ساحات وادي العلي

ساحات وادي العلي (http://www.sahat-wadialali.com/vb/index.php)
-   الساحة الإسلامية (http://www.sahat-wadialali.com/vb/forumdisplay.php?f=91)
-   -   خطب الجمعة من المسجد الحرام (http://www.sahat-wadialali.com/vb/showthread.php?t=14234)

ابوحاتم 03-23-2012 11:00 PM

ذم الانتقام
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "ذم الانتقام"، والتي تحدَّث فيها عن وجوب خلوِّ الصدر وسلامته من الغَشَش والدَّخَن، وبراءة النفس من نَزعة التشفِّي والانتقام، وذكرَ أن الانتقام مذمومٌ في الإسلام في الجُملة، ولا يُحمَد بحالٍ إلا إذا انتُهِك الحُرُمات، وذكرَ الأدلةَ على ذلك من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوبُ إليه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل لا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء: 1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أما بعد، فيا أيها الناس:
إن سلامةَ الصدر وخُلُوَّه من الغَشَش والدَّخَن، وبراءةَ النفس من نَزعَة التشفِّي وحب الانتِصار من المُخطِئ تلبيةً لرغبَاتِ النفس المُنتشِيَة في مُعالَجة الخطأ بالقوةِ الضارِبةِ لهِي سِمةُ المؤمنِ الصالحِ الهيِّن الليِّن، الذي لا غِلَّ فيه ولا حسَدَ؛ إذ ما قيمةُ عيش المرءِ على هذه البَسيطةِ وقلبُه مُلبَّدٌ بحبِّ الذات، مُتفنِّنًا في الفَظَاظَةِ والغضَاضَة والغِلظَة، يُعزِّزُ من خلالها قسوةَ قلبه، وضِيقَ عطَنه، فيُصبِحُ سيِّئَ الطبع، سافِلَ الهمَّة، شرِهَ النفس، يأنَفُه الناسُ عند كل مرصَدٍ.
كثيرون هم الذين يبحَثون عن مصادر العِزَّة والفلاح مع كثرتها، وتنوُّع ضرُوبها، وقِلَّة المُؤنة في تحصيلها، دون إجلابٍ بخيلٍ ولا رَجِلٍ، إنما رِكابُها شيءٌ من قوة الإرادة، وذمٍّ للنفسِ عن تجرُّع حُظوظها المُتمثِّلة في الأنانية؛ فطِيبُ النفسِ، وحُسن الظنِّ بالآخرين، وقَبول الاعتذار، وإقالَةُ العَثرة، وكظمُ الغيظ، والعدلُ في النَّصَف أو العقوبة، كلها معاييرُ نقاءٍ وصفاءٍ، وعلاماتٌ للنفسِ الراقيةِ المُتشبِّثةِ بهديِ الإسلام الراقِي في التعامُل مع النفس ومع الآخرين.
ومتى ما خرجَ الانتصارُ للنفسِ ممن أخطأَ في حقِّها أو ظلمَها عن تلك الصور والمعايير؛ فإنه الولوجُ في دائرة حبِّ الانتقامِ، ولا شكَّ.
وإذا اصطبَغَت النفسُ بحبِّ الانتقام ووقعَت في أتونه؛ فإن الغِلظةَ والجَبَروت والبطشَ والإسرافَ والحَيف هي العلاماتُ البارِزةُ التي تحكُمُ شخصيةَ المرءِ الذي سيُشارُ إليه بالبَنَان على أنه رمزُ الظلمِ والنَّذَالة والوحشيَّة؛ لأن المعروفَ عن الانتقام أنه: إنزالُ العقوبةِ مصحوبةً بكراهيةٍ تصِلُ إلى حدِّ السَّخَط، والحقد، والإسرافِ في العقوبة.
الذي يُفرِزُه جنونُ العظمة وحبُّ القهر، كما قال فرعون: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى[غافر: 29]، وكما جاء عن قوم عاد: فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت: 15]. الانتقامُ يُذكَرُ غالبًا في معرِضِ الذمِّ؛ لكونه مقرونًا بالقسوةِ والغِلظةِ وموت الضمير، وعامةُ الناسِ لا يعرِفون منه إلا هذا المعنى.
وعندما حضَّنا الإسلامُ على العفوِ والتسامُحِ وكظمِ الغيظِ لم يُرِد لنا أن نكون ضُعفاء، ولا جُبَناء، ولا أن يغرِسَ في نفوسِنا الذِّلَّةَ والهَوَان، كلا؛ فإنما أرشدَنا إلى ذلكم ليُبيِّن لنا أن اللِّينَ والسماحَة هُما أفضلُ وسيلةٍ لاستلالِ السَّخِيمةِ والكُرْهِ من قلبِ من أساءَ إلينا.
ولذا فإن الانتقامَ مع ما فيه من القسوة والجبَروت فإنما هو علامةُ ضعفٍ لا قوةٍ، والضعفُ هنا يكمُنُ في أن الغِلظةَ والتشفِّي لهُما السيطرةُ في قلبِ المُنتقِم على التسامُح والاعتِدال، فمن هُنا صارَ المُنتقِمُ ضعيفًا؛ لأن سجِيَّة الشرِّ والحُمق والهوى هي الغالبةُ أمام نَزوَته ورغبته، وهذا سببُ الضعفِ لدى المُنتقِم؛ لأن التشفِّي طرفٌ من العَجزِ ليس بينه وبين الظالمِ إلا سترٌ رقيقٌ وحجابٌ ضعيفٌ.
ولقد كان من أميَز سِمات النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ، وأن رِسالتَه إنما هي رحمةٌ للعالمين، كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107]، وهذه الرحمةُ والشَّفَقةُ واللِّينُ التي أزهَرَت في فُؤاد النبي - صلى الله عليه وسلم - هي ما جعلَتْه يتلقَّى الثناءَ من العليِّ الأعلى من فوق سبعِ سماواتٍ: وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ[القلم: 4]، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ[آل عمران: 159].
ومن هنا نُدرِكُ أن المُنتقِمَ كالأعمَى، لا يُدرِكُ ويُحِسُّ إلا بنفسه، المُنتقِمُ ليس أهلاً للعدل ولا للإنصافِ؛ لأن همَّتَه في تحقيق هدفه وشفاءِ غيظه، ليس إلا، فهو عدوُّ عقله؛ لأنه يشينُ حُسنَ الظَّفَر فيقبُحُ بالانتِقام دون أن يتزيَّن بالعفو أو القصد.
المُنتقِمُ بليدُ الإحساسِ، قد تجرَّدَ من العاطفة، إذا استُغضِبَ زَأرَ، وإذا زأَرَ افترَسَ، وإذا افترسَ أوجعَ، وإذا كان القتلُ يُعدُّ من أنكَى جِراحات الحياة، فإن الله - جل وعلا - قال فيه: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا[الإسراء: 33].
غيرَ أن المُنتقِمَ من الناس لا يقِفُ عند هذا الحدِّ، ولن يُدرِكَ عقلُه ولُبُّه قولَ الله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ[النحل: 126]، فهذه الآيةُ دلَّت على الانتِصار من الظالمِ، لكنها في الوقتِ نفسِهِ بيَّنَت أن العفوَ أخيَرُ وأفضلُ، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ[الشورى: 40]،
ومن أراد أن يلِجَ التقوى من أسهل أبوابها فليعمل بقول الله - جل وعلا -: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[البقرة: 237].
لقد ضربَ الانتقامُ والتشفِّي بأطنابِه في قلوب بعضِ الناسِ، وقد ظهرَ ذلك جلِيًّا في تعامُل الأبِ مع ابنِه أو أخيه، أو الزوجِ مع زوجته، فلربما ضربَها، أو حبسَها، أو علَّقَها فلا هي زوجة ولا هي مُطلَّقة، وأذاقَها صُنوف الهوان والذلِّ والإيلام، كلُّ ذلك انتِقامًا وبَطشًا وانتِصارًا لرُجولةٍ زائفةٍ، وقلبٍ مُلتاثٍ، وقولوا مثلَ ذلكم في تعامُل جارٍ مع جارِهِ، أو مُديرٍ مع موظَّفٍ، أو أُسرةٍ مع خادمها، أو ما شابَهَ ذلكم من أمثلةِ تبلُّدِ الإحساسِ والدُّونيةِ في التعامُلِ مع الآخرين بعيدًا عن مبادِئِ الدِّين الحنيفِ والأخلاقِ الحميدة.
وليتَ أمثالَ هؤلاء يُدرِكون جيِّدًا أن أفضلَ وسيلةٍ للانتِقام ممن أساؤوا إليهم: هي ألا يكونوا مثلَهم في الإساءة؛ ليزدادوا حقارةً لأنفسهم، وامتِهانًا لسَجَايَاهم؛ فقد جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطعُوني، وأُحسِنُ إليه ويُسيؤُون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهَلون عليَّ. فقال: «لئن كنتَ كما قلتَ فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزالُ معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك»؛ رواه مُسلم.
والمعنى: فكأنما تُلقِمُهم الرَّمادَ الحارَّ في أفواههم.
وقد قال جعفرُ الصادقُ - رحمه الله تعالى -: "لأَن أندمَ على العفوِ عشرين مرةً أحبُّ إليَّ من أن أندمَ على العقوبةِ مرةً واحدةً".
وقد جرَت سنةُ الله أن من انتقَمَ ممن هو دونه انتقَمَ منه من هو فوقَه، وسُنَّةُ الله لا تُحابِي أحدًا.
ولأجل هذا - عباد الله - فإن لذَّة العفو أطيبُ من لذَّة التشفِّي، وذلك أن لذَّة التشفِّي يلحقُها ذمُّ الندَم، ولذَّةَ العفو يلحقُها حمدُ العاقبة، وقد قال الله - جل وعلا -: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ[الشورى: 37]، وهذا دليلٌ على أن الانتِقام يقبُحُ على الكِرامِ.
ومن طَبعُهُ الانتقامُ فهو كالغَيمِ الذي لا يُرجَى صحوُه، يغضبُ من الجُرمِ الخفِيِّ، ولا يُرضيهِ العُذرُ الجَلِيُّ، حتى إنه ليُبصِرُ الذنبَ ولو كان كسَمِّ الخِيَاطِ، ويعمَى عن الحسناتِ ولو كانت كجِبال تِهامة، له أُذُنان يسمعُ بإحداهما البُهتان، ويصُمُّ بالأخرى عن الاعتِذار، وله يَدَان يبسُطُ أحدُهما للانتِقام ويقبِضُ الأُخرى عن الحِلمِ والصفحِ، مثَلُه كمثَلِ من قال اللهُ عنه: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ[البقرة: 205، 206].
فهل يعِي هذا أولئك الجبَّارون المُنتقِمون المُسرِفون الذي يسومون أقوامَهم سُوءَ العذاب، فيُذبِّحون أبناءَهم، ويُرمِّلون نساءَهم، ويُيتِّمون أطفالَهم، أولئك الذين باعُوا الضميرَ، ونحَروا الرحمةَ، وأخذَتهم العِزَّةُ بالإثمِ، فعلَوا في الأرضِ، وجعلوا أهلَها شِيَعًا، وقالوا مقولةَ فرعون الأول: سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ[الأعراف: 127].
غيرَ أن المؤمنين الصابرين يُردِّدون قولَ الله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ[الزمر: 36، 37].
باركَ الله ولكم في الكتابِ والسنةِ، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والذكرِ والحِكمة، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن لله الأسماءَ الحُسنى التي هي غايةٌ في الحُسن والجمال، ومنها الصفاتُ العُلَى التي تليقُ بجلالهِ وعظيمِ سُلطانه؛ فمن صفاته - سبحانه وتعالى -: الانتقام الذي يقصِمُ به ظهورَ الجبابرةِ بعد الإعذارِ والإنذارِ؛ فقد قرَنَ انتقامَه بعِزَّته، فقال - جل وعلا -: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[إبراهيم: 47]، وقال - سبحانه -: وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[المائدة: 95].
والانتقامُ في شريعتنا الغرَّاء مذمومٌ في الجُملة، غيرَ أن ثمَّةَ انتقامًا محمودًا شرعَه الله لنا لإيجاد مبدأ التوازن بين المصالحِ والمفاسِدِ، وعدمِ الإخلالِ بها عن منازلها التي أُنيطَت بها لتحقيقِ مصالحِ العباد ودرء مفاسِدهم، وهذا الانتقامُ المحمودُ إنما يكون لمن انتهَكَ محارِمَ الله، وذلك بالحُدود والتعزيرات والعقوبات المشروعة؛ فقد قال - سبحانه -: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[النور: 2]، فنهانا - سبحانه - عن الرحمةِ في حُدوده وإقامةِ شِرعتِه وفقَ ما أرادَه لنا - سبحانه وتعالى -.
وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: "ما ضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا بيده قطُّ، ولا امرأةً، ولا خادِمًا إلا أن يُجاهِدَ في سبيل الله، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتقِمُ من صاحبه إلا أن يُنتهَكَ شيءٌ من محارمِ الله، فينتقِمُ لله - عز وجل –"؛ رواه مسلم.
فالانتقامُ لغير محارمِ الله معرَّةٌ، كما أن الحِلمَ والبُرودَ أمام محارِمِ الله خيانةٌ عُظمى.
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كلِّ شرٍّ.
ونسألُك اللهم نعيمًا لا ينفَد، وقُرَّةَ عينٍ لا تنقطِع، ونسألُك اللهم لذَّةَ النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضرَّاء مُضِرَّة، ولا فتنةٍ مُضِلَّة برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين.
اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَكَ يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام، يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-23-2012 11:08 PM

الفقر وعلاجه في الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الفقر وعلاجه في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن مشكلةٍ عامَّةٍ في كل مُجتمعٍ من قديم الزمان، ألا وهي: مشكلة الفقر والفقراء، وبيَّن أنَّ الإسلام جاء بالحلول الكثيرة لها، ولم يُهمِلها، وذكرَ العديدَ من الحلول التي كفَلَها الإسلام لحل هذه المشكلةِ وعلاجِها.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله فالقِ الإصباح، وجاعلِ الليل سكَنًا، القائمِ بأرزاق خلقه، فما لأحدٍ منهم عنه غِنًى، الخلائقُ كلهم إليه فُقراء، وله - سبحانه - وحده الغِنَى، الدوامُ له - عزَّ شأنه -، ولهم همُ الفناءُ، أحمده - سبحانه - وأشكره على جزيلِ نعَمِه وآلائه سِرًّا وعلَنًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ من حقَّ توحيدَه فأتى يوم القيامة آمِنًا، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله دعا إلى الله، وأقام المِلَّة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، وما ضعُفَ وما وَنَى، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الأطهار، وأصحابه الأخيار سادتنا وأئمتنا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الفَناءِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما سجَى ليلٌ وأضاءَ سَناء.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، وإياكم والغفَلات، واحذَروا الأماني الكاذِبات؛ فريبُ المَنون كامنٌ في الحَرَكات والسَّكَنات، وما أقربَ الحياة من الممات، قصَمَت المنايا مديدَ الأعمار، وهدمَ تعاقبُ الليالي مشيدَ الديار، فأصبحَت الأحوال خبرًا، والأحاديثُ عِبَرًا، مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى[يوسف: 111]، فاستعِدُّوا - رحمكم الله - ليوم الحِسابِ؛ فذلكم يومٌ ما أطولَه، وحسابٌ ما أثقلَه، وحاكمٌ ما أعدلَه، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[الزلزلة: 6- 8].
أيها المسلمون:
قضيةٌ مألوفة، وظاهرةٌ في المُجتمعات معروفة، مُشكلةٌ في جميع الأُمم والأعصار، والحضارات والأمصار، مسألةٌ لا يخلو منها مُجتمع، ولا تنفَكُّ منها دولةٌ، مهما بلغَ تقدُّمُها وثراؤها، وحُسن إدارتها وسياساتها.
مُشكلةٌ ذاتُ أباعدٍ اجتماعيةٍ، وامتداداتٍ سُلوكية، وجودها في أمةٍ أو دولةٍ ليس مثلَبَةً ولا عيبًا، ولكن نِسيانُ ذلك وإهمالُه، أو عدمُ النظر في أسبابه، والسعيِ في علاجه هو المَعيبُ وفيه المسؤولية؛ ذلكم: هو الفقرُ والفُقراء.
لقد عرفَت البشريةُ الفقرَ منذ أزمان التاريخ المُتطاوِلة، وأعصارِه المُتعاقبة، وحاولَت البشريةُ في مسيرتها الطويلة بمِلَلها ومذاهبِها ومُفكِّريها وأنظمتها أن تحُلَّ مشكلةَ الفقر، وأن تُخفِّفَ من مُعاناة الفُقراء بالترغيبِ والترهيبِ تارةً، وبالمواعظِ والوصايا تارةً، وبالتنظيرِ والمِثاليات تارةً، وأحيانًا بمبادئَ مُتطرفةٍ ذات اليمين وذات اليسار، ناهِيكُم بما أثارَه ويُثيرُه الهدَّامون من الإثارات الطبَقِية، والنَّعَرات المذهبية؛ بل إن المبادئ الهدَّامة والتوجُّهات السيئة تبني أوكارَها وتُقيمُ أفكارَها في رُبوع الفقر والحِرمان والضياع. هذا بعضُ التصوُّر والتصوير.
أما في دين الإسلام، دينِ العقيدة والشريعة، والعبادة والمُعاملة، والدين والدولة، دين تِبيان كلِّ شيءٍ، وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ[النحل: 89]، الدينُ الذي يُخرِج الناسَ من الظلمات إلى النور، ومن الظلمِ إلى العدلِ، ومن الفقرِ إلى الغِنَى الدينُ الذي يُصلِحُ الدنيا بالدين؛ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[طه: 123]، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ[إبراهيم: 1].


معاشر الإخوة:
من رواسِخِ ديننا وثوابتِه: أن لكل مُشكلةٍ حلاًّ، ولكل داءٍ دواءً؛ فالذي خلقَ الداءَ خلقَ الدواءَ، ومن قدَّرَ المرضَ قدَّرَ العلاجَ، فالمرضُ قدر الله، والعلاجُ والشفاءُ بقدر الله، وإذا كان الفقرُ قدرًا وبلاءً فإن مُقاومته والسعيَ في الخلاص منه قدرٌ وعلاجٌ كذلك.
الإسلامُ أقرَّ حقوقَ الفقراءِ وضمِنَها وحفِظَها وحماها، ووجَّه بالدفاع عنها منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا؛ صيانةً للمُجتمع، وحِفظًا للأُسَر، وإشاعةً لروح الإخاء، وسلامةً للدين، واستقامةً للخُلُق.
أيها المسلمون:
الفقرُ في نظر الإسلام بلاءٌ ومُصيبةٌ، تعوَّذَ منها، ووجَّهَ بالسعي للتخلُّص منها، ليس في مدحِ الفقراء آيةٌ في كتاب الله، ولا حديثٌ صحيحٌ في سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ بل لقد استعاذَ النبيُّ - صلى الله عليه وآله وسلم - من الفقر، وجعله قرينًا للكُفر: «اللهم إني أعوذُ بك من الكُفر والفقر»؛ رواه أبو داود وغيره.
وفي الحديثِ الآخر: «اللهم إني أعوذ بك من الفقر والقِلَّة والذِّلَّة، وأعوذ بك أن أظلِمَ أو أُظلَم»؛ رواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكمُ من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه -، ورمَزَ له صاحبُ "الجامع الصغير بالحسن".
وعمر - رضي الله عنه - يقول: "لو كان الفقرُ رجلاً لقتلتُه".
ونبَّه القرآنُ الكريمُ إلى أن الجوعَ عذابٌ ساقَه الله إلى بعض الأُمم الكافرةِ بنِعَمه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[النحل: 112]، وفي المُقابِل؛ فقد امتنَّ الله على قُريشٍ بأن أطعمَهم من جُوعٍ، وآمنَهم من خوفٍ.
وفي الحديثِ: «إن الرجلَ ليُحرَمُ الرِّزقَ بالذنبِ يُصيبُه»، وفي المُقابِلِ كذلك - عباد الله - فإن الغِنَى نعمةٌ، يمُنُّ الله بها على من يشاء من عباده؛ بل لقد امتنَّ الله بذلك على حبيبه وخليله محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال - عزَّ شأنه -: وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى[الضحى: 8]، ومحمدٌ - عليه الصلاة والسلام - لما سألَ ربَّه الهُدى والتُّقَى سألَ معه الغِنَى، فقال: «اللهم إني أسألُك الهُدى، والتُّقَى، والعفافَ، والغِنَى»؛ رواه مسلم.
ودعا لعبد الرحمن بن عوفٍ في صحابةٍ آخرين - رضي الله عنهم -، دعا لهم بالبركةِ في تجارتهم، ودعا لخادمه أنسٍ - رضي الله عنه - فقال: «اللهم كثِّر مالَه». وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما نفعَني مالٌ كمالِ أبي بكرٍ»؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وعند البخاري: «اللهم إني أسألُك علمًا نافعًا، ورِزقًا طيِّبًا، وعملاً صالحًا مُتقبَّلاً». وحسبُكم قولُه - عزَّ شأنه -: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[نوح: 10- 12].
معاشر الأحِبَّة:
إذا كان الأمرُ كذلك؛ فإن الفقرَ - نعوذُ بالله منه -: حالٌ يكون معها المرءُ عاجِزًا عن تلبيةِ حاجاته؛ من الغذاءِ، والكِساءِ، والدواءِ، والسكنِ، والتعليمِ، وفُرصِ العمل. الفقرُ: عدمُ الدَّخْل أو نقصٌ فيه، يعجَزُ معه الفقيرُ عن تحقيق مُتطلَّباته من العيش اللائقِ بكرامةٍ وحُسن رعايةٍ.
في حالة الفقرِ لا يستطيعُ الفقيرُ القيامَ بمناشِطِ الحياة وحيويتها، ومن ثمَّ تبرُزُ صُورٌ من انتشار الأمراض، وسوء التغذية، والوفيات، ونقصِ التعليم وقلَّة فُرصه، واستخدام الأطفالِ.
نعم - معاشر الإخوة -؛ من حقِّ الفقيرِ أن يتهيَّأ له مُستوًى من المعيشةِ مُلائِمٌ لحاله يُعينُه على أداء فرائضِ الله، ومطلوباتِ الشرع، وأعباءِ الحياة، ويَقيهِ من الفَاقَةِ والحِرمان.
أيها المسلمون:
وأولُ ما يتوجَّهُ إليه النظرُ في حلِّ هذه المُشكلة وعلاجِها وتقليل آثارها مما تُؤكِّدُه توجيهاتُ ديننا هو: مُطالبةُ كلِّ مسلمٍ قادرٍ، مُطالبَتُه بالعملِ، كما لا بُدَّ من إيجاد فُرص العمل؛ فالعملُ هو الوسيلةُ الأولى والسلاحُ المَضَّاءُ - بإذن الله وعونه - للقضاء على هذه المُشكلة. العملُ - بتوفيق الله - هو جالبُ المال، وعامِرُ الأرض. العملُ أساسُ الاقتصاد والإنتاج، والغِنَى، والعَفاف، والكفاف، والثَّراء. العملُ مجهودٌ شرعيٌّ كريمٌ يقومُ به العبدُ من عباد الله ليعمُرَ أرضَ الله الذي استُخِلِفَ في عِمارتها بنفسه ومع غيره.
إن ديننا يُقرِّرُ ويُؤكِّد أن الله خلقَ الأرضَ، وبارَكَ فيها، وقدَّرَ فيها أقواتَها، وأودعَ في ظهرها وبطنها البركات المذخُورة، والخيرات المنشورة ما يكفي جميعَ عباد الله عيشًا هنيئًا مريئًا، وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ[الأعراف: 10]، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء: 70].
وفي توجيهات الإسلام: أن هذه الخيرات والبركات والأرزاق المبثوثة لا تُنالُ إلا بجُهدٍ يُبذَل، وعملٍ يُؤدَّى، وسعيٍ دَؤُوبٍ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ[الملك: 15]، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[الجمعة: 10]، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[المزمل: 20].
فمن سعَى وانتشرَ في الأرض، وضربَ في أرجائها مُبتغيًا فضلَ الله ورِزقه؛ فإنه أهلٌ لنوالِهِ، ومن قعدَ وتكاسَلَ وتمنَّى الأماني؛ كان جديرًا بأن يُحرَم، «لو أنَّكم توكَّلون على الله حقَّ توكُّله لرزَقَكم كما يرزقُ الطيرَ تغدُو خِماصًا، وترُوحُ بِطانًا».


معاشر الإخوة:
العملُ في الإسلام عبادةٌ، وما تعدَّى نفعُه وامتدَّ أثرُه فهو أفضلُ عند الله وأزكَى مما كان قاصِرًا نفعُه على صاحبِه، وأبوابُ العملِ مفتوحةٌ في الإسلام على كل مصاريعها، يختارُ منها الراغبُ ما يُلائمُ قُدرتَه وكفاءَته وخبرتَه وموهبتَه؛ «فالتاجرُ الصدوقُ الأمينُ مع النبيين والصدِّيقين والشُّهداء»؛ رواه الترمذي، والحاكم بإسنادٍ حسنٍ.
«وما أكلَ أحدٌ طعامًا خيرًا من أن يأكل من عملِ يده»؛ رواه البخاري. «وما من مُسلمٍ يغرِسُ غرسًا، أو يزرعُ زرعًا فيأكلُ منه طيرٌ أو إنسانٌ إلا كان له به صدقة»؛ رواه البخاري.
وكان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يتَّجِرون في البرِّ والبحر، ويعملون في نخيلهم، والقدوةُ بهم. وسُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الكسبِ أفضلُ؟ قال: «عملُ الرجلِ بيده، وكلُّ بيعٍ مبرورٍ»؛ رواه أحمد.
عباد الله:
وثمَّة نظراتٌ حول العمل عند بعض الناس لا بُدَّ من الوقوف عندها ذاتُ مِساسٍ كبيرٍ في المُعالَجة:
النظرةُ الأولى: موقفٌ قاصِرٌ ضارِبٌ جُذورَه منذ أيام الجاهليَّة الأولى إلى عصرِنا هذا - مع الأسفِ -، ذلك هو: الاستهانةُ بالعمل، أو ببعض أنواع العمل، ولا سيَّما عند العرب الذين يحتقِرون الأعمال اليدوية، وبعضَ الحِرَف والمِهَن، وهذا - وربِّكم - ليس من الدين، ولا من الأصالة، ولا العقل الراجِح.
فدينُكم رفعَ قيمةَ العمل أيًّا كان نوعُه من وجوه الكسبِ الحلال، ونهَى وحذَّرَ وشنَّع على البِطالة والعجزِ والاتِّكال على الآخرين؛ فكلُّ كسبٍ حلالٍ فهو عملٌ شريفٌ عظيمٌ مأجورٌ صاحِبُه، وفي الحديثِ الصحيحِ: «لئن يأخُذ أحدُكم حبلَه، فيأتي بحزمةِ الحَطَبِ على ظهره، فيبيعُها، فيكُفُّ بها وجهَه خيرٌ من أن يسألَ الناسَ أعطَوه أو منَعُوه».
نعم، هذه هي مهنةُ الاحتِطابِ؛ فهل تُرى أحدًا يزدَريها بعد هذا التوجيهِ النبويِّ الكريمِ؟!
وأنبياءُ الله أفضلُ خلق الله ومُصطَفوه كلُّهم قد رعَوا الغنَمَ، وفيهم: صانِعُ الحديد، والنجَّار، والخيَّاط، والبَزَّاز، والحرَّاث، وموسى - عليه السلام - رعَى الغنَمَ، وآجَر نفسَه عشر سنين عند الرجل الصالح، ونبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - رعَى الغنمَ لقُريش، وسافَرَ بالتجارةِ.
وأئمةُ الإسلام وعلماؤه كان فيهم البزَّارُ، والقفَّالُ، والحَذَّاء، والزَّجَّاج، والخرَّاز، والحطَّاب، والجَصَّاص، والخيَّاط، والخوَّاص، والقطَّان، والموَّاز، وغيرُهم مما لا يكادُ يُستثنَى من مهنٍ مُباحةٍ. فكفى بذلك شرفًا، وكفى بهم قُدوةً وأُسوةً.
النظرةُ الثانية: من الناسِ من يدَعُ العملَ لأنه لم يتيسَّر له في بلده وعند أهله. سبحان الله - عباد الله -، يُؤثِرُ البَطالَةَ والحاجةَ والحِرمان على السعيِ والسَّعَة والعفافِ والغِنى؟! وما علِموا أن أرض الله واسِعةٌ، ورِزقَ الله في المشيِ في مناكبِها والضربِ في أرجائها، رِزقُ الله غيرُ محدودٍ بمكانٍ، ولا محصورٍ بجهةٍ.
ونحن في هذه البلاد الطيبةِ المُبارَكةِ يفِدُ إلينا إخوانٌ لنا من بلادٍ شقيقةٍ وصديقةٍ، وفَدوا إلينا من أصقاع الدنيا يُسهِمون معنا في بناء بلدنا، وإعمارها، ويسعَون في تحصيل أرزاقهم، ويكِدُّون من أجل أهلِيهم وأطفالِهم. فعلى الرَّحبِ والسَّعَة.
ويعلمُ الله كم نسعَدُ حين نرى أبناءَنا يُشارِكونهم ويُنافِسُونهم التنافُسَ الشريفَ، وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً[النساء: 100]، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ[المزمل: 20].
وسُئِلَت أمُّ مسلمة عن تفرُّق أولادها، فقالت بلغة الأم المُربِّية العاقلة الحكيمة: باعَدَت بينهم هِمَمُهم.
النظرةُ الثالثة: فئاتُ من الناس يزهَدون في العمل مُعتمِدين على الصدقات والزَّكَوات والتبرُّعات والأُعطِيات، وقد يتزَلَّفُ مُتزلِّفٌ لدى الأغنياء والوُجَهَاء والكُبَراء أشبَه بالمُتسوِّل والشَّحَّاذ لتكون يدُهُ هي السُّفْلَى، يستجْدِي المِنَحَ والعطايا، قويًّا قادرًا لا تحلُّ له الصدقاتُ ولا الزَّكَوات.
وبعدُ، عباد الله:
فإن الإسلام لم يجعل لمُتبطِّلٍ كسولٍ حقًّا في صدقات المُسلمين وإحسانهم، وما ذلك إلا ليدفعَ القادرين للعمل والكسبِ الحلال، وما فتحَ عبدٌ على نفسهِ بابَ مسألةٍ إلا فتحَ الله عليه بابَ فقرٍ.
اللهم إنا نعوذُ بك من العجزِ والكسلِ، والجُبن والبُخل، والمأثَمِ والمغرَم، وغلبَةِ الدَّيْن وقهرِ الرجال، ونعوذُ بك من الفقر إلا إليك، اللهم أغنِنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سِواك، وأغنِنا بفضلِك عمَّن أغنيتَه عنَّا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ[يوسف: 65].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله هادي من استَهداه، ومُعطِي عبدَه فوقَ ما يتمنَّاه، أحمده - سبحانه - وأشكرُه على جزيلِ ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معبود بحقٍّ سِواه، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه قرَّبَه وأدناه، وأره من عظيمِ ملكُوته ما أراه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين السادة، وأصحابه المُكرَّمين السَّرَاة، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا لا حدَّ لمُنتهاه.
أيها المسلمون:
وعلى الدولة في الإسلام مسؤوليتها في تهيئةِ فُرص العمل وطرق المعاشِ، وإيجاد الوسائل والتجهيزات والإعدادات، إن وظيفةَ الدولة في دين الإسلام وظيفةٌ إيجابيةٌ واسِعةٌ شاملةٌ، وظيفتُها: حمايةُ الذين يملِكون والذين لا يملِكون.
والمُجتمعُ في نظرِ الإسلام مُتاربِطٌ مُتماسِكٌ، جسدٌ واحدٌ إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسَدِ بالسَّهَر والحُمَّى. العلاقةُ بين أفراده ومُؤسَّساته ليست علاقة إنتاج، أو علاقة عرضٍ وطلبٍ، إنها أعمقُ من ذلك وأقوى، إنها علاقةُ عقيدةٍ وفكرٍ وعاطفةٍ، ووحدة نظامٍ وشريعةٍ، جسدٌ واحدٌ يُمِدُّ ويستمِدُّ، وينفعُ وينتفِعُ.
والدولةُ هي رأسُ المُجتمع، وهي جهازُه الذي يرعَى هذا الترابُط ويُحافِظُ عليه ويصُونُه، ويُؤكِّدُ لُحمتَه، ويرعَى ثمرَتَه، «كلُّكم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعيته، فالإمامُ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والرجلُ راعٍ في أهلِهِ وهو مسؤولٌ عن رعيَّته ..» الحديث.
الدولةُ تُحقِّقُ العدلَ، وتدعُو إلى الخيرِ، وتتَّخِذُ من الأساليب والوسائل والإجراءات ما يُعالِجُ الفقرَ، ويُخفِّفُ آثارَه، ويضمنُ العيشَ الكريمَ لكلِّ مُحتاجٍ، ويُحقِّقُ التكافُل بين المُجتمع، وهي: وسائل وأساليب وإجراءاتٌ تختلفُ باختلاف الأزمِنةِ والبيئاتِ والأحوال والنوازِل والمُستجَدَّاتِ والموارِد.
وللاجتهاد وحُسن السياساتِ والإدارات في هذا مدخلٌ واسعٌ من الإعداد والتدريب، وتوجيه كل أحدٍ إلى ما يُحسِنُه، مع الأجرِ العادلِ وتشجيعِ المُحسِنِ ومُكافأته، ومُجازاة المُسيءِ ومُعاقبتِه، في سياساتٍ تصُونُ ثروات الأمة، وتزيدُ في إنتاجِها، وتُحسِّنُ مُستوى خدماتها، وتحفَظُ طاقاتها، وتُقدِّرُ جهودَ أبنائِها في مواهبهم، وقُدراتهم، وكفاءاتهم، ومُؤهِّلاتهم، في بناءٍ حضاريٍّ، وإدارةٍ مُنظَّمة، وسياساتٍ مُحكَمة؛ عِمارةً للأرض، وتطبيقًا للشرع، وتوظيفًا للطاقات في توازنٍ بين حقوق الإنسان وواجباته.
وهذا وليُّ أمرنا خادمُ الحرمين الشريفين - حفظه الله وأعزَّه، وأمدَّ في عُمره على طاعته -، وقد جعل الإصلاحَ شَعارَ حُكمه، كان من أحد معالمِ مسيرته الإصلاحية المُظفَّرة: تفقُّدُه لبعض أحياء الفُقراء ومساكنهم؛ ليقِفَ على صُور المُعاناة.
ثم أتبَعَ ذلك بقراراتٍ وسياساتٍ وإنشاء مُؤسَّساتٍ تتولَّى مُعالجةَ ذلك، وأصدرَ توجيهاته لرجال الدولة لتنفيذِ ذلك ومُتابعتِه.
وبعدُ، عباد الله:
فإن كان من تنبيهٍ فهو: أن الحياةَ الإسلامية بمناشِطِها وأعمالها ووظائفها هي حياةٌ نظيفةٌ نزيهةٌ، لا تُقِرُّ العبَثَ، ولا تسمحُ بالفساد والتحلُّل، وصرفِ المالِ والطاقات فيما لا يحِلُّ، لا ليلاً ولا نهارًا، لا في لهوٍ ولا مُجونٍ ولا سُوء استغلالٍ.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فدينُكم يُطارِدُ الفقرَ بأحكامِه وتشريعاته وتوجيهاته، والمُسلمُ يستقبِلُ صباحَه باكِرًا مُتوضِّئًا مُتطهِّرًا مُصلِّيًا طيبَ النفسِ، مُستقيمَ الخُلُق، حافظًا لنفسه وماله وأهله ووقته.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله، وهو الصادقُ في قِيلِه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم احفَظهم واحقِن دماءَهم، واحفَظ اعراضَهم، وأطعِم جائِعَهم، اللهم واشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، اللهم وانصرهم على من بغَى عليهم، اللهم واربط على قلوبهم، وثبِّت أقدامهم، اللهم واجعل لهم من كلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، وانصُرهم ولا تنصُر عليهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظلَمة في سُوريا، اللهم عليك بهم فإنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في الطُّغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم اجعل تدبيرَهم في تدميرهم، واجعل دائرةَ السوء عليهم يا قويُّ يا عزيزُ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-31-2012 10:14 PM

