقراء، وله - سبحانه - وحده الغِنَى، الدوامُ له - عزَّ شأنه -، ولهم همُ الفناءُ، أحمده - سبحانه - وأشكره على جزيلِ نعَمِه وآلائه سِرًّا وعلَنًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ من حقَّ توحيدَه فأتى يوم القيامة آمِنًا، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله دعا إلى الله، وأقام المِلَّة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، وما ضعُفَ وما وَنَى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار سادتنا وأئمتنا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الفَناءِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما سجَى ليلٌ وأضاءَ سَناء.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، وإياكم والغفَلات، واحذَروا الأماني الكاذِبات؛ فريبُ المَنون كامنٌ في الحَرَكات والسَّكَنات، وما أقربَ الحياة من الممات، قصَمَت المنايا مديدَ الأعمار، وهدمَ تعاقبُ الليالي مشيدَ الديار، فأصبحَت الأحوال خبرًا، والأحاديثُ عِبَرًا، مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى[يوسف: 111]، فاستعِدُّوا - رحمكم الله - ليوم الحِسابِ؛ فذلكم يومٌ ما أطولَه، وحسابٌ ما أثقلَه، وحاكمٌ ما أعدلَه، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[الزلزلة: 6- 8].
أيها المسلمون:
قضيةٌ مألوفة، وظاهرةٌ في المُجتمعات معروفة، مُشكلةٌ في جميع الأُمم والأعصار، والحضارات والأمصار، مسألةٌ لا يخلو منها مُجتمع، ولا تنفَكُّ منها دولةٌ، مهما بلغَ تقدُّمُها وثراؤها، وحُسن إدارتها وسياساتها.
مُشكلةٌ ذاتُ أباعدٍ اجتماعيةٍ، وامتداداتٍ سُلوكية، وجودها في أمةٍ أو دولةٍ ليس مثلَبَةً ولا عيبًا، ولكن نِسيانُ ذلك وإهمالُه، أو عدمُ النظر في أسبابه، والسعيِ في علاجه هو المَعيبُ وفيه المسؤولية؛ ذلكم: هو الفقرُ والفُقراء.
لقد عرفَت البشريةُ الفقرَ منذ أزمان التاريخ المُتطاوِلة، وأعصارِه المُتعاقبة، وحاولَت البشريةُ في مسيرتها الطويلة بمِلَلها ومذاهبِها ومُفكِّريها وأنظمتها أن تحُلَّ مشكلةَ الفقر، وأن تُخفِّفَ من مُعاناة الفُقراء بالترغيبِ والترهيبِ تارةً، وبالمواعظِ والوصايا تارةً، وبالتنظيرِ والمِثاليات تارةً، وأحيانًا بمبادئَ مُتطرفةٍ ذات اليمين وذات اليسار، ناهِيكُم بما أثارَه ويُثيرُه الهدَّامون من الإثارات الطبَقِية، والنَّعَرات المذهبية؛ بل إن المبادئ الهدَّامة والتوجُّهات السيئة تبني أوكارَها وتُقيمُ أفكارَها في رُبوع الفقر والحِرمان والضياع. هذا بعضُ التصوُّر والتصوير.
أما في دين الإسلام، دينِ العقيدة والشريعة، والعبادة والمُعاملة، والدين والدولة، دين تِبيان كلِّ شيءٍ، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[النحل: 89]، الدينُ الذي يُخرِج الناسَ من الظلمات إلى النور، ومن الظلمِ إلى العدلِ، ومن الفقرِ إلى الغِنَى الدينُ الذي يُصلِحُ الدنيا بالدين؛ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[طه: 123]، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ[إبراهيم: 1].


معاشر الإخوة:
من رواسِخِ ديننا وثوابتِه: أن لكل مُشكلةٍ حلاًّ، ولكل داءٍ دواءً؛ فالذي خلقَ الداءَ خلقَ الدواءَ، ومن قدَّرَ المرضَ قدَّرَ العلاجَ، فالمرضُ قدر الله، والعلاجُ والشفاءُ بقدر الله، وإذا كان الفقرُ قدرًا وبلاءً فإن مُقاومته والسعيَ في الخلاص منه قدرٌ وعلاجٌ كذلك.
الإسلامُ أقرَّ حقوقَ الفقراءِ وضمِنَها وحفِظَها وحماها، ووجَّه بالدفاع عنها منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا؛ صيانةً للمُجتمع، وحِفظًا للأُسَر، وإشاعةً لروح الإخاء، وسلامةً للدين، واستقامةً للخُلُق.
أيها المسلمون:
الفقرُ في نظر الإسلام بلاءٌ ومُصيبةٌ، تعوَّذَ منها، ووجَّهَ بالسعي للتخلُّص منها، ليس في مدحِ الفقراء آيةٌ في كتاب الله، ولا حديثٌ صحيحٌ في سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ بل لقد استعاذَ النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من الفقر، وجعله قرينًا للكُفر: «اللهم إني أعوذُ بك من الكُفر والفقر»؛ رواه أبو داود وغيره.
وفي الحديثِ الآخر: «اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقِلَّة والذِّلَّة، وأعوذ بك أن أظلِمَ أو أُظلَم»؛ رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكمُ من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه -، ورمَزَ له صاحبُ "الجامع الصغير بالحسن".
وعمر - رضي الله عنه - يقول: "لو كان الفقرُ رجلاً لقتلتُه".
ونبَّه القرآنُ الكريمُ إلى أن الجوعَ عذابٌ ساقَه الله إلى بعض الأُمم الكافرةِ بنِعَمه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[النحل: 112]، وفي المُقابِل؛ فقد امتنَّ الله على قُريشٍ بأن أطعمَهم من جُوعٍ، وآمنَهم من خوفٍ.
وفي الحديثِ: «إن الرجلَ ليُحرَمُ الرِّزقَ بالذنبِ يُصيبُه»، وفي المُقابِلِ كذلك - عباد الله - فإن الغِنَى نعمةٌ، يمُنُّ الله بها على من يشاء من عباده؛ بل لقد امتنَّ الله بذلك على حبيبه وخليله محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال - عزَّ شأنه -: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى[الضحى: 8]، ومحمدٌ - عليه الصلاة والسلام - لما سألَ ربَّه الهُدى والتُّقَى سألَ معه الغِنَى، فقال: «اللهم إني أسألُك الهُدى، والتُّقَى، والعفافَ، والغِنَى»؛ رواه مسلم.
ودعا لعبد الرحمن بن عوفٍ في صحابةٍ آخرين - رضي الله عنهم -، دعا لهم بالبركةِ في تجارتهم، ودعا لخادمه أنسٍ - رضي الله عنه - فقال: «اللهم كثِّر مالَه». وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما نفعَني مالٌ كمالِ أبي بكرٍ»؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وعند البخاري: «اللهم إني أسألُك علمًا نافعًا، ورِزقًا طيِّبًا، وعملاً صالحًا مُتقبَّلاً». وحسبُكم قولُه - عزَّ شأنه -: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[نوح: 10- 12].
معاشر الأحِبَّة:
إذا كان الأمرُ كذلك؛ فإن الفقرَ - نعوذُ بالله منه -: حالٌ يكون معها المرءُ عاجِزًا عن تلبيةِ حاجاته؛ من الغذاءِ، والكِساءِ، والدواءِ، والسكنِ، والتعليمِ، وفُرصِ العمل. الفقرُ: عدمُ الدَّخْل أو نقصٌ فيه، يعجَزُ معه الفقيرُ عن تحقيق مُتطلَّباته من العيش اللائقِ بكرامةٍ وحُسن رعايةٍ.
في حالة الفقرِ لا يستطيعُ الفقيرُ القيامَ بمناشِطِ الحياة وحيويتها، ومن ثمَّ تبرُزُ صُورٌ من انتشار الأمراض، وسوء التغذية، والوفيات، ونقصِ التعليم وقلَّة فُرصه، واستخدام الأطفالِ.
نعم - معاشر الإخوة -؛ من حقِّ الفقيرِ أن يتهيَّأ له مُستوًى من المعيشةِ مُلائِمٌ لحاله يُعينُه على أداء فرائضِ الله، ومطلوباتِ الشرع، وأعباءِ الحياة، ويَقيهِ من الفَاقَةِ والحِرمان.
أيها المسلمون:
وأولُ ما يتوجَّهُ إليه النظرُ في حلِّ هذه المُشكلة وعلاجِها وتقليل آثارها مما تُؤكِّدُه توجيهاتُ ديننا هو: مُطالبةُ كلِّ مسلمٍ قادرٍ، مُطالبَتُه بالعملِ، كما لا بُدَّ من إيجاد فُرص العمل؛ فالعملُ هو الوسيلةُ الأولى والسلاحُ المَضَّاءُ - بإذن الله وعونه - للقضاء على هذه المُشكلة. العملُ - بتوفيق الله - هو جالبُ المال، وعامِرُ الأرض. العملُ أساسُ الاقتصاد والإنتاج، والغِنَى، والعَفاف، والكفاف، والثَّراء. العملُ مجهودٌ شرعيٌّ كريمٌ يقومُ به العبدُ من عباد الله ليعمُرَ أرضَ الله الذي استُخِلِفَ في عِمارتها بنفسه ومع غيره.
إن ديننا يُقرِّرُ ويُؤكِّد أن الله خلقَ الأرضَ، وبارَكَ فيها، وقدَّرَ فيها أقواتَها، وأودعَ في ظهرها وبطنها البركات المذخُورة، والخيرات المنشورة ما يكفي جميعَ عباد الله عيشًا هنيئًا مريئًا، وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ[الأعراف: 10]، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء: 70].
وفي توجيهات الإسلام: أن هذه الخيرات والبركات والأرزاق المبثوثة لا تُنالُ إلا بجُهدٍ يُبذَل، وعملٍ يُؤدَّى، وسعيٍ دَؤُوبٍ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ[الملك: 15]، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[الجمعة: 10]، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[المزمل: 20].
فمن سعَى وانتشرَ في الأرض، وضربَ في أرجائها مُبتغيًا فضلَ الله ورِزقه؛ فإنه أهلٌ لنوالِهِ، ومن قعدَ وتكاسَلَ وتمنَّى الأماني؛ كان جديرًا بأن يُحرَم، «لو أنَّكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزَقَكم كما يرزقُ الطيرَ تغدُو خِماصًا، وترُوحُ بِطانًا».