سوريا .. الفرَج قادم

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 75/1433هـ بعنوان: "سوريا .. الفرَج قادم"، والتي تحدَّث فيها عن بلاد الشام وما ألمَّ بها من خُطوبٍ ومِحَنٍ وبلايا، وهو يُذكِّرُ المسلمين عامَّةً وأهلَنا فيها خاصَّةً بوجوب الصبر والاحتِسابِ؛ فإن نصرَ الله قريبٌ، وبتمسُّك الأمة بعقيدتها، وتلاحُمها وتراحُمها فيما بينها تُنصَر على أعدائها، ثم ختمَ خُطبتَه بدعَواتٍ مُبارَكاتٍ لإخواننا المُستضعفين في سوريا وغيرها من بُلدان المُسلمين.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، سبحانه وبحمده ابتلَى النفوسَ بالسرَّاء والضرَّاء فزكَّاها واحتثَاها، ورقَّاها واصطفاها.
لك الحمدُ حمدًا يملأُ الأرضَ والسما
كثيرًا غزيرًا ما يُعدُّ ويُحسَبُ
لك الحمدُ يا غفَّارُ ما هلَّ صيِّبٌ
بزاخرِ وبْلٍ فيضُهُ ليس ينْضَبُ

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً ندرأُ بها الفتنَ اعتقادًا وشفاهًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من تصبَّر في النوائبِ فانتصَرَ بفضلِ الله وتلافاها، ومحا معالمَ الظلم والطغيانِ فعفَّاها، اللهم فيا ربِّ صلِّ وبارِك عليه، وعلى آله الطاهرين الميامين أزكى البريَّة قلوبًا وأصفاها، وصحبهِ الكرامِ البَرَرة خيرِ من اعتصَمَ بالشريعة الغرَّاء وتقفَّاها، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين يرجو من الباري رحماته ومُوفَّاها، وسلَّم تسليمًا كثيرًا عديدًا مُبارَكًا مزيدًا.

أما بعد، فيا عباد الله:
خيرُ ما يُوصَى به في أول الأمر وبادئِهِ، وخِتامه وعائِدِه: تقوى الله - عز وجل - في كل الآناء، في الكُرَب واللأواء، والمِحَن والبأساء؛ فتقواه - سبحانه - تكشِفُ كُرَبًا وقلقًا، وتُبدِّدُ فزعًا وفرَقًا، ويأسًا وأرَقًا، وكم تُحقِّقُ نصرًا وألَقًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[الطلاق: 2، 3].
وتمسَّكوا بجَنابِ تقوى ربِّكم
كي تسلَموا من سُخطِهِ وعقابِهِ
وتجنَّبوا سبقَ الخُطى فلكم هوَى
عبدُ الهوى من حِصنِهِ وعُقابِهِ

أمة الإسلام:
في حوالكِ الكُروب، ومعامِعِ الخُطوب، ومُدلهِمَّات الدُّروب، وتحت وطأةِ مناسنِ اللُّغوب التي تعتوِرُ المُسلِمَ إبَّان الشدائدِ والضوائق، والأرزاءِ والعوائق؛ تشرئِبُّ النفوسُ إلى إشراقات الطمأنينة، وبشائرِ الانبلاجِ والسَّكينة، وتتطلَّعُ الأرواحُ إلى أرَجِ الرحمات المُسرِّيَات، وعبَقِ النَّفَحات المُسلِّيَات، ويزدادُ الأمرُ إلحاحًا وتأكيدًا في هذه الآونةِ العصيبة، والحِقبةِ التأريخية اللهيبة التي أحدَقَت بأمتِنا اللهيفَةِ من أطرافِها، وتناوشَتْها المِحَنُ من سِواها وأكنافِها، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21].
أيها المؤمنون:
من استلهَمَ حقائقَ الغِيَر السَّوَالِف، واستنطَقَ دقائقَ الفوادِحِ الخَوالِفِ، وراضَ بصيرتَهُ في رياض الوحيَيْن الشريفين؛ أيقَنَ دون أدنى مَيْن أن المُسلِمَ غرضٌ لفواجِعَ ونوائِب، تذَرُ القلوبَ ذوائِب، سُنَّةُ الله في الخلق ماضية، وحِكمةٌ منه في البرايا قاضية، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ[محمد: 31].
ولنا في إمام الأتقياء - صلى الله عليه وسلم - خيرُ قُدوةٍ وعزاء، والناسُ في صُروفِ المِحَن صِنفان:
من أناخَ رِكابَهُ في جنبِ الله واستكفاه، وتوكَّل عليه ورجاه، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ[الطلاق: 3].
والصِّنفُ الثاني: من إذا ضافَتْه رزِيَّةٌ جَزِعَ وتسخَّطَ، وفي أودِيَةِ اليأسِ اضطربَ وتخبَّطَ، وظنَّ بالله الظنُون، واستصرَخَ ريبَ المَنون، مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ[الحج: 15].
فضاؤُهُ - سبحانه - نافِذٌ صائر، وحُكمُه في البريَّة سائِر، لا رادَّ لما قدَّرَه، ولا مُعقِّبَ لما أبرَمَه ودبَّرَه، وما يمَسُّ المُؤمِنَ من فوادِحَ وضرَّاء، ومِحَنٍ وبأساءٍ فهو لفريقٍ كفَّارةٌ وإمهالٌ، وتذكيرٌ بالرَّغَب والرَّهَب والابتِهال، ولآخرين مَرقاةٌ لدرجاتِ الكمال. فلا يضجَرنَّ المؤمنُ البصيرُ إن عَراهُ خَطبٌ عسير؛ فأثبتُ الناسِ عند الصُّروف وأعظمُهم صبرًا أفضلُهم عند الله منزلةً وقدرًا، وما يبتلِي اللهُ عبدَه إلا ليُطهِّرَه من الذنوب أو يُعظِمَ له أجرًا، وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[البقرة: 177].
وجلَّت حكمةُ الله عن الإعناتِ والتعذيبِ؛ بل هي للاجتباءِ والرحمةِ والتهذيبِ، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19]، فدونَ الشهدِ لا بُدَّ من إبَرِ النَّحْلِ، ودون الرُّطَب سُلَّاءُ النَّخْلِ، وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد: 4].
إخوة العقيدة:
والمؤمنُ راسِخُ الإيمان يُوقِنُ أن الشدائدَ - لا مَحالةَ - إلى تقشُّعٍ وانقِضاء، متى فزِعَ إلى من بيده تصاريفُ القضاء، فكأيٍّ من مكروهٍ وافاه الفرَجُ في طرفَة عينٍ، وتضوَّعَ منه السرورُ دون عناءٍ وأَيْن.
إذا اشتملَت على اليأسِ القلوبُ
وضاقَ لما به الصدرُ الرَّحيبُ
أتاكَ على قنوطٍ منك أمرٌ
يمُنُّ به اللطيفُ المُستجيبُ

معشر المسلمين:
وما يكونُ من المِحَن في الأفراد والذَّوات يُصيبُ أيضًا الأُمَمَ والمُجتمعات، وها هو واقِعُنا الرَّاهِنُ خيرُ شاهدِ عيانٍ وأصدقُ مُنبِئٍ وبُرهان؛ فكم من أُمَمٍ وانِية عزَّت بعد هُمود، ونهَضَت بعد خُمُود، وسادَت بعد جُحُود! وكم من أقوامٍ بطِروا معيشتَهم تحطَّموا في الوجود، وشيَّعَتهم الدعواتُ السَّاخِطاتُ إلى الأرماسِ واللُّحود؛ جزاءً وِفاقًا بما كان منهم من العِنادِ والكُنُود، والإفسادِ الذي طبَّقَ شرُّه السُّهُولَ والنُّجُودَ، وأشباهُهم - دكَّ الله جِباهَهم - تناسَوا في عُتُوِّهم قوةَ الله التي لا ترُدُّها الحُصون، وسطوتَه التي لا تحُولُ دونَها الوُكونُ، وجبرُوتَه الذي لا يعزُبُ عنه الانسِرابُ والكُمُون.
أنَّى كان طاغيةُ الشامِ ويكونُ؟! وإن كان في عُقر القِلاعِ الحَصينةِ المَشيدة، وخلفَ المتارِسِ الشديدة؛ فاللهُ المُنتقِمُ طَليبُه، والديَّانُ الجبَّارُ حَسيبُه؛ جزاءَ بغيِهِ وطُغيانه، وتمرُّده وعُدوانه، فاللهم دمِّر أهلَ الظلم والطُّغيان والعِناد، كما دمَّرتَ قومَ نوحٍ وعاد، وثمود وفرعون ذي الأوتاد.
أتُداسُ أقداسُ الجُدود تعنُّتًا
ومساجِدُ التقوى تُهانُ وتُزدَرَى
ودمُ الثَّكَالَى واليَتَامَى مُهرَقٌ
يجري على أشلائهم مُتحدِّرًا

وإزاءَ تلك العظائمِ القواصِم، والويلاتِ الحواطِم، تتوهَّجُ في الأفئدةِ أقباسُ الغضبِ والحمِيَّة، وتتردَّدُ في نفوسِنا الكَلْمَى لوعَاتُ الفَجيعةِ الدموِيَّة حِيالَ أولئك الجَلاوِزَةِ العُتاة، والجَعاظِرَة القُساة، الذين تأجَّجَت في عيونِهم جُدَى التدمير والتَّنكيل، واسوَدَّت في قُلوبهم جِمارُ الإبادةِ والتَّقتيل، رُعونةٌ تجاوَزَت النَّظير، وصَفاقَةٌ فاقَت المَثِيلَ، مما يتطلَّبُ - وعلى الفورِ - وقفَ العُنفِ وإراقةِ الدماءِ، ويُؤذِنُ بكارثةٍ إنسانيةٍ لن ينسَها التأريخُ المُعاصِر.


وإن دماءً أُهدِرَت سوف يصطلِي
بموَّارها الطُّغيان والمارِدُ النَّكْرُ
فإن يجرِي في الأعماقِ تيَّارُ ثأرها
فقد ضاقَت الأرواحُ وامتلأَ الصَّدرُ

أيها المسلمون:
وفي كتابِ ربِّنا أعظمُ العِبَر والدُّروس، والعِظاتِ التي تُثبِّتُ النفوس، نفوسَ الأعِزَّة القِلَّة، والأبطال الأجِلَّة، الذين يُقارِعون الطُّغاة في دمشق الصامِدة، وحلَبَ الشَّهباء، وحِمصَ الصابِرة، وإدلب وحماةَ الباسِلة، ودَرعا وبابا عمرو، وسِواها من تلك الرُّبُوع الشامخة؛ فدمشقُ دمعٌ لا يُكفكَف، وآهاتٌ لا تُخفَّف، لكنَّ بشائرَ النصر تلُوح، وراياتِهِ خفَّاقةٌ تُرفرِف، مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ[الحشر: 2]، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ[البقرة: 249].
الله أكبر، الله أكبر! إنه النصرُ المُبينُ المُؤزَّر؛ فاللهَ اللهَ في الصبر والثبات، فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال: 45، 46].
إخوة الإسلام:
وإن المقاصِد العظيمة والغاياتِ السَّامِية النَّبيلة لإخواننا في سُورية المُضمَّخة بنور العقيدة لتتَهاوَى حِيالَها شُمُّ المتارِسِ والمَعاقِل، ويُؤازِرُها كلُّ غَيُورٍ عاقل، ولا يُصادِمُها إلا فَدْمٌ أعيَى من باقِل؛ كيف وشِعارُهم: الله أكبر، ولن نركَعَ إلا لله، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ[الحج: 40]، إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد: 7]،
ونِعْمَ الشِّعار! وثَغرُهم دارُ الشامِ، ونِعمَ الدَّارِ! أولئك الذين يستجمِعون أخلاقَ النصر وأسبابَه، وايْمُ الله هم المُنتصِرون، والذين يستلئِمون بأخلاقِ الهزيمةِ هُمُ المُنهزِمون.
يا رِجالَ الإسلام هُبُّوا وكونوا
دائمًا للبُغاةِ بالمِرصادِ
لا يرُدُّ الحُقوقَ إلا إباءٌ
يصطلِي من أُوارِهِ كلُّ عادِي

أمة النصر والأمجاد:
وإننا لنتفاءَلُ - بإذن الله - بانبِلاجِ صُبح النصر المُبين، في كل مكانٍ على الضِّرابِ والآكام لإخواننا في بلاد الشامِ الأبِيَّة، هاتِفين: صَبرًا صَبرًا .. فإن مع العُسرِ يُسرًا، إنَّ مع العُسر يُسرًا، ومع اليُسر نصرًا، وطُوبَى لكم طُوبَى، وستبرُقُ بين بيارِقِكم بوعدِ الله بوارِقُ الفجر، وتباشيرُ النصر، وسيُسطِّرُ التأريخُ بمِداد البُطُولةِ ملحَمَة العِزَّة والفخر؛ فالبغيُ مهما زمجَرَ فإلى تتبيرٍ وزَوالٍ، ومهم دمَدَمَ فإلى غُبُورٍ ودَوالٍ.
يا ربِّ! حِمصٌ مُزِّقَت أوصالُها
والسِّترُ يُهتَكُ في رُبوعِ الشَّامِ
فاجعَل عيونَ المؤمنين قريرةً
بدمشق ترفعُ رايةَ الإسلامِ

ألا بحبلِ الله فاستعصِموا، وبالعزيز القدير استنصِروا، تُنصَروا وتستبصِروا، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة: 214]، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ، أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ.
بارك الله ولي ولكم في الوحْيَيْن، ونفعني وإياكم بهَدي سيدِ الثَّقَلَيْن، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المُسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[يوسف: 100]، وتوبوا إليه واستغفِروه؛ إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

ابوحاتم 03-31-2012 10:14 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله العزيز الديَّان، ناصِر المُستضعَفين من أهل الإيمان، وقاصِم جبابِرة البَطشِ والطُّغيان وإن طالَ الأَوَان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه، نهَى العالمين عن البَغيِ والعُدوان، وصدَّ المارِدين بالحُجَّة والسِّنان، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطاهرين ساداتِ الزمان، وصحبِهِ الأُلَى كانوا من الليل القُوَّامَ والرُّهبان، ومن النَّهار الدُّعاةَ والفُرسان، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حقَّ تقواه، ولتَهْنِكم بشائرُ النصر - بإذن الله -؛ فالظلمُ مرتَعُه وَخيم، والظالمُ منبوذٌ لئيمٌ، ومصرَعُهُ - لا محالةَ - وشيكُ الذَّميم، واستيسقنوا - رحمكم الله - أن النصرَ مع الثباتِ والاصطِبار، والظَّفَرَ قرينُ الاعتِصام بالواحدِ القهَّار.
إخوة الإيمان:
وهذه المرحلةُ الحرِجَة في مسارِ أمتنا مطِيَّةٌ ذَلول لمزيدِ التمالُئِ المُستذئِب من قِبَلِ المُتربِّصين المَكَرة، والشَّانِئين الغَدَرة، وهذا التمحيصُ شطر الاجتِباء والتخليص هو المِسبارُ الكاشِفُ لمقدار ثباتِ الأُمَّة وتلاحُمها، واتحادِها وتراحُمِها، ومن المُثُلِ والعِبَر التي تُزجَى وتُساقُ: ما أصابَ المُسلمين يوم أُحُدٍ من البلاء، ورغمَ ذلك ظهرَ دينُ الله وعَزَّ، وانتشرَ وبَزَّ.
وتلك المُثُلُ والقِيَمُ هي التِّرياقُ الشافِي، والبَلْسمُ الوافِي للحقائق المُشرِقة التي تسيرُ على نُورِها وهُداها الفُلولُ المُسلِمةُ في أرض الشام، وفلسطين ضدَّ الصهايِنة اللِّئامِ، وملءُ قلوبِهم وقلوبِنا: النصرُ للإسلام، والفوزُ للإسلام، والمجدُ للإسلام، بإذن الله الملكِ العلَّام، وإن تكالَبَ عليهم ضِئضِئُ الإرهاب والإجرام، فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[الروم: 47]، حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ[يوسف: 110].
فإيمانُنا بالنصرِ رغمَ عُتُوِّكم
كإيماننا بإلهِنا القادِرِ الفَرْدِ
متى صدَقَت منَّا النَّوَايا وأخلَصَت
فنحنُ مع النصرِ المُبينِ على وعدِ

وبعدُ، معاشر الأحِبَّة:
فلكَم تقتضِينا أُخُوَّتُنا القَعْساء، وعقيدتُنا الشمَّاء مُؤازَرَةَ أهالينا في سُورية الفَيْحاء، وفلسطين الإِباء؛ ليُحقِّقوا الأمنَ والانتِصار، وحقنَ الدماء والاستِقرار، ولو تجرَّعنا لأجل ذلك كُؤوسَ الصبرِ المِرار، وأن نصطبِرَ على ما أصابَنا، وألا نشكُو إلا إلى الله أوصَابَنا، فسُودُ النوائِب لطالَما أسفَرَت عن نَّيْلِ الأماني والرَّغائِب، والخَطْبُ الجَلَلُ بريدٌ لأزكى الأمَل، بإذن الله - عزَّ وجل -، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ[آل عمران: 139- 141].وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على سيد الأنامِ، وقُدوةِ أهل الإسلام، الصابرِ على المِحَن بتوكُّلٍ على الله واستِعصامٍ؛ فقد أمرَكم بذلك المَولَى في كتابِهِ عزيزِ النِّظام، فقال تعالى قولاً كريمًا بديعَ الإحكام: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
وفي "جامع الترمذي" عن أُبَيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسول الله! كم أجعل لك من صلاتي؟ قال: «ما شئتَ». قلتُ: أجعلُ لك صلاتي كلَّها؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: «إذًا تُكفَى همَّك، ويُغفَرُ لك ذنبُك».
ومحبَّةُ الهادي الصلاةُ عليه من
ثغرٍ ومن قلبٍ دُعاءً حاضِرًا
صلَّى عليك اللهُ في قُرآنِهِ
والمؤمنونَ أماجِدًا وأكابِرًا

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على الرحمة المُهداة، والنِّعمةِ المُسداة: نبيِّنا محمدِ بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في دُورِنا، وأصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعبادِ يا مَن له الدنيا والآخرةُ وإليه المعاد.
اللهم انصُر إخواننا المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم انصُر إخواننا المُستضعَفين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في سُوريا، اللهم انصُر إخواننا في بلاد الشام، اللهم انصُر إخواننا في بلاد الشام، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، اللهم اشفِ مرضاهم، وعافِ جرحاهم، وفُكَّ أسراهم، اللهم عافِ مُبتلاهم، اللهم اقبَل موتاهم في الشُّهداء يا سميعَ الدُّعاء.
اللهم عليك بطاغية الشام ومن مالَأه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم عليك بالصهاينة المُعتدين فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصَى من بَراثِنِ اليهود المُعتدين، والصهاينة المُجرمين، يا قويُّ يا عزيزُ، يا جبَّارُ يا مُنتقِم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصُر المُسلمين في كل مكان على عدوِّهم وعدوِّك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنهم مظلومون فانصُرهم، اللهم إنهم مظلومون فانصُرهم، اللهم إنهم مظلومون فانصُرهم، يا مُجيبَ دعوة المُضطرين، يا كاشِفَ السُّوء، يا ناصِر المُستضعفين، يا مُنجِيَ المؤمنين.
نَدرأُ بك اللهم في نُحورِ أعدائهم، ونعوذُ بك اللهم من شُرُورهم، اللهم عليك بأعدائهم وخُذهم أخذَ عزيزٍ مُقتدرٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمُسلمين والمُسلِمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألِّف بين قلوبهم، واهدِهم سُبُل السلام، وجنِّبْهم الفواحِشَ والفِتَن ما ظهرَ منها وما بطَنَ.
اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، اللهم ارحم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين الأحياءِ منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 04-09-2012 12:54 AM

لماذا الخوف من الإسلام؟
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 14/5/1433هـ بعنوان: "لماذا الخوف من الإسلام؟"، والتي تحدَّث فيها عن الإسلام وفضله في نشر الخير والعدل للناس جميعًا، وفيها إيقاظٌ لذوي الأربابِ والعقولِ بقراءة التاريخِ الإسلاميِّ قراءةً صحيحةً حِياديَّة للتعرُّفِ على عِظَمِ الإسلام وشأنِ أهله منذ خمسة عشر قرنًا، وقد أثارَ سُؤالًا يُرجَى من السياسيين والإعلاميين وغيرِهم الجوابُ عليه، ألا وهو: لماذا الخوف من الإسلام؟.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله جعل دينَ الإسلام خاتمةَ الأديان وأتمَّه، وجعل من انضَوَى تحت لوائهِ من خيرِ أُمَّة، الحمدُ لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا مُعقِّب لحُكمه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون[آل عمران: 102].
اتقوا الله وارجُوه، وخافوه واخشَوه حقَّ خشيته؛ فليس الخائفُ من الله من يعصِرُ عينيه، إنما الخائفُ من تركَ شهوتَه من الحرام وهو يقدِرُ عليه، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ[الرحمن: 46].

عباد الله:
في حديث قصةِ بيعةِ العقبةِ، لما اجتمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - سِرًّا بالأنصار ليُبايِعوه على النُّصرة، روى لنا كعبُ بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: كان أول من ضربَ على يدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البراءُ بن معرور، ثم تتابعَ القومُ، فلما بايعَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صرخَ الشيطانُ من رأس العقَبَةِ بأبعَدِ صوتٍ سمعتُه قطُّ: يا أهلَ الجُباجِب! - والجُباجِبُ: المنازِلُ -، هل لكم في مُذمَّمٍ والصُّباةُ معه، قد أجمعوا على حربِكم؟!
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هذا أزَبُّ العقَبَة، هذا ابنُ أذْيَب، اسمَع أيْ: عدُوّ الله: أما واللهِ لأفرُغَنَّ لكَ ..» الحديث؛ رواه الإمام أحمد، وغيره.
أيها الناس:
هذه أولُ صيحةِ تخويفٍ من الإسلام، ابتدأَها شيطانٌ من شياطين الجنِّ، وصوَّرَ في شائعتِهِ وذائعَتِهِ تلك أنَّ هذه الولادةَ المُبكِّرةَ لكِيانِ الإسلام إنما هي اجتماعٌ لحربِ الناسِ.
وعلى امتِدادِ القُرونِ التالِيات لم يزَلْ في الإنسِ من يرِثُ تلك الدعوَى ويُذيعُها إما عن جهلٍ أو تجاهُلٍ، ولم يزَل الخوفُ من الإسلام والتخويفُ منه حاضِرًا في القراراتِ العالمية والمحافِلِ الدولية؛ فضلاً عن وسائل الإعلام.
وما زال السياسيُّون والإعلاميُّون يُصِرُّون على تثبيتِ صُورةِ الإسلام أنه ثقافةُ عُداونية، وأن التسامُحَ ثقافةُ الغربِ، ولو نظَروا بعدلٍ وإنصافٍ لرأَوا في أُصول الإسلام ومبادئِهِ أكملَ القِيَمِ والمُثُلِ في العدلِ والتسامُحِ.
إن لهذه الفِريَةِ - التي هي الخوفُ من الإسلام - آثارًا سلبيَّةً على المُسلمين وعلى غيرِهم؛ فهي تهدِمُ جُسُورَ الثِّقَةِ والتعاوُن، وتُحطِّمُ العلاقاتِ الدوليةَ وقيامَ المصالحِ بين بني البشرِ، وتُغذِّي جُذورَ العداء والإهراب، وتُمثِّلُ تهديدًا وإنكارًا للحقوق المُتساوية، والتفرقةِ على أُسُسٍ دينيَّةٍ وعُنصريَّة، إضافةً إلى المُضايَقات والعُنفِ، والقُيُودِ على الحريةِ الشخصيةِ، كما أنه تشويهٌ للحق الذي جاءَ من عندِ اللهِ.
ووصلَ الأمرُ بسببِ فِريَةِ التخويفِ من الإسلام إلى التحريضِ وإثارةِ الأحقادِ الدينيَّة، وتعدَّى البعضُ إلى تدنيسِ وإهانةِ المُقدَّسات الإسلامية، وانتهاكِ الحُرُماتِ الدينيَّة؛ بتطاوُلٍ على حُرمةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أو امتِهانٍ للقُرآنِ الكريم، وسنِّ القوانين ضدَّ مظاهِرِ حجابِ المرأة ونقابِها، ونشرِ رُسوماتٍ ساخِرةٍ بالصُّحُفِ ووسائل الإعلام تُسيءُ إلى المُسلمين، وربطِ صُورِ المُسلمين ومظاهِرِهم بموضوعاتٍ تتحدَّثُ عن الإرهاب.
ولا يزالُ انتماءِ فردٍ أو شعبٍ إلى الإسلام سببًا في فشلِ قضاياه، وضياعِ حُقوقهِ، وردِّ مطالبِهِ.
فالخوفُ من الإسلام وراءَ مظلَمَة فلسطين ودفاع القُوَى عن الغاصِبِ ستِّين عامًا، وتبريرِ الظلمِ المُستمر، واسترخاصِ دماءِ الفلسطينيين، ومُصادَرة أراضيهم.
والخوفُ من الإسلام وراءَ مواقفِ الرِّيبَةِ والعِداءِ لكلِّ مُحاولاتِ الشُّعوبِ لاختيارِ قرارها التي تعيشُ به، وإنك لتأْسَى حين تجِدُ الكثيرين ينظرون بتسامُحٍ كبيرٍ إلى دِياناتٍ وثنِيَّة، ولكن في حالةِ الإسلام فإن ردَّ الفعلِ تِجاهَه لا يكونُ عادةً عقلانيًّا، وإنما يكونُ عاطفةً سلبيَّةً عارِمةً.
وقد يتمُّ التأخُّرُ في نُصرة المكروبين، والتردُّدُ في إنقاذ المظلومين ممن ظلمَهم لا لشيءٍ إلا الخوف من قيامِ قائمةٍ للإسلام، ولا شكَّ أن للموروثات الثقافيةِ أثَرًا في تكوينِ هذا الاتِّجاهِ لدى الآخرين ضدَّ الإسلام، يُغذِّيه الإعلامُ المُغرِضُ، والسياساتُ الجائِرَةُ، حتى حذَّرَ الأمينُ الحاليُّ للأمم المُتَّحِدة - مُنصِفًا - بقوله: "إن موجةَ التخويفِ من الإسلامِ ترقَى إلى مرتبةِ المُناهَضَةِ العُنصريةِ لهذا الدينِ". ولقد قالَ مثلُها من قبلُ سلَفُه على منبَرِ الأُمم المُتَّحِدة.
إن على عُقلاء العالَم أن يقِفوا بإنصافٍ وعدلٍ أمام هذه القضيةِ الخطيرةِ، والتي لا تُجدِي سوَى مزيدٍ من الصِّراعاتِ والخِلافِ، وإن الجهلَ بالإسلام وتعاليمه وأخلاقيَّاته سببٌ رئيسٌ للخوفِ منه، والإنسانُ يخافُ ما يجهلُهُ.
أيها الناس:
إننا حين نُقرِّرُ ما سبقَ فإننا لا نُقرِّرُه في سِياقِ التجييشِ أو نتئِ الجِراحِ، وإنما ليعلَمَ الكثيرُ من بُسَطاءِ العالَمِ والأحرارِ مُقدارَ تغييبِ وعيِهم عن حقائقِ التاريخِ وسِياقِ الحوادِثِ، وأنهم كثيرًا ما يقِفون في الموقفِ الخطأِ الذي لا يتَّسِقُ مع ما يُفاخِرون به من قِيَمٍ ومُثُلٍ وصَلَ لها الإنسانُ في ألفِيَّته الثالِثَة.
لماذا الخوفُ من الإسلام؟
فلم يكن المُسلِمون مسؤولين أبدًا عن اشتِعالِ حربَيْن عالميَّتين قُتِل في الأولى سبعةَ عشر مليونًا من البشر، وفي الثانية خمسين مليونًا عَدا المُصابين، والدمارُ الهائلُ في البيئةِ والمُقدَّراتِ البشرية.
ولم يستعمِرِ المُسلِمون العالَمَ، ولم يُسخِّروا شُعوبَه لاستنزِافِ خيراتِ تلك الشُّعوبِ ليستمتِعَ بها المُستعمِرُ، ولم يُقِمِ الإسلامُ في تاريخه الطويلِ محاكمَ تفتيشٍ لإجبارِ الناسِ على تغيير دينِهم؛ بل إنه على امتِدادِ خمسةَ عشر قرنًا من بَسطِ الإسلام سُلطانَه لم يزَلْ في بلاد أصحابُ مِلَلٍ ونِحَلٍ لهم فيه معابِدُ وكنائِسُ لم يتعرَّض لها أحدٌ، ولا زالت تلك الأقلِّيَّاتُ مُتعايِشَةً مع المُسلمين على أرضِ الإسلامِ حتى اليوم.
ولك أن تنظُرَ في المواقفِ العالمية اليومَ لترى كيف تُغلَّبُ المصالِحُ الضيقةُ على المبادئِ والقِيَمِ، وكيف يُسوَّغُ القضاءُ على شُعوبٍ لأنهم مُسلِمون، أو خشيةَ أن يحصُلَ المُسلِمون على حُقوقهم الإنسانية في بلدهم وليس خارِجَه!
إنه لموقفٌ مُخجِلٌ أن يُبادَ شعبٌ ويمتنِعَ العالَمُ عن القيامِ بواجبِهِ الدوليِّ والأخلاقيِّ؛ لأنهم مُسلِمون أو سُنَّةٌ!
هل هذه قِيَم؟ هل هذه مبادئ؟ ثم يُتَّهمُ الإسلامُ بعد ذلك بالتمييز العُنصريِّ، وهذا يهُزُّ ثقةَ العالَمِ أن العلاقات الدولية المُعاصِرَة قائمةٌ على المصالِحِ القومية لا على الأخلاقِ والمبادئِ والقانُونِ إذا لم يتَّفِق مع المصالِح.
وفي المئةِ عامٍ السالِفة، والتي نشأَت بها مُنظَّماتٌ تُعنَى بالإنسانِ وحقوقِهِ، وتحترِمُ ثرواتِهِ وأراضيه لم يُسجِّلُ التاريخُ أن بلدًا مُسلِمًا غزَا بلدًا غيرَ مُسلمٍ، في حين أن العكسَ حاضِرٌ بكلِّ ألَمٍ في المشهَدِ العالميِّ، حتى إن الشُّبهةَ أو مُجرَّدَ التُّهمة كافٍ لغزوِ بلدٍ مُسلمٍ وقتلِ مليون من أبنائه، ونهبِ ثرواتِهِ، وتدميرِ مُقدَّراته، والاعتداءِ على تاريخِهِ وحضارتِهِ، ثم يتبيَّنُ أن الشُّبهةَ غيرُ صحيحةٍ، ويمُرُّ الحالُ بغيرِ اعتذارٍ ولا تعويضٍ.
لقد نجحَ الإعلامُ العالميُّ في تصويرِ انتِفاضَةِ الذبيحِ بأنها همَجِيَّة، فانشغَلَ الناسُ بلَومِ الذَّبيحِ ونسُوا الذابِحَ!
لماذا الخوفُ من الإسلام؟
وهو يدعُو البشرَ أن يتراحَموا فيما بينهم، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء: 1].
لقد ألغَى الإسلامُ الطبقِيَّةَ والعُنصريَّةَ في المُجتمع، في حين أن أقوى وأكبر دولةٍ غربيةٍ في الحاضِرِ لم يصِل عُمرُ إلغاء الطبقيَّة والعُنصريَّة فيها خمسين عامًا، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات: 13].
لماذا الخوفُ من الإسلام؟
وأولُ حقوقٍ للإنسان أُرسِيَت كانت تحتَ رايتِهِ، إن الإسلامَ هو المنهجُ الأشدُّ وُضوحًا وصراحةً في نقضِ الاستِبدادِ والتجبُّر والطغيان، ليس من الناحيةِ السياسيةِ فحسب؛ بل لأنه يعُدُّ هذه الجرائِمَ مُناقِضَةً لجوهرِ الدينِ الحقِّ، وهو توحيدُ الله - عز وجل -، وفي القُرآن منهجٌ مُتكاملٌ لنقضِ التجبُّر والطغيان وإبطالِهما.
لماذا الخوفُ من الإسلام؟
وقد حفِظَ حتى للحيوان حقَّه، فلا يُكلَّفُ فوقَ طاقته ولا يُجاعُ، ولا يُفرَّقُ بين شاةٍ وولدِها، ولا تُؤخَذُ فِراخُ طائرٍ من عُشِّه.
لماذا يخافُ الناسُ من الإسلام؟ أيخافُونَه لأنه يُحرِّمُ عليهم مُتَعَ الحياة وزينتها وجمالَها؟!
كلا، فالإسلامُ شدَّدَ النَّكيرَ على الذين يُحرِّمونَ زينةَ الله التي خلقَها للناس، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ[الأعراف: 32]، إن الإسلامَ قد كفَلَ حقَّ الحياةِ ومُتعَها ومباهِجَها لكل أحدٍ، فلا خوفَ من الإسلام ولا جَزْع.
لماذا الخوفُ من الإسلام؟
وقد قفَزَ بالحضارةِ في فتَرَةٍ من التاريخ قفَزَاتٍ كان لها ما بعدَها، وأكمَلَت أُممٌ بعدها المسيرَ.
لماذا يُصوَّرُ الإسلامُ على أنه يحمِلُ بُذُورَ العُنفِ والتعصُّبِ، بينما التسامُحُ والخُلُقُ الكريم مبدأٌ إسلاميٌّ أصِيلٌ؛ بل وردَ في القرآن الكريم ذِكرُ الرحمةِ والرأفَةِ والعفوِ والصفحِ والمغفرةِ والصبرِ أكثر من تسعمائةِ مرَّة، عدا ما أُثِر عن النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ فهل يُوجد دينٌ، أو ثقافةٌ أعطَى عنايةً كهذه في التربيةِ على التسامُحِ؟!
على أن التسامُحَ لا يعنِي الذلَّ والهوانَ، أو الخُنوعَ للظلمِ، والاستِكانةَ للظالمين؛ بل إنه توازنٌ يُعبِّرُ عنه القرآنُ الكريمُ بقوله: وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ[الشورى: 39- 43].
والتسامُحُ بمعنى: البرِّ ومُقابلَةِ السيئةِ بالحسنة أمرٌ مطلوبٌ ومرغوبٌ ما لم يترتَّب عليه إعانةٌ على الظلمِ، أو خُذلانٌ للمظلوم، أو انتِهاكٌ لمبدأ العِزَّة لله ولرسوله وللمؤمنين.
لقد جاء الإسلامُ بحُسن الخُلُق، وبكل تفاصيلِ السلوكِ الحسنِ تِجاهَ الإنسان والبيئة، كما جاء مُنسجِمًا بين الجانبِ الرُّوحيِّ وجانبِ المادَّة.
عباد الله:
إن حقيقةَ الأمرِ أن التخويفَ من الإسلام صناعةٌ اصطنَعَها أقوامٌ عمَدوا لصدِّ الناسِ عن الإسلام، أو اللغْوِ في حقائقِهِ وقِيَمِه، وشعائرِهِ وشرائعِهِ؛ لأغراضٍ سياسيةٍ وعُنصريَّةٍ، وأهواءٍ شهوانيَّة، وإلا لو تُرِكَ الناسُ وشأنهم لو تُرِكوا لفِطَرهم وضمائرِهم وعُقولهم المُستقلَّة، لو تُرِكوا دون تحريضٍ أو تعبئةٍ ضدَّ الإسلام لَمَا خافُوا منه قطُّ.
إن الإسلامَ ليس دينَ العربِ وحدَهم، وخيرُه ليس حِكرًا على المُسلمين وحدَهم؛ بل هو رحمةٌ لكل الناسِ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
والواجبُ على المُسلمين أن يتمسَّكوا بمبادِئِه وقِيَمِه، وأن يُبيِّنوا للناسِ حقيقتَهُ تمثُّلًا وتطبيقًا، ودعوةً مُخلِصةً، وليس ادِّعاءً وتصنُّعًا.
ولا خوفَ على الإسلامِ؛ فاللهُ حافِظٌ دينَه، لكنَّ الخوفَ على من فرَّطَ فيه أو تهاوَنَ، أو صدَّ عنه وأعرضَ، فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الزخرف: 43].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

ابوحاتم 04-09-2012 12:55 AM

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها الناس:
يُساقُ ما سبقَ، وقنواتُ الفضاءِ تُمطِرُنا بمشاهدِ القتلِ والترويعِ، والتي تجري على شامِنا الحبيبِ "سُوريا"، وقد أمِنَ سفَّاحُها من انتِهاضِ الأُمم - خُصوصًا الغربي والشرقي منه -، ولم تعُدْ نشرُ تلك المشاهد تُزعِجُه؛ بل ربما احتسَبَها دِعايةً لإرهابِ شعبِهِ، لم يعُدْ كلُّ ذلك يُزعِجُه ما دام أن طاغيةَ الشامِ حذَّرَ أن يخلُفَه المُسلِمون في الحُكمِ، واقتنعَت أُممٌ بذلك التحذيرِ، ولم يدْرِ المُغرَّرُ بهم من أُمم الأرضِ أن المُسلمين - والسنةُ منهم خُصوصًا - لن يكونوا خَلَفَه فحسبُ؛ بل كانوا هُم سلَفَ حزبِهِ لقُرونٍ.
وكانت أعزَّ ما كانت الشامُ وأرغَد، وآمنَ وأرقَى حينما كانت تحت حُكم المُسلمين، وما عرفَت الشُّؤمَ إلا بظهُور الطُّغاة.
وإن الأملَ في اللهِ كبيرٌ، وإذا انقطَعَ المَدَدُ من الأرض فُتِحَت أبوابُ السماء، وإن كل نشاطٍ سياسيٍّ أو فكريٍّ يجلُو ذلك الغَبَشَ لمحمودٌ ومشكورٌ، ومنه ما تقومُ به هذه البلادُ؛ فقد ارتفعَ صوتُها في كل محفَلٍ يُعقَدُ للنظر في قضيةِ المظاليمِ من الشُّعوبِ والدول، تُنادِي بالجدِّيَّة في رفعِ الظلمِ، والحزمِ في الأخذِ على يدِ الظالمِ، والفأْلِ حين النظرِ في العواقِبِ، والطمأنَةِ من الخوفِ.
عسى الله أن يُنجِحَ المساعِي الصادِقة، ويُوفِّقَ الجُهودَ المُخلِصة، ويجلُوَ غشاوَةَ الأبصار، ويُديلَ الأيامَ على كل مُتكبِّرٍ جبَّارٍ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ[القصص: 5].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى والرسول المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، وجازِهِ خيرَ الجزاءِ على نُصرته للمظلومين، وثباتِهِ على مواقفِ العدلِ والحقِّ، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَله مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا وفلسطين، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجَك القريب، اللهم فرَجَك القريب، اللهم فرَجَك القريب.
اللهم إنا نستنزِلُ نصرَك على عبادك المُستضعفين المظلومين، اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماكَ بهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم هيِّئ لهم يدًا من الحقِّ حاصِدةً تستأصِلُ شأفَتَهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَك.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا.
اللهم لك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا فيه، اللهم لك الحمدُ على ما أنعمتَ به علينا من نزولِ الأمطار، اللهم كما أنزلتَ علينا المطرَ اللهم فبارِك لنا فيما رزقتَنا وزِدنا يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم عُمَّ بالأمطار بلادَ المُسلمين، اللهم اجعل ما أنزلتَه قُوَّةً لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين، اللهم لك الحمدُ كثيرًا كما تُنعِمُ كثيرًا، اللهم زِدنا وبارِك لنا، اللهم زِدنا وبارِك لنا، اللهم زِدنا وبارِك لنا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 04-16-2012 10:56 PM

التحذير من أكل المال الحرام
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 21/5/1433هـ بعنوان: "التحذير من أكل المال الحرام"، والتي تحدَّث فيها عن أكل المال الحرام، وقد حذَّر من تعاطِيه والتعامُل به؛ لما وردَ في شأنه من التحريم في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله يحبُّ الطيبَ الحلال، ويُبغِضُ الخبيثَ الحرام، أحمده - سبحانه - حمدًا نرجُو به المزيدَ من الإكرام والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ القدُّوس السلام، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله خاتمُ النبيين سيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -؛ فتقوى الله خيرُ زاد السالكين، وأفضلُ عُدَّة السائرين إلى رب العالمين.
أيها المسلمون:
حبُّ المال والتعلُّق بطلبِه والشَّغَفُ بجمعه، والحِرصُ على تنميته، وداومُ العملِ على حراستِهِ من الغوائِلِ وكذا صيانتُهُ من الآفاتِ مركوزٌ في الفِطَر، مُستقرٌّ في العقول، مُستحكِمٌ في النفوس.
وفي بيان قوة هذا الحب، وكمال هذا التعلُّق، وتمام هذا الحِرص جاء قولُه تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا[الفجر: 20]، وقوله - عزَّ اسمه - في وصف الإنسان: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ[العاديات: 8]، وقول نبي الرحمةِ والهُدى - صلوات الله وسلامه عليه: «قلبُ الشيخِ شابَ على حبِّ اثنتين: حبِّ العيش - أو قال: طول الحياة -، وحبِّ المال»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وقد كان هذا الحبُّ الشديدُ جديرًا بأن يذهبَ بصاحبه كلَّ مذهبٍ، خليقًا بأن يُركِبَه كلَّ مركَب، لبلوغ غايتِهِ في إصابةِ أوفَى نصيبٍ منه، غير أن الله تعالى لم يدَعْه وحيدًا أمام سِحر بريقِه، أسيرًا لفتنتِه وإغرائه، يخبِطُ خَبْط عشواء في جمعه وإنفاقه؛ بل أقامَ له معالِمَ، وحدَّ له حدودًا، ورسَمَ له طريقَ سيرٍ يُفضِي بسالكِهِ إلى خير غاية، وينتهي به إلى أكمل مقصود.
وهو طريقٌ دلَّ عليه ما جاء في كتابِ ربنا وسنة نبيِّنا - صلوات الله وسلامه عليه - من بيِّناتٍ في آياتٍ مُحكَمات، وسُننٍ واضِحاتٍ، وفي الطليعَةِ من ذلك جاء الثناءُ على المالِ الصالحِ يُرزَقُه العبدُ الصالحُ المُطيعُ لله، المُستقيمُ على أمره، الحافظُ لحدوده، في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عمرو! نِعْمَ المال الصالحِ مع الرجلِ الصالحِ»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وابن حبان في "صحيحه" من حديثِ عمرو بن العاص - رضي الله عنه -.
وإنما يكونُ صلاحُ هذا المالِ بحِلِّ أصله - وهو حديثٌ بإسنادٍ صحيحٍ - وإنما يكونُ صلاحُ هذا المال بحِلِّ أصله، وطِيبِ كسبِه، ومشروعيَّةِ مصدره، وهذا يستلزِمُ التنزُّه عن أكل الحرامِ الخبيثِ الذي يبُوءُ آكِلُه بإثمه، ويكونُ وبالاً عليه، جاء في الحديثِ - الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، والترمذي في "جامعه"، واللفظ لمُسلمٍ؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ طيِّبٌ لا يقبَلُ إلا طيِّبًا، وإن اللهَ أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المُرسَلِين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ[المؤمنون: 51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ[البقرة: 172]. ثم ذكرَ الرجلَ يُطيلُ السفرَ، أشعثَ أغبرَ، يمُدُّ يديْه إلى السماء: يا ربِّ، يا ربِّ! ومطعمُه حرام، ومشربُه حرام، وغُذِيَ بالحرام، فأنَّى يُستجابُ لذلك؟!».
وهذه إشارةٌ - كما قال أهلُ العلمِ بالحديثِ - إلى أنه لا يُقبَلُ العملُ ولا يزكُو إلا بأكل الحلال، وأن أكلَ الحرامِ يُفسِدُ العملَ ويمنعُ قبولَه. والمرادُ أن الرسلَ وأممَهم مأمورون بالأكل من الطيبات التي هي الحلال، وبالعملِ الصالح، فما دام الأكلُ حلالاً فالعملُ صالحٌ مقبولٌ، فإذا كان الأكلُ غيرَ حلالٍ فكيف يكونُ العملُ مقبولاً؟!
ولذا كانت الصدقةُ بالمال الحرام مردودةً غيرَ مقبولة، كما جاء في "صحيح مسلم" - رحمه الله - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يقبَلُ اللهُ صلاةً بغيرِ طُهور، ولا صدقةً من غُلُول» - وهو الأخذُ من الغنيمةِ قبل قِسمتها على مُستحقِّيها -.
وفي "صحيحي" ابن خزيمة، وابن حبان، و"المستدرك" للحاكم بإسنادٍ حسنٍ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أدَّيتَ زكاةَ مالك فقد قضيتَ ما عليكَ، ومن جمعَ مالاً حرامًا ثم تصدَّقَ به لم يكُن فيه أجرٌ، وكان إصرُه عليه».
وفي "مراسيل أبي داود" - رحمه الله - بإسنادٍ حسنٍ؛ عن القاسم بن مُخيمِرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من اكتسبَ مالاً من مأثَم فوصلَ به رحِمَه، أو تصدَّقَ به، أو أنفقَه في سبيل الله؛ جُمِعَ ذلك كله جميعًا فقُذِفَ في جهنم».
وإن الأمرَ ليس مُقتصِرًا - يا عباد الله - على هذه الآثار مع شدَّتها، وعِظَم التضرُّر بها؛ بل إنه ليربُو على ذلك، ويبلُغُ الغايةَ حين ينتهي بصاحبِهِ إلى نار الجحيم يوم القيامة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه ابن حبان في "صحيحه" بإسنادٍ صحيحٍ عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا كعب بن عُجرة! إنه لا يدخلُ الجنةَ لحمٌ نبَتَ من سُحْتٍ».
والسُّحْتُ هو الحرام في كل صُوره؛ كأكل الرِّبا، وأكل مال اليتيم، وأخذ رُشَا، ومهر البغِيّ - وهو ما تُعطاهُ لقاءَ بِغائِها -، وحُلوان الكاهن - وهو ما يأخُذه أجرًا لكِهانته -، وما يُؤخَذ أجرًا لبيع المُسكِرات والمُخدِّرات، وكافة أنواعِ البُيُوع التي حرَّمَها الله ورسولُه؛ من مطعوماتٍ ومشروبات، وملبوسات، ومُتَّخذاتٍ للتزيُّن، ونحوها مما هو مبسوطٌ مُفصَّلاً بدليله في كتب أهل العلم.
وفي "جامع الترمذي" - رحمه الله - بإسنادٍ صحيحٍ من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يا كعب بن عُجرة! إنه لا يربُو لحمٌ نبَتَ من سُحْتٍ إلا كانت النارُ أوْلَى به».
وإنها لنهايةٌ مُرعِبة، ومصيرٌ مُفزِعٌ تقَضُّ له مضاجِعُ أُولِي النُّهى، وتُوجِبُ تفتُّحَ الوعيِ لإدراك سبيل النجاة، والظَّفَر بأسبابِ السلامة، والحَظْوة بمسالكِ العافية التي تأتي في الطليعةِ منها: تقوى الله تعالى، والاستحياءُ منه حق الحياء؛ فإنه من أظهر أسبابِ التنزُّه عن أكل الحرام.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي - رحمه الله - في "جامعه" عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «استحْيُوا من الله حقَّ الحياء». قال: قلنا: يا نبيَّ الله! إنا لنستَحْيِي والحمدُ لله. قال: «ليس ذلك، ولكن الاستِحياء من الله حقَّ الحياء: أن تحفَظَ الرأسَ وما وعَى، وتحفظَ البطنَ وما حوَى، وتذكُرَ الموتَ والبِلَى، ومن أراد الآخرةَ تركَ زينةَ الدنيا، فمن فعلَ ذلك فقد استحْيَى من الله حقَّ الحياءِ».
فحِفظُ البطن وما حوَى؛ أي: ما وُضِع فيه من طعامٍ وشرابٍ، بأن يتحرَّ الحلال منهما، وأن يُوقِنَ بأن ما قُسِم له من رزقٍ فإنه سوف يستوفيهِ بتمامه قبل مماته، فلا يحمِلُه استِبطاءُ الرزقِ على طلبِهِ بسُلُوك سبيل المعصية؛ فإنها نذيرُ شُؤم، وسببُ حِرمان.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه البزَّار - رحمه الله - في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ عن حُذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - أنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هلُمُّوا إليَّ». فأقبَلوا إليه فجلَسُوا، فقال: «هذا رسولُ ربِّ العالمين جبريل نفَثَ في رُوعِي أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستكمِلَ رِزقَها وإن أبطأَ عليها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلبِ، ولا يحمِلَنَّكم استِبطاءُ الرزق أن تأخُذوه بمعصيةِ الله؛ فإن الله لا يُنالُ ما عندهُ إلا بطاعته».
وأن يذكُر على الدوام أن اللهَ سائِلُه يوم القيامة عن المصدرِ الذي اكتسَبَ منه مالَه، وعن الوجوه التي أنفقَه فيها سُؤالَ تقريرٍ ومُحاسَبَة، يكونُ من بعدها الجزاءُ العادلُ، ولا يظلِمُ ربُّك أحدًا، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذي - رحمه الله - في "جامعه" بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي بَرْزَة الأسلميِّ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تزولُ قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن عُمره فيمَ أفناه، وعن علِمِه فيمَ فعلَ فيه، وعن مالهِ من أين اكتسَبَه وفيمَ أنفقَه، وعن جسمِهِ فيمَ أبلاه».
وأن يعلمَ أن قليلَ المال الذي يكفيه خيرٌ له من كثيرِ المال الذي يُلهِيه عن كلِّ ما يصلُحُ به أمرُه، وتستقيمُ به حالُه في دينه ودُنياه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ - واللفظُ له -، وابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما طلَعَت شمسٌ قطُّ إلا بعثَ بجنبَتَيْها ملَكَان يُنادِيان يُسمِعان أهلَ الأرض إلا الثَّقَلَيْن: يا أيها الناسّ هلُمُّوا إلى ربكم؛ فإن ما قلَّ وكفَى خيرٌ مما كثُر وألهَى ..» الحديث.
ألا وإن دوامَ النظرِ في هذه الشواهد والنصوص، وتكرار التأمُّل فيما دلَّت عليه وأرشدَت إليه ليُورِثُ الناظرَ المُتأمِّلَ المُتفكِّر دُربَةً وملَكَةً ورهافَةَ حِسٍّ تبعَثُه على توخِّي الحلالِ الطيبِ، والتنزُّهِ عن الحرام الخبيثِ في مطعمِه ومشربِه وملبَسِه وشأنه كلِّه، واضِعًا بذلك لبِنَةً من لبِنَات الإصلاح في بُنيان المُجتمع، داعِيًا غيرَه إلى أن يحذُوَ حذوَه، ويسيرَ سيرَه، مُبيِّنًا حُسن العُقبَى فيه بشُيُوع البركات، وعموم الخيرات، والسعادة في الحياة وبعد الممات، والحَظوةِ برِضا ربِّ الأرض والسماوات.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرِه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
جاء في بيان قولِ الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[البقرة: 168] قولُ بعضِ أهل العلم بالتفسير: "هذا خطابٌ للناسِ كلِّهم مُؤمنِهم وكافرِهم، فامتنَّ الله عليهم بأن يأكُلُوا من جميع ما في الأرض؛ من حبوبٍ، وثمارٍ، وفواكه، وحيوان، حالةَ كونِها حلالاً - أي: مُحلَّلًا لكم -، تتناولونه ليس بغصبٍ ولا سرقةٍ، ولا مُحصَّلًا بمعاملةٍ مُحرَّمة أو على وجهٍ مُحرَّم، أو مُعينًا على مُحرَّم.
طيِّبًا؛ أي: ليس بخبيث؛ كالميتة، ولحم الخنزير، والخبائث كلها.
وفي الآية: دليلٌ على أن الأصلَ في الأعيان الإباحة أكلًا وانتفاعًا، وأن المُحرَّم نوعان: مُحرَّمٌ لذاته - وهو الخبيثُ الذي هو ضِدُّ الطيبِ -، ومُحرَّمٌ لما عرَضَ له - وهو المُحرَّمُ لتعلُّق حقِّ الله أو حقِّ عباده به -، وهو ضِدُّ الحلال.
وفيها أيضًا: دليلٌ على أن الأكلَ بقدرِ ما يُقيمُ البنيةَ واجبٌ يأثَمُ تارِكُه.
ولما أمرَهم - سبحانه - باتباع أمرِه الذي هو عينُ صلاحهم، نهاهم عن اتباع خُطوات الشيطان؛ أي: عن طرقه التي يأمر بها، وهي جميعُ المعاصِي من كُفرٍ وفسوقٍ وظلمٍ، ويدخلُ في ذلك: تحريمُ السوائمِ والحام ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضًا تناولُ المأكولات المُحرَّمة".
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أن السلفَ الصالحَ - رضوان الله عليهم - كان يشتدُّ خوفُهم على أنفسهم من قولِهِ - عزَّ اسمه -: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[المائدة: 27]، فخافوا ألا يكونوا من المُتَّقين الذين يُتقبَّلُ منهم، هذا مع كمال تقواهم، وتمام إخلاصهم لله، وشِدَّة تحرِّيهم لمراضيه، وأكلِهم الحلال الطيب، وتنزُّههم عن الخبيثِ الحرامِ.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رُسُل الله: محمدِ بن عبد الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين في كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم احفظ المُسلمين في كل ديارهم وأمصارِهم، اللهم احفَظهم من الفتن، وقِهِم الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطَنَ يا رب العالمين، اللهم احفَظ دماءَهم وأعراضَهم وأموالَهم، اللهم احفَظ دماءَهم وأموالَهم وأعراضَهم، واشفِ جرحاهم، وتقبَّل موتاهم في الشهداء يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 04-23-2012 07:58 PM

الفرق بين ثقافة الإسلام والثقافة العالمية المعاصِرة
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 28\5\133هـ بعنوان: "الفرق بين ثقافة الإسلام والثقافة العالمية المعاصِرة"، والتي تحدَّث فيها عن الإسلام وبعضِ محاسِنه في الجوانب الثقافية والعسكرية والاقتصادية، وما يتشبَّث به بعضُ أعداء الإسلام وأذنابهم من الثقافة المُعاصِرة التي لا تعتمد على أصولٍ متينة، ولا تقوم على تحقيق العدل إلا بما يُوافِقُ أهواءَها مصالِحَها الشخصية.

الخطبة الأولى
الحمد لله المُتوحِّد في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المُتفرِّد بتصريفِ الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المُتعالِي بعظمته ومجده الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا[الفرقان: 1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ[الحج: 78]، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، بعثَه الله بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعِيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، فترَكَنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارِها، لا يَزيغُ عنها إلا هالِكٌ، فصلوات الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، اتقُوه في سرِّكم وعلَنِكم، وغضَبِكم ورِضَاكم، وفرَحِكم وتَرَحكم، واعلموا أن العاقبةَ للتقوى، إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ[يوسف: 90].