معاشر الإخوة:
العملُ في الإسلام عبادةٌ، وما تعدَّى نفعُه وامتدَّ أثرُه فهو أفضلُ عند الله وأزكَى مما كان قاصِرًا نفعُه على صاحبِه، وأبوابُ العملِ مفتوحةٌ في الإسلام على كل مصاريعها، يختارُ منها الراغبُ ما يُلائمُ قُدرتَه وكفاءَته وخبرتَه وموهبتَه؛ «فالتاجرُ الصدوقُ الأمينُ مع النبيين والصدِّيقين والشُّهداء»؛ رواه الترمذي، والحاكم بإسنادٍ حسنٍ.
«وما أكلَ أحدٌ طعامًا خيرًا من أن يأكل من عملِ يده»؛ رواه البخاري. «وما من مُسلمٍ يغرِسُ غرسًا، أو يزرعُ زرعًا فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ إلا كان له به صدقة»؛ رواه البخاري.
وكان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يتَّجِرون في البرِّ والبحر، ويعملون في نخيلهم، والقدوةُ بهم. وسُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الكسبِ أفضلُ؟ قال: «عملُ الرجلِ بيده، وكلُّ بيعٍ مبرورٍ»؛ رواه أحمد.
عباد الله:
وثمَّة نظراتٌ حول العمل عند بعض الناس لا بُدَّ من الوقوف عندها ذاتُ مِساسٍ كبيرٍ في المُعالَجة:
النظرةُ الأولى: موقفٌ قاصِرٌ ضارِبٌ جُذورَه منذ أيام الجاهليَّة الأولى إلى عصرِنا هذا - مع الأسفِ -، ذلك هو: الاستهانةُ بالعمل، أو ببعض أنواع العمل، ولا سيَّما عند العرب الذين يحتقِرون الأعمال اليدوية، وبعضَ الحِرَف والمِهَن، وهذا - وربِّكم - ليس من الدين، ولا من الأصالة، ولا العقل الراجِح.
فدينُكم رفعَ قيمةَ العمل أيًّا كان نوعُه من وجوه الكسبِ الحلال، ونهَى وحذَّرَ وشنَّع على البِطالة والعجزِ والاتِّكال على الآخرين؛ فكلُّ كسبٍ حلالٍ فهو عملٌ شريفٌ عظيمٌ مأجورٌ صاحِبُه، وفي الحديثِ الصحيحِ: «لئن يأخُذ أحدُكم حبلَه، فيأتي بحزمةِ الحَطَبِ على ظهره، فيبيعُها، فيكُفُّ بها وجهَه خيرٌ من أن يسألَ الناسَ أعطَوه أو منَعُوه».
نعم، هذه هي مهنةُ الاحتِطابِ؛ فهل تُرى أحدًا يزدَريها بعد هذا التوجيهِ النبويِّ الكريمِ؟!
وأنبياءُ الله أفضلُ خلق الله ومُصطَفوه كلُّهم قد رعَوا الغنَمَ، وفيهم: صانِعُ الحديد، والنجَّار، والخيَّاط، والبَزَّاز، والحرَّاث، وموسى - عليه السلام - رعَى الغنَمَ، وآجَر نفسَه عشر سنين عند الرجل الصالح، ونبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - رعَى الغنمَ لقُريش، وسافَرَ بالتجارةِ.
وأئمةُ الإسلام وعلماؤه كان فيهم البزَّارُ، والقفَّالُ، والحَذَّاء، والزَّجَّاج، والخرَّاز، والحطَّاب، والجَصَّاص، والخيَّاط، والخوَّاص، والقطَّان، والموَّاز، وغيرُهم مما لا يكادُ يُستثنَى من مهنٍ مُباحةٍ. فكفى بذلك شرفًا، وكفى بهم قُدوةً وأُسوةً.
النظرةُ الثانية: من الناسِ من يدَعُ العملَ لأنه لم يتيسَّر له في بلده وعند أهله. سبحان الله - عباد الله -، يُؤثِرُ البَطالَةَ والحاجةَ والحِرمان على السعيِ والسَّعَة والعفافِ والغِنى؟! وما علِموا أن أرض الله واسِعةٌ، ورِزقَ الله في المشيِ في مناكبِها والضربِ في أرجائها، رِزقُ الله غيرُ محدودٍ بمكانٍ، ولا محصورٍ بجهةٍ.
ونحن في هذه البلاد الطيبةِ المُبارَكةِ يفِدُ إلينا إخوانٌ لنا من بلادٍ شقيقةٍ وصديقةٍ، وفَدوا إلينا من أصقاع الدنيا يُسهِمون معنا في بناء بلدنا، وإعمارها، ويسعَون في تحصيل أرزاقهم، ويكِدُّون من أجل أهلِيهم وأطفالِهم. فعلى الرَّحبِ والسَّعَة.
ويعلمُ الله كم نسعَدُ حين نرى أبناءَنا يُشارِكونهم ويُنافِسُونهم التنافُسَ الشريفَ، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً[النساء: 100]، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[المزمل: 20].
وسُئِلَت أمُّ مسلمة عن تفرُّق أولادها، فقالت بلغة الأم المُربِّية العاقلة الحكيمة: باعَدَت بينهم هِمَمُهم.
النظرةُ الثالثة: فئاتُ من الناس يزهَدون في العمل مُعتمِدين على الصدقات والزَّكَوات والتبرُّعات والأُعطِيات، وقد يتزَلَّفُ مُتزلِّفٌ لدى الأغنياء والوُجَهَاء والكُبَراء أشبَه بالمُتسوِّل والشَّحَّاذ لتكون يدُهُ هي السُّفْلَى، يستجْدِي المِنَحَ والعطايا، قويًّا قادرًا لا تحلُّ له الصدقاتُ ولا الزَّكَوات.
وبعدُ، عباد الله:
فإن الإسلام لم يجعل لمُتبطِّلٍ كسولٍ حقًّا في صدقات المُسلمين وإحسانهم، وما ذلك إلا ليدفعَ القادرين للعمل والكسبِ الحلال، وما فتحَ عبدٌ على نفسهِ بابَ مسألةٍ إلا فتحَ الله عليه بابَ فقرٍ.
اللهم إنا نعوذُ بك من العجزِ والكسلِ، والجُبن والبُخل، والمأثَمِ والمغرَم، وغلبَةِ الدَّيْن وقهرِ الرجال، ونعوذُ بك من الفقر إلا إليك، اللهم أغنِنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سِواك، وأغنِنا بفضلِك عمَّن أغنيتَه عنَّا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ[يوسف: 65].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله هادي من استَهداه، ومُعطِي عبدَه فوقَ ما يتمنَّاه، أحمده - سبحانه - وأشكرُه على جزيلِ ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معبود بحقٍّ سِواه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه قرَّبَه وأدناه، وأره من عظيمِ ملكُوته ما أراه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين السادة، وأصحابه المُكرَّمين السَّرَاة، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا لا حدَّ لمُنتهاه.
أيها المسلمون:
وعلى الدولة في الإسلام مسؤوليتها في تهيئةِ فُرص العمل وطرق المعاشِ، وإيجاد الوسائل والتجهيزات والإعدادات، إن وظيفةَ الدولة في دين الإسلام وظيفةٌ إيجابيةٌ واسِعةٌ شاملةٌ، وظيفتُها: حمايةُ الذين يملِكون والذين لا يملِكون.
والمُجتمعُ في نظرِ الإسلام مُتاربِطٌ مُتماسِكٌ، جسدٌ واحدٌ إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهَر والحُمَّى. العلاقةُ بين أفراده ومُؤسَّساته ليست علاقة إنتاج، أو علاقة عرضٍ وطلبٍ، إنها أعمقُ من ذلك وأقوى، إنها علاقةُ عقيدةٍ وفكرٍ وعاطفةٍ، ووحدة نظامٍ وشريعةٍ، جسدٌ واحدٌ يُمِدُّ ويستمِدُّ، وينفعُ وينتفِعُ.
والدولةُ هي رأسُ المُجتمع، وهي جهازُه الذي يرعَى هذا الترابُط ويُحافِظُ عليه ويصُونُه، ويُؤكِّدُ لُحمتَه، ويرعَى ثمرَتَه، «كلُّكم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيته، فالإمامُ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والرجلُ راعٍ في أهلِهِ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته ..» الحديث.
الدولةُ تُحقِّقُ العدلَ، وتدعُو إلى الخيرِ، وتتَّخِذُ من الأساليب والوسائل والإجراءات ما يُعالِجُ الفقرَ، ويُخفِّفُ آثارَه، ويضمنُ العيشَ الكريمَ لكلِّ مُحتاجٍ، ويُحقِّقُ التكافُل بين المُجتمع، وهي: وسائل وأساليب وإجراءاتٌ تختلفُ باختلاف الأزمِنةِ والبيئاتِ والأحوال والنوازِل والمُستجَدَّاتِ والموارِد.
وللاجتهاد وحُسن السياساتِ والإدارات في هذا مدخلٌ واسعٌ من الإعداد والتدريب، وتوجيه كل أحدٍ إلى ما يُحسِنُه، مع الأجرِ العادلِ وتشجيعِ المُحسِنِ ومُكافأته، ومُجازاة المُسيءِ ومُعاقبتِه، في سياساتٍ تصُونُ ثروات الأمة، وتزيدُ في إنتاجِها، وتُحسِّنُ مُستوى خدماتها، وتحفَظُ طاقاتها، وتُقدِّرُ جهودَ أبنائِها في مواهبهم، وقُدراتهم، وكفاءاتهم، ومُؤهِّلاتهم، في بناءٍ حضاريٍّ، وإدارةٍ مُنظَّمة، وسياساتٍ مُحكَمة؛ عِمارةً للأرض، وتطبيقًا للشرع، وتوظيفًا للطاقات في توازنٍ بين حقوق الإنسان وواجباته.
وهذا وليُّ أمرنا خادمُ الحرمين الشريفين - حفظه الله وأعزَّه، وأمدَّ في عُمره على طاعته -، وقد جعل الإصلاحَ شَعارَ حُكمه، كان من أحد معالمِ مسيرته الإصلاحية المُظفَّرة: تفقُّدُه لبعض أحياء الفُقراء ومساكنهم؛ ليقِفَ على صُور المُعاناة.
ثم أتبَعَ ذلك بقراراتٍ وسياساتٍ وإنشاء مُؤسَّساتٍ تتولَّى مُعالجةَ ذلك، وأصدرَ توجيهاته لرجال الدولة لتنفيذِ ذلك ومُتابعتِه.
وبعدُ، عباد الله:
فإن كان من تنبيهٍ فهو: أن الحياةَ الإسلامية بمناشِطِها وأعمالها ووظائفها هي حياةٌ نظيفةٌ نزيهةٌ، لا تُقِرُّ العبَثَ، ولا تسمحُ بالفساد والتحلُّل، وصرفِ المالِ والطاقات فيما لا يحِلُّ، لا ليلاً ولا نهارًا، لا في لهوٍ ولا مُجونٍ ولا سُوء استغلالٍ.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فدينُكم يُطارِدُ الفقرَ بأحكامِه وتشريعاته وتوجيهاته، والمُسلمُ يستقبِلُ صباحَه باكِرًا مُتوضِّئًا مُتطهِّرًا مُصلِّيًا طيبَ النفسِ، مُستقيمَ الخُلُق، حافظًا لنفسه وماله وأهله ووقته.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله، وهو الصادقُ في قِيلِه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم احفَظهم واحقِن دماءَهم، واحفَظ اعراضَهم، وأطعِم جائِعَهم، اللهم واشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، اللهم وانصرهم على من بغَى عليهم، اللهم واربط على قلوبهم، وثبِّت أقدامهم، اللهم واجعل لهم من كلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، وانصُرهم ولا تنصُر عليهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظلَمة في سُوريا، اللهم عليك بهم فإنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في الطُّغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم اجعل تدبيرَهم في تدميرهم، واجعل دائرةَ السوء عليهم يا قويُّ يا عزيزُ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-31-2012 10:14 PM

سوريا .. الفرَج قادم

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 75/1433هـ بعنوان: "سوريا .. الفرَج قادم"، والتي تحدَّث فيها عن بلاد الشام وما ألمَّ بها من خُطوبٍ ومِحَنٍ وبلايا، وهو يُذكِّرُ المسلمين عامَّةً وأهلَنا فيها خاصَّةً بوجوب الصبر والاحتِسابِ؛ فإن نصرَ الله قريبٌ، وبتمسُّك الأمة بعقيدتها، وتلاحُمها وتراحُمها فيما بينها تُنصَر على أعدائها، ثم ختمَ خُطبتَه بدعَواتٍ مُبارَكاتٍ لإخواننا المُستضعفين في سوريا وغيرها من بُلدان المُسلمين.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، سبحانه وبحمده ابتلَى النفوسَ بالسرَّاء والضرَّاء فزكَّاها واحتثَاها، ورقَّاها واصطفاها.
لك الحمدُ حمدًا يملأُ الأرضَ والسما
كثيرًا غزيرًا ما يُعدُّ ويُحسَبُ
لك الحمدُ يا غفَّارُ ما هلَّ صيِّبٌ
بزاخرِ وبْلٍ فيضُهُ ليس ينْضَبُ

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً ندرأُ بها الفتنَ اعتقادًا وشفاهًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من تصبَّر في النوائبِ فانتصَرَ بفضلِ الله وتلافاها، ومحا معالمَ الظلم والطغيانِ فعفَّاها، اللهم فيا ربِّ صلِّ وبارِك عليه، وعلى آله الطاهرين الميامين أزكى البريَّة قلوبًا وأصفاها، وصحبهِ الكرامِ البَرَرة خيرِ من اعتصَمَ بالشريعة الغرَّاء وتقفَّاها، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين يرجو من الباري رحماته ومُوفَّاها، وسلَّم تسليمًا كثيرًا عديدًا مُبارَكًا مزيدًا.

أما بعد، فيا عباد الله:
خيرُ ما يُوصَى به في أول الأمر وبادئِهِ، وخِتامه وعائِدِه: تقوى الله - عز وجل - في كل الآناء، في الكُرَب واللأواء، والمِحَن والبأساء؛ فتقواه - سبحانه - تكشِفُ كُرَبًا وقلقًا، وتُبدِّدُ فزعًا وفرَقًا، ويأسًا وأرَقًا، وكم تُحقِّقُ نصرًا وألَقًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[الطلاق: 2، 3].
وتمسَّكوا بجَنابِ تقوى ربِّكم
كي تسلَموا من سُخطِهِ وعقابِهِ
وتجنَّبوا سبقَ الخُطى فلكم هوَى
عبدُ الهوى من حِصنِهِ وعُقابِهِ

أمة الإسلام:
في حوالكِ الكُروب، ومعامِعِ الخُطوب، ومُدلهِمَّات الدُّروب، وتحت وطأةِ مناسنِ اللُّغوب التي تعتوِرُ المُسلِمَ إبَّان الشدائدِ والضوائق، والأرزاءِ والعوائق؛ تشرئِبُّ النفوسُ إلى إشراقات الطمأنينة، وبشائرِ الانبلاجِ والسَّكينة، وتتطلَّعُ الأرواحُ إلى أرَجِ الرحمات المُسرِّيَات، وعبَقِ النَّفَحات المُسلِّيَات، ويزدادُ الأمرُ إلحاحًا وتأكيدًا في هذه الآونةِ العصيبة، والحِقبةِ التأريخية اللهيبة التي أحدَقَت بأمتِنا اللهيفَةِ من أطرافِها، وتناوشَتْها المِحَنُ من سِواها وأكنافِها، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21].
أيها المؤمنون:
من استلهَمَ حقائقَ الغِيَر السَّوَالِف، واستنطَقَ دقائقَ الفوادِحِ الخَوالِفِ، وراضَ بصيرتَهُ في رياض الوحيَيْن الشريفين؛ أيقَنَ دون أدنى مَيْن أن المُسلِمَ غرضٌ لفواجِعَ ونوائِب، تذَرُ القلوبَ ذوائِب، سُنَّةُ الله في الخلق ماضية، وحِكمةٌ منه في البرايا قاضية، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[محمد: 31].
ولنا في إمام الأتقياء - صلى الله عليه وسلم - خيرُ قُدوةٍ وعزاء، والناسُ في صُروفِ المِحَن صِنفان:
من أناخَ رِكابَهُ في جنبِ الله واستكفاه، وتوكَّل عليه ورجاه، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[الطلاق: 3].
والصِّنفُ الثاني: من إذا ضافَتْه رزِيَّةٌ جَزِعَ وتسخَّطَ، وفي أودِيَةِ اليأسِ اضطربَ وتخبَّطَ، وظنَّ بالله الظنُون، واستصرَخَ ريبَ المَنون، مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ[الحج: 15].
فضاؤُهُ - سبحانه - نافِذٌ صائر، وحُكمُه في البريَّة سائِر، لا رادَّ لما قدَّرَه، ولا مُعقِّبَ لما أبرَمَه ودبَّرَه، وما يمَسُّ المُؤمِنَ من فوادِحَ وضرَّاء، ومِحَنٍ وبأساءٍ فهو لفريقٍ كفَّارةٌ وإمهالٌ، وتذكيرٌ بالرَّغَب والرَّهَب والابتِهال، ولآخرين مَرقاةٌ لدرجاتِ الكمال. فلا يضجَرنَّ المؤمنُ البصيرُ إن عَراهُ خَطبٌ عسير؛ فأثبتُ الناسِ عند الصُّروف وأعظمُهم صبرًا أفضلُهم عند الله منزلةً وقدرًا، وما يبتلِي اللهُ عبدَه إلا ليُطهِّرَه من الذنوب أو يُعظِمَ له أجرًا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[البقرة: 177].
وجلَّت حكمةُ الله عن الإعناتِ والتعذيبِ؛ بل هي للاجتباءِ والرحمةِ والتهذيبِ، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19]، فدونَ الشهدِ لا بُدَّ من إبَرِ النَّحْلِ، ودون الرُّطَب سُلَّاءُ النَّخْلِ، وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد: 4].
إخوة العقيدة:
والمؤمنُ راسِخُ الإيمان يُوقِنُ أن الشدائدَ - لا مَحالةَ - إلى تقشُّعٍ وانقِضاء، متى فزِعَ إلى من بيده تصاريفُ القضاء، فكأيٍّ من مكروهٍ وافاه الفرَجُ في طرفَة عينٍ، وتضوَّعَ منه السرورُ دون عناءٍ وأَيْن.
إذا اشتملَت على اليأسِ القلوبُ
وضاقَ لما به الصدرُ الرَّحيبُ
أتاكَ على قنوطٍ منك أمرٌ
يمُنُّ به اللطيفُ المُستجيبُ