عباد الله:
خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ذات يومٍ فقال لهم: «إنما مثَلي ومثَلُ ما بعَثَني اللهُ بهِ كمَثَل رجلٍ أتَى قومَه فقال: يا قوم! إني رأيتُ الجيشَ بعيني، وأنا النذيرُ العُريان، فالنَّجاء. فأطاعَه طائفةٌ من قومه فأدلَجوا فانطَلقوا على مهلِهم فنَجَوا، وكذَّبَت طائفةٌ منهم فأصبَحوا مكانهم، فصبَّحهم الجيشُ فأهلَكهم واجتاحَهم. فذلك مثَلُ من أطاعَني فاتَّبَع ما جِئتُ به، ومثَلُ من عصاني وكذَّبَ بما جِئتُ به من الحقِّ»؛ رواه البخاري ومسلم.
هذا حديثٌ صريحٌ صحيحٌ من مِشكاة النبُوَّة الحَقَّة، من تأمَّلَه بخالصِ ذكرِه وعدلِ منطِقِه ليُوقِنَنَّ أن ملامِحَ ما ذكَرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بدَأَت في الظهور على فَترةٍ من الاعتِزاز بالدين والعلمِ، وإبَّان فترةٍ طاغِيةٍ من الظواهِر المعلوماتية والهَيَجان الثقافي، والتي تصُبُّ في قَالَبٍ واحدٍ هو جَعْلُ العالَمِ كُلِّه كالكُتْلَة الواحِدَة دون تميُّزٍ.
وقد بُذِلَت جهودٌ أجنبيَّةٌ عن الإسلام يُسانِدُه فيها بعضُ السُّذَّجِ من بني الإسلام بجُهودٍ لا تقِلُّ أثَرًا عن الآخرين على إضعافِ الثقةِ بالإسلام وبتشريعه، وثقافاته وآدابه، وقُدرته على تسيير شؤون الحيباة الدينية والدنيوية على حدٍّ سَواءٍ، على أن يُولِّد هذا الضعفُ لدى العوامِّ من المُسلمين رِضًا ببعضِ الإسلام الذي تلقَّوه من كتابِ ربهم، وتعلَّموه من سنة نبيِّهم - صلى الله عليه وسلم -.
والجهودُ مبذولةٌ من قِبَل أعداء الإسلام في أن يرَوا في واقعِ المُسلمين إسلامًا منقوصًا في الحقيقةِ والأطراف، ومنقُوضَ العُرَى والوشائِج، لا ينبغي أن يتدخَّلَ في شؤون التشريعات كافَّةً دون استِثناءٍ، أو يقتلِعَ من السُّلوك العام ما يخدِشُ قِيَمَه ويمَسُّ مُثُلَه الرفيعةُ؛ بحيثُ لا يبقى من الإسلام إلا اسمُه، أو على أقلِّ تقديرٍ الإبقاء على ضروراتٍ الزمنُ كَفيلٌ بزوالها، أو بتغيُّر المفاهيم تِجاهَها، لتأتِيَ أجيالٌ مُهيَّأةٌ لقَبُولِ مثلِ هذه الصور المُشوِّهةِ للإسلام.
فيألَفُ البعضُ التفلُّتَ من المُسلَّمَات مع تنصُّلٍ عن الإنصافِ، وبُعدٍ عن الطرحِ النَّجِيحِ المُوافِقِ للعقلِ الصريح والشرعِ الصحيحِ.
لقد سيطرت الثقافةُ العالميةُ المُعاصِرةُ طِوالَ هذه الفترة سيطرةً مُحكمَةً زادَ في إحكامِها وغلَبَتها الطوفانُ الإعلاميُّ، والإعصارُ المعلوماتيُّ، حتى غطَّت ما تُغطِّيه الشمسُ، فبلَغَت كلَّ ملجأٍ ومغاراتٍ ومُدَّخَل.
لقد غيَّرَت هذه الثقافةُ مظاهرَ الحياة وطريقةَ العيش حتى أصبحَت لدى كثيرين أمرًا لا مناصَ منه، ولو كان على حِسابِ أصالةِ الدين والإسلامِ الصحيحِ.
نعم، نحنُ لا نُنكِرُ أنَّ في الثقافةِ العالميةِ المُعاصِرة ما ينفعُ مما يقتضِيهِ الاختِيارُ العقليُّ والمنفعةُ العلميةُ، شريطةَ ألا يجُرَّنا ذلكم إلى تهميشِ ما شرَعَه الله لنا، أو التمسُّكِ به على تخوُّفٍ أو استِحياءٍ؛ لأن أسوأَ ما يُمكِن أن يُفكِّرَ فيه أهلُ الإسلام ألا يكون لديهم ثِقةٌ كاملةٌ بشريعتهم، أو أن ينالَ هذه الثقةَ شيءٌ من الوَكَزات الجارِحة، فلا يُحسِنُ أحدُهم أن يقول كما قال الفاروقُ - رضي الله تعالى عنه -: "نحن قومٌ أعَزَّنا اللهُ بالإسلام، فمهما ابتغَيْنا العِزَّةَ من دونِه أذَلَّنا الله".
فلا عجَبٌ - عباد الله - حينئذٍ أن نرى تصوُّرات الناس تِجاه الثقافات العالمية - بمن فيهم المُسلِمون - مُنسجِمَةً معها، مُنقادَةً مهما كانت تتناقَضُ أو تتعارَضُ مع رُوح الثقافةِ الدينية الشرعية. ولقد كان سببَ هذا التأثير أمران اثنان:
أحدُهما: القوةُ المادية والمعنوية لغير المُسلِمين، والتي تعاظَمَت في جميع مناحِي الحياة باجتماعِ الأثافِيِّ للثالُوث: العسكري، والاقتصادي، والسياسي.
وثانيهما: قلَّةُ الثقة، والضعفُ في إذكاءِ الثقافة الإسلامية الأصِيلَة، وإبرازِها على وجهها الصحيح، والشجاعة والإتقان في بيان محاسِنِها وأثرها على الكونِ والحياة. وهي الربانيةُ المُحكَمة؛ لأنها صِبغَةُ الله، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ[البقرة: 138].
ولو ألقَينا نظرةَ مُقارَنةٍ لبعض أهمِّ ما يتَّكِئُ عليه أصحابُ الثقافاتِ العالمية والمُعجَبون بها من المُسلمين وغيرِ المُسلمين لوَجَدنا مَحاوِرَ شتَّى في المُفارَقة بين أصالةِ الإسلام الحَقَّة وبين الثقافة العالمية المُعاصِرة، ولنَضرِب مثلًا ببعضها:
فالمحورُ الأول: هو أن الإسلام حقٌّ من عند الله، وأن شرعَه صالِحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ، وأنه لا يتطرَّقُ إليه التحريفُ ولا التزييفُ، فأصُولُه ثابتةٌ محميَّةٌ بحمايةِ الله لها، والمرءُ المُسلِمُ يعرِفُ أدقَّ التفاصيل عن نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، مع أنه مضَى على وفاتِه أربعة عشر قرنًا من الزمان وزِيادة، وربما يعرِفُ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - أكثرَ من جارِهِ، وربما أكثرَ من عمِّه وبني عمِّه.
بخلافِ غيرِ الإسلام؛ فإما أن تكون دِياناتٍ لا تُؤمنُ بالله ولا باليوم الآخر، أو تُؤمن بذلك إيمانًا غيرَ مسنودٍ على ما يُقنِعُ؛ لأن الوضعَ البشريَّ هو الطاغِي عليها، ولقد صدَقَ الله: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا[النساء: 82].
ولأجلِ ذا لا يُوجَد لدى المبادئ والتشريعات الأُخرى النسخةُ الأصليةُ؛ حيث اعتراها التحريفُ والأوهامُ البشريةُ، ما يدلُّ على أن ما بين أيديهم ليس من عندِ الله، بخلافِ الإسلام فنُسختُه الأصليةُ لم تتغيَّر ولم تتبدَّل، وهي قابلةٌ للفَهم والتكيُّف رغم مرور هذه القُرون دون تعارُضٍ.
ولقد قال أبو القاسم الأصبهانيُّ - رحمه الله - عن سنةِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولئن دخلَ في غِمار الرواةِ من وُسِم بالغَلَط في الأحاديث، فلا يرُوجُ ذلك عند جهابِذَة أصحابِ الحَديث ورُتوتِ العُلماء - أي: رُؤساءَهم -، حتى إنهم عدُّوا أغاليطَ من غلِطَ في الأسانيد والمُتون؛ بل تراهم يعُدُّون على كل رجلٍ منهم في كم حديثٍ غلِطَ، وفي كم حرفٍ حرَّفَ، وماذا صحَّفَ". اهـ كلامُه - رحمه الله -.
ومن كانَ ذا إنصافٍ - عباد الله - فلينظُر إلى اختِلافِ أصحابِ القوانين في قوانِينهم بين التنازُعِ والتدافُعِ فيما وضَعوه هم بأيديهم، كأكمَل دليلٍ على أن عُقولَ البشر محدودة، واللهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ[البقرة: 255]. وأما مفهومُ أهل الثقافةِ الإسلاميَّةِ الأصِيلَةِ؛ فرائدُهم عند الاختلاف قولُه تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء: 59].
وأما المحور الثاني - يا رعاكم الله -: فهو محورُ العدل، وهو في الثقافة العالمية ذات البريقِ اللامِع كغيرهِ من القِيَم الأخلاقية تُحدِّدُه النسبيَّة، مع القابِلِيَّة لأَن يُوزَنَ بميزانَيْن، أو يُكالَ بمِكيالَيْن، حسْب المصالِحِ الخاصة، ما لم يكُن المُسلِمون فيه طرفًا، فحينئذٍ يُجمِعون على عدم تطبيق مِعيارِ العدلِ معهم، وما وضعُ إخواننا في سُوريا بخافٍ علينا جميعًا.
ولو قارنَّا بين الإسلام بثقافته الأصيلة وبين الثقافة العالمية المُقنَّعة في مجال الأعمال العسكرية لرأينا العدلَ في الإسلام شاهِرًا ظاهِرًا، فسُلُوكُ جُيوش المُسلِمين يفرِضُ عليهم ألا يقطَعوا شجرةً، ولا يقتُلوا شيخًا كبيرًا، ولا امرأةً ولا صبيًّا، ولم يكونوا يومًا ما هم المُعتدين.
ولقد شهِدَ كبارُ مُؤرِّخي الثقافة العالمية المُعاصِرة من غير المُسلِمين بأن التأريخ لم يشهَد فاتِحًا أرحمَ من المُسلمين.
وفي هذا القرن والذي قبله لم يكن بلدٌ عربيٌّ وإسلاميٌّ هو المُعتدِي على أحدٍ؛ بل المُستعمِر هو الصائلُ المُعتدِي بخَيلِه ورَجِلِه؛ بل إنه وصلَ ببعض القوى الباطِشَة الرائِدَة للثقافة العالمية المُعاصِرة في خلال مائةِ عامٍ من الزمن أن شنَّتْ ما يُقارِبُ مائةَ حالةِ حربٍ على دولٍ أُخرى قتَلَت خلالَها مئاتِ الألوف من البشر.
وأما المُسلِمون فهم أكثرُ الناس إيلامًا، ولعل أرضَهم وديارَهم وأموالَهم هي التي يستنثِرُ فيها البُغاثُ، ومحافلُ الثقافة العالمية المُعاصِرة تصِفُ الطريدَ المالِكَ إرهابيًّا لا حقَّ له، وتجعلُ اللصَّ الغالِبَ على المُقدَّسات والأوطان ربَّ بيتٍ مُحترمًا.
ولقد أحسنَ المُتخصِّصون في العلاقات الدولية حينما قالوا: "إن مثلَ هذه التصرُّفات مُؤسَّسٌ على مبدأ المصلَحة الوطنية والقوة، فهو كمبدأ العلاقة مع الآخر لدى قُطَّاع الطريق أو لدى أي تجمُّع مُفترِسٍ في الغابَةِ".
والعارِفُ بباسطةٍ خللَ الثقافة العالمية المُعاصِرة حول هذا المِحوَر ليجِدُها في حينٍ ما تصِفُ قاطِعَ الطريق في الصحراء إرهابيًّا مُجرِمًا، وفي أحيانٍ أُخرى تُدَكُّ مُدنٌ بأسرِها ولا أحدَ يحكُمُ على هذا الفعلِ بالمُتوحِّشِ الإجراميِّ؛ لاختِلافِ مُرتكِبِي هذه وتلك. فصاحبُ الأُولى مارِقٌ ضالٌّ، وصاحِبُ الأخرى إنما هو حضاريٌّ مدنيٌّ تقدُّميٌّ.
هذا ما عند الثقافة العالمية المُعاصِرة، وذلك ما عندنا؛ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام: 81، 82].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.


ابوحاتم 04-23-2012 07:58 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه.
وبعد:
فإن من محاوِر المُفارَقة بين أصالَة الإسلام وشُموليَّته، وبين الثقافة العالمية المُعاصِرة هو المِحوَر الثالث، من خلال ما أفرَزَته الثقافةُ العالميةُ المُعاصِرة في الجانب الاقتصاديِّ الذي كشَفَ عن نتائِجَ مُدمِّرةٍ للنظامِ المصرَفيِّ لم تكن معروفةً من قبلُ، وما الأزمةُ الاقتصاديةُ العالميةُ عنَّا ببعيدٍ.
ولقد شهِدَ شهودٌ من المُنتمين إلى تلكم الثقافة الغرَّارَة بأن الوضعَ الاقتصاديَّ على المفهومِ العالميِّ المُعاصِر سبَّبَ أضرارًا فادِحةً للاقتِصاد العالميِّ، تكمُنُ في وجودِ مرضٍ مُتجذِّرٍ في الاقتصادِ يُهدِّدُه بالانهِيار؛ إذ أصبحَ عبارةً عن أهراماتٍ من الديون المُتراكِمةِ، فصار كثيرٌ من الأعمال الاقتصادية أشبهَ بمائدةِ قِمارٍ الحقيقيُّ منها في التعامُل لا يتجاوَزُ أرقامًا ضئيلةً بالمائة؛ حيث كثُر الانْحِياز لقُوَّة الائتِمانِ على حسابِ جدوى الإنتاجِ والنموِّ الاستِثماريِّ.
بخِلاف الاقتصاد الإسلاميِّ الذي يُحقِّقُ المبادئَ الثلاثةَ الكُبرَى للاقتصاد الناجِحِ:
أولُها: أن يكون المالُ قِيامًا للناس جميعًا.
وثانيها: ألا يكون دُولةً بين الأغنياءِ منهم دون سِواهم.
وثالثُها: أن يُحقِّقَ العدلَ في التعامُلِ.
ولذا فإن من انحازُوا إلى الثقافة العالمية المُعاصِرة في النظرةِ إلى الاقتِصادِ وجَدوا أنفُسَهم في نهايةِ الطريقِ في حالِ دهشةٍ حينما جرَّبَ العالمُ بأسرِه الاتِّجاهَ الجماعيَّ الاشتراكيَّ سبعين عامًا انتَهَت بانهِياره برُمَّته.
ولم يكن الاتِّجاهُ الفرديُّ الرأسماليُّ هو الآخرُ أكثرَ حظًّا؛ فهو يدورُ حول نفسه في حلقةٍ مُفرَغةٍ تنهَشُه خلالَ دورَانه سِباعُ الأزمات الاقتِصادية المُتكرِّرة؛ لاختِلال كونِه قِيامًا للناس، ولغِيابِ قيمةِ العدلِ عنه، ولكونِه أصبحَ دُولةً بين الأغنياءِ من الناسِ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ[البقرة: 276].
فيا تُرى هل يضيعُ الحقُّ في زَوبَعة هذه العواصِفِ العاتِيَة؟ وهل سيُصنَعُ مُستقبلُ المُسلمين خارِجَ أرضِهم ودِيارِهم وصَياصِيهم؟ وهل سيتكاثَرُ الذين يرضَعون من ثُدِيِّ تلكم الثقافة ويمتهِنون خُلُقَ التسوُّل أمامَها؟ أم أنها غفلةٌ سيعقُبُها صحوةٌ ورُشدٌ وحِرصٌ على التحرُّر من هذا الرِّقِّ على عقولِ المُسلمين وقُلوبِهم؟!
إن الفَألَ مطلبُنا، والعملَ سُلَّمُ الوصول إليه، وهو الثقةُ الكامِلةُ بالإسلام، والوعيُ بإمكاناته دون تردُّدٍ، أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[يونس: 35].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله بن عبد المُطلب، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ قد بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم انصُر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصُر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم انصُر إخواننا المُستضعفين في سوريا، اللهم انصُرهم على عدوِّهم، اللهم انصُرهم عاجِلًا غيرَ آجلٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل الدائرةَ على عدوِّهم، واجعل شأنَه في سِفالٍ، وأمرَه في وَبالٍ يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 04-29-2012 11:49 PM

نعمة الرضا
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 6/6/1433هـ بعنوان: "نعمة الرضا"، والتي تحدَّث فيها عن نعمةٍ من أعظم نعم الله على العبد، وهي: نعمةُ الرضا؛ حيثُ بيَّن أن العبدَ لا يزالُ يسعَى لتحصيلِه ونيلِه في هذه الدنيا، ويدأبُ حتى يبلُغَه، وأن المالَ الكثيرَ ليس دليلًا على السعادة والرضا، كما أن الفقرَ وقلَّة ذات اليد ليس دليلًا على عدمِه؛ بل ربما كان العكسُ هو الصوابُ، ولم ينسَ أن يُعرِّج على قضية الاختطاف، وأنها مُنافِية ومُخالِفة لشرع الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله العليِّ الكبير، تعالى وتنزَّه عن الشبيه والنَّظير والمُعين والظَّهير، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك: 14]، أحمده - سبحانه - وأشكره أعطى الكثير، وتجاوزَ عن التقصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالِصةً مُخلِصةً أرجو بها النجاةَ من عذابِ السَّعير، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي القدرِ العليِّ والشرفِ الكبير، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وعلى نهجِ الحق يسير، وسلَّم التسليمَ الكثير.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن الكرامةَ كرامةُ التقوى، والعِزَّ عِزُّ الطاعةِ، والأُنسَ أُنسُ الإحسان، والوَحشةُ وحشةُ الإساءة، الحياةُ - يا عبد الله - في مُداومة الذكر، والعافيةُ في مُوافقة الأمر، والنجاةُ في لُزوم الكتاب والسنة، والفوزُ لمن زُحزِحَ عن النارِ وأُدخِلَ الجنة، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا[النساء: 69].
أيها المسلمون:
هدفٌ منشودٌ إذا فقدَه الإنسانُ فإنه لا يستقرُّ على حالٍ، ولا يسكُنُ إلى قرار، وغايةُ مُبتغاه بدونها صاحبُها قلِقٌ مُتبرِّمٌ، مُضطربٌ حائر، وأمنيةٌ مُتمنَّاه إذا لم يُحقِّقها طالبُها فهو أشبَهُ بحيوانٍ شرس، أو سبُعٍ مُفترس، والمُجتمع بدونها كذلك مُجتمعُ غابةٍ من غير غاية ولو لمَعَت فيه بوارِقُ حضارةٍ أو أثَارةُ تقدُّمٍ، المقاييسُ فيه للأشدِّ والأقوى وليس للأصلَحِ والأتقى.
هدفٌ وغايةٌ وأمنيةٌ يطلبُها كثيرون في غير موضِعِها، ويتطلَّبُها مُتطلِّبُون من غير مظانِّها، جرَّبوا ألوانًا من المُتَع وصُنوفًا من الشهوات فما وجدُوها، حسِبَها قومٌ في الغِنَى ورغَدِ العيشِ، وظنَّها آخرون في الجاهِ والمقامِ العريض، واعتقَدَتها فئاتٌ في حُسن العلوم والمعارِف، خاضَ في البحث عنها العلماءُ والفلاسِفة، والأغنياءُ والفقراء، والملوك والوُجهاء. إنها - يا عباد الله -: السعادةُ والطمأنينةُ والرضا والسَّكينة.
ما أعظمَ الفرقِ بين رجلَين أحدُهما عرفَ الغايةَ وطريقَها فاطمأنَّ واستراحَ، وآخرُ ضالٌّ يخبِطُ في عِماية، ويمشي إلى غير غاية، لا يدري كيف المَسير، ولا إلى أين المصير؟! أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الملك: 22].
كم من صاحبِ مالٍ وفير، وخيرٍ كثير، تجلَّى رِضاهُ وطُمأنينتُه وقناعتُه في تحرِّي الحلال وأداء حقِّ الله فرضًا ونَدبًا، أعطَى الأجيرَ أجرَه، ولم يُذِلَّ نفسَه من أجلِ مالٍ أو جاهٍ.
وآخرُ عنده ما يكفيه، ولكن قد ملأَ الطمعُ قلبَه، وانتشرَ التسخُّطُ بين جوانحِه، جزِعٌ من رِزقه، مُتسخِّطٌ على رازِقِه، يبُثُّ شكواه إلى المخلوقين، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[الفتح: 4].
معاشر الأحِبَّة:
الرِّضا نعمةٌ عظيمةٌ، يبلُغُها العبدُ بقوَّةِ إيمانه بربِّه وحُسن اتِّصالِهِ به، ينالُها بالصبرِ والذكرِ والشكرِ وحُسن العبادة، وقد خاطَبَ اللهُ نبيَّهُ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بقوله: فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى[طه: 130].
وفي الحديث الصحيح: «ذاقَ طعمَ الإيمانِ من رضِيَ بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولًا»؛ رواه أحمد، ومسلم، والترمذي.
الرِّضا - أيها الإخوة - بابُ الله الأعظم، وجنةُ الدنيا، ومُستراحُ العارفين، وحياةُ المُحبِّين، ونعيمُ العابدين، وقُرَّةُ عيون المُشتاقين.
الرِّضا سرُّ السعادة، وطريقُ السَّكينة، وجادَّةُ الطمأنينة. الرِّضا شجرةٌ منبتُها النفس.
يا عبد الله:
السعادةُ والرِّضا ليس بوفرة المال، ولا عِظَم الجاه، ولا كثرة الولد، ولا بنَيْل المُتَع والمنافع، الرِّضَا يحُدُّ من ثَورة الحرص والطمع، وطُغيان الشراهة والجشَع، ويُرشِّدُ الأخذَ بالأسباب: «اتقوا الله، وأجمِلوا في الطلبِ». فالغِنى ليس بكثرة العَرَض، إنما الغِنى غِنى النفسِ.
الرِّضا يُوقِفُ الراضِي عند حُدود قُدراته ومواهِبِه، ويُبصِّرُه بأقدار الله، فلا يتمنَّى ما لا يتيسَّرُ له، ولا يتطلَّعُ إلى ما لا يستطيع؛ فالشيخُ لا يتمنَّى أن يكون شابًّا، وغيرُ الجميل لا يتطلَّعُ إلى أن يكون جميلًا، وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ[النساء: 32].
يقول عطاء: "الرِّضا سُكونُ القلبِ باختيارِ الله للعبد، وأن ما اختارهُ الله له هو الأحسنُ فيرضَى به".
وسُئِلَ أبو عُثمان البِيْكَنْدي عن الرِّضا فقال: "من لم يندَم على ما فاتَ من الدنيا ولم يتأسَّف عليها".
وقال بعضُ الحُكماء: "من رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطهُ أحدٌ، ومن قنِعَ بعطائه لم يدخله حسدٌ".
ويقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "ارضَ بما قسمَ الله تكن أغنى الناس، واجتنِب محارِمَ الله تكن أورعَ الناس، وادِّ ما فرضَ الله تكن أعبدَ الناس".
وقيل للحُسين بن عليٍّ - رضي الله عنهما -: إن أبا ذرٍّ - رضي الله عنه - يقول: الفقرُ أحبُّ إليَّ من الغِنى، والسَّقَمُ أحبُّ إليَّ من الصحة. فقال الحسين - رضي الله عنه -: "رحِمَ الله أبا ذرٍّ! أما أنا فأقول: من اتَّكَل على حُسن اختيار الله لم يتمنَّ غيرَ ما اختارَ الله له".
الرِّضا قناعةٌ وثقةٌ ويقينٌ، من قنِعَ فقد رضِي، ومن رضِي فقد قنِع، وفي الحديثِ: «قد أفلحَ من أسلمَ وكان رِزقُه كفافًا، وقنَّعَه الله بما آتاه».
أيها المسلمون:
السعادةُ والرِّضا إيمانٌ بالله وبرسوله، ورِضا نفسٍ وانشراحُ صدرٍ، المؤمنُ يغمُرُه الرِّضا؛ لأنه عميقُ الإدراكِ لفضلِ الله العَميم، وإحسانِهِ العظيم، إحساسُه بنِعَم الله في نفسه وهي نعمٌ لا يُحصِيها في سمعِهِ وبصرِهِ ويدِهِ وقدمِهِ ومُخِّه وعظمِه، وطعامِه وشرابِه، ونومِه ويقَظَته، وأهلِه وفي شأنه كلِّه.
المؤمنُ يرى ويُشاهِدُ نعمَ الله ورحماته في كل ما حوله، وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ[الحجرات: 7].
المؤمنُ المُطمئنُّ الراضِي يلهَجُ بذكرِ الله، ويستشعِرُ نعَمَ الله، «الحمدُ الله الذي أطعمَنا، وسقانا، وكفانا، وآوانا، وجعلَنا مُسلمين». «الحمدُ لله الذي كساني هذا ورَزَقنيه من غيرِ حولٍ مني ولا قُوَّةٍ». و«الحمدُ لله الذي أحياني بعد ما أماتَني وإليه النشور». «الحمدُ لله الذي أذهبَ عني الأذَى وعافاني». «اللهم إني أصبَحتُ منك في نعمةٍ وعافيةٍ وسِترٍ، فأتِمَّ عليَّ نِعمتَكَ وعافِيَتك وسِترَكَ في الدنيا والآخرة». «اللهم ما أصبَحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِكَ فمنك وحدَكَ لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ». فالحمدُ لله رب العالمين، والحمدُ لله على كل حال.
هذا هو المؤمنُ، يغمُرُه الرِّضا والطمأنينة والسعادةُ في كل حينٍ، وعلى كل حالٍ، مُتعلِّقٌ بربِّه، راضٍ عنه، مُطمئنٌّ إليه، يتلقَّى ويتقبَّلُ أقدارَ الله في نعمائها وبأسائها، والدنيا وتقلُّباتها في إقبالِها وفي إدبارِها، ويعلمُ علمَ اليقين أن الله يُريدُ بعباده اليُسرَ ولا يُريدُ بهم اليُسرَ، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19]، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: 216].
المؤمنُ الراضِي السعيدُ مُوقِنٌ أن الله معه؛ فهو في معيَّة الله يحفَظُه ويكلؤُه، «أنا عند ظنِّ عبدِي بي وأنا معَه إذا ذكَرَني»، لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[التوبة: 40]، إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى[طه: 46]. إن شعورَ المؤمن بمعيَّة الله يجعلُه في أُنسٍ دائمٍ ونعيمٍ موصولٍ.
المؤمنُ وحدَه هو الذي يغمُرُه الإحساسُ بالرِّضا بكل قدَرٍ من أقدار الله؛ فهو مؤمنٌ أن تدبيرَ الله أفضلُ من تدبيرِه لنفسِه. المؤمنُ يملأُ الرِّضا جوانِحَه؛ لأنه يعلمُ أن الخيرَ بيدَي ربِّه، والشر في هذه الدنيا لا يُناقِضُ الخيرَ ولا يُعارِضُه؛ بل قضَت سنَّةُ الله ألا يكون صبرٌ إلا مع شُكرٍ، ولا كرَمٌ من غيرِ حاجةٍ، ولا شجاعةٌ من غيرِ مُخاطَرةٍ؛ فالفضائلُ والخيراتُ لا تظهَرُ إلا بأضدادِها، فالشِّبَعُ مع الجُوع، والرِّيُّ مع الظَّمَأ، والدِّفْءُ مع البَرْدِ، وما عرَفَه المؤمنُ من حكمةِ الله في خلقِهِ وأسرارِ كونِه وآياتِه فهو بفضلِ الله، وما خفِيَ سلَّمَه لربِّه العليم الخبير.
هذا هو نهجُ أُولِي الألباب: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا[آل عمران: 191].
عباد الله:
وليس شرطُ الرِّضا ألا يُحِسَّ السعيدُ بالألم والمكارِه؛ بل المطلوبُ ألا يعترِضَ على مجارِي الأقدار، ولا يتسخَّطُ من الحوادِثِ والنوازِل؛ فهو راضٍ كرِضا المريضِ بشُرب الدواء المُرِّ؛ لأنه يعلمُ العاقبةَ ويرجُو العافيةَ.
والرِّضا والقناعةُ لا تمنَعُ التاجِرَ من تنمِيَة تجارته، ولا المُوظَّف من التطلُّع إلى الترقِّي في وظيفته، ولا العامِلُ في تحصِيلِ مُرتَّبِه، ولا أن يضرِبَ المُسلِمُ في الأرض ليستزِيدَ من فضلِ الله ورِزقِه؛ إنما الممنوعُ التسخُّطُ والتبرُّم.
كما أن أثرَ المادَّةِ في الرِّضا والسعادةِ غيرُ منكورٍ، على حدِّ قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من سعادة ابنِ آدمَ: المرأةُ الصالِحةُ، والمَسكنُ الصالِحُ، والمركَبُ الصالِحُ»؛ رواه أحمد بسندٍ صحيحٍ من حديثِ سعد بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه -.
وبعدُ، عباد الله:
فالسعادةُ ينبوعٌ يتفجَّرُ من القلبِ والنفسِ الكريمةِ الرَّاقِيَةِ التَّقِيَّةِ الطاهِرة، نفسٌ سعيدةٌ أينما حلَّت في السوق أو في الدُّور، في البَراري أو بين الصُّخور، في الأُنسِ والوَحشة، في المُجتمعِ وفي العُزلَة؛ فمن أرادَ السعادةَ فليسأل عنها نفسَه التي بين جنبَيْه.
وما هذه الابتساماتُ ومظاهرُ السُّرورِ التي تُرَى وتتلألأُ من أفواه المحزونين والمُتألِّمين والفُقراء والمساكين ليس لأنهم سُعداء في عيشِهم؛ بل لأنهم سُعداءُ في أنفسهم، وما هي الزَّفرات والآهات المُتصاعِدةُ من صُدور الأغنياءِ والمُوسِرين وذوِي الوَجَاهاتِ والمُترَفين لأنهم أشقياءُ في معاشِهم؛ بل لأنهم أشقياءُ في أنفُسهم.
فلا تطمَع - رحمك الله -، ولا تهلَع ولا تجزَع، ولا تُفكِّر فيما لا وصولَ إليه، ولا تحتقِر من فضَّلَكَ اللهُ عليه، واعلَم أن كلَّ شيءٍ بقضاءٍ وقدَر، واللهُ أعلمُ بشؤونِ خلقِه يُعِزُّ ويُذِلُّ، ويرفَعُ ويضَعُ، ويُعطِي ويمنَعُ، فهو الذي أغنى وأقنَى، وأضحَكَ وأبكى؛ فمن رضِيَ طابَ عيشُه، ومن تسخَّطَ طالَ طيشُه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النحل: 97].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



ابوحاتم 04-29-2012 11:51 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله الكريم الفتَّاح، أحمده - سبحانه - فالقُ الحبِّ والنوى والإصباح، وأشكرُه على نعمٍ تتجدَّدُ في الغُدُوِّ والرَّوَاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً هي للجنةِ مِفتاح، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه بيَّن لأمته سبيلَ الفلاح، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الجُودِ والكَرَم والسماحِ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما سجَى ليلٌ وأشرقَ صباح، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
وإن من مظاهرِ الرِّضا والطُّمأنينة والسَّكينة ما تعيشُه بلادُنا - بلادُ الحرمين الشريفين، المملكةُ العربيةُ السعوديةُ - من أمنٍ وإيمان، وما تضطَلِعُ به من أدوارٍ ومسؤوليَّاتٍ نحو شعبِها ومُواطِنيها والمُقيمين على أرضِها ونحو أشِقَّائها وأصدقائِها.
ومن مظاهرِ ذلك: ما يقومُ به مُمثِّلُوها ودبلوماسيُّوها من مهامَّ ومسؤوليَّاتٍ في كل بلدٍ يحلُّون فيها؛ سواءً في مناطِق آمِنة أو في مواقِع مُضطرِبةٍ مُتوترة، جاعِلين في أولوياتهم مُراقبَةَ الله وتَقواه، ثم القيامَ بمسؤولياتهم، مُتجاوِزين التحديات، مُستسهِلين الصِّعابَ. أعانَهم الله وسدَّدَهم، وبارَكَ في جهودِهم وأعمالهم.
وإن مما يُؤسَفُ له: ما تعرَّض له الدبلوماسيُّ السعوديُّ الأستاذُ عبد الله الخالديُّ الذي يعملُ في اليمن الشقيق؛ فقد تعرَّضَ لاعتداءٍ وخطفٍ، فكَّ اللهُ أسرَه، وأعادَه إلينا آمِنًا سليمًا مُعافَى.
معاشر الإخوة:
إن القيامَ بخَطفِ إنسانٍ بريءٍ أعزَل دليلُ عجزٍ وإفلاسٍ وتخبُّطٍ وتشتُّتٍ، وهو سُلوكٌ إجراميٌّ من تنظيمٍ إجراميٍّ تتولَّاهُ شِرذِمةٌ ضالَّةٌ، تقتاتُ على الحِقدِ، وتُمارِسُ الجريمةَ، وتستهدِفُ أمنَ الديارِ والشعوب، وتُلقِي بنفسِها في أحضانِ الأعداء - أعداء أهلها ودينِها وبلادِها -، شِرذِمةٌ شريدةٌ طَريدةٌ أُلعوبةٌ في أيدي النَّاقِمين على بلادِنا في أمنِها وإيمانها واجتماع كلمتِها، والتِفافِها حول قيادتها.
فئةٌ ضالَّةٌ تلقَّفَهم الأعداءُ فاتَّخذوهم مطايا وجُسورًا لتنفيذِ مُخطَّطاتهم، يعيشون في الكهوفِ، وشعَفِ الجبال، وبُطون الأودِيَة، في شقاءٍ وبلاءٍ، ومُخادَعةٍ للنفوس، وضياعٍ للأعمار، وإفناءٍ للشباب، يُعانُونَ من أزمَاتٍ عاصِفة، ويُشبِعون نَزَعاتٍ إجرامِيَّة؛ بل إنهم يعكِسون حالةَ الانهِيارِ في دواخِلِهم مُشرَّدون، كلما وجَدوا ملجأً أو مغاراتٍ أو مُدَّخَلًا ولَّوا إليه وهو يجمَحون، لا قرارَ لهم ولا إرادة، في تجمُّعاتٍ بائِسة، وتصرُّفاتٍ يائِسة.
أما أحكامُ الدين فهم منها بَراء؛ بل إنهم لا يُقيمون لتعاليم الإسلام وَزنًا، وهم يزعُمون أنهم يحتكِمون إليها.
هل اختطافُ المُسالِمين العُزَّل من الدين؟!
في أحكام الإسلام إذا كان المُسلِمون في أرضِ المعركة، وفي حال القِتال والمُواجَهة، وحين يكون الوطيسُ حامِيًا؛ فإن المُقاتلين المُسلمين ممنوعون من أن يقتُلوا وليدًا أو امرأةً أو شَيخًا أو، يُمثِّلوا بآدميٍّ أو بهيمةٍ، أو يقطَعوا شجرةً، أو يغدرُوا، أو يغُلُّوا. هذا في عموم الناس.
أما الرُّسُل - وهم السفراءُ، والمُمثِّلون، والمندُوبون، والقناصِل - فالحالُ أشدُّ منعًا، وحينما جاءَ رسُولا مُسيلمة إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال: «تشهَدا أني رسولُ الله؟». قالا: أتشهدُ أن مُسيلِمَة رسولُ الله؟! فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «آمنتُ بالله ورُسُله، لو كنتُ قاتِلًا رسُولًا لقتلتُكُما». قال عبدُ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: "فمضَت السُّنةُ أن الرُّسُل لا تُقتَلُ".
وهؤلاء يخطِفون، ويقتُلون في مخالفةٍ صريحةٍ لأحكامِ الله وأحكامِ رسولِه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وإفسادٍ في الأرض، وانتِهاكٍ للحُرمات، يجمعُون بين الجهل بدين الله وظُلمِ عبادِ الله، وأيُّ جهلٍ واضطرابٍ وعَبَثٍ أشدُّ من المُطالَبَة بتسليمِ نساءٍ إلى خارجِ بلادهِنَّ في تعدٍّ صريحٍ على أحكامِ الشرعِ، ثم على حقوقِ أهليهِنَّ ومحارمِهنَّ.
إخوتَنا وأحِبَّتنا:
أما دولتُنا فموقفُها ثابتٌ واضِحٌ، حكيمٌ عادِلٌ، فهي ترفضُ الابتِزازَ، ناهِيكُم إذا كان من فِئاتٍ إرهابيَّةٍ إجراميَّةٍ، والمملكةُ لا يُمكِنُ أن تُساوِمَ على عدلِها القضائيِّ، وحُكمِها المَتين، وسياستها الراشِدة، ولن تُسلِّمَ مُواطِنيها لجهاتٍ مشبوهةٍ أو مشبوهةٍ؛ بل تُسلِّمُهم لأهلِيهم وذَوِيهم في ظلِّ وطنِهم الآمِنِ العادِل، البلدِ الذي يُقيمُ شرعَ الله، ويرفعُ رايةَ الكتابِ والسنةِ دستورًا وعملًا، ولا ندَّعِي الكمالَ والعِصمةَ.
أما وزارةُ الداخِلية في بِلادِنا فكم كانت حِصيفةً حين فضَحَت هؤلاء الشِّرذِمة، حين أذاعَت الحديثَ الهاتفيَّ الدائِرَ بين أحد الخاطِفين والمسؤول السعوديَّ ليتجلَّى ما يعيشُه هؤلاء الضَّالُّون من اضطرابٍ وتشتُّتٍ وإجرامٍ وسُوءِ تدبيرٍ. لقد أوضحَت هذه المُكالمةُ ما فيه هؤلاء من تراجُعٍ وإفلاسٍ وضعفٍ وتشتُّتٍ وتخبُّطٍ، قد جُفِّفَت منابِعُهم، وقُتِّلَ رُؤساؤهم، ونبَضَت مصادِرُ تمويلهم.
وإننا من هذا المنبرِ نُصحًا وشفقةً وقُربةً إلى الله - عز وجل - ندعُوهم إلى التوبةِ والإنابةِ، ومُراجعة النفس، والعودة إلى الطريق الحق والهدى المُستقيم، ونبذِ الشر والفساد والإفساد والضلال، ومن قبلُ ناداهُم أُولو الأمرِ ليعُودوا إلى رُشدِهم وإلى بلادهم التي تحتضِنُهم وتُؤويهم. كما ناداهم العلماءُ والدعاةُ والخُطباءُ وأهلُ الرأيِ، وناداهُم كلُّ غَيورٍ ومُحِبٍّ؛ بل لقد ناداهُم آباؤهم وأمهاتُهم وأزواجُهم. فهل يفقهون ويتذكَّرون ويرجِعون؟!
اللهم اهدِ ضالَّ المُسلمين، اللهم اهدِ ضالَّ المُسلمين، وبصِّره بالحق، واحفَظنا اللهم من بين أيدينا ومن خلفِنا وعن أيماننا وعن شمائِلنا، ونعوذُ بعظمتك اللهم أن نُغتالَ من تحتِنا.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن القلبَ متى خالطَتْه بشاشةُ الإيمانِ واكتحَلَت بصيرتُه بحقيقة اليقين، وحيَّ بروح الوحي، وانقلَبَت النفسُ الأمَّارةُ بالسوء راضِيةً مُطمئنَّةً؛ فقد رضِيَ كلَّ الرِّضا، والسعيدُ من رضِيَ بما عندَه وقنِعَ بما لدَيْه، ومن أطاعَ مطامِعَه استعبَدَته.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله قولًا كريمًا - وهو الصادقُ في قِيلِه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، فهم مصباحُ الصباح، ورمزُ الثبات، وصورةُ البَسالة، صورةُ بَسالةٍ وعِزَّة أخجَلَت القريبَ والبعيد، اللهم احفَظهم، واجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، واحفَظ اعراضَهم، وأطعِم جائِعَهم، اللهم واشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، واربط على قلوبهم، وثبِّت أقدامهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم.
اللهم واجعل لهم من كلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، وانصُرهم ولا تنصُر عليهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظلَمة في سُوريا، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في الطُّغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم اجعل تدميرَهم في تدبيرهم، واجعل دائرةَ السوء عليهم يا قويُّ يا عزيزُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ يذكُركم، واشكُرُوه على نِعَمه يزِدكُم، ولذِكرُ الله أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنَعون.

ابوحاتم 05-26-2012 10:16 PM

قيمة العزة والكرامة

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 13/6\ 1433هـ بعنوان: "قيمة العزة والكرامة"، والتي تحدَّث فيها عن قيمة العزة والكرامة، وأنها لا تكون إلا بالاعتِزاز بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ بالرجوع إليهما، وتطبيقهما في جميع الشؤون الحياتية، والتعريجَ على حملة التغريب الشرِسَة التي لوَّثَت عقولَ وقلوبَ الشباب والفَتَيات، ففُتِنوا بها.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، تعالى ربُّنا جلالًا واقتدارًا، وعِزَّةً وإكبارًا، أحمده - سبحانه - لم يزَل توفيقُه مِدرارًا للسَّامين نفوسًا وأقدارًا.
الحمدُ لله العظيمِ الشَّانِ
حمدًا بلا عيبٍ ولا نُقصانِ
حمدًا يضيقُ به الفضاءُ مُبارَكًا
بهَرَ الوُجودَ على مدى الأزمانِ

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرومُ به مجدًا ووقارًا، وكرامةً وفَخارًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أرشدَ الله به نفوسًا حَيارَى، وأنهلَها عذْبَ الإباء فتلألأَت عِزَّةً وأنوارًا، اللهم فيا ربِّ صلِّ عليه، وعلى آله الساطعين في سماءِ الشَّمَمِ شموسًا وأقمارًا، وصحابتهِ الكرامِ الميامين البالِغين من ذُرَى الشُّموخ شأوًا أنَّى يُجَارَى، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجُو من المنَّان جنَّاتٍ وأنهارًا، وسلَّم يا ربِّ تسليمًا مُبارَكًا عديدًا مديدًا ما تعاقبَ القمران واستنارا.


أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حق تقاته، واسعَوا في معارجِ العِزَّة إلى مرضاته؛ فتقواه - سبحانه - لمن رامَ العِزَّة والفلاح والرِّفعةَ والكرامة والصلاح، كم زكَت لِباسًا وطابَت غِراسًا، وشعَّت بالهُدى نِبراسًا، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة: 197].
ألا إنما التقوى هي العزُّ والكرَم
وحبُّك للدُّنيا هو الذلُّ والسَّقَم
وليس على عبدٍ تقيٍّ نقيصةٌ
إذا حقَّقَ التقوى وإن حاكَ أو حجَم

أيها المسلمون:
في ثنايا حوادث العصر المُتراكِبة، وأعاصير فتنه المُتعاقبة، ومُستجدَّاته المُتواكِبة، وما أسفرَت عنه من تحريفٍ لقِيَمٍ منيعةٍ سامِية، وانجِفالٍ عن معانيها البديعة الهامِية؛ لزِمَ التوجيهُ والإيقاظ، وتحتَّمَ التذكيرُ والاستنهاض.
ومن تلكم القِيَم التي زاغَت عن حقيقتها الأفهام، وغدَا مِدرارُها كالجَهام: قِيمة العِزَّة والكرامة، والإباء والشَّهامة التي أضحَت في كثيرٍ من الأقطار مُصفَّدةً أو مُضامَة؛ فالعِزَّةُ روح الحياة الكريمة وقِوامها، وبها هيبةُ النفس الإنسانية واحترامُها، ومتى طُمِست في المُجتمعات فقد آذنَت بفنائها واخترامِها.
تنزِعُ العزَّةُ بالنفوس الهَضيمة عن الذل والضراعَة والاستِكانة والوَضاعة، وتسمُو بها جوزاءَ الحق والْتِماعَه؛ كيف وشفاءُ الخُنوع في نُصْلِها، وسُؤدَد الدنيا في نَصْلها، وجلالُ الأمم في وَصلها، كما قال - سبحانه -: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[الإسراء: 70].
إخوة الإيمان:
العِزَّة الدينية، والكرامةُ الإسلامية من أعظم الخِلال وأزكى الخِصال التي تولَّت غِراسَها، وأرَّجَت أنفاسَها شريعةُ الديَّان - سبحانه -، فحفِظَت المُسلمين عن مواقع الذل والمَسكَنة والعطَب، وذادَتهم عن دَرَكات العجز وسوء المُنقلَب؛ فالمُسلمُ جِبِلَّة أبِيٌّ أَنُوف وعن الهُونِ عَزُوف، وللصَّغَار عَيُوف، أجلُّ من أن يتطامَنَ لطغيان، ويستخزِيَ لمنَّان، ويستكين لبُهتان، ويرزحَ لسَطوة غَشُومٍ أيًّا كان، أو يُمالِقَ إنسان، ويتَّضِع لمكرٍ وهوان، أو يُمالِئَ للئيمٍ جبان؛ لأن العزة الشامِخة في أطواء المُسلمين الجارية أنساغُها في أرواحهم إنما هي من الله وحده استِمدادُها، ومن الدين الربَّانيِّ استِرفادُها، ومن الإيمان الحق عُدَّتُها وعتَادُها.
بين جنبَيْه عِزَّةٌ حين ثارَت
لم ترُعْها العواصِفُ الهَوجَاءُ
تأبَّى أن يعيشَ في حمْأَة الذلِّ
وثَارَت في نفسِه الكِبرياءُ

فماذا تصنعُ فُلولُ الطغيان في قلوبٍ تدرَّعَت بالإيمان، وتحصَّنَت بالعزَّة وتسامَت عن الخِذلان، وأنَّى تَنالُ سَطوةُ الباطل السَّفيه ذي الخُسران من حقٍّ تسطَّر في سجلِّ الشرف ولوحِ الزمان إزاء عُشَّاق العزَّة ورُواتها، وأبطال الشَّهامة وكُماتها، وليُوث العَرين والذِّمار وحُماتها: إخوانِنا الصامدين في فلسطين والأقصى وغزَّة، والصنادِيد في سورية الأعِزَّة الذين طالَ ليلُ ظُلمهم وقهرهم، ومُسلسلُ العُنف والمجازِرِ ضدَّهم، ولا زالَ طُغيان نظامهم يُماطِلُ في الوعود، وينكُثُ الوفاءَ بالالتزامات والعهود، فعَمُوا وصمُّوا، ثم عَمُوا وصمُّوا، والله بصيرٌ بما يعملون.
إنا لنعلَمُ أن دينَ محمدٍ
لا يرتضِي للمُسلمين هوانًا
المجدُ للبلد المُناضِلِ صابِرًا
حتى ولو ذاقَ الرَّدَى ألوانًا

أيها المؤمنون:
لقد تنزَّلت شريعةُ الإسلام لإخراج العباد كل العباد من حُلَك البطش والامتِهان إلى نور الاعتِزاز بالواحد الديَّان، تنزَّلت والكرامة من جوهرها وفَحواها، والعتِزازُ بالحق والعدلِ جَهرهُا ونَجواها.
في الحديث عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ليبلُغنَّ هذا الأمرُ ما بلغَ الليلُ والنهارُ، ولا يتركُ الله بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخلَه الله هذا الدين بعزِّ عزيزٍ أو بذُلِّ ذليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذلًّا يُذِلُّ به الكفرَ»؛ أخرجه الإمام أحمد، والبيهقي، والحاكم، وصحَّحه.
الله أكبر، الله أكبر.
وإنا أمةٌ عزَّت فِعالًا
وسادَ أُباتُها غُرًّا كِرامًا
وما انتكَسَت جِباهُ الصِّيدِ يومًا
على ذلٍّ ولا رضِيَت ملامًا

وأيُّ إزراءٍ أبلغُ في النفس ألمًا، وأعمقُ في الروح أثرًا ممن طُمِست كرامتُهم، وفُلَّ إباؤُهم، واستُلِبت نخوتُهم بأطواقِ الاستِبداد، وصُكَّت أصواتُهم بأصفاد الاستِعباد من قِبَل أقوامٍ أقصَوا العلماء، وعطَّلوا العُظماء، وأحبَطوا النُّبَغاء، وحطَّموا العباقِرة والنُّجَباء، وأحالوا أوطانَهم صَحاصِحَ جَرداء في وأدٍ للكرامات، ومُصادرةٍ للحريات؛ بل ومُساوَماتٍ ومُزايَدات.
وفي ديوان الحِكَم: "من بانَ عجزُه زالَ عِزُّه".
إخوة الإسلام:
ولكن، ثم لكن ها هو التأريخُ المُعاصِر يُرهِفُ السمعَ في إكبارٍ لمُجتمعاتٍ انخلَعَت من براثِنِ الإذلال، فأزهَقوه ورفَضوه، واستأسَدوا في وجه الاستِكبار فدكُّوه ولفَظوه، فتسنَّموا - بحمد الله - في شُموخٍ واعتِزازٍ عبَقَ الشعائرِ الدينية والحياة الإسلامية بعد أن أنهَكَهم الاعتِسافُ والابتِزاز.
لقد آنَ لعُتاة الطُّغيان في كل مكانٍ أن يتَّعِظوا بمآل الأقران؛ فغواشِي المِحَن لا مَحالةَ مُتقشِّعةٌ عن فجر العِزَّة والانتِصار، ومُنشقَّةٌ عن صُبح الكرامة والاستِبشار، وستبقى عُنجُهيَّة العُتاة الذين اعتَقَلوا إراداتِ الشعوبِ وسلَبوا حقوقَهم في العِزَّة والكرامة، وعفُّوا معالمَ إبائِهم غُرَّةً سوداء في مُعُرَّةٍ سوداء في مُحيَّا التأريخ، ودمامةً في إنسانية الإنسان في كل زمانٍ ومكان.
أمة العِزَّة والكرامة، والإباء والشَّهامة:
إن العِزَّة المنشودةَ المَرُومة الزَّاكِية الأصول والأَرُومَة التي رفرَفَت وفقَ ضوابط الدين، ورُسوخِ اليقين، وشُفوف البصيرة النَّفَّاذة التي تُبين؛ لأن العِزَّة إنما هي في التقوى، والقوة في الطاعة، والعلوَّ في الاستقامة، والرِّفعةَ في النُّبْل والمُروءة والفضيلة، والحريةَ الحقَّة في ظِلال الشريعة الغرَّاء.
وفرقٌ بين الحرية والفَوضى، وحرية الدين والفِكر والانفِلات والإلحاد والكُفر، مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ[فاطر: 10].
ولن تتحقَّق لأمة الإسلام الأمانيُّ العِظام إلا بالسير على نور العزيز العلَّام وهدي سيد الأنام، فلا تُفرِّط في الاعتِزاز بهويَّتها ولا تستلِين، وتشمَخُ ولا تستكِين.
هو العزُّ الذي لا ريبَ فيه
لمن رامَ الشريعةَ واستقامَا
فتلك مواقِفُ الأبطال تَتْرَى
وقد عمَّت كرامتُها الأنامَا

معاشر الأحِبَّة في كل الأقطار، أمة الشِّماس والإكبار:
أين التحقُّق بالعزَّة الإسلامية؟ أين تحقُّق كرامة الأمة في المحافِل الدولية؟ أين تأصيلُ قِيَم الإباء والشَمَم والعلاءِ والهِمَم في كثيرٍ من الفضائيات ووسائل الإعلام، وأسَلَات الأقلام من رجال الفِكر والتوجيه الأعلام؟ أين مخايِلُ الاعتِزاز بالإسلام لدى الشباب والفَتَياتِ والأجيال؛ ثقافيًّا وسلوكيًّا وفِكريًّا واجتماعيًّا؟
لشَدَّ ما يُطوِّحُ بك مَريرُ الجواب، والاستِرجاعُ والاستِعتاب، إنها التبَعِيَّة الجَوفاء، والانهِزاميَّة النَّكراء التي غَزَت كثيرًا من أبناء المُسلمين عيانًا بيانًا، وأذَاقَتهم من الهُونِ أصنافًا وألوانًا.
أمة الإسلام:
وثمَّة ملحَظٌ مهم ليكن منكم بحُسبان؛ كونُ فئامٍ من الناس يُعانُون ثقافةَ الخلطِ بين الاعتِزاز والابتِزاز، وبين الحق اللازِب والمُؤكَّد من الواجِب، وبين العَدلِ بالعَدلِ والعَدلِ عن العَدلِ، دون الاحتِراز من الاندِفاع في لُجَّة الغُرُر والبَوّ واتِّقاد جمرة الخُيلاء والزَّهو، وذلك بتبديد المرافق والمُمتلكات والمُكتسبَات، والتعدِّي على المُقدَّرات والحُرُمات، بإثارة الفَوضَى والشَّغَب على الأمن والاستقرار والنظام والطمأنينة والانسِجام بدعوَى الحرية والكرامة، والمُطالَبَة بالحقوق.
قد أسلَموا قِيادَهم لدُعاة التحريض والغَوغائية الذين يبُثُّون الفتنةَ بين الشعوبِ الأوِدَّاء لخدمةِ أجندةٍ مشبوهةٍ للأعداء الألِدَّاء، وتلك - وايْمُ الحق - المفاهيمُ المُختلَّة، ودلالاتُ العِزَّة المُعتلَّة التي تُصادِمُ نصوصَ المِلَّة، وإن هو إلا الصَّلَفُ النَّزِق، والهَوَجُ الأرعَنُ الذي ألصَقَ بالعزَّة الإهانةَ، وتعطَّل عن الوعي والزَّكَانة، وتجرَّد عن المسؤولية والأمانة، وإن في طيِّه إلا الشرور والبلاء، والخُسرُ والعَداء.
ذلكم وإن أمنيةَ من يُحِسُّ مرارةَ الواقع بلوعَة جنانِه وحرارة إيمانه أن تُحطِّمَ الأمةُ عقدةَ الدُّون والانهِزام، وتُرشَّدَ في المُجتمعات مفاهيمُ العِزَّة والاحتِرام التي تنبُذُ الفوضَى والاحتِدام، وتتأبَّى عن الهمجِيَّة والانتِقام، وتمضِي في مُطارحَة الفِكرِ بالفِكرِ، والْتماسِ الحقوقِ بمدارجِ العقلِ والرَّوِيَّة، والحَصانَة السَّنِيَّة، ساعتَها سينهمِرُ غيثُ الأمجاد والعلاء على آكام العِزَّة الحقَّة ومضارِب الإباء التي تُجمِّلُ الحياةَ وتُغليها، وتُبارِكها وتُحيِيها، على نحو دِيار الحرمين الشريفين - حرسَها الله - التي بلغَت - بحمد الله - من ألَقِ الإباء والكرامة الذُّرَى النَّضير الذي عزَّ عن النَّظير، والله وحده الوليُّ والنصير، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الجمعة: 4].
أمنٌ وإيمانٌ وعِزَّةُ دولةٍ
تحمِي الحِمَى مما يرُوعُ ويُفجِعُ
فإذا نَظَرتَ فكلُّ شيءٍ باسِمٌ
والحُكمُ عدلٌ والشريعةُ تسطَعُ

وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ[المنافقون: 8].
بارك الله ولي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والذكر والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إنه كان حليمًا غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله وليِّ النِّعَم ومُسديها، أحمده - سبحانه - كرَّمَ الإنسانَ تبجيلًا وتنويهًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً زكَت بالحق مرامِيها، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه من سعِدَت به الخَليقةُ فانجابَت دياجِيها، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله البالغين من الأمجاد عَوالِيها، وصحابتهِ الدَّاعين إلى العِزَّة القَعْساء في أجلَى معانيها، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واحذروا المهانةَ والضَّعَة فقد ذلَّ جانِيها، وابتَغوا من عِزَّة الإسلام للأرواح تزكِيةً وتوجيهًا.
أيها المسلمون:
بَيْد أن هناك أقوامًا يتظَاهَرون بالغَيرة على الإسلام، ركِبوا من ظاهر العِزَّة متنَ عَمياء وخَبطَ عشواء، يُريدون دكَّ عامِرِها، وتكديرَ رَقراقِ غامِرِها، وذلك في حوادِثِ الخَطفِ والقَرصَنة، والمُساومةِ والابتِزاز، كما في حادثِ الخَطفِ الصَّلِف للدبلوماسيِّ السعوديِّ: عبد الله الخالديِّ، فكَّ اللهُ أسرَه، فكَّ اللهُ أسرَه، فكَّ اللهُ أسرَه وسائرَ أسرى المُسلمين.
إن تلك الأفعال الإرهابية الجَبانة التي قامَت على أنقاضِ الظلمِ والبُهتان، والغَدر والعُدوان مُحرَّمةٌ إجماعًا في الشريعة الإسلامية، مُجرَّمةٌ في القوانين الدولية، تستنكِفُ منها الحمِيَّةُ الدينية، وتمُجُّها النَّخوةُ العربية، والشِّيَمُ الأصيلةُ الإنسانيةُ، وقد صحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - قولُه: «ولا أحبِسُ الرُّسُل». وفي رواية: «ولا أقتلُ الرُّسُل».
وإنه لبُرهانٌ قاطعٌ ودليلٌ ساطِعٌ فضحَ من تلك الفئات عَوَارَها وإفلاسَها، وهتَكَ زائِفَ ادِّعائِها، وكشَفَ ظواهِرَها المُموَّهة، وبواطِنَها المسمومة المُشوَّهة، وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ[الحج: 18].
أما زَعَموا أنهم إلى الشريعة يحتَكِمون، وإلى العدل والحق يختصِمون، وبالسنة الغرَّاء يهتَدون؟ أين حقيقةُ ذلك فيما أقدَموا عليه من الترويع والتفزيع، والارتِهان والامتِهان؟!
ألا فلتُكفكِفُوا - يا هؤلاء - من أضالِيلكم، ولتُقصِروا عن أباطِيلكم، ولتَثُوبوا إلى رُشدِكم، وتتوبوا إلى ربكم، وتُطلِقوا فورًا الخطيفَ البَريءَ، والأسيرَ العَنِيءَ.
هذا وإن العالَمَ أجمع ليُثمِّن للمملكة الشمَّاء وقيادتها الأمنية المُوفَّقة الموقفَ الأبِيَّ الصارِم في مُجافاة هؤلاء النَّزَقة، المارِقين المُرتزِقة، مُؤمِّلةً من الأشِقَّاء والنَّصَفَة الشُّرَفاء مزيدَ التحرُّك العاجِل لحلِّ هذه القضية الساخِنة، والله وحده المُعين والظَّهير، وللخاطفين الذين خطَفَ الشيطانُ عقولَهم سوء المُنقلَب والمصير.
من دَوحَة المجدِ من شمَّاخة القِمَم
من منبَت العِزِّ من خفَّاقَة العلَمِ
نادَى المُنادِي إلى الإحسان فاستبِقوا
وائسُوا جراحَ خَطيفٍ تاهَ في الظُّلَمِ

وكذا رَأْبُ الصدعِ بين الأحِبَّة والأشِقَّاء، ونزعُ فتيل الفتنة والأزمةِ العابِرة بين الإخوة الألِدَّاء، لقوله - سبحانه -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات: 10].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على من هدانا الله به صراطًا مُستقيمًا، وعقدَ من معاني العِزَّة دُرًّا نظيمًا، مُمتثلين أمر ربكم - سبحانه - الذي ألبَسَكم به شرفًا جَنيمًا، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
ثم الصلاةُ مع السلامِ جميعه
لمحمدِ المبعوثِ بالفُرقانِ
والآلِ والصحبِ الكرامِ وكلِّ مَنْ
سلَكَ المحجَّةَ ثابتَ الإيمانِ

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيد الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين: نبيِّنا وحبيبِنا وقُدوتِنا محمدِ بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي برٍ، وعمر، وعثمان وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحم حوزةَ الدين، ودمِّر الطغاةَ والظالمين وسائر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، اللهم ضاعِف أجرَه ومثوبَته على ما يقومُ به من نُصرة قضايا المُسلمين وعلى ما وُفِّق من احتواء السحابةِ العابِرة مع أحِبَّتنا في مصر الكِنانة وتضييع الفُرصة على الشانئين المُتربِّصين، اللهم اجعل ذلك في موازين أعماله الصالحة، اللهم وفِّقه ونائبَه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ يا مَن له الدنيا والآخرةُ وإليه المعاد.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، وفُكَّ أسرَ المأسُورين، وارفَع الحِصارَ عن المُحاصَرين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم كن لإخواننا المُستضعَفين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من براثِنِ اليهود الغاصِبين.
اللهم إنا نسألُك أن تُصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكان، اللهم اكشِف الغُمَّة، اللهم اكشِف الغُمَّة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة.
اللهم انصُر إخواننا في سُوريا، اللهم كن لإخواننا في سُوريا، اللهم كن لإخواننا في سُوريا، اللهم طالَ ليلُ ظلمهم وبلائهم، اللهم فرِّج عنهم عاجِلًا غيرَ آجلٍ يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، واحفَظ أموالَهم يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكُروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُروه على عُموم نِعَمه يزِدكم، ولذِكرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنَعون.

ابوحاتم 05-26-2012 10:27 PM

أسباب انشراح الصدر
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 27\6\1433هـ بعنوان: "أسباب انشراح الصدر"، والتي تحدَّث فيها عن أسباب انشراح الصدر، واستدلَّ على ذلك بما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكلامِ بعضِ أهل العلمِ.

الخطبة الأولى
الحمد لله الذي شرحَ صدور العابدين، وأنزلَهم نُزُل المُقرَّبين، أحمده - سبحانه - حمد الشاكرين الذاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمةٌ قامت بها السماوات والأرض، ولأجلها انقسَمَت الخليقةُ إلى مؤمنين وكافرين، ولأجلها نُصِبَت الموازينُ ووُضِعَت الدواوين، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله وأمينُه على وحيِه، وخيرتُه من خلقِه، أرسله الله رحمةً للعالمين، وإمامًا للمُتَّقين، وحُجَّةً على الخلق أجمعين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[البقرة: 281].
أيها المسلمون:
انشراحُ الصد، وسكونُ النفسِ، وطُمأنينةُ القلبِ أملُ كل من عاشَ على الغَبراء، وحاجةُ كل ماشٍ في مناكبِها، باحثٍ عن طِيبِ العَيشِ فيها، مُريدٍ حِيازةَ أوفَى حظٍّ من السعادة لنفسه، وإدراكِ أعظمِ نصيبٍ من النجاح.
وإذا كان للناسِ في أسبابِ تحقيقِ انشراحِ الصدر مذاهبُ واتجاهاتٌ شتَّى؛ فإن للصفوةِ المُتَّقين أولي الألباب من المعرفةِ الراسخةِ بأسبابِ ذلك وبواعِثِه ما يجعلُ سبيلَهم إليه أقومَ السُّبُل وأهداها وأحراها ببُلوغِ الغايةِ فيه؛ لأنه سبيلٌ مضى عليه وأرشدَ إليه رسولُ الهُدى - صلوات الله وسلامه عليه -، وهو الحريصُ علينا، الرؤوفُ الرحيمُ بنا، الذي قال في الحديثِ الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والنسائي في "سننهما" بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلوات الله وسلامه عليه - قال: «إنما أنا لكم بمنزلةِ الوالدِ أُعلِّمُكم ..» الحديث.
والذي كان - صلوات الله وسلامه عليه - أشرحَ الخلقِ صدرًا، وأطيبَهم نفسًا، وأنعمَهم قلبًا؛ لِمَا جمَعَ اللهُ له من أسبابِ شرحِ الصدر مع ما آتاه من النبُوَّة والرسالة - عليه أكمل الصلاة وأتم السلام -.
إنها - يا عباد الله - أسبابٌ يأتي في الطليعةِ منها: الهُدى والتوحيد؛ كما قال - سبحانه -: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[الأنعام: 125]، وقال - عز وجل -: أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[الزمر: 22].
أي: لا يستوي هو ومن قسَا قلبُه بالبُعد عن الحق والإعراضِ عن الهُدى، كما قال - عزَّ اسمُه -: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام: 122].
إنه نورُ الإيمان الذي يُضيءُ اللهُ به قلوبَ من شاءَ من عباده، فيشرحُ به صدورَهم، وتطيبُ به نفوسُهم، وتنعَمُ به قلوبُهم.
وفي الإنابةِ إلى الله، ومحبَّته، والإقبالِ عليه تأثيرٌ عجيبٌ في انشراحِ الصدرِ، وكلما كانت المحبةُ أقوى كان انشراحُ الصدرِ وطيبُ النفسِ كذلك، وعلى العكسِ منها: الإعراضُ عن الله تعالى، والتعلُّق بغيره؛ فإنه من أعظمِ أسبابِ ضيقِ الصدر؛ لأن من أحبَّ شيئًا غيرَ الله عُذِّبَ به، وسُجِنَ في محبَّته.
فهما - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "هما محبَّتان: محبَّةٌ هي جنةُ الدنيا، وسُرورُ النفس، ولذَّة القلبِ، ونعيمُ الروح وغذاؤُها، ودواؤُها؛ بل حياتُه، وقُرَّةُ عينِها، وهي محبَّةُ الله وحده بكل القلبِ، وانجِذابُ قوى المَيْل والإرادة والمحبِّة كلها إليه، ومحبَّةٌ هي عذابُ الروح، وغمُّ النفسِ، وسِجنُ القلبِ، وضيقُ الصدر، وهي سببُ الألم والنَّكَد والعَناءِ، وهي محبَّةُ ما سواه". اهـ.
فليختَرِ اللَّبيبُ العاقلُ لنفسِهِ، وليجتهِد لها، فإنه ساعٍ في خلاصِها، راغبٌ في حِيازةِ الخيرِ لها.
وفي الإحسانِ إلى الخلقِ في كل دُروبِ الإحسان بنفعهِم بكل ما يُمكِنُ نفعُهم به من مالٍ، وجاهٍ، وتعليمِ علمٍ نافعٍ، وأمرٍ بمعروفٍ، ونهي عن مُنكَرٍ، وصلةٍ، وصدقةٍ، وغيرها، في ذلك تأثيرٌ عجيبٌ في شرحِ الصدرِ، وسرورِ النفسِ.
وقد ضربَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلًا لانشراحِ صدر المُتصدِّق وضيقِ صدرِ البخيلِ، فقال في الحديث - الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثَلُ البخيلِ والمُتصدِّق كمثَلِ رجلَيْن عليهما جُنَّتان من حديدٍ، إذا همَّ المُتصدِّقُ بصدقةٍ اتَّسَعت عليه وانبَسَطت، حتى تُعفِّيَ أثرَه، وإذا همَّ البخيلُ بصدقةٍ تقلَّصَت وانضمَّت يداه إلى تراقِيه وانقبَضَت كلُّ حلقةٍ إلى صاحبتِها، فيجهَدُ أن يُوسِّعَها فلا تتَّسِع».
وإن ذكرَ الله تعالى على كل حالٍ لهُوَ من أقوى أسبابِ انشراحِ الصدر، وقد بيَّن ربُّنا - تبارك وتعالى - حُسنَ جزاء الذاكرِ له، وعِظَم منزلته عنده بقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ[البقرة: 152].
ومن ذكَرَ الله تعالى كان أجدرَ الناسِ بكل انشراحِ صدرٍ، كما أن الغفلةَ عن ذكره سببٌ لضيقِ الصدرِ وهمِّه وغمِّه، وإن أشرفَ الذكرِ وأعظمَه: تلاوة كتابِ الله تعالى بتدبُّرٍ يبعَثُ على العملِ؛ فإن التلاوةَ الحَقَّةَ - كما قال أهلُ العلم -: هي تلاوةُ المعنى واتِّباعُه؛ تصديقًا بخبره، وائتمارًا بأمره، وانتهاءً بنهيِه، وائتمامًا به،
حيثُما قادَ انقدتَ له؛ فتلاوةُ القرآن تتناولُ لفظَه ومعناه، وتلاوةُ المعنى أشرفُ من مُجرَّد تلاوةِ اللفظِ، وأهلُها هم أهلُ القرآن الذين لهم الثناءُ في الدنيا والآخرة؛ فإنهم أهلُ تلاوةٍ ومتابعةٍ حقًّا.
ألا وإن الصلاةَ التي هي عمادُ الدين، وخيرُ أعمال العباد - كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «استقيمُوا، ولن تُحصُوا، واعلموا أن خيرَ أعمالِكم الصلاة ..»؛ أخرجه ابن حبان في "صحيحه"، والحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيحٍ.
إن الصلاةَ التي تُقامُ على الوجهِ الكاملِ ظاهرًا وباطِنًا مع جماعة المُسلمين في المساجد مُفرِحةٌ للنفسِ، مُذهِبةٌ للكسل، شارِحةٌ للصدر، مُغذِّيةٌ للرُّوحِ، مُنوِّرةٌ للقلبِ، حافِظةٌ للنِّعمة، دافِعةٌ للنِّقمةِ، وما استُجمِعت مصالحُ الدنيا ولا الآخرة، ولا استُدفِعَت شرورُهما بمثل الصلاة.
كما قال - رحمه الله -: "وفي العلمِ المُقتبَس من مشكاةِ النبُوَّة المُنوَّر بأنوار الوحيَيْن فيه من عوامل شرحِ الصدر ما لا مُنتهَى له، ولا حدَّ يحُدُّه، وفي الإعراضِ عن الفُضولِ - أي: الزائدِ، وما لا حاجةَ إليه؛ من النظر، والكلامِ، والاستماع، والمُخالطة، والأكل، والنوم - باعثٌ قويٌّ لشرحِ الصدر؛ لأن هذه الخمسة مُفسِداتٌ للقلبِ، تُطفِئُ نورَه، وتُطفِئُ عينَ بصيرتِه، وتُثقِلُ سمعَه إن لم تُصِمَّه وتُبكِمَه، وتُضعِفُ قواه كلَّها، وتُوهِّي صحَّته، وتُفتِّرُ عزيمتَه، وتُوقِفُ همَّته، وتُنكِّسُه إلى ورائه؛ فهي عائقةٌ له عن نَيْل كماله، قاطعةٌ له عن الوُصولِ إلى ما خُلِق له وجُعِل نعيمُه وسعادتُه، وابتهاجُه ولذَّتُه في الوُصولِ إليه". اهـ.
فاتقوا الله - عباد الله -، وخُذوا بمناهج الصفوةِ المُتَّقين أُولي الألبابِ الذين استنُّوا بسُنَّة خيرِ الورَى - صلوات الله وسلامه عليه -، واقتَفَوا أثرَه، فكانوا أطيبَ الناس عيشًا، وأشرحَهم صدرًا، وأنعمَهم قلبًا؛ فما أسعدَ من سلكَ هذا المنهج، ومضَى على هذا الطريقِ.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرِه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن من أسبابِ شرح الصدر: التنزُّه عن ذَميمِ الصفاتِ، ومقبوحِ الأخلاقِ؛ فإنها من أظهر أسبابِ ضيقِ الصدرِ، فإذا لم يكن للعبدِ سعيٌ لإخراجِ تلك الصفاتِ، والبُرء من دَغَلها لم ينتفِع بشرحِ صدره، وكان قلبُه لِمَا غلَبَ عليه منها.
وإن من أقبَح تلك الصفاتِ وأشدِّها نُكْرًا: الكِبرَ، والعُجبَ، والغُرورَ، والحسدَ، والأَثَرة، وسائر أمراض القلوبِ؛ فإنه تُورِثُ ضيقًا وهمومًا وغمومًا وآلامًا.
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أنه لا سبيلَ إلى انشراحِ الصدرِ، وسُرورِ النفسِ، وتنعُّمِ القلبِ إلا بالإقبالِ على الله؛ فإنه لا حُزنَ مع الله أبدًا، ولذلك قال تعالى حِكايةً لقول نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه -: لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[التوبة: 40].
فمن كان الله معه فما لَه والحُزن؟ وإنما الحُزنُ كلُّ الحُزنِ لمن أعرضَ عن الله فوُكِلَ إلى نفسه وهواه.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رُسُل الله: محمدِ بن عبد الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتاب الله؛ حيث قال الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك يا رب العالمين.
اللهم اكتُب النجاحَ والتوفيقَ لطلابِ العلمِ وطالباتِهِ في امتحاناتهم، وألهِمهم الإجابات المُسدَّدة المُوفَّقة يا رب العالمين.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحورِ أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذُ بك من شُرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نُحورِهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحَم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضِيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 05-26-2012 10:35 PM