معشر المسلمين:
وما يكونُ من المِحَن في الأفراد والذَّوات يُصيبُ أيضًا الأُمَمَ والمُجتمعات، وها هو واقِعُنا الرَّاهِنُ خيرُ شاهدِ عيانٍ وأصدقُ مُنبِئٍ وبُرهان؛ فكم من أُمَمٍ وانِية عزَّت بعد هُمود، ونهَضَت بعد خُمُود، وسادَت بعد جُحُود! وكم من أقوامٍ بطِروا معيشتَهم تحطَّموا في الوجود، وشيَّعَتهم الدعواتُ السَّاخِطاتُ إلى الأرماسِ واللُّحود؛ جزاءً وِفاقًا بما كان منهم من العِنادِ والكُنُود، والإفسادِ الذي طبَّقَ شرُّه السُّهُولَ والنُّجُودَ، وأشباهُهم - دكَّ الله جِباهَهم - تناسَوا في عُتُوِّهم قوةَ الله التي لا ترُدُّها الحُصون، وسطوتَه التي لا تحُولُ دونَها الوُكونُ، وجبرُوتَه الذي لا يعزُبُ عنه الانسِرابُ والكُمُون.
أنَّى كان طاغيةُ الشامِ ويكونُ؟! وإن كان في عُقر القِلاعِ الحَصينةِ المَشيدة، وخلفَ المتارِسِ الشديدة؛ فاللهُ المُنتقِمُ طَليبُه، والديَّانُ الجبَّارُ حَسيبُه؛ جزاءَ بغيِهِ وطُغيانه، وتمرُّده وعُدوانه، فاللهم دمِّر أهلَ الظلم والطُّغيان والعِناد، كما دمَّرتَ قومَ نوحٍ وعاد، وثمود وفرعون ذي الأوتاد.
أتُداسُ أقداسُ الجُدود تعنُّتًا
ومساجِدُ التقوى تُهانُ وتُزدَرَى
ودمُ الثَّكَالَى واليَتَامَى مُهرَقٌ
يجري على أشلائهم مُتحدِّرًا

وإزاءَ تلك العظائمِ القواصِم، والويلاتِ الحواطِم، تتوهَّجُ في الأفئدةِ أقباسُ الغضبِ والحمِيَّة، وتتردَّدُ في نفوسِنا الكَلْمَى لوعَاتُ الفَجيعةِ الدموِيَّة حِيالَ أولئك الجَلاوِزَةِ العُتاة، والجَعاظِرَة القُساة، الذين تأجَّجَت في عيونِهم جُدَى التدمير والتَّنكيل، واسوَدَّت في قُلوبهم جِمارُ الإبادةِ والتَّقتيل، رُعونةٌ تجاوَزَت النَّظير، وصَفاقَةٌ فاقَت المَثِيلَ، مما يتطلَّبُ - وعلى الفورِ - وقفَ العُنفِ وإراقةِ الدماءِ، ويُؤذِنُ بكارثةٍ إنسانيةٍ لن ينسَها التأريخُ المُعاصِر.


وإن دماءً أُهدِرَت سوف يصطلِي
بموَّارها الطُّغيان والمارِدُ النَّكْرُ
فإن يجرِي في الأعماقِ تيَّارُ ثأرها
فقد ضاقَت الأرواحُ وامتلأَ الصَّدرُ

أيها المسلمون:
وفي كتابِ ربِّنا أعظمُ العِبَر والدُّروس، والعِظاتِ التي تُثبِّتُ النفوس، نفوسَ الأعِزَّة القِلَّة، والأبطال الأجِلَّة، الذين يُقارِعون الطُّغاة في دمشق الصامِدة، وحلَبَ الشَّهباء، وحِمصَ الصابِرة، وإدلب وحماةَ الباسِلة، ودَرعا وبابا عمرو، وسِواها من تلك الرُّبُوع الشامخة؛ فدمشقُ دمعٌ لا يُكفكَف، وآهاتٌ لا تُخفَّف، لكنَّ بشائرَ النصر تلُوح، وراياتِهِ خفَّاقةٌ تُرفرِف، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ[الحشر: 2]، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ[البقرة: 249].
الله أكبر، الله أكبر! إنه النصرُ المُبينُ المُؤزَّر؛ فاللهَ اللهَ في الصبر والثبات، فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال: 45، 46].
إخوة الإسلام:
وإن المقاصِد العظيمة والغاياتِ السَّامِية النَّبيلة لإخواننا في سُورية المُضمَّخة بنور العقيدة لتتَهاوَى حِيالَها شُمُّ المتارِسِ والمَعاقِل، ويُؤازِرُها كلُّ غَيُورٍ عاقل، ولا يُصادِمُها إلا فَدْمٌ أعيَى من باقِل؛ كيف وشِعارُهم: الله أكبر، ولن نركَعَ إلا لله، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ[الحج: 40]، إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد: 7]،
ونِعْمَ الشِّعار! وثَغرُهم دارُ الشامِ، ونِعمَ الدَّارِ! أولئك الذين يستجمِعون أخلاقَ النصر وأسبابَه، وايْمُ الله هم المُنتصِرون، والذين يستلئِمون بأخلاقِ الهزيمةِ هُمُ المُنهزِمون.
يا رِجالَ الإسلام هُبُّوا وكونوا
دائمًا للبُغاةِ بالمِرصادِ
لا يرُدُّ الحُقوقَ إلا إباءٌ
يصطلِي من أُوارِهِ كلُّ عادِي

أمة النصر والأمجاد:
وإننا لنتفاءَلُ - بإذن الله - بانبِلاجِ صُبح النصر المُبين، في كل مكانٍ على الضِّرابِ والآكام لإخواننا في بلاد الشامِ الأبِيَّة، هاتِفين: صَبرًا صَبرًا .. فإن مع العُسرِ يُسرًا، إنَّ مع العُسر يُسرًا، ومع اليُسر نصرًا، وطُوبَى لكم طُوبَى، وستبرُقُ بين بيارِقِكم بوعدِ الله بوارِقُ الفجر، وتباشيرُ النصر، وسيُسطِّرُ التأريخُ بمِداد البُطُولةِ ملحَمَة العِزَّة والفخر؛ فالبغيُ مهما زمجَرَ فإلى تتبيرٍ وزَوالٍ، ومهم دمَدَمَ فإلى غُبُورٍ ودَوالٍ.
يا ربِّ! حِمصٌ مُزِّقَت أوصالُها
والسِّترُ يُهتَكُ في رُبوعِ الشَّامِ
فاجعَل عيونَ المؤمنين قريرةً
بدمشق ترفعُ رايةَ الإسلامِ

ألا بحبلِ الله فاستعصِموا، وبالعزيز القدير استنصِروا، تُنصَروا وتستبصِروا، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة: 214]، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
بارك الله ولي ولكم في الوحْيَيْن، ونفعني وإياكم بهَدي سيدِ الثَّقَلَيْن، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[يوسف: 100]، وتوبوا إليه واستغفِروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

ابوحاتم 03-31-2012 10:14 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله العزيز الديَّان، ناصِر المُستضعَفين من أهل الإيمان، وقاصِم جبابِرة البَطشِ والطُّغيان وإن طالَ الأَوَان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، نهَى العالمين عن البَغيِ والعُدوان، وصدَّ المارِدين بالحُجَّة والسِّنان، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطاهرين ساداتِ الزمان، وصحبِهِ الأُلَى كانوا من الليل القُوَّامَ والرُّهبان، ومن النَّهار الدُّعاةَ والفُرسان، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حقَّ تقواه، ولتَهْنِكم بشائرُ النصر - بإذن الله -؛ فالظلمُ مرتَعُه وَخيم، والظالمُ منبوذٌ لئيمٌ، ومصرَعُهُ - لا محالةَ - وشيكُ الذَّميم، واستيسقنوا - رحمكم الله - أن النصرَ مع الثباتِ والاصطِبار، والظَّفَرَ قرينُ الاعتِصام بالواحدِ القهَّار.
إخوة الإيمان:
وهذه المرحلةُ الحرِجَة في مسارِ أمتنا مطِيَّةٌ ذَلول لمزيدِ التمالُئِ المُستذئِب من قِبَلِ المُتربِّصين المَكَرة، والشَّانِئين الغَدَرة، وهذا التمحيصُ شطر الاجتِباء والتخليص هو المِسبارُ الكاشِفُ لمقدار ثباتِ الأُمَّة وتلاحُمها، واتحادِها وتراحُمِها، ومن المُثُلِ والعِبَر التي تُزجَى وتُساقُ: ما أصابَ المُسلمين يوم أُحُدٍ من البلاء، ورغمَ ذلك ظهرَ دينُ الله وعَزَّ، وانتشرَ وبَزَّ.
وتلك المُثُلُ والقِيَمُ هي التِّرياقُ الشافِي، والبَلْسمُ الوافِي للحقائق المُشرِقة التي تسيرُ على نُورِها وهُداها الفُلولُ المُسلِمةُ في أرض الشام، وفلسطين ضدَّ الصهايِنة اللِّئامِ، وملءُ قلوبِهم وقلوبِنا: النصرُ للإسلام، والفوزُ للإسلام، والمجدُ للإسلام، بإذن الله الملكِ العلَّام، وإن تكالَبَ عليهم ضِئضِئُ الإرهاب والإجرام، فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[الروم: 47]، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[يوسف: 110].
فإيمانُنا بالنصرِ رغمَ عُتُوِّكم
كإيماننا بإلهِنا القادِرِ الفَرْدِ
متى صدَقَت منَّا النَّوَايا وأخلَصَت
فنحنُ مع النصرِ المُبينِ على وعدِ

وبعدُ، معاشر الأحِبَّة:
فلكَم تقتضِينا أُخُوَّتُنا القَعْساء، وعقيدتُنا الشمَّاء مُؤازَرَةَ أهالينا في سُورية الفَيْحاء، وفلسطين الإِباء؛ ليُحقِّقوا الأمنَ والانتِصار، وحقنَ الدماء والاستِقرار، ولو تجرَّعنا لأجل ذلك كُؤوسَ الصبرِ المِرار، وأن نصطبِرَ على ما أصابَنا، وألا نشكُو إلا إلى الله أوصَابَنا، فسُودُ النوائِب لطالَما أسفَرَت عن نَّيْلِ الأماني والرَّغائِب، والخَطْبُ الجَلَلُ بريدٌ لأزكى الأمَل، بإذن الله - عزَّ وجل -، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 139- 141].وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على سيد الأنامِ، وقُدوةِ أهل الإسلام، الصابرِ على المِحَن بتوكُّلٍ على الله واستِعصامٍ؛ فقد أمرَكم بذلك المَولَى في كتابِهِ عزيزِ النِّظام، فقال تعالى قولاً كريمًا بديعَ الإحكام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
وفي "جامع الترمذي" عن أُبَيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسول الله! كم أجعل لك من صلاتي؟ قال: «ما شئتَ». قلتُ: أجعلُ لك صلاتي كلَّها؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذًا تُكفَى همَّك، ويُغفَرُ لك ذنبُك».
ومحبَّةُ الهادي الصلاةُ عليه من
ثغرٍ ومن قلبٍ دُعاءً حاضِرًا
صلَّى عليك اللهُ في قُرآنِهِ
والمؤمنونَ أماجِدًا وأكابِرًا