المحاورة وأثرها
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 4\7\1433هـ بعنوان: "المحاورة وأثرها"، والتي تحدَّث فيها عن المحاورة والمُجادلة بالتي هي أحسن، وأن لها أثرًا عظيمًا في تأليفِ القلوبِ، وإصلاحِ النفوس وتهذيبِها، وذكر أمثلةً ونماذجَ من مُحاورةِ الأنبياء لأقوامهم، ومُحاورة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين والكافرين من قومه، وكيف كانت المُحاورة تُؤثِّرُ في النفوس، وبيَّن أنها أيضًا تُؤثِّرُ على الأطفال في تربيتهم.

الخطبة الأولى
الحمد لله الكبير المُتعال، ذِي العِزَّة والملكوت شديدِ المِحال، أنزلَ علينا كتابًا مُبينًا ضربَ لنا فيه الأمثالَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، خيرُ من أُوتِيَ جوامِع المقال وأحسن الخِصال، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى أزواجه وأصحابه والآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن أحسنَ الحديثِ كلامُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وعليكم بجماعة المُسلمين فإن يدَ الله على الجماعة، والزَموا تقوى الله - سبحانه -؛ فهي الهدايةُ والنورُ، والسِّياجُ المنيعُ من الانحرافات والشُّرور، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: 52].
أيها المسلمون:
في الليلة الظَّلماء يُفتقدُ البدرُ، وفي يوم الحرِّ الشديدِ يُستجلَبُ الظلُّ، ويُستعذبُ المورِدُ، وفي خِضَمِّ الفتن والخلافاتِ التي تموجُ كموجِ البحرِ، وإعجابِ كل ذي رأيٍ برأيِه، وهيَجانِ الإسقاط الفِكريِّ، والعلميِّ، والثقافيِّ، والإعلاميِّ؛ يبحثُ العاقلُ فيها عن قَبَسِ نورٍ يُضِيءُ له ويمشي به في الناسِ، أو عن طوقِ نجاةٍ يتَّقِي به أمواجَ البحر اللُّجِّيِّ الذي يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ من المُدلهِمَّاتِ والزوابِعِ التي تجعلُ الحليمَ حيرانًا.
وإننا في هذه الآوِنة نعيشُ زمنًا تكاثَرَت فيه الوسائلُ المعلوماتية، وبلَغت حدًّا من السرعة جعلَت المرءَ يُصبِحُ على أحدث مما أمسَى به، ثم هو يُمسِي كذلك. إنها ثورةُ معلوماتٍ وبُركانٌ من الثقافات والمقالات والمُطارَحات التي اختلَط فيها الزَّيْنُ بالشَّيْن، والحقُّ بالباطلِ، والقناعةُ بالإسقاطِ القَسريِّ، حتى أصبحَ الباحثُ عن الحقِّ في بعض الأحيانِ كم يبحثُ عن إبرةٍ في كومةِ قشٍّ، وهنا تكمُنُ صعوبةُ المهمةِ، وتخطُرُ التَّبِعَة.
وربما لم يعُد أسلوبُ الأمس يُلاقِي رواجًا كما كان من قبلُ؛ وذلك لطُغيان المُشاحَّة وضعفِ الوازِعِ، ما يجعلُ أُسلوبَ المُحاوَرة والمُجادَلة بالتي هي أحسنُ سبيلًا أقومَ في هذا الزمن، وبخاصَّةٍ في مجال التربيةِ والإعدادِ والنُّصحِ والتوجيهِ، والنقدِ والخُصومة.
فكلِّ زنٍ وسيلتُه التي تُوصِلُه إلى غايةِ الأمسِ واليوم، ولا يعني هذا أن ما مضى كان خللًا، كما أنه لا يُلزِمُ أن الحاضِرَ هو الأمثلُ، وإنما لكل مقامٍ مقالٌ، ولكل حادثٍ حديثٌ، ولقد أحسن شيخُ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - حين قال: "إذا عُرِف الحق سُلِك أقرب الطرقِ في الوصولِ إليه".
ربما كان الإسقاطُ والإلزامُ دون مُحاورةٍ أو تعليلٍ أسلوبًا سائدًا في زمنٍ مضى قد فرضَ تواجُده في الأسرة والمدرسة، ومنابر العلم والفِكر والإعلام، وربما كان مقبولًا إلى حدٍّ ما لمُلاءَمة تلك الطبيعة والمرحلة للمُستوى الخُلُقي والمعيشي والتربوي والعلمي. وما ذاك إلا لسريان مبدأ الثقة والاطمئنان بين المجموع، وهي في حِينها أدَّت دورًا مشكورًا، وسعيًا مذكورًا، كان مفهومُ التلقينِ فيها أمرًا إذا كان المُلقِّنُ هو الأعلى، وربما صار نُدبةً وطلبًا إذا كان المُلقِّنُ هو الأدنى، وقد يكونُ في حُكم الالتِماسِ إذا كان الطرَفَان مُتساوِيَيْن.
بَيْد أن المشارِبَ في زمننا قد تعدَّدت، والطرقَ المُوصِلة قد تفرَّعَت، ما بين مُوصِلٍ للغاية، أو هاوٍ بسالِكها إلى مكانٍ سحيقٍ، أو سالِكٍ وعرًا على شفَا جُرُفٍ هارٍ، قد بيَّن ذلكم بأوضح عبارة وأجمعِ كلِمٍ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه عنه ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: خطَّ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا خطًّا فقال: «هذا سبيلُ الله»، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينِ الخطِّ ويساره وقال: «هذه سُبُلٌ على كلِّ سبيلٍ منه شيطانٌ يدعو إليه»، ثم تلا: «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ[الأنعام: 153]» - يعني: الخطوط الذي عن يمينه ويساره -؛ رواه أحمد، والنسائي.
ومن هذا المُنطلَق كلِّه - عباد الله - يأتي الحديثُ بشَغَفٍ عن الحاجةِ إلى سيادةِ مبدأ المُحاوَرة والمُجادَلة بالتي هي أحسنُ في جميع شُؤون الحياة كما علَّمَنا ذلك دينُنا الحنيفُ، وكان رائدَنا فيها كتابُ ربِّنا وسنَّةُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -؛ فالمُحاورةُ أسلوبٌ راقٍ، ووسيلةٌ مُثلَى تُوصِلُ إلى الغايةِ بكل أمنٍ وطُمأنينةٍ وأدبٍ وتأثيرٍ.
لأن اختلافَ الناس وتفاوُت عقولِهم، وأفهامهم، وأحوالهم النفسيَّة تفرِضُ طرقَ هذا المبدأ في زمنٍ كثُر فيه الجشَعُ، وشاعَت فيه الفوضَى، وأصبحَ التافِهُ من الناسِ يتكلَّمُ في أمر العامَّة.
المُحاورةُ - عباد الله - تبادُلُ حديثٍ بين اثنين أو أكثر، يُقصَدُ به: إظهارُ حُجَّةٍ، أو إثباتُ حقٍّ، أو دفعُ شُبهةٍ، أو رفعُ باطلٍ في قولٍ، أو فعلٍ، أو اعتقادٍ. وهي أسلوبٌ مُعتبرٌ في الكتابِ والسُّنَّة؛ فكتابُ الله به عشراتُ الآيات التي جاءت مُتضمِّنةً معنى المُحاورة، والسنَّةُ المُطهَّرة مليئةٌ بهذا الأُسلوبِ المُنبعِثِ من الخُلُق النبوي الهادفِ إلى هدايةِ الناسِ، والحِرصِ عليهم، والرحمةِ بهم، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة: 128].
وإن أي مُجتمعٍ يُربِّي نفسَه ونفوسَ بنِيه على إجادَة إيصال الفِكرة إلى الغير بإقناعٍ ناتجٍ عن مُحاورةٍ وشفافيَّة - كما يقولون -، ومُجادلةٍ بالتي هي أحسنُ لا بالتي هي أخشنُ، فستصِلُ الفِكرةُ بكلِّ يُسرٍ ووضوحٍ لا يشُوبُه استِكبارٌ، وإذا لم تكن نتيجةً إيجابيَّةً فلا أقلَّ من أن الحُجَّة قامَت، والذِّمَّة برِئَت، ولسانُ الحالِ حينئذٍ هو قولُ المؤمنِ: فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[غافر: 44].
والحُكمُ هو الحُكمُ، والحقُّ هو الحقُّ، لن يتغيَّر؛ سواءٌ أكان بمُحاورةٍ أم لا، ولكن التغيُّر إنما يكونُ في القناعةِ بالحُكم وفهمِه والرِّضا به، ومعرفةِ حِكَم الشارعِ ومقاصِدِه.
ثم إن المُحاورة لا تعنِي باللُّزومِ اقتسامَ النتيجة بين المُتحاوِرَيْن، كما أن الوسطيَّة لا تعني التوسُّطَ بين أمرَيْن؛ لأن الوسطيَّة هي العدلُ والخِيار الذي لا مَيْلَ فيه لطرفٍ دون طرفٍ؛ بل أنَّى وُجِد الحقُّ فهو الوسطُ، وإن كان أدعياؤُه طرَفين لا ثالثَ لهما.
وهذه هي الغايةُ المرجُوَّة من المُحاورة، ومن جادلَ بالباطلِ ليُدحِضَ به الحقَّ؛ فقد قال الله عنه: الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ[غافر: 35].
لقد امتازَت المُحاورةُ في شريعتنا الغرَّاء بأنها عامَّةٌ في جميع شُؤون الحياة، ابتِداءً من أمور الاعتقاد، وانتِهاءً بتربية الأطفال؛ فمن أمثلة ما جاء في أبواب الاعتقاد: مُحاورة كل نبيٍّ لقومه، ومُجادلتهم بالحُسنى طمعًا في هدايتهم إلى صراط الله المُستقيم، وقد جاء في الحديث: أن قُريشًا اختلَفَت إلى الحُصين بن عِمران، فقالوا: إن هذا الرجلَ - يعنونَ محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يذكُرُ آلهَتنا، فنحن نحبُّ أن تُكلِّمَه وتعِظَه، فهب حُصينٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أوسِعوا للشيخِ». فأوسَعوا له، فقال حُصينٌ: ما هذا الذي يبلُغُنا عنك أنك تشتِمُ آلهَتنا وتذكُرُهم. فكان مما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا حُصين! كم إلهًا تعبُد؟». قال: سبعةً في الأرض وإلهًا في السماء. قال: «فإذا أصابَك الضيقُ فمن تدعُو؟». قال: الذي في السماء. قال: «فإذا هلَكَ المالُ فمن تدعُو؟». قال: الذي في السماء. قال: «فيستجيبُ لك وحدَه وتُشرِكُهم معه؟! ..» إلى أن قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا حُصين! أسلِم تسلَم». قال: إن لي قومًا وعشيرةً؛ فماذا أقولُ لهم؟. قال: «قُل: اللهم إني أستهدِيك إلى أرشدِ أمري، وأستجيرُك من شرِّ نفسي، علِّمني ما ينفعُني، وانفعني بما علَّمتَني، وزِدني علمًا ينفعُني». فلم يقُم حتى أسلَمَ؛ رواه أحمد، والترمذي، والنسائي، وغيرُهم.
وقد دخل عديُّ بنُ حاتمٍ على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نصرانيٌّ، فسمِعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأ قولَ الله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ[التوبة: 31]. فقال عديٌّ: إنا لسنا نعبُدهم. قال: «أليس يُحرِّمُون ما أحلَّ الله فتُحرِّمُونَه، ويُحلُّون ما حرَّم الله فتُحِلُّونه؟!». قال: فقلتُ: بلى. قال: «فتلك عبادتُهم»؛ رواه أحمد، والترمذي، وغيرُهما.
فهذه هي مُحاورةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور العقائد؛ لتكون نبراسًا لكلِّ مُسلمٍ حريصٍ على هدايةِ غيره أن يقتدِيَ بهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واللهُ - جل وعلا - يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا[الأحزاب: 21].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه.
وبعد:
فإن المُحاورةَ بالحُسنى خيرُ سبيلٍ مُوصِلٍ إلى الحقِّ والرِّضا لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيدٌ، فحينما تستحكِمُ الشهوةُ على فُؤاد المرء، ويشرئِبُّ قلبُه إلى المعصية؛ فإن مجرَّد النهرِ والزَّجرِ والكَهرِ بعيدًا عن أُسلوبِ المُحاورة الكَفيلِ بنزعِ فَتيلِ الإغراقِ في حبِّ الشهوات لا يحصُدُ من الفوائد ما تحصُدُه المُحاورةُ ذاتُها.
فقد جاء فتًى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! ائذَن لي في الزِّنا. فأقبَلَ القومُ عليه، فزجَروه، وقالوا: مَهْ مَهْ. فقال: «اُدنُه»، فدنَا منه قريبًا، فجلسَ. قال: «أتحبُّه لأُمِّك؟». قال: لا والله، جعلَني الله فِداءَكَ. قال: «ولا الناسُ يُحِبُّونه لأمهاتهم». قال: «أفتُحِبُّه لابنتِك؟». قال: لا والله يا رسول الله، جعلَني الله فِداءَكَ. قال: «ولا الناسُ يُحبُّونه لبناتهم». قال: «أفتُحِبُّه لأُختِك؟». قال: لا والله، جعلني الله فِداءَكَ. قال: «ولا الناسُ يُحِبُّونه لأخواتهم ..» الحديث، إلى أن قال: فوضعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدَه عليه، وقال: «اللهم اغفر ذنبَه، وطهِّر قلبَه، وحصِّن فرْجَه»، فلم يكن بعد ذلك - الفتَى - يلتَفِتُ إلى شيءٍ؛ رواه أحمد.
هذه هي المُحاورةُ، وهذا هو أثرُها في إيضاح الأمر وإزالةِ الشُّبهة، وسلِّ الشهوةِ العَمياء.
وللمُحاورة في إزالة غشاءِ الظنِّ والشكِّ المُفضِيَيْن إلى اتِّهام النوايا والأعراضِ ما يجدُرُ أن تكون محلَّ نظر كل صادقٍ مُنصِفٍ حريصٍ على سلامة قلبه وذمَّته؛ فقد جاء أعرابيٌّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن امرأتي ولدَت غُلامًا أسود. فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «هل لك من إبِلٍ؟». قال: نعم. قال: «فما ألوانُها؟». قال: حُمْرٌ. قال: «هل فيها من أَورَق؟» - أي: ما يَميلُ إلى السَّواد -. قال: إن فيها لوُرقًا. قال: «فأنَّى ترى ذلك جاءَها؟». قال: يا رسول الله! عِرقٌ نزَعَها. قال: «ولعلَّ هذا عِرقٌ نزَعَه»؛ رواه البخاري، ومسلم.
فلا إله إلا الله؛ كم زالَ من الظنِّ السيِّءِ بأهله بهذه المُحاورة، فقطَعت دابِرَ الشكِّ، وأغلَقَت بابَ الفُرقَة الأُسريَّة، ولا إله إلا الله؛ كم هو عظيمٌ أثرُ الطمأنينة حينما يُحسِنُ المرءُ استِجلابَها بمُحاورةٍ هادِئةٍ هادِفةٍ حادِيها الإخلاص والبحثُ عن الحقيقة، بعيدًا عن التنابُزِ والتنابُذ.
وفي تربيةِ الأطفال يكونُ للمُحاورة من الأثر والوقعِ على النفسِ أكثرُ من مُجرَّد التلقين والإسقاط القَسريِّ؛ فقد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - الحسنَ بن عليَّ - رضي الله تعالى عنهما - قد أخذَ تمرةً من تمر الصدقةِ فجعلَها في فِيهِ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «كَخْ كَخْ، ارْمِ بها، أما علِمتَ أنَّا لا نأكُلُ الصدقةَ؟!»؛ رواه البخاري، ومسلم.
فهل تستوي التربيةُ مقرونةً ببيان السببِ والحِكمةِ بتربيةٍ مُجرَّدةٍ عن ذلك؟! ولو كان مُجرَّد النهيِ كَفيلًا في التربيةِ لاكتَفَى - صلى الله عليه وسلم - بقولِه: «كَخْ»، ولكن إضافةَ شيءٍ من المُحاورة بالتعليلِ مع هذا الصبيِّ تُوقِعُ في النفسِ معنى الفهمِ الصحيحِ حينما يكونُ مُعلَّلًا لا مفروضًا دون أدنى بيانٍ.
ومع ذلك كلِّه - عباد الله -؛ فإن المُحاورة لا تعني تهميشَ المرجعيَّة الشرعيَّة، كما أن الدعوةَ إليها لا تعني أن تكون كل مُحاورةٍ سَبهلَلًا بلا زِمامٍ ولا خِطامٍ؛ بحيث تطغَى على الحقوق والحُرُمات، وتكونُ مُحاورةُ تكْأَةً لكل مُتشفِّي، لاسيَّما حين يطالُ ذلكم مقاماتٍ لها في الاحترامِ والمرجعيَّة والتقديرِ ما يستقيمُ به الصالحُ العام، ولا يفتحُ بابًا للفوضى والرَّميِ بالكلامِ كيفما اتفق.
ويشتدُّ الأمرُ خطورةً حينما يكونُ ذلكم عند الحديثِ عن العُلماء والوُلاة الشرعيِّين، من خلال جعلِ بعضِ المُحاورات كلأً لمُنابَذتِهم ومُنابَزتهم، وقد جعل لهم الشارعُ الحكيمُ من الحُرمة والمكانة ما تعودُ مصلحتُه على أمنِ واستقرارِ المُجتمع، بعيدًا عن الإرباكِ والإرجافِ بالمنظومةِ العلميَّة والقياديَّة.
يتجلَّى ذلكم بوضوحٍ فيما ثبتَ في "الصحيحين" من أن جماعةً ألحُّوا على أسامة - رضي الله تعالى عنه - أن ينصحَ عثمان - رضي الله عنه - أميرَ المؤمنين علانيةً في شأن الوليد بن عُقبة، فقال: "قد كلَّمتُه، ما دُون أن أفتحَ بابًا أكونُ أوَّلَ من يفتحُه".
قال الحافظُ ابنُ حجر: "أي: يفتحُ بابَ الإنكار على الأئمةِ علانيةً خشيةَ أن تفترِقَ الكلمةُ، ثم عرَّفَهم أسامةُ أنه لا يُداهِنُ أحدًا ولو كان أميرًا؛ بل ينصحُ له في السرِّ جُهدَه".
إنها مُحاورةٌ لطيفةٌ مع من يُلِحُّ عليه تُوصِلُ للحقيقةِ دون غُلُوٍّ أو جفاءٍ.
ولقد أحسنَ ابنُ عبد البرِّ في نقلِه عن بعضِ السَّلَف قولَه: "أحقُّ الناسِ بالإجلالِ ثلاثةٌ: العُلماء، والإخوان، والسلطان؛ فمن استخفَّ بالعُلماء أفسدَ مُروءَته، ومن استخفَّ بالسلطان أفسدَ دُنياه، والعاقلُ لا يستخِفُّ بأحدٍ".
إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[غافر: 56].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ قد بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوال إخواننا المُسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم، اللهم كُن مع إخواننا المُضطهَدين في سُوريا، اللهم كُن مع إخواننا المُضطهَدين في سُوريا، اللهم انصُرهم على من ظلَمَهم ومن عادَاهم، اللهم اجعل شأن من ظلَمهم في سِفال، وأمرَه في وَبال يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