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على الرحمة المُهداة، والنِّعمةِ المُسداة: نبيِّنا محمدِ بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في دُورِنا، وأصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعبادِ يا مَن له الدنيا والآخرةُ وإليه المعاد.
اللهم انصُر إخواننا المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في سُوريا، اللهم انصُر إخواننا في بلاد الشام، اللهم انصُر إخواننا في بلاد الشام، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، اللهم اشفِ مرضاهم، وعافِ جرحاهم، وفُكَّ أسراهم، اللهم عافِ مُبتلاهم، اللهم اقبَل موتاهم في الشُّهداء يا سميعَ الدُّعاء.
اللهم عليك بطاغية الشام ومن مالَأه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصَى من بَراثِنِ اليهود المُعتدين، والصهاينة المُجرمين، يا قويُّ يا عزيزُ، يا جبَّارُ يا مُنتقِم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر المُسلمين في كل مكان على عدوِّهم وعدوِّك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنهم مظلومون فانصُرهم، اللهم إنهم مظلومون فانصُرهم، اللهم إنهم مظلومون فانصُرهم، يا مُجيبَ دعوة المُضطرين، يا كاشِفَ السُّوء، يا ناصِر المُستضعفين، يا مُنجِيَ المؤمنين.
نَدرأُ بك اللهم في نُحورِ أعدائهم، ونعوذُ بك اللهم من شُرُورهم، اللهم عليك بأعدائهم وخُذهم أخذَ عزيزٍ مُقتدرٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمُسلمين والمُسلِمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألِّف بين قلوبهم، واهدِهم سُبُل السلام، وجنِّبْهم الفواحِشَ والفِتَن ما ظهرَ منها وما بطَنَ.
اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، اللهم ارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين الأحياءِ منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 04-09-2012 12:54 AM

لماذا الخوف من الإسلام؟
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 14/5/1433هـ بعنوان: "لماذا الخوف من الإسلام؟"، والتي تحدَّث فيها عن الإسلام وفضله في نشر الخير والعدل للناس جميعًا، وفيها إيقاظٌ لذوي الأربابِ والعقولِ بقراءة التاريخِ الإسلاميِّ قراءةً صحيحةً حِياديَّة للتعرُّفِ على عِظَمِ الإسلام وشأنِ أهله منذ خمسة عشر قرنًا، وقد أثارَ سُؤالًا يُرجَى من السياسيين والإعلاميين وغيرِهم الجوابُ عليه، ألا وهو: لماذا الخوف من الإسلام؟.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله جعل دينَ الإسلام خاتمةَ الأديان وأتمَّه، وجعل من انضَوَى تحت لوائهِ من خيرِ أُمَّة، الحمدُ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مُعقِّب لحُكمه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون[آل عمران: 102].
اتقوا الله وارجُوه، وخافوه واخشَوه حقَّ خشيته؛ فليس الخائفُ من الله من يعصِرُ عينيه، إنما الخائفُ من تركَ شهوتَه من الحرام وهو يقدِرُ عليه، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ[الرحمن: 46].

عباد الله:
في حديث قصةِ بيعةِ العقبةِ، لما اجتمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - سِرًّا بالأنصار ليُبايِعوه على النُّصرة، روى لنا كعبُ بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: كان أول من ضربَ على يدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البراءُ بن معرور، ثم تتابعَ القومُ، فلما بايعَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صرخَ الشيطانُ من رأس العقَبَةِ بأبعَدِ صوتٍ سمعتُه قطُّ: يا أهلَ الجُباجِب! - والجُباجِبُ: المنازِلُ -، هل لكم في مُذمَّمٍ والصُّباةُ معه، قد أجمعوا على حربِكم؟!
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا أزَبُّ العقَبَة، هذا ابنُ أذْيَب، اسمَع أيْ: عدُوّ الله: أما واللهِ لأفرُغَنَّ لكَ ..» الحديث؛ رواه الإمام أحمد، وغيره.
أيها الناس:
هذه أولُ صيحةِ تخويفٍ من الإسلام، ابتدأَها شيطانٌ من شياطين الجنِّ، وصوَّرَ في شائعتِهِ وذائعَتِهِ تلك أنَّ هذه الولادةَ المُبكِّرةَ لكِيانِ الإسلام إنما هي اجتماعٌ لحربِ الناسِ.
وعلى امتِدادِ القُرونِ التالِيات لم يزَلْ في الإنسِ من يرِثُ تلك الدعوَى ويُذيعُها إما عن جهلٍ أو تجاهُلٍ، ولم يزَل الخوفُ من الإسلام والتخويفُ منه حاضِرًا في القراراتِ العالمية والمحافِلِ الدولية؛ فضلاً عن وسائل الإعلام.
وما زال السياسيُّون والإعلاميُّون يُصِرُّون على تثبيتِ صُورةِ الإسلام أنه ثقافةُ عُداونية، وأن التسامُحَ ثقافةُ الغربِ، ولو نظَروا بعدلٍ وإنصافٍ لرأَوا في أُصول الإسلام ومبادئِهِ أكملَ القِيَمِ والمُثُلِ في العدلِ والتسامُحِ.
إن لهذه الفِريَةِ - التي هي الخوفُ من الإسلام - آثارًا سلبيَّةً على المُسلمين وعلى غيرِهم؛ فهي تهدِمُ جُسُورَ الثِّقَةِ والتعاوُن، وتُحطِّمُ العلاقاتِ الدوليةَ وقيامَ المصالحِ بين بني البشرِ، وتُغذِّي جُذورَ العداء والإهراب، وتُمثِّلُ تهديدًا وإنكارًا للحقوق المُتساوية، والتفرقةِ على أُسُسٍ دينيَّةٍ وعُنصريَّة، إضافةً إلى المُضايَقات والعُنفِ، والقُيُودِ على الحريةِ الشخصيةِ، كما أنه تشويهٌ للحق الذي جاءَ من عندِ اللهِ.
ووصلَ الأمرُ بسببِ فِريَةِ التخويفِ من الإسلام إلى التحريضِ وإثارةِ الأحقادِ الدينيَّة، وتعدَّى البعضُ إلى تدنيسِ وإهانةِ المُقدَّسات الإسلامية، وانتهاكِ الحُرُماتِ الدينيَّة؛ بتطاوُلٍ على حُرمةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو امتِهانٍ للقُرآنِ الكريم، وسنِّ القوانين ضدَّ مظاهِرِ حجابِ المرأة ونقابِها، ونشرِ رُسوماتٍ ساخِرةٍ بالصُّحُفِ ووسائل الإعلام تُسيءُ إلى المُسلمين، وربطِ صُورِ المُسلمين ومظاهِرِهم بموضوعاتٍ تتحدَّثُ عن الإرهاب.
ولا يزالُ انتماءِ فردٍ أو شعبٍ إلى الإسلام سببًا في فشلِ قضاياه، وضياعِ حُقوقهِ، وردِّ مطالبِهِ.
فالخوفُ من الإسلام وراءَ مظلَمَة فلسطين ودفاع القُوَى عن الغاصِبِ ستِّين عامًا، وتبريرِ الظلمِ المُستمر، واسترخاصِ دماءِ الفلسطينيين، ومُصادَرة أراضيهم.
والخوفُ من الإسلام وراءَ مواقفِ الرِّيبَةِ والعِداءِ لكلِّ مُحاولاتِ الشُّعوبِ لاختيارِ قرارها التي تعيشُ به، وإنك لتأْسَى حين تجِدُ الكثيرين ينظرون بتسامُحٍ كبيرٍ إلى دِياناتٍ وثنِيَّة، ولكن في حالةِ الإسلام فإن ردَّ الفعلِ تِجاهَه لا يكونُ عادةً عقلانيًّا، وإنما يكونُ عاطفةً سلبيَّةً عارِمةً.
وقد يتمُّ التأخُّرُ في نُصرة المكروبين، والتردُّدُ في إنقاذ المظلومين ممن ظلمَهم لا لشيءٍ إلا الخوف من قيامِ قائمةٍ للإسلام، ولا شكَّ أن للموروثات الثقافيةِ أثَرًا في تكوينِ هذا الاتِّجاهِ لدى الآخرين ضدَّ الإسلام، يُغذِّيه الإعلامُ المُغرِضُ، والسياساتُ الجائِرَةُ، حتى حذَّرَ الأمينُ الحاليُّ للأمم المُتَّحِدة - مُنصِفًا - بقوله: "إن موجةَ التخويفِ من الإسلامِ ترقَى إلى مرتبةِ المُناهَضَةِ العُنصريةِ لهذا الدينِ". ولقد قالَ مثلُها من قبلُ سلَفُه على منبَرِ الأُمم المُتَّحِدة.
إن على عُقلاء العالَم أن يقِفوا بإنصافٍ وعدلٍ أمام هذه القضيةِ الخطيرةِ، والتي لا تُجدِي سوَى مزيدٍ من الصِّراعاتِ والخِلافِ، وإن الجهلَ بالإسلام وتعاليمه وأخلاقيَّاته سببٌ رئيسٌ للخوفِ منه، والإنسانُ يخافُ ما يجهلُهُ.
أيها الناس:
إننا حين نُقرِّرُ ما سبقَ فإننا لا نُقرِّرُه في سِياقِ التجييشِ أو نتئِ الجِراحِ، وإنما ليعلَمَ الكثيرُ من بُسَطاءِ العالَمِ والأحرارِ مُقدارَ تغييبِ وعيِهم عن حقائقِ التاريخِ وسِياقِ الحوادِثِ، وأنهم كثيرًا ما يقِفون في الموقفِ الخطأِ الذي لا يتَّسِقُ مع ما يُفاخِرون به من قِيَمٍ ومُثُلٍ وصَلَ لها الإنسانُ في ألفِيَّته الثالِثَة.
لماذا الخوفُ من الإسلام؟
فلم يكن المُسلِمون مسؤولين أبدًا عن اشتِعالِ حربَيْن عالميَّتين قُتِل في الأولى سبعةَ عشر مليونًا من البشر، وفي الثانية خمسين مليونًا عَدا المُصابين، والدمارُ الهائلُ في البيئةِ والمُقدَّراتِ البشرية.
ولم يستعمِرِ المُسلِمون العالَمَ، ولم يُسخِّروا شُعوبَه لاستنزِافِ خيراتِ تلك الشُّعوبِ ليستمتِعَ بها المُستعمِرُ، ولم يُقِمِ الإسلامُ في تاريخه الطويلِ محاكمَ تفتيشٍ لإجبارِ الناسِ على تغيير دينِهم؛ بل إنه على امتِدادِ خمسةَ عشر قرنًا من بَسطِ الإسلام سُلطانَه لم يزَلْ في بلاد أصحابُ مِلَلٍ ونِحَلٍ لهم فيه معابِدُ وكنائِسُ لم يتعرَّض لها أحدٌ، ولا زالت تلك الأقلِّيَّاتُ مُتعايِشَةً مع المُسلمين على أرضِ الإسلامِ حتى اليوم.
ولك أن تنظُرَ في المواقفِ العالمية اليومَ لترى كيف تُغلَّبُ المصالِحُ الضيقةُ على المبادئِ والقِيَمِ، وكيف يُسوَّغُ القضاءُ على شُعوبٍ لأنهم مُسلِمون، أو خشيةَ أن يحصُلَ المُسلِمون على حُقوقهم الإنسانية في بلدهم وليس خارِجَه!
إنه لموقفٌ مُخجِلٌ أن يُبادَ شعبٌ ويمتنِعَ العالَمُ عن القيامِ بواجبِهِ الدوليِّ والأخلاقيِّ؛ لأنهم مُسلِمون أو سُنَّةٌ!
هل هذه قِيَم؟ هل هذه مبادئ؟ ثم يُتَّهمُ الإسلامُ بعد ذلك بالتمييز العُنصريِّ، وهذا يهُزُّ ثقةَ العالَمِ أن العلاقات الدولية المُعاصِرَة قائمةٌ على المصالِحِ القومية لا على الأخلاقِ والمبادئِ والقانُونِ إذا لم يتَّفِق مع المصالِح.
وفي المئةِ عامٍ السالِفة، والتي نشأَت بها مُنظَّماتٌ تُعنَى بالإنسانِ وحقوقِهِ، وتحترِمُ ثرواتِهِ وأراضيه لم يُسجِّلُ التاريخُ أن بلدًا مُسلِمًا غزَا بلدًا غيرَ مُسلمٍ، في حين أن العكسَ حاضِرٌ بكلِّ ألَمٍ في المشهَدِ العالميِّ، حتى إن الشُّبهةَ أو مُجرَّدَ التُّهمة كافٍ لغزوِ بلدٍ مُسلمٍ وقتلِ مليون من أبنائه، ونهبِ ثرواتِهِ، وتدميرِ مُقدَّراته، والاعتداءِ على تاريخِهِ وحضارتِهِ، ثم يتبيَّنُ أن الشُّبهةَ غيرُ صحيحةٍ، ويمُرُّ الحالُ بغيرِ اعتذارٍ ولا تعويضٍ.
لقد نجحَ الإعلامُ العالميُّ في تصويرِ انتِفاضَةِ الذبيحِ بأنها همَجِيَّة، فانشغَلَ الناسُ بلَومِ الذَّبيحِ ونسُوا الذابِحَ!
لماذا الخوفُ من الإسلام؟
وهو يدعُو البشرَ أن يتراحَموا فيما بينهم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء: 1].
لقد ألغَى الإسلامُ الطبقِيَّةَ والعُنصريَّةَ في المُجتمع، في حين أن أقوى وأكبر دولةٍ غربيةٍ في الحاضِرِ لم يصِل عُمرُ إلغاء الطبقيَّة والعُنصريَّة فيها خمسين عامًا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات: 13].
لماذا الخوفُ من الإسلام؟
وأولُ حقوقٍ للإنسان أُرسِيَت كانت تحتَ رايتِهِ، إن الإسلامَ هو المنهجُ الأشدُّ وُضوحًا وصراحةً في نقضِ الاستِبدادِ والتجبُّر والطغيان، ليس من الناحيةِ السياسيةِ فحسب؛ بل لأنه يعُدُّ هذه الجرائِمَ مُناقِضَةً لجوهرِ الدينِ الحقِّ، وهو توحيدُ الله - عز وجل -، وفي القُرآن منهجٌ مُتكاملٌ لنقضِ التجبُّر والطغيان وإبطالِهما.
لماذا الخوفُ من الإسلام؟
وقد حفِظَ حتى للحيوان حقَّه، فلا يُكلَّفُ فوقَ طاقته ولا يُجاعُ، ولا يُفرَّقُ بين شاةٍ وولدِها، ولا تُؤخَذُ فِراخُ طائرٍ من عُشِّه.
لماذا يخافُ الناسُ من الإسلام؟ أيخافُونَه لأنه يُحرِّمُ عليهم مُتَعَ الحياة وزينتها وجمالَها؟!
كلا، فالإسلامُ شدَّدَ النَّكيرَ على الذين يُحرِّمونَ زينةَ الله التي خلقَها للناس، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ[الأعراف: 32]، إن الإسلامَ قد كفَلَ حقَّ الحياةِ ومُتعَها ومباهِجَها لكل أحدٍ، فلا خوفَ من الإسلام ولا جَزْع.
لماذا الخوفُ من الإسلام؟
وقد قفَزَ بالحضارةِ في فتَرَةٍ من التاريخ قفَزَاتٍ كان لها ما بعدَها، وأكمَلَت أُممٌ بعدها المسيرَ.
لماذا يُصوَّرُ الإسلامُ على أنه يحمِلُ بُذُورَ العُنفِ والتعصُّبِ، بينما التسامُحُ والخُلُقُ الكريم مبدأٌ إسلاميٌّ أصِيلٌ؛ بل وردَ في القرآن الكريم ذِكرُ الرحمةِ والرأفَةِ والعفوِ والصفحِ والمغفرةِ والصبرِ أكثر من تسعمائةِ مرَّة، عدا ما أُثِر عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فهل يُوجد دينٌ، أو ثقافةٌ أعطَى عنايةً كهذه في التربيةِ على التسامُحِ؟!
على أن التسامُحَ لا يعنِي الذلَّ والهوانَ، أو الخُنوعَ للظلمِ، والاستِكانةَ للظالمين؛ بل إنه توازنٌ يُعبِّرُ عنه القرآنُ الكريمُ بقوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[الشورى: 39- 43].
والتسامُحُ بمعنى: البرِّ ومُقابلَةِ السيئةِ بالحسنة أمرٌ مطلوبٌ ومرغوبٌ ما لم يترتَّب عليه إعانةٌ على الظلمِ، أو خُذلانٌ للمظلوم، أو انتِهاكٌ لمبدأ العِزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين.
لقد جاء الإسلامُ بحُسن الخُلُق، وبكل تفاصيلِ السلوكِ الحسنِ تِجاهَ الإنسان والبيئة، كما جاء مُنسجِمًا بين الجانبِ الرُّوحيِّ وجانبِ المادَّة.
عباد الله:
إن حقيقةَ الأمرِ أن التخويفَ من الإسلام صناعةٌ اصطنَعَها أقوامٌ عمَدوا لصدِّ الناسِ عن الإسلام، أو اللغْوِ في حقائقِهِ وقِيَمِه، وشعائرِهِ وشرائعِهِ؛ لأغراضٍ سياسيةٍ وعُنصريَّةٍ، وأهواءٍ شهوانيَّة، وإلا لو تُرِكَ الناسُ وشأنهم لو تُرِكوا لفِطَرهم وضمائرِهم وعُقولهم المُستقلَّة، لو تُرِكوا دون تحريضٍ أو تعبئةٍ ضدَّ الإسلام لَمَا خافُوا منه قطُّ.
إن الإسلامَ ليس دينَ العربِ وحدَهم، وخيرُه ليس حِكرًا على المُسلمين وحدَهم؛ بل هو رحمةٌ لكل الناسِ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
والواجبُ على المُسلمين أن يتمسَّكوا بمبادِئِه وقِيَمِه، وأن يُبيِّنوا للناسِ حقيقتَهُ تمثُّلًا وتطبيقًا، ودعوةً مُخلِصةً، وليس ادِّعاءً وتصنُّعًا.
ولا خوفَ على الإسلامِ؛ فاللهُ حافِظٌ دينَه، لكنَّ الخوفَ على من فرَّطَ فيه أو تهاوَنَ، أو صدَّ عنه وأعرضَ، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الزخرف: 43].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

ابوحاتم 04-09-2012 12:55 AM

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها الناس:
يُساقُ ما سبقَ، وقنواتُ الفضاءِ تُمطِرُنا بمشاهدِ القتلِ والترويعِ، والتي تجري على شامِنا الحبيبِ "سُوريا"، وقد أمِنَ سفَّاحُها من انتِهاضِ الأُمم - خُصوصًا الغربي والشرقي منه -، ولم تعُدْ نشرُ تلك المشاهد تُزعِجُه؛ بل ربما احتسَبَها دِعايةً لإرهابِ شعبِهِ، لم يعُدْ كلُّ ذلك يُزعِجُه ما دام أن طاغيةَ الشامِ حذَّرَ أن يخلُفَه المُسلِمون في الحُكمِ، واقتنعَت أُممٌ بذلك التحذيرِ، ولم يدْرِ المُغرَّرُ بهم من أُمم الأرضِ أن المُسلمين - والسنةُ منهم خُصوصًا - لن يكونوا خَلَفَه فحسبُ؛ بل كانوا هُم سلَفَ حزبِهِ لقُرونٍ.
وكانت أعزَّ ما كانت الشامُ وأرغَد، وآمنَ وأرقَى حينما كانت تحت حُكم المُسلمين، وما عرفَت الشُّؤمَ إلا بظهُور الطُّغاة.
وإن الأملَ في اللهِ كبيرٌ، وإذا انقطَعَ المَدَدُ من الأرض فُتِحَت أبوابُ السماء، وإن كل نشاطٍ سياسيٍّ أو فكريٍّ يجلُو ذلك الغَبَشَ لمحمودٌ ومشكورٌ، ومنه ما تقومُ به هذه البلادُ؛ فقد ارتفعَ صوتُها في كل محفَلٍ يُعقَدُ للنظر في قضيةِ المظاليمِ من الشُّعوبِ والدول، تُنادِي بالجدِّيَّة في رفعِ الظلمِ، والحزمِ في الأخذِ على يدِ الظالمِ، والفأْلِ حين النظرِ في العواقِبِ، والطمأنَةِ من الخوفِ.
عسى الله أن يُنجِحَ المساعِي الصادِقة، ويُوفِّقَ الجُهودَ المُخلِصة، ويجلُوَ غشاوَةَ الأبصار، ويُديلَ الأيامَ على كل مُتكبِّرٍ جبَّارٍ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ[القصص: 5].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى والرسول المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، وجازِهِ خيرَ الجزاءِ على نُصرته للمظلومين، وثباتِهِ على مواقفِ العدلِ والحقِّ، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَله مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا وفلسطين، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجَك القريب، اللهم فرَجَك القريب، اللهم فرَجَك القريب.
اللهم إنا نستنزِلُ نصرَك على عبادك المُستضعفين المظلومين، اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماكَ بهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم هيِّئ لهم يدًا من الحقِّ حاصِدةً تستأصِلُ شأفَتَهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَك.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا.
اللهم لك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا فيه، اللهم لك الحمدُ على ما أنعمتَ به علينا من نزولِ الأمطار، اللهم كما أنزلتَ علينا المطرَ اللهم فبارِك لنا فيما رزقتَنا وزِدنا يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم عُمَّ بالأمطار بلادَ المُسلمين، اللهم اجعل ما أنزلتَه قُوَّةً لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين، اللهم لك الحمدُ كثيرًا كما تُنعِمُ كثيرًا، اللهم زِدنا وبارِك لنا، اللهم زِدنا وبارِك لنا، اللهم زِدنا وبارِك لنا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 04-16-2012 10:56 PM