ابوحاتم 06-15-2012 10:20 PM

المسؤولية ومآلاتها
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 11/7/1433هـ بعنوان: "المسؤولية ومآلاتها"، والتي تحدَّث فيها عن مسؤوليَّة كل فردٍ في هذه الأمة؛ في بيته، وعملِه، وحكومته، ووزارته، وإمارته، من مُنطلَق أن كلَّ راعٍ مسؤولٌ عن رعِيَّته، كما وردَ بذلك الحديثُ النبويُّ الشريفُ، وبيَّن عِظَمَ هذه المسؤولية، ووجوبِ القيامِ بها كما أمرَ الله تعالى، وأن الإخلالَ بها إيذانٌ بانهيارِ المُجتمعاتِ.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونُثنِي عليه الخيرَ كلَّه، علانيتَه وسِرَّه، فأهلٌ أنت يا ربَّنا أن تُحمَد، وأهلٌ أنت أن تُعبَد، لك الحمدُ حتى ترضى، ولك الحمدُ إذا رضِيتَ، ولك الحمدُ بعد الرِّضا، لك الحمدُ فضلًا وجُودًا ومَنًّا لا باكتِسابٍ مِنَّا، لك الحمدُ بالإسلام، لك الحمدُ بالإيمان، لك الحمدُ بالقرآن، ولك الحمدُ بالمال والأهلِ والمُعافاة، لك الحمدُ كالذي نقولُ وخيرًا مما نقولُ، ولك الحمدُ كالذي تقولُ، أمرتَنا بالشكرِ ووعدتَنا بالزيادة: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم: 7].
سبحانك ربَّنا وبحمدك، ما أصبحَ وأمسَى بنا من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقك فمنك وحدك لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ
أنت الذي علَّمتَنا ورحِمتَنا
وجعلتَنا من أمةِ القرآنِ
وأفضْتَ مَنًّا في القلوبِ محبَّةً
والعَطفَ منك برحمةٍ وحَنانِ
فلك المحامِدُ والمدائِحُ كلُّها
بخواطِري وجوارِحي وجَنانِي
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرَنا بتحقيق المسؤولية استِشعارًا واستِباقًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا وقدوتَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أورَقَ العهدُ المسؤولُ في سيرتِهِ إيراقًا؛ فكان الخيرُ دفَّاقًا، والنَّماءُ في الأمةِ خفَّاقًا، صلَّى الله عليه، وعلى آله المُبارَكين أصولًا الطاهرين أعراقًا، وصحبِهِ الأخيارِ البالِغين في رعايةِ الحقِّ والأماناتِ قِمَمًا بل طِباقًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ممن أُفعِمَت نفوسُهم بالجِنانِ أشواقًا، وسلَّم تسليمًا طيبًا عطِرًا رَقراقًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلَموا أن تقواه - تباركَ وتعالى - هي السراجُ الهادي لمن كان مسؤولًا، والمعراجُ السَّنِيُّ لمن رامَ من العَلياءِ وُصولًا، والذُّخرُ الربَّانيُّ لمن كان مرجُوًّا ومأمولًا، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: 52].
وأهلُ التُّقَى في عِزٍّ ومفخرةٍ
من جَدَّ في السَّيرِ يُدرِكْ ما تمنَّاهُ
فحَيِّي الخِصالَ مع التقوى إذا اجتمعَت
ذاك الجمالُ الذي قد سرَّ مرآهُ
أيها المسلمون:
دأَبَت شريعتُنا الغرَّاءُ على تزكيةِ المُسلمِ والسمُوِّ به إلى أعلى الذُّرَى والمراتِب بأسنَى الشِّيَم والمناقِب؛ صونًا للمُجتمعاتِ من معرَّاتِ الانْحِدار، وعواقِب البَوار. ومن أعظمِ القِيَم التي أولَتْها بالغَ الاهتمام قيمةٌ تُحقِّقُ السُّؤدَدَ والازدِهار، والآمالَ العِراضَ الكِبار التي تبعثُ على الإجلالِ والانبِهار.
إنها قيمةٌ بهِيَّةٌ غُرَّتُها، مُشرِقةٌ طُرَّتُها، هي من نماء الأممِ مادةُ حياتها، ومن رُقِيِّها وهيبتِها مِرآةُ آياتها، وكُنهُ مُسمَّياتِها دون سنا أنوارِها إشراقُ النَّيِّرَيْن، ومقامُها الأسنَى جاوزَ الفرقَدَيْن، ولكن وفي ذات الأوانِ ما أفتَكَ مِرَّتَها، وأضرى مُنَّتَها متى وُسِّدَها من لا يتحاشَى اللَّومَ والعقابَ، ولا يجِلُّ من تثريبٍ وعِتابٍ.
تلكم - يا رعاكم الله - هي: المسؤوليةُ ومآلاتُها، المسؤوليةُ ومَغَبَّاتُها، المسؤوليةُ وتعهُّداتُها، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ[الأعراف: 6].
وفي مِشكاة النبُوَّة من حديثِ عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «كُلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعِيَّته؛ فالإمامُ راعٍ ومسؤولٌ عن رعِيَّته، والرجلُ راعٍ في أهلِه ومسؤولٌ عن رعِيَّته، والمرأةُ راعِيَةٌ في بيتِ زوجِها ومسؤولةٌ عن رعِيَّتها، والخادمُ راعٍ في مالِ سيِّده ومسؤولٌ عن رعِيَّته؛ فكلُّكُم راعٍ وكلُّكُم مسؤولٌ عن رعِيَّته»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
إخوة الإيمان:
الإخلاصُ ومُراقبةُ الله في السرِّ والعَلَن لُحمةُ المسؤوليةِ ومُنتهاها، والجِدُّ والمُثابرَة أركانُها وسَدَاها، ولكلِّ مُتقنٍ منها ومُبدعٍ موقِعُه، ولا ينبُو بعملٍ صالحٍ موضعُه.
وليست المسؤوليةُ قسرًا على الوظيفةِ وحِكرًا على المراتِب، والرُّبَّان النِّطاسِيِّ المُناسِب، كلا؛ بل هي ساحةٌ متَّسعةُ الأرجاء، رَحْبَةُ الأفناء، تشملُ ميادين الحياةِ كلَّها دِقَّها وجِلَّها؛ العبادات، والعادات، والمُعاملات، الأفرادِ والجماعات، المُؤسَّسات والهيئات، المُجتمعات والحُكُومات، ولكن تعظُمُ في الذُّؤَابات، ومن نِيطَت بهم جلائلُ الأمانات والمُهِمَّات.
معاشر المسلمين:
لقد طاشَت أفهامُ كثيرٍ من الناسِ إزاءَ حقيقة المسؤوليةِ وفحوَاها، ولم يستشعِروا ثِقَلَ مرامِيها ولا مَدَاها، وما واقعُ مُجتمعاتنا المُعاصِرة الراسِفِ في شَرَكِ الخَوَر والعشوائيَّة، والفسادات الإدارية، وأدواءِ الفوضَى والاتِّكاليَّة إلا نِتاجُ البَرَمِ والتنصُّلِ من المسؤولية، وعدمِ تجذُّرِها في القلوبِ؛ رهبًا وإشفاقًا من ربِّ البريَّة.
بل كم من فِئامٍ اتَّخَذوها لمآربِهم الشخصيَّة - يا ويحَهم - نِعْمَ المطِيَّة! ألا بِئسَ الأقوام هم، هتَكُوا حُرمةَ المسؤوليَّة هَتكًا، وفتَكُوا بمُقدَّراتِ المُجتمعاتِ فَتْكًا؛ تسويفًا في المواعيد والمُعاملات، ومُماطلةً في الحقوقِ والواجبات، واستِخفافًا بالأموال والمهامِّ والأوقات، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا[الإسراء: 36].
يتمرَّدون على جوهرِ المسؤوليَّة ويتنابَذونَها، حتى تَنمَاعَ مصالِحُ المُسلمين هَدَرًا بين: انظُرهم، وذاك، وراجِع غدًا، وذَيَّاك، واذهَب للآخر وهؤلاء. وذاكَ - وايْمُ الحقِّ - الدَّاءُ العَيَاءُ.
إن ضياعَ المسؤوليَّة والتهوينَ من شأنِها، والحطَّ من قدرِها هو البلاءُ الذَّريعُ، والشرُّ الخفِيُّ الشَّنيعُ الذي يفتِكُ بالأمةِ ومُقدَّراتِها، وينشرُ في أرجائِها سُمومَ الانحِطاطِ والفساد، وعِلَلَ الإفناءِ والهَلَاك، وما أعدَى أعداء المسؤوليَّة إلا التهاوُنُ والاتِّكال المقرونُ باللامُبالاةِ والإهمالِ.
ومن أرادَ العُلا عفوًا بلا تعَبٍ
قضَى ولم يقضِ من إدراكِها وطَرًا
لا بُدَّ للشَّهدِ من نَحْلٍ يُمنِّعُهُ
لا يجتَنِي النَّفعَ من لم يحمِلِ الضَّرَرا
أمةَ الإسلام:
أما آنَ الأوانُ، أم كادَ أن يفوتَ لكي ينطلقَ الأفرادُ والأُممُ صوبَ الطريقِ الأَمَم، لتحمُّلِ تبِعاتِ المسؤوليَّة وأرَقِها، كما حمَلَتهم بلقَبِها وألَقِها؟!
ففي كنَفِ المسؤوليَّة الهيِّنَةِ اللَّيَّنةِ المُشرَبة بالحزمِ المُبدِع تتأكَّدُ الحقوقُ والمِثالِيَّات، وتتوطَّد وتسمُقُ مفاخِرُ المجد والنَّماء، وتأتلِقُ قُدُرات الإنسان شطرَ الازْدِهار، والتميُّز والإبداعِ والابتِكار. نعم؛ تلكم المسؤوليَّةُ الحقَّة التي تستشعِرُ خشيةَ الله مع كلِّ قبسةِ قلمٍ، وهمسَةِ فمٍ، وإمضاءِ توقيعٍ، فتُخرِسُ ضجيجَ المظاهِر، وتكُفُّ رعونةَ المناصِب، وتُخفِّفُ زهوَ الجاه، وتُنهْنِهُ حُظوظَ النفسِ ودَخَلَ الذاتِ.
فهي حقًّا لمن يستشعِرُ عِظَمَ المسؤوليَّة وثِقَلَ الأمانة مغارِمُ لا مغانِم، وضخامةُ تبِعاتٍ تستوجِبُ صادقَ الدعوات. وبسببِ ذلك غرسَ أعلامٌ في الأفئدةِ محبَّتَهم، وحُمِدَت على مرِّ الأيام سيرتُهم.
يقول - صلى الله عليه وسلم - مُنبِّهًا ومُحذِّرًا: «ما ذِئبانِ جائِعانِ أُرسِلا في زَريبةِ غنَمٍ بأفسَدَ لها من حِرصِ المرءِ على المالِ والشَّرَفِ لدينه»؛ أخرجه الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، وابن حبان في "صحيحه".
الله أكبر، الله أكبر! يا لَه من قولٍ أشرقَ معنًى ولفظًا، وتألَّقَ إرشادًا وتوجيهًا ووعظًا. يقول الحافظُ ابن رجب - رحمه الله -: "فهذا مثلٌ عظيمٌ جدًّا ضربَه النبي - صلى الله عليه وسلم - لفسادِ دينِ المُسلمين بالحرصِ على المالِ والشَّرَفِ في الدنيا".
إن المنازِلَ لا تدومُ لواحدٍ
إن كنتَ تُنكِرُ ذا فأينَ الأوَّلُ؟
فاصنَع من الفعلِ الجميلِ صَنائِعًا
فإذا برِحتَ فإنها لا تُهمَلُ
فيا إخوة الإسلام:
يا من بُوِّئتُم المسؤوليَّات الجِسام! تجافَوا بعزائمِكم عن المعرَّاتِ والإهمال، واسمُوا بصِدقِكم وإخلاصِكم عن التقاعُسِ والمِطال، واستمجِدوا بهِمَمكم عظيمَ المقاصدِ والطموحاتِ الغَوَال؛ فالإتقانُ له سطوع، والتفانِي والإبداعُ له ذُيُوع، والإنتاجُ والتطويرُ لبهائِه لُمُوع، جاعِلين خدمةَ الحقِّ شِعَارَكم، ونفعَ الخلقِ دِثَارَكم.
ويا حبَّذَا ثم يا حبَّذَا ما يتطلَّعُه الواعُون الأخيارُ من أبناءِ الأمةِ من ذوِي المسؤوليَّات الكُفُؤة من التحقُّقِ بها وإدراكِ أبعادِها على أسمَى وجودِها وحقائِقها التي تُسلِمُنا - بإذن الله - إلى أحسنِ الثِّمارِ والمقاصدِ والغايات، وأبهَجِ الآثار والمآلات، وأسمَى النتائجِ والنهايات، وما ذلك على الله بعزيز.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[الأنفال: 27].
بارك الله ولي ولكم في القرآن والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا دومًا مُكرَّرًا، كلَّف - تبارك وتعالى - بمُقتضَى المسؤوليَّة فكانت حقيقتُها الأنقَى جوهرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ التوحيد في الأعماق تجذَّرَا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ من حملَ المسؤوليَّة بلاغًا وعملًا فكان الأنضَرَا، اللهم فيا ربِّ صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله الأُلَى دامُوا للجُلَّى سَلسَلًا لا ينضَبُ أبهَرَا، وصحبِهِ الميامين مخبَرًا ومظهرًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ممَّن يرُومُ جِنانًا وكوثرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، اتقوا الله فيما خوَّلَكم من الأمانات، واسعَوا إلى مرضاته باستِشعار المسؤوليَّات؛ تغنَموا الخيرات، وتنعَموا بالمسرَّات والبرَكات، واعلَموا أنكم في شهرٍ من أشهُرِ الله الحُرُم فلا تظلِموا فيهنَّ أنفُسَكم بالمعاصِي والسيِّئات.
إخوة الإسلام:
ولا تتحقَّقُ المسؤوليَّةُ في أجلَى مظاهرها وآرَج أزاهِرها إلا إذا تُوِّجَت بمعاقِدِ الرِّفقِ، والحِلمِ، والأناةِ، والحِكمةِ، وصالحِ الأخلاق، وإلا متى سارَت في رِكابِ الشِّيَم الأعلاف التي تنِمُّ عن النباهةِ البارِعة، والرُّوحِ الإسلاميَّة الفارِعة، وبقدرِ عِظَم المسؤوليَّة وموطِنِ التشريفِ والتكليفِ تعظُمُ وتسمُو وتُنيف، لاسيَّما في البِقاع الشَّريفة، والأماكنِ المُنيفة، ويا لَهناءِ من شرُفَ بالخدمةِ فيها، وفعِ قاصِدِيها؛ حيث تتجلَّى ضرورةُ الإخلاصِ لله، واللَّجَأِ إليه، واستِمداد العونِ والتوفيقِ منه - سبحانه -.
فإذا لم يكن عونٌ من الله للفَتَى
فأوَّلُ ما يجنِي عليه اجتِهادُهُ
والشعورُ بالحاجةِ المُلِحَّة إلى الرأيِ السَّديدِ الحَصيف، والمشورةِ الصادقة، والنُّصحِ الهادِف، والنَّقدِ البَنَّاءِ النَّزيه من مُحِبٍّ يستشرِفُ معالِيَ الأمور، ويسمُو بنفسِه عن كوامِنِ الغِلِّ والشَّحْناء، والحَسَدِ والبَغضاء، والكِبرياء والغُرُور.
إضافةً إلى أهميةِ امتِياز المُؤهَّلين الذين يُحقِّقون ما أُسنِدَ إليهم على أتمِّ وجهٍ وأعظمِه، وأسناهُ وأقومِه، وإن هؤلاء الأخيار لَمغبُوطون لِمَا أنَّ سبيلَهم المُنيفَة مرقاةٌ لمرضاةِ المَولَى - تبارك وتعالى -، وشرفٍ سَنِيٍّ لخدمةِ زُوَّار بيتِه الحرام، ومسجدِ رسولِه خيرِ الأنام - عليه الصلاة والسلام -.
وهنا لا بُدَّ من همسةٍ مُوفَّقة لكلِّ من أمَّ هذه العَرَصَات المُبارَكة بأهميةِ تعاوُن الجميع، وتضافُرِ الجهود في رِعايةِ قُدسيَّة الحرمين الشريفين، وتحقيقِ آدابِهما، والعنايةِ برُوَّادهما.
ألا وإن من فضلِ الله وعظيمِ آلائه، وجَزيلِ نَعمائه ما منَّ به على هذه الأمةِ من تمكينٍ للحرمين الشريفين، وما ينعَمَانِ به وقاصِدِيهما من أمنٍ وأمانٍ، وراحةٍ واطمِئنان، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ[العنكبوت: 67]، وما هيَّأَ لهما من قيادةٍ حكيمةٍ تشرُفُ بخدمتهما ورعايتِهما، وتُقدِّمُ لقاصِدِيهما منظومةً مُتكامِلةً من بديعِ الخَدَمات لتحقيقِ جليلِ الآمالِ والطُّمُوحات.
جعلَها الله رِفعةً في الدَّرَجَات، ومثاقِيلَ في موازينِ الحسنات، تُورَدُ هذه النِّعَمُ وتُذكَرُ، ويُشادُ بها وتُشكَر، في الوقتِ الذي لا ننسَى فيه أبدًا مآسِيَ أمتِنا؛ خاصَّةً في فلسطين السَّنِيَّة، وبلاد الشامِ الأبِيَّة، ولا رَيبَ أن كلَّ غَيورٍ يَدينُ ويستنكِرُ فظائِعَ العُنفِ والقتلِ وسَفكِ الدماء في رُبَى سوريَّة الشمَّاء.
وما مجزَرةُ بلدة (الحُولَة) بأَخَرة التي استهدَفَت المدنيِّين، وراحَ ضحِيَّتَها الأبرياءُ؛ من الشُّيُوخِ، والنساءِ، والأطفال إلا أُنموذجٌ قاتِمٌ للصَّلَفِ الأرعَن من نظامِ الظلمِ والطغيانِ، مما يُؤكِّدُ الدعوةَ إلى مُعاقبَة مُرتكِبِيها، والله المُستعان.
اللهم عجِّل بنصرِهم، اللهم عجِّل بنصرِهم، اللهم عجِّل بنصرِهم، وفرِّج كُربَتَهم، وفرِّج كُربَتَهم، واكشِف غُمَّتَهم، واحقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم بمنِّك وكرمِك يا جوادُ يا كريمُ.
وبعد، معاشر الأحِبَّة:
فإن من أشرفِ أعمالِكم، وأرفعِها في درجاتكم، وأزكاهَا عند بارِئِكم: كثرةَ صلاتِكم وسلامِكم على نبيِّكم النَّبيِّ الصادقِ الأمين، إمام المُتَّقين، ورحمةِ الله للعالمين، كما أمرَكم بذلك ربُّكم ربُّ العالمين، فقال تعالى قولًا كريمًا في كتابه المُبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
ثم الصلاةُ مع السلامِ لأحمدٍ
خيرِ البَرَايا من بنِي الإنسانِ
والآلِ والصحبِ الكرامِ ومَنْ سَعَى
لسبيلِه من تابِعِي الإحسانِ
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واخذُلِ الطغاةَ والظالمين والمُفسدين وسائر أعداء الدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في دُورِنا، وأصلِح واحفَظ ووفِّق أئمتَنا وولاة أمورنا، اللهم أيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ، اللهم وفِّق بِطانتَه لكلِّ خيرٍ يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، واكفِهم شِرارَهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، وفُكَّ أسرَ المأسُورين، وارحم موتانا وموتى المُسلِمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم وفِّق أبناءَنا وبناتِنا، وفِّق طُلَّابَنا وطالباتِنا إلى النجاحِ والتوفيقِ في الدنيا والآخرة يا ربَّ العالمين.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا ولجميع المُسلمين الأحياءِ منهم والميِّتين برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
سُبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عمَّا يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 06-15-2012 10:24 PM

النظام والفوضى في حياة المسلم
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "النظام والفوضى في حياة المسلم"، والتي تحدَّث فيها عن النظام والالتزام والانضباط في حياة المُسلم في كل شُؤونه؛ في عباداته، وعاداته، وفي أخلاقه، ومُعاملاته، في السِّلمِ والحربِ، ووجَّه العديدَ من النصائح والوصايا بهذا الصَّدَد.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله أبدعَ ما أوجدَ، وأتقنَ ما صنَعَ، وكلُّ شيءٍ لجبروته ذلَّ ولعظمته خضَعَ، سبحانه وبحمده في رحمته الرجاء، وفي عفوِه الطمعُ، وأُثنِي عليه وأشكُره؛ فكم من خيرٍ أفاضَ ومكروهٍ دفَع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعالى في مجده وتقدَّس وفي خلقِه تفرَّد وأبدَع، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أفضلُ مُقتدًى به وأكملُ مُتَّبَع، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أهل الفضلِ والتّقَى والورَع، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ولنهجِ الحق لزِم واتَّبَع، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فالحياة يعقُبُها الممات، والأترابُ يُسلِمون للتراب، سبقَ القومُ بكثرة الصلاة والصوم، هجَروا لَذيذَ المنام، وغايتُهم دارُ السلام، فالجِدَّ الجِدَّ - رحمكم الله - من أجل أن تغنَموا، والبِدارَ البِدَارَ من قبل أن تندَموا، واطرُقوا في الدُّجَى بابَ الرجاء، الموتُ بابٌ مورود، والأجلُ غيرُ مردود، ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ[هود: 103- 105].

أيها المسلمون:
ربُّنا الله - عزَّ شأنُه - خلقَ فسوَّى، وقدَّر فهدَى، خلقَ كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديرًا، وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ[الرحمن: 7- 9]، هذا خلقُ الله، هذا تقديرُه وتدبيرُه في انتِظامٍ واتِّزانٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ[الحجر: 19- 21].
وفي مُقابِل ذلك: فإن الله - جل جلاله - خلقَ الإنسانَ وسوَّاه، وعدَلَه وخلقَه في أحسن تقويم، ومن وراء ذلك دينُ الله وشرعُه الحافظُ للمكرُمات، والعاصِمُ من الدنايا، والدالُّ على كل مسلَكٍ مُتَّزِن، وتعاليمُ هذا الدين ووصاياه تمتزِجُ بطوايا النفوس، وتُهذِّبُ طبائعَ البشر، حتى تضبِطَ اتجاهاتها، وتُوجِّه مساراتها، وتحفَظ توازُنها، وتُحكِم مسيرتَها.
تأمَّلوا - رحمكم الله - هذه الآيات في ترتيب الكونِ: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان: 61، 62]، ثم تأمَّلوا ما أعقبَها من جُملةٍ من أوصافِ عباد الرحمن في اتِّزانِهم، وانضِباطِهم، وآدابِهم؛ حيث قال - عزَّ شأنُه -: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[الفرقان: 63]، ثم قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا[الفرقان: 67]، كما قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا[الفرقان: 72].
معاشر المسلمين:
انضِباطُ المسار، وتوازُن المسيرة، وتهذيبُ السلُوك، وعلوُّ الذوقِ من أُصول الحياة السعيدة، وأُسُس التعامُل في دين الإسلام، وأكملُ المؤمنين إيمانُا أحسنُهم خُلُقًا، الاعتِدالُ والتوازُن والانضِباطُ والالتزامُ كلُّ ذلك تعكِسُه وتدلُّ عليه هيئةٌ راسِخةٌ في النفسِ البشرية السويَّة تجعلُ ما يصدُرُ عنها من أفعالٍ وتصرُّفاتٍ موافقةً للحق، مُجانِبةً لما يُستقبَح، مُراعِيةً للمشاعِر. التزامٌ في إعطاء الحقوق، وتوازُنٌ ومُوازنةٌ بين الحقوق والمسؤوليات.
أيها الإخوة في الله:
النظامُ، والانضِباطُ، وحُسنُ الترتيبِ، وسلامةُ التقدير، وجمالُ الذوقِ كلُّ ذلك يحفَظُ الفردَ كما يحفَظُ الجماعةَ، ويُعينُ على تحمُّل المسؤولية وعلى أعبائِها، ويُثبِّتُ العلاقات الاجتماعية ويُنظِّمُها.
التعامُل المُنظَّمُ والتقديرُ الصحيحُ يهَبُ الحياةَ مذاقًا حُلوًا، ويقِي - بإذن الله - من أعباءٍ ثِقالٍ تُرهِقُ الفِكرَ والصحةَ والمالَ، مسالِكُ راقية، ومساراتٌ مُتوازِنة، يقودُها وعيٌ عميقٌ، وعزمٌ صادقٌ، وإصرارٌ لا يعرِفُ الكسلَ، ليس بالقوة تتحقَّقُ الآمال، ولكن بالعزيمةِ والإصرارِ وحُسن الأدبِ.
عباد الله:
المُسلمُ المُستقيمُ الجادُّ في حياته، المُنظِّمُ لشؤونه يجعلُ لكلِّ جزءٍ من وقتِه هدفًا، ولكلِّ عملٍ من أعماله غايةً، لا وقتَ له يضيع، ولا شيءَ من حياته في فراغٍ، المُوازنةُ عنده ظاهرةٌ بين الأهمِّ والمُهِمِّ وما دون ذلك. وإن للمُسلِمِ في فرائضِ الإسلامِ وأحكامِه وآدابِه ما يُنبِّهُه إلى ضرورةِ الانضِباطِ ولُزومِ الآدابِ في حياته كلِّها.
تأمَّلوا - رحمكم الله - هذا الانضِباط والترتيبَ وتهذيبَ الذوق في المُسلم وهو يقومُ إلى صلاته، مُتطهِّرًا في بدنه وثوبه وبُقعته، يستاكُ، ويأخُذ زينتَه، ويمشي إلى بيتِ الله، وعليه السكينةُ والوقار، يجتنِبُ الروائحَ الكريهةَ من أجل نفسِه وإخوانه والملائكة المُقرَّبين، ثم آداب الخروج والدخول من منزله ومسجده، وخفضُ الصوت، وغضُّ البصر، والقراءة، والذِّكرُ، والدعاء، والمُناجاة، والإنصاتُ، وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا[الإسراء: 110].
قائمًا لله قانتًا، ساكِنًا، غيرَ عابثٍ لا في حركةٍ، ولا في شُرودِ فِكرٍ، مُتابِعًا لإمامه، مُنتظِمًا في صفِّه، في ذوقٍ رفيعٍ، وأدبٍ عالٍ.
عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يمسَحُ مناكِبَنا في الصلاة ويقول: «استَوُوا، ولا تختَلِفوا فتختلِفَ قلوبُكم، ليلِنِي منكم أُولو الأحلامِ والنُّهَى، ثم الذين يلُونَهم، ثم الذين يلُونَهم»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «إنما جُعِل الإمامُ ليُؤتَمَّ به؛ فلا تختلِفُوا عليه، فإذا ركَعَ فاركَعوا، وإذا قال: سمِعَ الله لمن حمِده، فقولوا: ربَّنا لك الحمدُ، وإذا سجدَ فاسجُدوا، وإذا صلَّى جالِسًا فصلُّوا جُلوسًا أجمعون، وأقِيموا الصفَّ فإن إقامةَ الصفِّ من حُسن الصلاة»؛ متفق عليه.
إنهم المُؤمنون في صلاتِهم خاشِعون، وعليها يُحافِظون، وعن اللغوِ مُعرِضون، إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ[العنكبوت: 45].
أما الزكاة؛ فهي زكاءٌ وطُهرٌ، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[التوبة: 103]، لا يُتبِعون صدقَاتهم ولا نفقَاتهم مَنًّا ولا أذًى، يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً[البقرة: 274].
وفي الصيام صفاءٌ ونقاءٌ وصبرٌ، يدَعُ قولَ الزُّورِ والعملَ به والجهلَ.
والحجُّ سكينةٌ وبُعدٌ عن التنطُّع والتكلُّف والغُلُوّ، فالحجُّ ليس بالإيضاع، «أيها الناس! اربَعوا على أنفسِكم؛ فإنكم لا تدعُون أصمَّ ولا غائِبًا، السَّكينةَ السَّكِينةَ، أمثالَ هؤلاء فارْمُوا، إياكُم والغُلُوَّ».
وفي حالِ الحربِ والقتالِ؛ فهناك آدابُ رفيعة، وتنظيماتٌ دقيقة، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ[الصف: 4]. أما أداءُ الصلاةِ في حالِ الحربِ فأمرُها عجيبٌ في لُزومِ الجماعة، والانضِباطِ في الإمامةِ والائتِمام، وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ[النساء: 102].
أما عذابُ الحربِ وعُلوّ الذوقِ مع ضربِ الرِّقاب وشدِّ الوثاق فأعجبُ وأعجبُ، فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً[محمد: 4]، مع تجنُّب الإيذاء لمن ليس يدٌ في القتال؛ من المرأة، والطفلِ، والشيخِ الكبيرِ، وأصحابِ العباداتِ والصوامِع، حتى قال عُمر - رضي الله عنه -: "توقَّوا قتلَهم إذا التقَى الزَّحْفان، وعند شنِّ الغارات".
ناهِيكم بحُسن مُعاملةِ الأسرى واحترامِ المبعوثين والرُّسُل، وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ[التوبة: 6].
معاشر الإخوة:
هذه بعضُ مظاهر الآداب في الأحكام، يُضمُّ إلى ذلك: ما هو معلومٌ من آدابِ الإسلام وتنظيماته وترتيباته العالية في الأكلِ، والشربِ، واللِّباسِ، والسلامِ من القاعد والماشي والراكِب، وآداب الجُلوس والحديث، وتوقيرِ الكبير، ورحمةِ الصغير، والتيامُن في التنعُّل والترجُّل وفي الشأنِ كلِّه، وآدابِ الدخولِ والخروجِ للمنزل والمسجدِ والسوقِ وبيتِ الخلاءِ وقضاءِ الحاجة، وتخيُّر الأوقاتِ المُناسِبة في الزيارات، وآداب الاستِئذان، وإحسان الظنِّ بين الإخوان في التعامُل، وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ[النور: 28].
أما آدابُ السفرِ والصُّحبَة؛ فاستذكِروا توجيهَ نبيِّكم محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم - في قولِه: «إذا خرجَ ثلاثةٌ في سفَرٍ فليُؤمِّروا أحدَهم»؛ رواه أبو داود، وإسنادُه حسنٌ.
وعن أبي ثعلبَةَ الخُشَنيِّ - رضي الله عنه - قال: قال عمروٌ: "كان الناسُ إذا نزلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منزلًا تفرَّقُوا في الشِّعابِ والأودِية، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن تفرُّقَكم في هذه الشِّعابِ والأودِية إنما ذلكم من الشيطان». فلم ينزِلوا بعد ذلك منزلًا إلا انضمَّ بعضُهم إلى بعضٍ، حتى لو بُسِطَ عليهم ثوبٌ لعمَّهم"؛ رواه أبو داود، وإسنادُه حسنٌ.
إن من علامات سعادة المرءِ - حفِظكم الله -: أن يُوهَبَ ذوقًا رفيعًا، ومسلَكًا مُهذَّبًا؛ حينئذٍ يستمتِعُ بالحياةِ، ويأنَسُ بالجليسِ، وتُقدِّرُه المشاعِر، صاحبُ الذوقِ السليمِ والأُسلوبِ المُهذَّب قادرٌ على استِجلابِ القلوبِ، وجذبِ النفوس، وإدخالِ السُّرور.
المُهذَّبُون يتخيَّرون الكلماتِ اللطيفة، ويختارون الأوقاتِ المُناسِبة والتصرُّفات المُلائِمة، أصحابُ الذوقِ الرَّفيع يتحاشَون النِّزاعَ، وحِدَّة الغضبِ، وينفِرون من الأقوال النَّابِية والأفعالِ الشائِنَة، ويجتنِبُون الجفاءَ والكَزازةَ والغِلظَة.
وإذا أردت - غفرَ لك الله - أن تختبِرَ أذواقَ الناسِ وانضِباطَهم والتِزامَهم فارقُبهم في مواطِنِ الزِّحام، وقيادة المَركَبات، ومدَى الالتِزام بقواعدِ السَّير، وآداب الاجتماع، وانتِظامِ الوقوفِ في الصُّفوف، وحديثِ الهواتِف، وحُسن استِعمال أنواع التِّقَنِيَّات والآلات ابتِداءً وإجابة، وآداب إرسالِ الرسائل واستِقبالِها صوتًا وكتابةً ومُشاهدةً.
وبعدُ، حفظَكم الله:
فإن المرءَ سوف يندَم ثم يندَم على الفوضَى، والخرَق، والعجَلة، والطَّيش، ولن يندَمَ مع الأناة، والنظام، وضبطِ التصرُّف، ومن هجَرَ بلا سببٍ فسوفَ يرضَى بلا سببٍ، ولا يهَبُ السيئات إلا الحسنات، ولا يترقَّى المُسلمُ مراقِيَ المكارِم إلا بمحاسِنِ الأخلاق، وقد قالوا: "إن المرءَ لا تظهرُ أخلاقُه مع الأكابِر، وإنما يظهرُ فضلُه في تعامُله مع من دونَه، فهناك يتبيَّن النُّبلُ، وجميلُ الخُلُق، ورفيع الذوق".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[لقمان: 17- 19].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله وفَّقَ من شاءَ من عباده إلى طريقِ السعادة، أحمده - سبحانه - وأشكرُه وقد أذِنَ للشاكِرين بالزيادة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجُو بها الحُسنى وزِيادة، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه عبَدَ ربَّه حقَّ العبادة، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أهلِ الشرفِ والعِزِّ والسِّيادة، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، معاشر المسلمين:
وأما من كان أمرُه فُرُطًا فهو من غلُظَت نفسُه، وجفَّ طبعُه، وقلَّ تهذيبُه، واضطرَبَ أمرُه؛ فلا تسَلْ عما يجلِبُه لنفسِه ولمن حولَه من التَّعَبِ والعبَثِ، لا يُراعِي مشاعِر، ولا يتحاشَى الزَّلَل، يُؤذِي بلفظِه، ويجرَحُ بلَحظِه، يقول الحافظُ ابن القيم - رحمه الله - في أمثالِ هؤلاء: "مُخالطتُه حُمَّى الروح، ثقيلُ النفسِ، بغيضُ العقل، لا يُحسِنُ أن يتكلَّمَ ويُفيدَك، ولا يُحسِنُ أن يُنصِتَ فيستفيدَ منك، ولا يعرِفُ نفسَه فيضعَها موضِعَها".
ويُذكَرُ عن الإمام الشافعيِّ - رحمه الله - أنه قال: "ما جلستُ إلى ثقيلٍ إلا وجدتُ الجانبَ الذي هو فيه أنزلَ من الجانبِ الآخر".
قِلَّةُ التهذيبِ تقودُ إلى سُوءِ التصرُّف، ونقصِ التدبيرِ، وعدمِ تقديرِ العواقِبِ، والنَّدَمِ بعد فواتِ الأوانِ. صاحبُ الأمرِ الفُرُط لا هدفَ له مُحدَّد، ولا عملَ له دقيق، أعمالُه ارتِجاليَّة، ومواعيدُه مُرتبِكة، يشرعُ في الأمر ثم لا يُتِمُّه، كثيرُ التدخُّل فيما لا يَعنيه، حالُه فوضَى واضطراب، يُهدِرُ الطاقات، ويُضيِّعُ الأوقات، ويُبعثِرُ الجُهود، ويُضيِّعُ العُمر بين تسويفٍ وتردُّد، يصرِفُ الوقتَ الطويلَ على العملِ اليسير، يُقطِّعُ الساعاتِ الطِّوال مع الجديد من التِّقَنِيَّات والاتصالات من غيرِ فائدةٍ تُذكَر؛ بل أمرُه فُرُط، وفُضُولُه مُنقطِعُ النَّظِير.
أكثرُ مواقفِ هؤلاء الفوضوِيِّين رُدودُ أفعال، أو تقليدٌ غيرُ مدروس، إمَّعاتٌ إن أحسنَ الناسُ أحسَنوا، وإن أساؤوا لا يقدِروا على تجنُّبِ إساءَتهم، إغراقٌ في الجَدَل والمِراءِ والمُهاتَرات، والدُّخول في اللَّومِ والنَّقدِ غيرِ البَنَّاء، والانفِعال، ونُشدان الغَلَبة دون إرادة الحق. ويلٌ لهؤلاء من حصائدِ ألسنتِهم وأقلاهم واتصالاتهم.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن السِّياجَ المتين لا يكونُ إلا في الخُلُق المَكين، فالنفسُ المُضطربَة القَلِقَة غيرُ المُرتَّبة والمُهذَّبة تُثيرُ الفوضَى، حتى في أحكَم النُّظُم، والجريُ مع الهوى لن يُشبِعَ النفسَ، ولن يُبلِغَ المُراد، إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[الرعد: 11].
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم، في محكم تنزيله فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعِزَّ به دينَك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعَزُّ فيه أهلُ طاعتِك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتِك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المُنكَر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وفُكَّ أسيرَهم، وآوِي طريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم يا أرحم الراحمين.
اللهم واجعل لهم من كلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً.
اللهم عليك بالطُّغاة الظلَمة في سُوريا، اللهم عليك بهم، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم، اللهم اجعل تدميرَهم في تدبيرهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرِمين، اللهم إنا ندرَأُ بك في نُحُورِهم ونعوذُ بك من شُرُورهم.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ يذكُركم، واشكُرُوه على نِعَمه يزِدكُم، ولذِكرُ الله أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنَعون.