التحذير من أكل المال الحرام
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 21/5/1433هـ بعنوان: "التحذير من أكل المال الحرام"، والتي تحدَّث فيها عن أكل المال الحرام، وقد حذَّر من تعاطِيه والتعامُل به؛ لما وردَ في شأنه من التحريم في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله يحبُّ الطيبَ الحلال، ويُبغِضُ الخبيثَ الحرام، أحمده - سبحانه - حمدًا نرجُو به المزيدَ من الإكرام والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ القدُّوس السلام، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله خاتمُ النبيين سيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -؛ فتقوى الله خيرُ زاد السالكين، وأفضلُ عُدَّة السائرين إلى رب العالمين.
أيها المسلمون:
حبُّ المال والتعلُّق بطلبِه والشَّغَفُ بجمعه، والحِرصُ على تنميته، وداومُ العملِ على حراستِهِ من الغوائِلِ وكذا صيانتُهُ من الآفاتِ مركوزٌ في الفِطَر، مُستقرٌّ في العقول، مُستحكِمٌ في النفوس.
وفي بيان قوة هذا الحب، وكمال هذا التعلُّق، وتمام هذا الحِرص جاء قولُه تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا[الفجر: 20]، وقوله - عزَّ اسمه - في وصف الإنسان: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ[العاديات: 8]، وقول نبي الرحمةِ والهُدى - صلوات الله وسلامه عليه: «قلبُ الشيخِ شابَ على حبِّ اثنتين: حبِّ العيش - أو قال: طول الحياة -، وحبِّ المال»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وقد كان هذا الحبُّ الشديدُ جديرًا بأن يذهبَ بصاحبه كلَّ مذهبٍ، خليقًا بأن يُركِبَه كلَّ مركَب، لبلوغ غايتِهِ في إصابةِ أوفَى نصيبٍ منه، غير أن الله تعالى لم يدَعْه وحيدًا أمام سِحر بريقِه، أسيرًا لفتنتِه وإغرائه، يخبِطُ خَبْط عشواء في جمعه وإنفاقه؛ بل أقامَ له معالِمَ، وحدَّ له حدودًا، ورسَمَ له طريقَ سيرٍ يُفضِي بسالكِهِ إلى خير غاية، وينتهي به إلى أكمل مقصود.
وهو طريقٌ دلَّ عليه ما جاء في كتابِ ربنا وسنة نبيِّنا - صلوات الله وسلامه عليه - من بيِّناتٍ في آياتٍ مُحكَمات، وسُننٍ واضِحاتٍ، وفي الطليعَةِ من ذلك جاء الثناءُ على المالِ الصالحِ يُرزَقُه العبدُ الصالحُ المُطيعُ لله، المُستقيمُ على أمره، الحافظُ لحدوده، في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عمرو! نِعْمَ المال الصالحِ مع الرجلِ الصالحِ»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه" من حديثِ عمرو بن العاص - رضي الله عنه -.
وإنما يكونُ صلاحُ هذا المالِ بحِلِّ أصله - وهو حديثٌ بإسنادٍ صحيحٍ - وإنما يكونُ صلاحُ هذا المال بحِلِّ أصله، وطِيبِ كسبِه، ومشروعيَّةِ مصدره، وهذا يستلزِمُ التنزُّه عن أكل الحرامِ الخبيثِ الذي يبُوءُ آكِلُه بإثمه، ويكونُ وبالاً عليه، جاء في الحديثِ - الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، والترمذي في "جامعه"، واللفظ لمُسلمٍ؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ طيِّبٌ لا يقبَلُ إلا طيِّبًا، وإن اللهَ أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المُرسَلِين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ[المؤمنون: 51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة: 172]. ثم ذكرَ الرجلَ يُطيلُ السفرَ، أشعثَ أغبرَ، يمُدُّ يديْه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ! ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجابُ لذلك؟!».
وهذه إشارةٌ - كما قال أهلُ العلمِ بالحديثِ - إلى أنه لا يُقبَلُ العملُ ولا يزكُو إلا بأكل الحلال، وأن أكلَ الحرامِ يُفسِدُ العملَ ويمنعُ قبولَه. والمرادُ أن الرسلَ وأممَهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعملِ الصالح، فما دام الأكلُ حلالاً فالعملُ صالحٌ مقبولٌ، فإذا كان الأكلُ غيرَ حلالٍ فكيف يكونُ العملُ مقبولاً؟!
ولذا كانت الصدقةُ بالمال الحرام مردودةً غيرَ مقبولة، كما جاء في "صحيح مسلم" - رحمه الله - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يقبَلُ اللهُ صلاةً بغيرِ طُهور، ولا صدقةً من غُلُول» - وهو الأخذُ من الغنيمةِ قبل قِسمتها على مُستحقِّيها -.
وفي "صحيحي" ابن خزيمة، وابن حبان، و"المستدرك" للحاكم بإسنادٍ حسنٍ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أدَّيتَ زكاةَ مالك فقد قضيتَ ما عليكَ، ومن جمعَ مالاً حرامًا ثم تصدَّقَ به لم يكُن فيه أجرٌ، وكان إصرُه عليه».
وفي "مراسيل أبي داود" - رحمه الله - بإسنادٍ حسنٍ؛ عن القاسم بن مُخيمِرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اكتسبَ مالاً من مأثَم فوصلَ به رحِمَه، أو تصدَّقَ به، أو أنفقَه في سبيل الله؛ جُمِعَ ذلك كله جميعًا فقُذِفَ في جهنم».
وإن الأمرَ ليس مُقتصِرًا - يا عباد الله - على هذه الآثار مع شدَّتها، وعِظَم التضرُّر بها؛ بل إنه ليربُو على ذلك، ويبلُغُ الغايةَ حين ينتهي بصاحبِهِ إلى نار الجحيم يوم القيامة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في "صحيحه" بإسنادٍ صحيحٍ عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا كعب بن عُجرة! إنه لا يدخلُ الجنةَ لحمٌ نبَتَ من سُحْتٍ».
والسُّحْتُ هو الحرام في كل صُوره؛ كأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، وأخذ رُشَا، ومهر البغِيّ - وهو ما تُعطاهُ لقاءَ بِغائِها -، وحُلوان الكاهن - وهو ما يأخُذه أجرًا لكِهانته -، وما يُؤخَذ أجرًا لبيع المُسكِرات والمُخدِّرات، وكافة أنواعِ البُيُوع التي حرَّمَها الله ورسولُه؛ من مطعوماتٍ ومشروبات، وملبوسات، ومُتَّخذاتٍ للتزيُّن، ونحوها مما هو مبسوطٌ مُفصَّلاً بدليله في كتب أهل العلم.
وفي "جامع الترمذي" - رحمه الله - بإسنادٍ صحيحٍ من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا كعب بن عُجرة! إنه لا يربُو لحمٌ نبَتَ من سُحْتٍ إلا كانت النارُ أوْلَى به».
وإنها لنهايةٌ مُرعِبة، ومصيرٌ مُفزِعٌ تقَضُّ له مضاجِعُ أُولِي النُّهى، وتُوجِبُ تفتُّحَ الوعيِ لإدراك سبيل النجاة، والظَّفَر بأسبابِ السلامة، والحَظْوة بمسالكِ العافية التي تأتي في الطليعةِ منها: تقوى الله تعالى، والاستحياءُ منه حق الحياء؛ فإنه من أظهر أسبابِ التنزُّه عن أكل الحرام.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي - رحمه الله - في "جامعه" عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استحْيُوا من الله حقَّ الحياء». قال: قلنا: يا نبيَّ الله! إنا لنستَحْيِي والحمدُ لله. قال: «ليس ذلك، ولكن الاستِحياء من الله حقَّ الحياء: أن تحفَظَ الرأسَ وما وعَى، وتحفظَ البطنَ وما حوَى، وتذكُرَ الموتَ والبِلَى، ومن أراد الآخرةَ تركَ زينةَ الدنيا، فمن فعلَ ذلك فقد استحْيَى من الله حقَّ الحياءِ».
فحِفظُ البطن وما حوَى؛ أي: ما وُضِع فيه من طعامٍ وشرابٍ، بأن يتحرَّ الحلال منهما، وأن يُوقِنَ بأن ما قُسِم له من رزقٍ فإنه سوف يستوفيهِ بتمامه قبل مماته، فلا يحمِلُه استِبطاءُ الرزقِ على طلبِهِ بسُلُوك سبيل المعصية؛ فإنها نذيرُ شُؤم، وسببُ حِرمان.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه البزَّار - رحمه الله - في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ عن حُذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هلُمُّوا إليَّ». فأقبَلوا إليه فجلَسُوا، فقال: «هذا رسولُ ربِّ العالمين جبريل نفَثَ في رُوعِي أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستكمِلَ رِزقَها وإن أبطأَ عليها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلبِ، ولا يحمِلَنَّكم استِبطاءُ الرزق أن تأخُذوه بمعصيةِ الله؛ فإن الله لا يُنالُ ما عندهُ إلا بطاعته».
وأن يذكُر على الدوام أن اللهَ سائِلُه يوم القيامة عن المصدرِ الذي اكتسَبَ منه مالَه، وعن الوجوه التي أنفقَه فيها سُؤالَ تقريرٍ ومُحاسَبَة، يكونُ من بعدها الجزاءُ العادلُ، ولا يظلِمُ ربُّك أحدًا، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي - رحمه الله - في "جامعه" بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي بَرْزَة الأسلميِّ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزولُ قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن عُمره فيمَ أفناه، وعن علِمِه فيمَ فعلَ فيه، وعن مالهِ من أين اكتسَبَه وفيمَ أنفقَه، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاه».
وأن يعلمَ أن قليلَ المال الذي يكفيه خيرٌ له من كثيرِ المال الذي يُلهِيه عن كلِّ ما يصلُحُ به أمرُه، وتستقيمُ به حالُه في دينه ودُنياه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ - واللفظُ له -، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما طلَعَت شمسٌ قطُّ إلا بعثَ بجنبَتَيْها ملَكَان يُنادِيان يُسمِعان أهلَ الأرض إلا الثَّقَلَيْن: يا أيها الناسّ هلُمُّوا إلى ربكم؛ فإن ما قلَّ وكفَى خيرٌ مما كثُر وألهَى ..» الحديث.
ألا وإن دوامَ النظرِ في هذه الشواهد والنصوص، وتكرار التأمُّل فيما دلَّت عليه وأرشدَت إليه ليُورِثُ الناظرَ المُتأمِّلَ المُتفكِّر دُربَةً وملَكَةً ورهافَةَ حِسٍّ تبعَثُه على توخِّي الحلالِ الطيبِ، والتنزُّهِ عن الحرام الخبيثِ في مطعمِه ومشربِه وملبَسِه وشأنه كلِّه، واضِعًا بذلك لبِنَةً من لبِنَات الإصلاح في بُنيان المُجتمع، داعِيًا غيرَه إلى أن يحذُوَ حذوَه، ويسيرَ سيرَه، مُبيِّنًا حُسن العُقبَى فيه بشُيُوع البركات، وعموم الخيرات، والسعادة في الحياة وبعد الممات، والحَظوةِ برِضا ربِّ الأرض والسماوات.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرِه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
جاء في بيان قولِ الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[البقرة: 168] قولُ بعضِ أهل العلم بالتفسير: "هذا خطابٌ للناسِ كلِّهم مُؤمنِهم وكافرِهم، فامتنَّ الله عليهم بأن يأكُلُوا من جميع ما في الأرض؛ من حبوبٍ، وثمارٍ، وفواكه، وحيوان، حالةَ كونِها حلالاً - أي: مُحلَّلًا لكم -، تتناولونه ليس بغصبٍ ولا سرقةٍ، ولا مُحصَّلًا بمعاملةٍ مُحرَّمة أو على وجهٍ مُحرَّم، أو مُعينًا على مُحرَّم.
طيِّبًا؛ أي: ليس بخبيث؛ كالميتة، ولحم الخنزير، والخبائث كلها.
وفي الآية: دليلٌ على أن الأصلَ في الأعيان الإباحة أكلًا وانتفاعًا، وأن المُحرَّم نوعان: مُحرَّمٌ لذاته - وهو الخبيثُ الذي هو ضِدُّ الطيبِ -، ومُحرَّمٌ لما عرَضَ له - وهو المُحرَّمُ لتعلُّق حقِّ الله أو حقِّ عباده به -، وهو ضِدُّ الحلال.
وفيها أيضًا: دليلٌ على أن الأكلَ بقدرِ ما يُقيمُ البنيةَ واجبٌ يأثَمُ تارِكُه.
ولما أمرَهم - سبحانه - باتباع أمرِه الذي هو عينُ صلاحهم، نهاهم عن اتباع خُطوات الشيطان؛ أي: عن طرقه التي يأمر بها، وهي جميعُ المعاصِي من كُفرٍ وفسوقٍ وظلمٍ، ويدخلُ في ذلك: تحريمُ السوائمِ والحام ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضًا تناولُ المأكولات المُحرَّمة".
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أن السلفَ الصالحَ - رضوان الله عليهم - كان يشتدُّ خوفُهم على أنفسهم من قولِهِ - عزَّ اسمه -: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[المائدة: 27]، فخافوا ألا يكونوا من المُتَّقين الذين يُتقبَّلُ منهم، هذا مع كمال تقواهم، وتمام إخلاصهم لله، وشِدَّة تحرِّيهم لمراضيه، وأكلِهم الحلال الطيب، وتنزُّههم عن الخبيثِ الحرامِ.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رُسُل الله: محمدِ بن عبد الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين في كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم احفظ المُسلمين في كل ديارهم وأمصارِهم، اللهم احفَظهم من الفتن، وقِهِم الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطَنَ يا رب العالمين، اللهم احفَظ دماءَهم وأعراضَهم وأموالَهم، اللهم احفَظ دماءَهم وأموالَهم وأعراضَهم، واشفِ جرحاهم، وتقبَّل موتاهم في الشهداء يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 04-23-2012 07:58 PM

الفرق بين ثقافة الإسلام والثقافة العالمية المعاصِرة
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 28\5\133هـ بعنوان: "الفرق بين ثقافة الإسلام والثقافة العالمية المعاصِرة"، والتي تحدَّث فيها عن الإسلام وبعضِ محاسِنه في الجوانب الثقافية والعسكرية والاقتصادية، وما يتشبَّث به بعضُ أعداء الإسلام وأذنابهم من الثقافة المُعاصِرة التي لا تعتمد على أصولٍ متينة، ولا تقوم على تحقيق العدل إلا بما يُوافِقُ أهواءَها مصالِحَها الشخصية.

الخطبة الأولى
الحمد لله المُتوحِّد في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المُتفرِّد بتصريفِ الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المُتعالِي بعظمته ومجده الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا[الفرقان: 1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ[الحج: 78]، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، بعثَه الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعِيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، فترَكَنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارِها، لا يَزيغُ عنها إلا هالِكٌ، فصلوات الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، اتقُوه في سرِّكم وعلَنِكم، وغضَبِكم ورِضَاكم، وفرَحِكم وتَرَحكم، واعلموا أن العاقبةَ للتقوى، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ[يوسف: 90].