ابوحاتم 07-02-2012 09:36 PM

السعادة الزوجية
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 25رجب 1433هـ بعنوان: "السعادة الزوجية"، والتي تحدَّث فيها عن أعظمِ سعادةٍ في الدنيا، وهي: السعادةُ الزوجية، وبيَّن أسبابَها، وأدلَّتها من الآيات القرآنية والتوجيهات النبوية، ثم عرَّجَ في نهايةِ خُطبته إلى الحديثِ عن سُوريا وجُرحها النازِف، وأن علامات النصر باديةٌ في الأُفقِ، وأن الظلمَ مُؤذنٌ بزوالِ المُلكِ.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله عددَ ما خلقَ وبرَا، وأنشأَ وذَرَى، والحمدُ لله حمدًا يطغَى، خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا[الفرقان: 54]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، خيرُ الخليقةِ طُرًّا، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبِه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، وعظِّموا أمرَه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء: 1]، يُراقِبُ أعمالَكم، ويُحصِي أنفاسَكم، ويعُدُّ أيامَكم.
فإذا علِمَ الإنسانُ أنه سيُسألُ عن عُمره فيما أفناه، وشبابِه فيما أبلاه؛ لزِمَ الجِدَّ دهرَه، وتركَ اللهوَ عُمرَه، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ[الشرح: 7، 8].
الأسرةُ والعائلةُ، والبيتُ الزوجيُّ أساسُ منظومةِ المُجتمع المُسلم ونواتُه، ومنه صلاحُ الفرد وفيه نباتُه، ومع أن الزواجَ فِطرةٌ وضرورةٌ وحاجةٌ إنسانيَّةٌ طبيعيَّةٌ، إلا أنه في الإسلام شريعةٌ وأمر، وسنَّةٌ وطُهرٌ، وكِيانٌ تُسخَّرُ لقيامه وتمامه وصلاحه كلُّ الإمكانات، وتُذادُ عنه المُعوِّقاتُ والمُنغِّصات.
ومن أهدافِ الإسلام ومساعِيه: قِيامُ أسرةٍ مُكوَّنةٍ من زوجَين، تُرفرِفُ في جوانِحها المودَّةُ والرحمةُ والسَّكَن، وتُهدَى إليها التشريعاتُ والتوجيهات، ويتكامَلُ أفرادُها للقيام بالواجِبات، وتنسُلُ منها الذُّرِّيَّةُ الصالِحةُ، وتنشأُ في كنَفِها الأجيال، ويتبادَلُ أفرادُها الأدوار في التعاوُن على البرِّ والتقوى، والتكامُل والتكافُل في تحقيق الأهدافِ والآمال في الدنيا وفي الآخرة. وتلك فلسفلةُ الأُسرة في الإسلام
وفَهمُ هذه الحقيقة الفِطريَّة بصيغتِها الشرعيَّة يُحدِّدُ معالِمَ السعادة الزوجية، وملامِحَ بناء الأُسرة الصالحة، ومن ثَمَّ المُجتمع المُتماسِك القادرِ على بناءِ حضارتِه بعد بناءِ أفرادِه وكِيانه.
ومن هُنا أتى الاهتمامُ بالأمر بالزواج والحثِّ عليه، قال الله - عز وجل -: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ[النور: 32].
وفي السنَّة المُطهَّرة يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «يا معشرَ الشباب! من استطاعَ منكمُ الباءَةَ فليتزوَّج ..» الحديث؛ رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون:
ولبناء هذا الكِيان الأُسريِّ وإصلاحِه وحِمايته جاءت الشريعةُ بجُملةٍ من الأوامر والنواهي، والآدابِ والوصايا، ترسُمُ للبيوتِ معالِمَ سعادتها، وتخُطُّ للأُسرة طريقَ بهجتِها، على المُسلمين التنادِي للأخذِ بها وانتِهاجها قُربةً لله تعالى، وحِفظًا لبيوتهم ومُجتمعهم، وصلاحًا لأحوالهم.
وتعظُمُ الحاجةُ عند كثرة التفريطِ، وتفاقُم الجِراحات في البيوت، وتصدُّع بُنيان الزوجية، ومما يُؤلِمُ أن تُشيرَ الدراسات والإحصاءات إلى أن نِسَبَ الطلاقِ في عالَمِنا العربيِّ والإسلاميِّ لا تقِلُّ عن ثلاثين بالمائة، وأنها تجاوَزَت الأربعين في المائة في بعضِ بلادِنا، وهذه نِسَبٌ مَهولةٌ تستدعِي مُبادرةَ المُجتمَع بمُؤسَّساته وأفراده لمزيدٍ من الدراسات والحُلُول والخِطَط والبرامج، مع الشُّكر والإشادة بما تبذُلُه المُؤسَّسات والجمعيَّات، والمواقعُ والجهاتُ التي تُعنَى بجوانبِ الأُسرة وقضاياها.
أيها المسلمون:
جاءت معالِمُ السعادة والنجاح للأُسرة من أول بناء، وهو الاختيارُ والقَرارُ؛ فالخُلُقُ والدينُ مدارُ البحثِ وسرُّ السعادة، والتفريطُ في مُراعاة ذلك مبعَثُ الشقاء، وفي حريَّة الاختيار الاستِئذانُ والاستِئمار، فلا الرجلُ يُكرَه على أخذ من يكرَه، ولا الفتاةُ تُرغمُ على قبولِ من تُبغِض.
وفي الآياتِ القرآنية والتوجيهات النبوية من نور التوجيه ما نقتبِسُ منه نورًا، ومن الهديِ ما لا نُحيطُ به في موقفٍ، وحسبُنا شَذَراتٌ وقَبَساتٌ:
ففي الحقوقِ والواجباتِ: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ[البقرة: 228]، ومع بيان الحقوق والواجبات فإنها ليست مُشاحَّةً ومُحاسبةً، وإنما في التوجيه الكريم: وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ[البقرة: 237].
وفي التعامُل يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ»؛ متفق عليه.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «تبسُّمُك في وجه أخيك لك صدقة»؛ رواه الترمذي.
وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرِّفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلا زانَه، ولا يُنزَعُ من شيءٍ إلا شانَه»؛ رواه مسلم.
إن الرِّفقَ والكلمةَ الطيبةَ، والعفوَ والصفحَ خيرٌ من العطاء مع المِنَّة وسوءِ التعامُل، وفي التنزيلِ العزيز: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى[البقرة: 263].
عباد الله:
وليس من العدلِ: المُطالبَةُ بالحقوق مع التفريطِ في أداء الواجِبات؛ فإن الذي قالَ - صلى الله عليه وسلم -: «لو كُنتُ آمِرًا أحدًا أن يسجُدَ لأحدٍ لأمرتُ المرأةَ أن تسجُدَ لزوجها» هو الذي قالَ: «اللهم إنِّي أُحرِّجُ حقَّ الضعِيفَيْن: اليتيم والمرأة»، وهو الذي قال: «استَوصُوا بالنساء خيرًا».
وإن الذي قال: «خيرُكم خيرُكم لأهله» هو - صلى الله عليه وسلم - الذي قال: «إذا صلَّت المرأةُ خمسَها، وصامَت شهرهَا، وحفِظَت فرْجَها، وأطاعَت زوجَها؛ قيل لها: ادخُلي الجنةَ من أي أبوابِ الجنةِ شئتِ».
وفي سَعة الصدرِ وبُعد النظر وحُسن الموازنةِ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يفرَكْ مؤمنٌ مؤمنةً، إن كرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخر - أو قال: غيرَه -»؛ رواه مسلم.
ولذلك قال الله - عز وجل -: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19].
وفي الإدارة: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ[النساء: 34]، والقِوامةُ ليست تسلُّطًا ولا تعسُّفًا، ولا ظُلمًا أو ترفُّعًا؛ بل هي الرعايةُ والحِفظُ، والقيامُ بالمصالح، وإن الدعوةَ إلى عكس ذلك بدعوى المُساواة أو الحرية هو قلبٌ للفِطرة، ومُعاكسةٌ للطبيعة.
أيها المسلمون:
التقوى والصدقُ والأمانةُ خيرُ ما بُنِيَت عليه العلاقات، وهذه الأخلاق النبيلة هي ربيعُ القلب، وزكاةُ الخِلقة، وثمرةُ المُروءة، وشُعاع الضمير، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالصدقِ؛ فإن الصدقَ يهدي إلى البرِّ، وإن البرَّ يهدي إلى الجنةِ، وما يزالُ الرجلُ يصدُقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتبَ عند الله صِدِّيقًا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذبَ يهدي إلى الفُجُور، وإن الفُجورَ يهدي إلى النار، وما يزالُ الرجلُ يكذِبُ ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتبَ عند الله كذَّابًا»؛ رواه البخاري ومسلم.
أما الأمانةُ والمُحافظةُ على الأسرار الزوجية؛ فواجبٌ يحفظُ البيوت، ويحمِي الأُسَر؛ عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أشرِّ الناسِ عند الله منزلةً يوم القيامة: الرجلَ يُفضِي إلى امرأته وتُفضِي إليه، ثم ينشُرُ سِرَّها»؛ رواه مسلم. وفي روايةٍ عند مسلمٍ أيضًا: «إن من أعظمِ الأمانةِ عند الله يوم القيامة: الرجلَ يُفضِي إلى امرأته وتُفضِي إليه، ثم ينشُرُ سِرَّها».
والوعيدُ واردٌ على الرجلِ والمرأةِ على السواءِ.
أيها الرجال والنساء:
أيها الباحِثون عن السعادة في الدنيا والآخرة! جِماعُ السعادة في قول الله - عز وجل -: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النحل: 97].
إن هذه المعاني أَولَى بالعنايةِ والبلاغِ بدلًا من إشغال الناسِ بما يهدِمُ ولا يبنِي من شُؤونِ الأُسرة والمُجتمع، على المُصلِحين والناصِحين، وأربابِ الأقلام والإعلام أن يُعنَوا أشدَّ العنايةِ بصلاحِ الأُسَر واستِقرارِها، وقيامِ البُيوت وشدِّ بُنيانها، وكفِّ كل ما يُؤثِّرُ عليها.
واللهُ المسؤولُ أن يحفظَ على المُسلمين دينَهم وأمنَهم، وأن يُصلِح أحوالَهم، ويُسعدِ أعمارَهم.
باركَ الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

ابوحاتم 07-02-2012 09:37 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله القوي القادر، وهو - سبحانه - العزيزُ الناصِرُ، وأشهد أن لا إله إلا الله الملكُ الحقُّ القاهرُ، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فلا تزالُ الدماءُ تجري ظُلمًا على ثَرَى سُوريا، والمجازِرُ تُرتكَبُ أمام سمعِ العالَمِ وبصره، ولا يردَعُ مُرتكِبيها دينٌ ولا أخلاقٌ، وقد أذِنَ الله لمن يُقاتَلون ويُظلَمون بأن لهم حقَّ الدفاعِ عن أنفسهم، وفي بعضِ المواطِنِ لا يُجدِي الوعظُ ولا النُّصحُ.
لكِ اللهُ يا شام! فلم يشهَد هذا العصرُ شعبًا يحكُمُه عدوُّه كما شهِدَت الشامُ، ساسَها حاكِمُها كعدُوٍّ، وأدارَ شُؤونَها كجلَّاد، وعامَلَها مُعاملةَ الجزَّار وأيُّ جزَّارٍ؟! تكادُ مجازرُ طاغِيتها تُنسِي مجازِرَ القرامِطةِ والتَّتَر، غاضَت الرحمةُ من صُدورهم، وتلاشَت الإنسانيَّةُ من أفعالهم، وأصبحَ ذبحُ النساء والأطفالِ من تسالِيهم، وتدميرُ البلاد من أمانِيهم.
لعنَهم الله لعنةَ عادٍ وثمود، وقتلَهم قِتلةَ أصحاب الأُخدود، وعجَّل عل طُغاتها أيامٍ نحِساتٍ وسُود، وأوردَهم عاجِلًا ظُلمةَ اللُّحود.
وإن الواجبَ على العالَمِ أن يقوم بمسؤوليَّته أمام هذه الكارِثة التي طالَ أمَدُها، وتتابَعَ ألمُها، وتعظُمُ المسؤوليَّةُ على العربِ والمُسلمين خاصَّةً، فليتنادَوا لنُصرة المظلوم، وكفِّ الظالِم، وليكن الحلُّ عمليًّا وعاجِلًا؛ فإن الأيام لا تزيدُ الباغِي إلا سُعارًا، ولا ترى منه إلا جحيمًا ونارًا.

أيها السوريون:
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[الحج: 39]، لقد بالَغَت العِصابةُ الحاكمةُ في الظلمِ، وهذا مُؤذِنٌ بفَرَجٍ قريب، والظلمُ مُؤذِنٌ بزوالِ المُلكِ، وتعجيلِ العقوبةِ؛ فأبشِروا: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ[الصف: 13].
وقد تكفَّل الله باليُسر مع العُسر، فاجتمعَت لكم أمارتان على النصر، دافِعوا بكل ما تقدِرون عليه، وتوكَّلوا على الله؛ فما خابَ من توكَّلَ عليه، وقد رأيتُم خُذلان الأمم وعُصبتها.
لقد راهنَ الطُّغاةُ كثيرًا على أن الفوضَى هي البديلُ لطُغيانِهم، فأخلِفوا فألَهم، وأكذِبوا ظنَّهم، وأجمِعوا أمرَكم، ووحِّدوا صفَّكم، واتقُوا اللهَ في أنفُسِكم وأهلِيكم، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[الأنفال: 1]، عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا[النساء: 84].
عسى الله أن يكُفَّ البأسَ عنكم، ويدفعَ الشرَّ عنكم.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى والرسول المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ الأرض وربُّ العرش الكريم، لا إله إلا أنت سُبحانك، عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤُك، وتقدَّسَت أسماؤُك.
اللهم يا مَن لا يُهزَمُ جُندُك، ولا يُخلَفُ وعدُك، ولا يُردُّ أمرُك، سُبحانك وبحمدك، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجَك القريب.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماكَ بهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم إنك سميعُ الدعاء. ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 07-02-2012 09:45 PM

الاستقرار وأهميته في حياة المسلمين
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 2شعبان 1433هـ بعنوان: "الاستقرار وأهميته في حياة المسلمين"، والتي تحدَّث فيها عن أهمية الاستقرار في حياة كل مسلمٍ؛ بل كل إنسانٍ على وجه هذه البسيطة؛ إذ النفوسُ تهفُو إليه، وتسعَى بكل ما تملِك لتحقيقه ونَيْلِه، وبيَّن أن الكتابَ والسنةَ جاءا مُجلِّيان هذه المعاني، مُنبِّهًا إلى أن الدعوةَ إلى الاستقرار لا تعنِي عدم التصحيحِ للأخطاء، مُشيًا إلى خطأ بعض المُصطلحات التي تناثَرَت في وسائل الإعلام في هذه الآونةِ بشأن الفوضى والاستقرار.

الخطبة الأولى
الحمد لله الواحد الأحد، الفردِ الصمد، الذي لم يلِد ولم يُولَد، ولم يكن له كُفُوًا أحَد، خلقَ فسوَّى، وقدَّر فهدَى، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[القصص: 70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، وخليلُه وخِيرتُه من خلقه، بعثَه الله بين يدَي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسِراجًا مُنيرًا، فبلَّغ الرسالةَ، وأدَّى الأمانةَ، ونصحَ الأمَّة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى الصحابة والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -؛ فإنها مفتاحُ السعادة، وبريدُ النجاةِ والفوزِ بالنعيم المُقيم، أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[يونس: 62، 63].
عباد الله:
مطلبٌ منشود، وحاجةٌ مُلِحَّة، وغايةٌ تركَنُ إليها الخلائِقُ على هذه البسيطة؛ لعلمِها وإدراكِها بأن الحياةَ بدونها خِداجٌ. هو مطلبٌ شرعيٌّ ودنيويٌّ، وهو مطلبٌ دُوليٌّ ومحليٌّ، وأُسريٌّ، وسياسيٌّ، واقتصاديٌّ، وتربويٌّ. إنه - يا رعاكم الله -: الاستقرار؛ نعم، الاستقرار بكل ما تحمِلُه هذه الكلمة من المعنى الكبير والمِفصلٍ المُهمِّ في تحديدِ المصير؛ حيث إن جميعَ شؤون الحياة مرهونةٌ به وجودًا وعدَمًا.
إنه الاستقرار الذي يعني: الهدوءَ والثبوتَ، والسُّكونَ والطمأنينةَ، والتكامُلَ والتوازُنَ. إنه الاستقرار الذي يُقابِلُ الشَّغَبَ والاختلالَ، وإنه الانتظام الذي يُقابِلُ الفوضى والاستِهتار، فبالاستقرار يسودُ الأمنُ، وبالأمن يؤدِّي المرءُ أمرَ دينه ودنياه بيُسرٍ وسهولةٍ، وطمأنينة بالٍ.
والاستقرارُ نعمةٌ كُبرى يمُنُّ الله بها على عباده في حين أن فُقدانَه بلاءٌ وامتِحان، كما قال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ[البقرة: 155].
ومن تأمَّل نعمةَ الاستقرار حقَّ التأمُّلِ فسيرَى بصفاءِ لُبِّه وفِكره أن هذه الضرورةَ يشترِكُ فيها الإنسُ والجنُّ والحيوانُ الأعجَمُ، كلُّ هذه المخلوقاتِ تنشُدُ الاستقرارَ، ولا حياةَ هانِئةً لها بدونِه؛ فقد جاء النهيُ عن البولِ - أجلَّكم الله - في الجُحْرِ؛ لأنه من مساكنِ الجنِّ، والبولُ فيه سببٌ في إيذائِها المُفرِزِ إيذاءَها للإنسِ.
وأما الحيوانُ الأعجمُ؛ فقد قال أبو مسعودٍ - رضي الله عنه -: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، فانطلقَ لحاجته، فرأينَا حُمَّرةً معها فَرْخان، فأخذنا فرْخَيْها، فجاءت الحُمَّرة فجعلَت تفرُشُ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «من فجَعَ هذه بولدَيْها؟ رُدُّوا ولدَيْها إليها»؛ رواه أبو داود.
وأما أثرُ الاستقرار، وحاجةُ بني الإنسان إليه؛ فقد جاء في كلماتٍ يسيراتٍ من فمِ صاحبِ الرسالةِ - صلوات الله وسلامه عليه - الذي أُوتِيَ جوامعَ الكلِم؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبحَ آمنًا في سِربِه، مُعافًى في بدنه، عنده قُوتُ يومه؛ فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافِيرها»؛ رواه الترمذي، والبخاري في "الأدب المفرد".
ولما كان الإسلامُ هو شِرعَةَ الله ومنهاجَه، وصِبغتَه وفِطرتَه التي فطَرَ الناسَ عليها، وهو - سبحانه - أعلمُ بخلقه وبما يصلُحُ لهم في حياتهم ودينهم ودنياهم، وعاقبةِ أمرِهم وآجِلِه؛ فقد شرعَ لهم من الدين ما يكونُ سببًا للاستقرار.
ولما كانت نُظُمُ المُجتمع المُختلفة - سياسيَّةً واقتصاديَّةً، ودينيَّةً وتربويَّةً - تُشكِّلُ البناءَ الاجتماعيَّ الذي يُشبِعُ احتِياجَ المُجتمعات دون تنغيصٍ؛ فقد جعلَت الشريعةُ الغرَّاءُ الاستقرارَ مِقياسًا رئيسًا في كل مشروعٍ، ووجودُه سببٌ في النجاحِ، وفُقدانُه فشلٌ في السيرِ الآمِن في مَهامِهِ الحياة ودُرُوبِها، واختلالٌ لكل مشروعٍ مطروحٍ؛ لأن الاستقرارَ هو التكامُلُ والتوازُنُ وحارِسُ المسيرة.
وعندما نرى أن الأُسرةَ مُجتمعٌ صغيرٌ؛ فقد ظهرت عنايةُ الإسلام بالاستقرارِ في رِحابِها، ورأْبِ كل صَدعٍ يُخِلُّ بمنظومةِ الأُسرةِ التي هي لبِنَةٌ من لبِناتِ المُجتمع الكامِلِ؛ فقد حرِصَ الإسلامُ على توطيدِ الاستقرارِ فيها، وبَذلِ الجهود في ألا تخسرَه أيُّ أُسرةٍ إلا في حالاتِ الفَشَلِ الذَّريعِ وتعذُّر الاجتماع، فقد قال الله - جل وعلا - عن الزوجين: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا[النساء: 35].
فإذا كان هذا هو موقفَ الإسلام في حقِّ الأُسرة الصغيرة؛ فما ظنُّكم بحقِّ الأُسرة الكبيرة التي هي المُجتمعُ المُسلِم المُجتمِعُ تحت لواءٍ واحدٍ وإمامٍ واحدٍ؟ ولا شكَّ أن الأمر أشدّ والثُّلْمَةَ فيه أخطرُ من أيُّ ثُلْمَة؛ لأن بانعِدامَ الاستقرار فيه انعِدامًا لقيمةِ الحياة الحقيقية.
وربُّ أسرةِ المُجتمع الكبير هو قائدُها وإمامُها ووليُّ أمرها الذي يرعَى شُؤونَها بالعدلِ والحقِّ والرحمة، ولأجل هذا جاءت شريعتُنا الإسلاميةُ سادَّةً لكل ثغرٍ يُمكنُ أن يُنغِّصَ هذا المفهومَ، أو أن يتسلَّلَ من خلاله لِواذًا؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «من أتاكم وأمرُكم جميعٌ يُريدُ أن يُفرِّقَ جماعتَكم فاقتُلُوه»؛ رواه مسلم.
وما ذاكَ - عباد الله - إلا حمايةً للمُجتمع، وتوطيدًا للاستقرار؛ لأن في قتلِ المُزعزِعِ وحده حياةَ المُجتمع كلِّه.
بَيْدَ أن الدعوةَ إلى الاستقرار لا تُلغِي تصحيحَ أي خطأٍ ألبَتَّة، كما أنها لا تقِفُ حجر عثرةٍ أمام السعيِ إلى الانتقالِ من الأمر الفاسدِ إلى الأمر الصالح، أو من الأمرِ الصالحِ إلى الأمرِ الأصلَحِ، أو درء الأمر الفاسدِ بالأمر الصالحِ، أو درء الأفسَد بالأقلِّ فسادًا. فهذه هي أُسُس التصحيحِ المُلائِمِ لمبدأ الاستقرار.
وحُقَّ لنا أن نستلهِمَ هذه السياسة الشرعيَّة واعتبار قيمة الاستقرار في اتخاذ الخُطوات والتدابِيرِ والمُوازَنة بين المصالحِ والمفاسِدِ من قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -: «لولا حداثةُ قومِك بالكُفر لنقضتُ البيتَ - أي: الكعبة - ثم لبنَيتُه على أساس إبراهيم - عليه السلام - ..» الحديث؛ رواه البخاري، ومسلم.
ومثلُ هذه المواقف كلما كانت هادِئةً مُتَّئِدةً مُتدرِّجة فإنها ستُوصِلُ إلى الغايةِ المنشودة؛ لأن الفوضَى لا تُثمِرُ إلا تفكُّكًا، والشغبَ لا يَلِدُ إلا عُنفًا واضطرابًا، والسعيُ الهادئُ بلا التفاتٍ يُوصِلُ إلى المُبتَغَى قبل السعيِ المشُوبِ بالالتفاتِ؛ لأن المُتلفِّتَ كثيرًا لا يصِلُ سريعًا، والالتفاتُ لا يكونُ ما دامَ الاستقرارُ هو المُهيمِنَ على مراحلِ العملِ والمسيرِ، ولقد صدقَ الله: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال: 46].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفرُ الله إنه كان غفَّارًا.

ابوحاتم 07-02-2012 09:46 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -.
ثم اعلموا أن عالمَنا اليوم عالمٌ مفتوحٌ يكثُرُ فيه القولُ ويقِلُّ الفعلُ، وتتلاقَحُ فيه المعلومات من كل صوبٍ وفي كل اتجاهٍ، وربما سارعَ الفُضولُ لدى بعضِ الأغرار لينهلَ ثقافةً ليست من بابَته ولا هي من لباسِه؛ فكان مما تأثَّر به بعضُ اللَّهازِمِ من بني مُجتمعاتنا الإسلامية أن أخذَ لَبُوسَ الأجنبيِّ عنَّا واغترَّ بتذويقِه دون أن يُدرِكَ حقيقةَ مُلاءمَته من عدمِها، ودون أن يعرِفَ الأسبابَ والدواعِيَ لهذا اللَّبُوسِ الزائِفِ، فظنَّ البعضُ منهم أنهم بحاجةٍ إلى ثقافةٍ أجنبيَّةٍ تتحدَّثُ عن سبيلِ الوصولِ إلى الاستقرارِ من خلالِ ما يُسمُّونَه: "الفوضَى الخلَّاقة"، أو ما يُسمُّونَه: "الفوضَى البنَّاءة"، وهي خلقُ الفوضَى المُؤدِّية إلى الاضطراب لأجل أن ينشأَ الاستقرارُ من جديدٍ بحُلَّةٍ غير تلك التي خُرِّبَت بالفوضَى والاضطراب.
ويزعُمونَ أنها هي التي تُولِّدُ الشجاعةَ والسِّلْمِ، وما علِمَ أولئك المغرورون أن مبدأَ هذه النظرية إنما هو أساسٌ إلحاديٌّ يُسمُّونَه: "نظريةَ الانفجارِ الكونيِّ"؛ أي: أن الكونَ كلَّه خُلِقَ من الفوضَى، وأن الفوضَى هي التي خلقَت النظامَ في العالَم - تعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا -.
وإن الأسفَ ليشتدُّ حينما يُدرِكُ بعضُ العُقَلاء أن ما يُسمَّى بالفوضَى الخلَّاقة إنما هو مصطلحٌ استخدمَه الغازِي الأجنبيُّ بحُجَّة أن تغييرَ المُجتمعات وتغييرَ حُكوماتهم إنما يكونُ بإحداثِ الفوضَى المُفضِيَة إلى التغيير.
وإن مما يحمَدُه كلُّ غَيورٍ في هذه البلادِ المُبارَكةِ - بلاد الحرمين الشريفين - أن مطارِقَ الحاسِدين والمُتربِّصين إنما تضرِبُ في صخرٍ صلْدٍ لم تُضِرْه، وأوهَى مطارِقَه الحاسِدُ الحاقِدُ؛ فإن اعتزازَ هذه البلاد بتحكيمِ الشريعةِ ورعايةِ الحرمين الشريفين يحُولان - بإذن الله - دون أي تربُّصٍ غاشمٍ، فبقِيَت - بحفظ الله وعنايته - منيعةً أمام التيارات والعواصِفِ. ما يُوجِبُ الشكرَ للباري - جلَّ شأنُه -، ثم يُؤكِّدُ أثرَ الرجوعِ إلى الله، والتكاتُف والاجتماع ونبذ الفُرقة.
وقد مرَّت بلادُنا بأزماتٍ عُضالٍ كادَ بها الكائِدون، فأعانَها الله على الخروج منها كما تخرجُ الشعرةُ من العجين، وهي تُقادُ بأوتادٍ وأطوادٍ من أئمتها وقادتِها، ومهما فقدَت من أركانِها فخلَفُه في دائرةِ المسؤوليَّة صامِدٌ.
وقد رُزِئَت هذه البلادُ في الأيام الماضِية برحيلِ وليِّ عهدها وعضُدِ وليِّ أمرِها: نايفِ بن عبد العزيز بعد عُمرٍ حافلٍ بالرعايةِ والعنايةِ لأمنِ هذه البلادِ، وفي قيادةِ البلادِ من الاستقرار والتوازُن ما يُذكِّرُنا بقولِ القائلِ:
إذا ماتَ منَّا سيدٌّ قامَ سيِّدٌ
قؤُولٌ لما قالَ الكِرامُ فَعُولُ
فرحِمَ اللهُ وليَّ العهد الراحلَ، وأسكنَه فسيحَ جنَّاته، ووفَّقَ خلفَه لكل خيرٍ، ونفعَ به، وسدَّد على الخيرِ خُطاه، وإنا لنُبايِعُه على السمعِ والطاعةِ في المنشَطِ والمكرَه وأثرةٍ علينا.
حمَى اللهُ بلادَنا من كل سُوءٍ ومكروهٍ، وحمَى سائرَ بلاد المُسلمين وأهلِها من كيدِ الكائدين، وعُدوانِ المُعتدين، إنه سميعٌ مُجيبٌ.
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بذلك في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56]، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر إخواننا المُستضعفين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم انصرهم على من ظلمَهم ومن خذَلَهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر إخواننا في سُوريا على من طغَى وبغَى عليهم، اللهم عجِّل لهم بالنصر والفرَج، اللهم ارحم موتاهم، واشفِ مرضاهم، وفُكَّ أسراهم، وارحم ثَكلاهُم يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 07-02-2012 09:51 PM

خطورة الفرقة
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة التاسع من شعبان 1433 هـ بعنوان: "خطورة الفرقة"، والتي تحدَّث فيها عن الائتلاف والاجتماع بين المسلمين وضرورته في المحبة بينهم، وحذَّر من الوقوع في الفُرقة والتناحُر والتنازُع فيقع الفشلُ وذهابُ الريح، وذكرَ على ذلك مثلًا حادثةَ أُحُدٍ وما استفادَه المُسلمون حينها من دروسٍ بسبب التنازُع والافتراق.

الخطبة الأولى
الحمد لله أمر بالتآلُف والاجتماع، ونهى عن الفُرقة أهلَ الإسلام، أحمده - سبحانه - حمدًا نرجُو به المزيدَ من الإنعام والإكرام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ القدوسُ السلام، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وسيدُ الأنام، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا وقوفَكم بين يدَيه يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[النحل: 111].
أيها المسلمون:
إن ائتلافَ القلوب، واتحادَ المشاعر، واجتماعَ الكلمة من أوضح صفات المُسلمين المُخلصين الذين جعل الله الأُخوَّة في الدين قاعدةَ وأساسَ العلاقات بينهم، فقال - سبحانه -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ..[الحجرات: 10] الآية، ووصفَ أمَّتَهم بأنها أمةٌ واحدةٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[المؤمنون: 52].
ولما كان التفرُّق والتناحُر والتدابُر مُباينًا لذلك كلَّ المُبايَنة؛ لأنه مِعولُ هدمٍ في بُنيان هذه الأمة، وسببٌ لتقويضِ عوامل القوة والعِزَّة والخيرية التي كتبَها الله لها جاء التحذيرُ الربانيُّ من الخلاف الذي وقع فيه مَن قبلَنا من الأمم، فحملَهم على التناحُر والتلاعُن مع مجيءِ البيِّنات الهادِيات المانِعات من الوقوع في ذلك، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[آل عمران: 105- 107].
وعدَّ الله تعالى هذا التفرُّق في الدين والاختلاف فيه مُفسِدًا له، ومُقوِّضًا لأركانه، وعامِلًا على الانفصال عنه، وسببًا لبراءة رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - من أهله - أي: من أهل هذا التفرُّق -: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[الأنعام: 159].
وكما جاء هذا النهيُ عن التفرُّق والتحذير منه، فقد جاءت تكاليفُ الشريعة بكل سببٍ يضمَنُ الائتلافَ ويحُولُ دون التفرُّق:
فمن حثٍّ على أداء الصلوات الخمس في اليوم والليلة في جماعةٍ بالمساجد بالترغيب القويِّ فيها، والتحذير الشديد من تركها، كما جاء في "الصحيحين" عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاةُ الجماعة أفضلُ من صلاةِ الفَذِّ بسبعٍ وعشرين درجة».
وكما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده؛ لقد هممتُ أن آمُر بحطبٍ فيُحتَطَب، ثم آمُر بالصلاةِ فيُؤذَّن لها، ثم آمُر رجلًا فيؤُمَّ الناسَ، ثم أُخالِفَ إلى رجالٍ لا يشهَدون الصلاةَ فأُحرِّقَ عليهم بيوتَهم ..» الحديث.
إلى إيجابِ الالتقاءِ كل أسبُوعٍ لسماع الذكرِ وأداء صلاة الجُمُعة، إلى الأمر باجتماعٍ أكبر من ذلك في صلاة العيد، وجعلَ مكانَه الصحراء، وحثَّ على حضور الرجال والنساء - حتى الحُيَّضَ منهنَّ - ليحظَى بهذا الخير العددُ الغفيرُ ويعُمَّ النفعُ، إلى فرضِ اجتماعٍ يضُمُّ حشودًا تأتي من كل فجٍّ عميقٍ تؤُمُّ البيتَ في زمانٍ معلومٍ لأداء شعيرة الحجِّ، فيكونُ التقاءُ هذه الحشود أمرًا محتومًا لشهُود المنافع التي تأتي للشدِّ على الروابطِ بين الإخوة، والسعيِ إلى توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم.
وفي السنن التي سنَّها رسول الهدى - صلوات الله وسلامه عليه - من الوصية بالاتحاد والاجتماع، والتحذير من غوائِلِ الفُرقة والتنازُع ما يُفصِحُ عن شدَّة حِرصِه - صلى الله عليه وسلم - على ما يحفظُ أسبابَ ذلك، ويدلُّ عليه، ويُرشِدُ إليه.
ومن ذلك: أنه رأى - صلى الله عليه وسلم - في بعض أسفاره تفرُّقَ الناس في الشِّعابِ والأوديةِ حين ينزِلون منزلًا، فكرِهَ ذلك ونهى عنه بقوله: «إن تفرُّقَكم في الشِّعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان»، فلم ينزِلوا بعد ذلك منزلًا إلا انضمَّ بعضُهم إلى بعضٍ، حتى يُقال: لو بُسِطَ عليهم ثوبٌ لعمَّهم؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والنسائي في "سننهما" بإسنادٍ صحيحٍ.
ولما كان التطاحُن والتنازُع على متاع الدنيا شأنَ أهل الجاهلية وعادةَ أهل الكُفر؛ فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك أهلَ الإسلام، فقال في خُطبة يوم النَّحر: «لا