عباد الله:
خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ذات يومٍ فقال لهم: «إنما مثَلي ومثَلُ ما بعَثَني اللهُ بهِ كمَثَل رجلٍ أتَى قومَه فقال: يا قوم! إني رأيتُ الجيشَ بعيني، وأنا النذيرُ العُريان، فالنَّجاء. فأطاعَه طائفةٌ من قومه فأدلَجوا فانطَلقوا على مهلِهم فنَجَوا، وكذَّبَت طائفةٌ منهم فأصبَحوا مكانهم، فصبَّحهم الجيشُ فأهلَكهم واجتاحَهم. فذلك مثَلُ من أطاعَني فاتَّبَع ما جِئتُ به، ومثَلُ من عصاني وكذَّبَ بما جِئتُ به من الحقِّ»؛ رواه البخاري ومسلم.
هذا حديثٌ صريحٌ صحيحٌ من مِشكاة النبُوَّة الحَقَّة، من تأمَّلَه بخالصِ ذكرِه وعدلِ منطِقِه ليُوقِنَنَّ أن ملامِحَ ما ذكَرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بدَأَت في الظهور على فَترةٍ من الاعتِزاز بالدين والعلمِ، وإبَّان فترةٍ طاغِيةٍ من الظواهِر المعلوماتية والهَيَجان الثقافي، والتي تصُبُّ في قَالَبٍ واحدٍ هو جَعْلُ العالَمِ كُلِّه كالكُتْلَة الواحِدَة دون تميُّزٍ.
وقد بُذِلَت جهودٌ أجنبيَّةٌ عن الإسلام يُسانِدُه فيها بعضُ السُّذَّجِ من بني الإسلام بجُهودٍ لا تقِلُّ أثَرًا عن الآخرين على إضعافِ الثقةِ بالإسلام وبتشريعه، وثقافاته وآدابه، وقُدرته على تسيير شؤون الحيباة الدينية والدنيوية على حدٍّ سَواءٍ، على أن يُولِّد هذا الضعفُ لدى العوامِّ من المُسلمين رِضًا ببعضِ الإسلام الذي تلقَّوه من كتابِ ربهم، وتعلَّموه من سنة نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -.
والجهودُ مبذولةٌ من قِبَل أعداء الإسلام في أن يرَوا في واقعِ المُسلمين إسلامًا منقوصًا في الحقيقةِ والأطراف، ومنقُوضَ العُرَى والوشائِج، لا ينبغي أن يتدخَّلَ في شؤون التشريعات كافَّةً دون استِثناءٍ، أو يقتلِعَ من السُّلوك العام ما يخدِشُ قِيَمَه ويمَسُّ مُثُلَه الرفيعةُ؛ بحيثُ لا يبقى من الإسلام إلا اسمُه، أو على أقلِّ تقديرٍ الإبقاء على ضروراتٍ الزمنُ كَفيلٌ بزوالها، أو بتغيُّر المفاهيم تِجاهَها، لتأتِيَ أجيالٌ مُهيَّأةٌ لقَبُولِ مثلِ هذه الصور المُشوِّهةِ للإسلام.
فيألَفُ البعضُ التفلُّتَ من المُسلَّمَات مع تنصُّلٍ عن الإنصافِ، وبُعدٍ عن الطرحِ النَّجِيحِ المُوافِقِ للعقلِ الصريح والشرعِ الصحيحِ.
لقد سيطرت الثقافةُ العالميةُ المُعاصِرةُ طِوالَ هذه الفترة سيطرةً مُحكمَةً زادَ في إحكامِها وغلَبَتها الطوفانُ الإعلاميُّ، والإعصارُ المعلوماتيُّ، حتى غطَّت ما تُغطِّيه الشمسُ، فبلَغَت كلَّ ملجأٍ ومغاراتٍ ومُدَّخَل.
لقد غيَّرَت هذه الثقافةُ مظاهرَ الحياة وطريقةَ العيش حتى أصبحَت لدى كثيرين أمرًا لا مناصَ منه، ولو كان على حِسابِ أصالةِ الدين والإسلامِ الصحيحِ.
نعم، نحنُ لا نُنكِرُ أنَّ في الثقافةِ العالميةِ المُعاصِرة ما ينفعُ مما يقتضِيهِ الاختِيارُ العقليُّ والمنفعةُ العلميةُ، شريطةَ ألا يجُرَّنا ذلكم إلى تهميشِ ما شرَعَه الله لنا، أو التمسُّكِ به على تخوُّفٍ أو استِحياءٍ؛ لأن أسوأَ ما يُمكِن أن يُفكِّرَ فيه أهلُ الإسلام ألا يكون لديهم ثِقةٌ كاملةٌ بشريعتهم، أو أن ينالَ هذه الثقةَ شيءٌ من الوَكَزات الجارِحة، فلا يُحسِنُ أحدُهم أن يقول كما قال الفاروقُ - رضي الله تعالى عنه -: "نحن قومٌ أعَزَّنا اللهُ بالإسلام، فمهما ابتغَيْنا العِزَّةَ من دونِه أذَلَّنا الله".
فلا عجَبٌ - عباد الله - حينئذٍ أن نرى تصوُّرات الناس تِجاه الثقافات العالمية - بمن فيهم المُسلِمون - مُنسجِمَةً معها، مُنقادَةً مهما كانت تتناقَضُ أو تتعارَضُ مع رُوح الثقافةِ الدينية الشرعية. ولقد كان سببَ هذا التأثير أمران اثنان:
أحدُهما: القوةُ المادية والمعنوية لغير المُسلِمين، والتي تعاظَمَت في جميع مناحِي الحياة باجتماعِ الأثافِيِّ للثالُوث: العسكري، والاقتصادي، والسياسي.
وثانيهما: قلَّةُ الثقة، والضعفُ في إذكاءِ الثقافة الإسلامية الأصِيلَة، وإبرازِها على وجهها الصحيح، والشجاعة والإتقان في بيان محاسِنِها وأثرها على الكونِ والحياة. وهي الربانيةُ المُحكَمة؛ لأنها صِبغَةُ الله، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ[البقرة: 138].
ولو ألقَينا نظرةَ مُقارَنةٍ لبعض أهمِّ ما يتَّكِئُ عليه أصحابُ الثقافاتِ العالمية والمُعجَبون بها من المُسلمين وغيرِ المُسلمين لوَجَدنا مَحاوِرَ شتَّى في المُفارَقة بين أصالةِ الإسلام الحَقَّة وبين الثقافة العالمية المُعاصِرة، ولنَضرِب مثلًا ببعضها:
فالمحورُ الأول: هو أن الإسلام حقٌّ من عند الله، وأن شرعَه صالِحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ، وأنه لا يتطرَّقُ إليه التحريفُ ولا التزييفُ، فأصُولُه ثابتةٌ محميَّةٌ بحمايةِ الله لها، والمرءُ المُسلِمُ يعرِفُ أدقَّ التفاصيل عن نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه مضَى على وفاتِه أربعة عشر قرنًا من الزمان وزِيادة، وربما يعرِفُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أكثرَ من جارِهِ، وربما أكثرَ من عمِّه وبني عمِّه.
بخلافِ غيرِ الإسلام؛ فإما أن تكون دِياناتٍ لا تُؤمنُ بالله ولا باليوم الآخر، أو تُؤمن بذلك إيمانًا غيرَ مسنودٍ على ما يُقنِعُ؛ لأن الوضعَ البشريَّ هو الطاغِي عليها، ولقد صدَقَ الله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[النساء: 82].
ولأجلِ ذا لا يُوجَد لدى المبادئ والتشريعات الأُخرى النسخةُ الأصليةُ؛ حيث اعتراها التحريفُ والأوهامُ البشريةُ، ما يدلُّ على أن ما بين أيديهم ليس من عندِ الله، بخلافِ الإسلام فنُسختُه الأصليةُ لم تتغيَّر ولم تتبدَّل، وهي قابلةٌ للفَهم والتكيُّف رغم مرور هذه القُرون دون تعارُضٍ.
ولقد قال أبو القاسم الأصبهانيُّ - رحمه الله - عن سنةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولئن دخلَ في غِمار الرواةِ من وُسِم بالغَلَط في الأحاديث، فلا يرُوجُ ذلك عند جهابِذَة أصحابِ الحَديث ورُتوتِ العُلماء - أي: رُؤساءَهم -، حتى إنهم عدُّوا أغاليطَ من غلِطَ في الأسانيد والمُتون؛ بل تراهم يعُدُّون على كل رجلٍ منهم في كم حديثٍ غلِطَ، وفي كم حرفٍ حرَّفَ، وماذا صحَّفَ". اهـ كلامُه - رحمه الله -.
ومن كانَ ذا إنصافٍ - عباد الله - فلينظُر إلى اختِلافِ أصحابِ القوانين في قوانِينهم بين التنازُعِ والتدافُعِ فيما وضَعوه هم بأيديهم، كأكمَل دليلٍ على أن عُقولَ البشر محدودة، واللهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ[البقرة: 255]. وأما مفهومُ أهل الثقافةِ الإسلاميَّةِ الأصِيلَةِ؛ فرائدُهم عند الاختلاف قولُه تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء: 59].
وأما المحور الثاني - يا رعاكم الله -: فهو محورُ العدل، وهو في الثقافة العالمية ذات البريقِ اللامِع كغيرهِ من القِيَم الأخلاقية تُحدِّدُه النسبيَّة، مع القابِلِيَّة لأَن يُوزَنَ بميزانَيْن، أو يُكالَ بمِكيالَيْن، حسْب المصالِحِ الخاصة، ما لم يكُن المُسلِمون فيه طرفًا، فحينئذٍ يُجمِعون على عدم تطبيق مِعيارِ العدلِ معهم، وما وضعُ إخواننا في سُوريا بخافٍ علينا جميعًا.
ولو قارنَّا بين الإسلام بثقافته الأصيلة وبين الثقافة العالمية المُقنَّعة في مجال الأعمال العسكرية لرأينا العدلَ في الإسلام شاهِرًا ظاهِرًا، فسُلُوكُ جُيوش المُسلِمين يفرِضُ عليهم ألا يقطَعوا شجرةً، ولا يقتُلوا شيخًا كبيرًا، ولا امرأةً ولا صبيًّا، ولم يكونوا يومًا ما هم المُعتدين.
ولقد شهِدَ كبارُ مُؤرِّخي الثقافة العالمية المُعاصِرة من غير المُسلِمين بأن التأريخ لم يشهَد فاتِحًا أرحمَ من المُسلمين.
وفي هذا القرن والذي قبله لم يكن بلدٌ عربيٌّ وإسلاميٌّ هو المُعتدِي على أحدٍ؛ بل المُستعمِر هو الصائلُ المُعتدِي بخَيلِه ورَجِلِه؛ بل إنه وصلَ ببعض القوى الباطِشَة الرائِدَة للثقافة العالمية المُعاصِرة في خلال مائةِ عامٍ من الزمن أن شنَّتْ ما يُقارِبُ مائةَ حالةِ حربٍ على دولٍ أُخرى قتَلَت خلالَها مئاتِ الألوف من البشر.
وأما المُسلِمون فهم أكثرُ الناس إيلامًا، ولعل أرضَهم وديارَهم وأموالَهم هي التي يستنثِرُ فيها البُغاثُ، ومحافلُ الثقافة العالمية المُعاصِرة تصِفُ الطريدَ المالِكَ إرهابيًّا لا حقَّ له، وتجعلُ اللصَّ الغالِبَ على المُقدَّسات والأوطان ربَّ بيتٍ مُحترمًا.
ولقد أحسنَ المُتخصِّصون في العلاقات الدولية حينما قالوا: "إن مثلَ هذه التصرُّفات مُؤسَّسٌ على مبدأ المصلَحة الوطنية والقوة، فهو كمبدأ العلاقة مع الآخر لدى قُطَّاع الطريق أو لدى أي تجمُّع مُفترِسٍ في الغابَةِ".
والعارِفُ بباسطةٍ خللَ الثقافة العالمية المُعاصِرة حول هذا المِحوَر ليجِدُها في حينٍ ما تصِفُ قاطِعَ الطريق في الصحراء إرهابيًّا مُجرِمًا، وفي أحيانٍ أُخرى تُدَكُّ مُدنٌ بأسرِها ولا أحدَ يحكُمُ على هذا الفعلِ بالمُتوحِّشِ الإجراميِّ؛ لاختِلافِ مُرتكِبِي هذه وتلك. فصاحبُ الأُولى مارِقٌ ضالٌّ، وصاحِبُ الأخرى إنما هو حضاريٌّ مدنيٌّ تقدُّميٌّ.
هذا ما عند الثقافة العالمية المُعاصِرة، وذلك ما عندنا؛ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام: 81، 82].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.


ابوحاتم 04-23-2012 07:58 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه.
وبعد:
فإن من محاوِر المُفارَقة بين أصالَة الإسلام وشُموليَّته، وبين الثقافة العالمية المُعاصِرة هو المِحوَر الثالث، من خلال ما أفرَزَته الثقافةُ العالميةُ المُعاصِرة في الجانب الاقتصاديِّ الذي كشَفَ عن نتائِجَ مُدمِّرةٍ للنظامِ المصرَفيِّ لم تكن معروفةً من قبلُ، وما الأزمةُ الاقتصاديةُ العالميةُ عنَّا ببعيدٍ.
ولقد شهِدَ شهودٌ من المُنتمين إلى تلكم الثقافة الغرَّارَة بأن الوضعَ الاقتصاديَّ على المفهومِ العالميِّ المُعاصِر سبَّبَ أضرارًا فادِحةً للاقتِصاد العالميِّ، تكمُنُ في وجودِ مرضٍ مُتجذِّرٍ في الاقتصادِ يُهدِّدُه بالانهِيار؛ إذ أصبحَ عبارةً عن أهراماتٍ من الديون المُتراكِمةِ، فصار كثيرٌ من الأعمال الاقتصادية أشبهَ بمائدةِ قِمارٍ الحقيقيُّ منها في التعامُل لا يتجاوَزُ أرقامًا ضئيلةً بالمائة؛ حيث كثُر الانْحِياز لقُوَّة الائتِمانِ على حسابِ جدوى الإنتاجِ والنموِّ الاستِثماريِّ.
بخِلاف الاقتصاد الإسلاميِّ الذي يُحقِّقُ المبادئَ الثلاثةَ الكُبرَى للاقتصاد الناجِحِ:
أولُها: أن يكون المالُ قِيامًا للناس جميعًا.
وثانيها: ألا يكون دُولةً بين الأغنياءِ منهم دون سِواهم.
وثالثُها: أن يُحقِّقَ العدلَ في التعامُلِ.
ولذا فإن من انحازُوا إلى الثقافة العالمية المُعاصِرة في النظرةِ إلى الاقتِصادِ وجَدوا أنفُسَهم في نهايةِ الطريقِ في حالِ دهشةٍ حينما جرَّبَ العالمُ بأسرِه الاتِّجاهَ الجماعيَّ الاشتراكيَّ سبعين عامًا انتَهَت بانهِياره برُمَّته.
ولم يكن الاتِّجاهُ الفرديُّ الرأسماليُّ هو الآخرُ أكثرَ حظًّا؛ فهو يدورُ حول نفسه في حلقةٍ مُفرَغةٍ تنهَشُه خلالَ دورَانه سِباعُ الأزمات الاقتِصادية المُتكرِّرة؛ لاختِلال كونِه قِيامًا للناس، ولغِيابِ قيمةِ العدلِ عنه، ولكونِه أصبحَ دُولةً بين الأغنياءِ من الناسِ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ[البقرة: 276].
فيا تُرى هل يضيعُ الحقُّ في زَوبَعة هذه العواصِفِ العاتِيَة؟ وهل سيُصنَعُ مُستقبلُ المُسلمين خارِجَ أرضِهم ودِيارِهم وصَياصِيهم؟ وهل سيتكاثَرُ الذين يرضَعون من ثُدِيِّ تلكم الثقافة ويمتهِنون خُلُقَ التسوُّل أمامَها؟ أم أنها غفلةٌ سيعقُبُها صحوةٌ ورُشدٌ وحِرصٌ على التحرُّر من هذا الرِّقِّ على عقولِ المُسلمين وقُلوبِهم؟!
إن الفَألَ مطلبُنا، والعملَ سُلَّمُ الوصول إليه، وهو الثقةُ الكامِلةُ بالإسلام، والوعيُ بإمكاناته دون تردُّدٍ، أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[يونس: 35].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله بن عبد المُطلب، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ قد بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم انصُر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصُر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصُر إخواننا المُستضعفين في سوريا، اللهم انصُرهم على عدوِّهم، اللهم انصُرهم عاجِلًا غيرَ آجلٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل الدائرةَ على عدوِّهم، واجعل شأنَه في سِفالٍ، وأمرَه في وَبالٍ يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 04-29-2012 11:49 PM

نعمة الرضا
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 6/6/1433هـ بعنوان: "نعمة الرضا"، والتي تحدَّث فيها عن نعمةٍ من أعظم نعم الله على العبد، وهي: نعمةُ الرضا؛ حيثُ بيَّن أن العبدَ لا يزالُ يسعَى لتحصيلِه ونيلِه في هذه الدنيا، ويدأبُ حتى يبلُغَه، وأن المالَ الكثيرَ ليس دليلًا على السعادة والرضا، كما أن الفقرَ وقلَّة ذات اليد ليس دليلًا على عدمِه؛ بل ربما كان العكسُ هو الصوابُ، ولم ينسَ أن يُعرِّج على قضية الاختطاف، وأنها مُنافِية ومُخالِفة لشرع الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله العليِّ الكبير، تعالى وتنزَّه عن الشبيه والنَّظير والمُعين والظَّهير، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك: 14]، أحمده - سبحانه - وأشكره أعطى الكثير، وتجاوزَ عن التقصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالِصةً مُخلِصةً أرجو بها النجاةَ من عذابِ السَّعير، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي القدرِ العليِّ والشرفِ الكبير، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وعلى نهجِ الحق يسير، وسلَّم التسليمَ الكثير.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن الكرامةَ كرامةُ التقوى، والعِزَّ عِزُّ الطاعةِ، والأُنسَ أُنسُ الإحسان، والوَحشةُ وحشةُ الإساءة، الحياةُ - يا عبد الله - في مُداومة الذكر، والعافيةُ في مُوافقة الأمر، والنجاةُ في لُزوم الكتاب والسنة، والفوزُ لمن زُحزِحَ عن النارِ وأُدخِلَ الجنة، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[النساء: 69].
أيها المسلمون:
هدفٌ منشودٌ إذا فقدَه الإنسانُ فإنه لا يستقرُّ على حالٍ، ولا يسكُنُ إلى قرار، وغايةُ مُبتغاه بدونها صاحبُها قلِقٌ مُتبرِّمٌ، مُضطربٌ حائر، وأمنيةٌ مُتمنَّاه إذا لم يُحقِّقها طالبُها فهو أشبَهُ بحيوانٍ شرس، أو سبُعٍ مُفترس، والمُجتمع بدونها كذلك مُجتمعُ غابةٍ من غير غاية ولو لمَعَت فيه بوارِقُ حضارةٍ أو أثَارةُ تقدُّمٍ، المقاييسُ فيه للأشدِّ والأقوى وليس للأصلَحِ والأتقى.
هدفٌ وغايةٌ وأمنيةٌ يطلبُها كثيرون في غير موضِعِها، ويتطلَّبُها مُتطلِّبُون من غير مظانِّها، جرَّبوا ألوانًا من المُتَع وصُنوفًا من الشهوات فما وجدُوها، حسِبَها قومٌ في الغِنَى ورغَدِ العيشِ، وظنَّها آخرون في الجاهِ والمقامِ العريض، واعتقَدَتها فئاتٌ في حُسن العلوم والمعارِف، خاضَ في البحث عنها العلماءُ والفلاسِفة، والأغنياءُ والفقراء، والملوك والوُجهاء. إنها - يا عباد الله -: السعادةُ والطمأنينةُ والرضا والسَّكينة.
ما أعظمَ الفرقِ بين رجلَين أحدُهما عرفَ الغايةَ وطريقَها فاطمأنَّ واستراحَ، وآخرُ ضالٌّ يخبِطُ في عِماية، ويمشي إلى غير غاية، لا يدري كيف المَسير، ولا إلى أين المصير؟! أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الملك: 22].
كم من صاحبِ مالٍ وفير، وخيرٍ كثير، تجلَّى رِضاهُ وطُمأنينتُه وقناعتُه في تحرِّي الحلال وأداء حقِّ الله فرضًا ونَدبًا، أعطَى الأجيرَ أجرَه، ولم يُذِلَّ نفسَه من أجلِ مالٍ أو جاهٍ.
وآخرُ عنده ما يكفيه، ولكن قد ملأَ الطمعُ قلبَه، وانتشرَ التسخُّطُ بين جوانحِه، جزِعٌ من رِزقه، مُتسخِّطٌ على رازِقِه، يبُثُّ شكواه إلى المخلوقين، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[الفتح: 4].
معاشر الأحِبَّة:
الرِّضا نعمةٌ عظيمةٌ، يبلُغُها العبدُ بقوَّةِ إيمانه بربِّه وحُسن اتِّصالِهِ به، ينالُها بالصبرِ والذكرِ والشكرِ وحُسن العبادة، وقد خاطَبَ اللهُ نبيَّهُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى[طه: 130].
وفي الحديث الصحيح: «ذاقَ طعمَ الإيمانِ من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولًا»؛ رواه أحمد، ومسلم، والترمذي.
الرِّضا - أيها الإخوة - بابُ الله الأعظم، وجنةُ الدنيا، ومُستراحُ العارفين، وحياةُ المُحبِّين، ونعيمُ العابدين، وقُرَّةُ عيون المُشتاقين.
الرِّضا سرُّ السعادة، وطريقُ السَّكينة، وجادَّةُ الطمأنينة. الرِّضا شجرةٌ منبتُها النفس.
يا عبد الله:
السعادةُ والرِّضا ليس بوفرة المال، ولا عِظَم الجاه، ولا كثرة الولد، ولا بنَيْل المُتَع والمنافع، الرِّضَا يحُدُّ من ثَورة الحرص والطمع، وطُغيان الشراهة والجشَع، ويُرشِّدُ الأخذَ بالأسباب: «اتقوا الله، وأجمِلوا في الطلبِ». فالغِنى ليس بكثرة العَرَض، إنما الغِنى غِنى النفسِ.
الرِّضا يُوقِفُ الراضِي عند حُدود قُدراته ومواهِبِه، ويُبصِّرُه بأقدار الله، فلا يتمنَّى ما لا يتيسَّرُ له، ولا يتطلَّعُ إلى ما لا يستطيع؛ فالشيخُ لا يتمنَّى أن يكون شابًّا، وغيرُ الجميل لا يتطلَّعُ إلى أن يكون جميلًا، وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ[النساء: 32].
يقول عطاء: "الرِّضا سُكونُ القلبِ باختيارِ الله للعبد، وأن ما اختارهُ الله له هو الأحسنُ فيرضَى به".
وسُئِلَ أبو عُثمان البِيْكَنْدي عن الرِّضا فقال: "من لم يندَم على ما فاتَ من الدنيا ولم يتأسَّف عليها".
وقال بعضُ الحُكماء: "من رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطهُ أحدٌ، ومن قنِعَ بعطائه لم يدخله حسدٌ".
ويقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "ارضَ بما قسمَ الله تكن أغنى الناس، واجتنِب محارِمَ الله تكن أورعَ الناس، وادِّ ما فرضَ الله تكن أعبدَ الناس".
وقيل للحُسين بن عليٍّ - رضي الله عنهما -: إن أبا ذرٍّ - رضي الله عنه - يقول: الفقرُ أحبُّ إليَّ من الغِنى، والسَّقَمُ أحبُّ إليَّ من الصحة. فقال الحسين - رضي الله عنه -: "رحِمَ الله أبا ذرٍّ! أما أنا فأقول: من اتَّكَل على حُسن اختيار الله لم يتمنَّ غيرَ ما اختارَ الله له".
الرِّضا قناعةٌ وثقةٌ ويقينٌ، من قنِعَ فقد رضِي، ومن رضِي فقد قنِع، وفي الحديثِ: «قد أفلحَ من أسلمَ وكان رِزقُه كفافًا، وقنَّعَه الله بما آتاه».
أيها المسلمون:
السعادةُ والرِّضا إيمانٌ بالله وبرسوله، ورِضا نفسٍ وانشراحُ صدرٍ، المؤمنُ يغمُرُه الرِّضا؛ لأنه عميقُ الإدراكِ لفضلِ الله العَميم، وإحسانِهِ العظيم، إحساسُه بنِعَم الله في نفسه وهي نعمٌ لا يُحصِيها في سمعِهِ وبصرِهِ ويدِهِ وقدمِهِ ومُخِّه وعظمِه، وطعامِه وشرابِه، ونومِه ويقَظَته، وأهلِه وفي شأنه كلِّه.
المؤمنُ يرى ويُشاهِدُ نعمَ الله ورحماته في كل ما حوله، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ[الحجرات: 7].
المؤمنُ المُطمئنُّ الراضِي يلهَجُ بذكرِ الله، ويستشعِرُ نعَمَ الله، «الحمدُ الله الذي أطعمَنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا، وجعلَنا مُسلمين». «الحمدُ لله الذي كساني هذا ورَزَقنيه من غيرِ حولٍ مني ولا قُوَّةٍ». و«الحمدُ لله الذي أحياني بعد ما أماتَني وإليه النشور». «الحمدُ لله الذي أذهبَ عني الأذَى وعافاني». «اللهم إني أصبَحتُ منك في نعمةٍ وعافيةٍ وسِترٍ، فأتِمَّ عليَّ نِعمتَكَ وعافِيَتك وسِترَكَ في الدنيا والآخرة». «اللهم ما أصبَحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِكَ فمنك وحدَكَ لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ». فالحمدُ لله رب العالمين، والحمدُ لله على كل حال.
هذا هو المؤمنُ، يغمُرُه الرِّضا والطمأنينة والسعادةُ في كل حينٍ، وعلى كل حالٍ، مُتعلِّقٌ بربِّه، راضٍ عنه، مُطمئنٌّ إليه، يتلقَّى ويتقبَّلُ أقدارَ الله في نعمائها وبأسائها، والدنيا وتقلُّباتها في إقبالِها وفي إدبارِها، ويعلمُ علمَ اليقين أن الله يُريدُ بعباده اليُسرَ ولا يُريدُ بهم اليُسرَ، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19]، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: 216].
المؤمنُ الراضِي السعيدُ مُوقِنٌ أن الله معه؛ فهو في معيَّة الله يحفَظُه ويكلؤُه، «أنا عند ظنِّ عبدِي بي وأنا معَه إذا ذكَرَني»، لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[التوبة: 40]، إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[طه: 46]. إن شعورَ المؤمن بمعيَّة الله يجعلُه في أُنسٍ دائمٍ ونعيمٍ موصولٍ.
المؤمنُ وحدَه هو الذي يغمُرُه الإحساسُ بالرِّضا بكل قدَرٍ من أقدار الله؛ فهو مؤمنٌ أن تدبيرَ الله أفضلُ من تدبيرِه لنفسِه. المؤمنُ يملأُ الرِّضا جوانِحَه؛ لأنه يعلمُ أن الخيرَ بيدَي ربِّه، والشر في هذه الدنيا لا يُناقِضُ الخيرَ ولا يُعارِضُه؛ بل قضَت سنَّةُ الله ألا يكون صبرٌ إلا مع شُكرٍ، ولا كرَمٌ من غيرِ حاجةٍ، ولا شجاعةٌ من غيرِ مُخاطَرةٍ؛ فالفضائلُ والخيراتُ لا تظهَرُ إلا بأضدادِها، فالشِّبَعُ مع الجُوع، والرِّيُّ مع الظَّمَأ، والدِّفْءُ مع البَرْدِ، وما عرَفَه المؤمنُ من حكمةِ الله في خلقِهِ وأسرارِ كونِه وآياتِه فهو بفضلِ الله، وما خفِيَ سلَّمَه لربِّه العليم الخبير.
هذا هو نهجُ أُولِي الألباب: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا[آل عمران: 191].
عباد الله:
وليس شرطُ الرِّضا ألا يُحِسَّ السعيدُ بالألم والمكارِه؛ بل المطلوبُ ألا يعترِضَ على مجارِي الأقدار، ولا يتسخَّطُ من الحوادِثِ والنوازِل؛ فهو راضٍ كرِضا المريضِ بشُرب الدواء المُرِّ؛ لأنه يعلمُ العاقبةَ ويرجُو العافيةَ.
والرِّضا والقناعةُ لا تمنَعُ التاجِرَ من تنمِيَة تجارته، ولا المُوظَّف من التطلُّع إلى الترقِّي في وظيفته، ولا العامِلُ في تحصِيلِ مُرتَّبِه، ولا أن يضرِبَ المُسلِمُ في الأرض ليستزِيدَ من فضلِ الله ورِزقِه؛ إنما الممنوعُ التسخُّطُ والتبرُّم.
كما أن أثرَ المادَّةِ في الرِّضا والسعادةِ غيرُ منكورٍ، على حدِّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سعادة ابنِ آدمَ: المرأةُ الصالِحةُ، والمَسكنُ الصالِحُ، والمركَبُ الصالِحُ»؛ رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ من حديثِ سعد بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه -.
وبعدُ، عباد الله:
فالسعادةُ ينبوعٌ يتفجَّرُ من القلبِ والنفسِ الكريمةِ الرَّاقِيَةِ التَّقِيَّةِ الطاهِرة، نفسٌ سعيدةٌ أينما حلَّت في السوق أو في الدُّور، في البَراري أو بين الصُّخور، في الأُنسِ والوَحشة، في المُجتمعِ وفي العُزلَة؛ فمن أرادَ السعادةَ فليسأل عنها نفسَه التي بين جنبَيْه.
وما هذه الابتساماتُ ومظاهرُ السُّرورِ التي تُرَى وتتلألأُ من أفواه المحزونين والمُتألِّمين والفُقراء والمساكين ليس لأنهم سُعداء في عيشِهم؛ بل لأنهم سُعداءُ في أنفسهم، وما هي الزَّفرات والآهات المُتصاعِدةُ من صُدور الأغنياءِ والمُوسِرين وذوِي الوَجَاهاتِ والمُترَفين لأنهم أشقياءُ في معاشِهم؛ بل لأنهم أشقياءُ في أنفُسهم.
فلا تطمَع - رحمك الله -، ولا تهلَع ولا تجزَع، ولا تُفكِّر فيما لا وصولَ إليه، ولا تحتقِر من فضَّلَكَ اللهُ عليه، واعلَم أن كلَّ شيءٍ بقضاءٍ وقدَر، واللهُ أعلمُ بشؤونِ خلقِه يُعِزُّ ويُذِلُّ، ويرفَعُ ويضَعُ، ويُعطِي ويمنَعُ، فهو الذي أغنى وأقنَى، وأضحَكَ وأبكى؛ فمن رضِيَ طابَ عيشُه، ومن تسخَّطَ طالَ طيشُه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النحل: 97].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.




الساعة الآن 08:12 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir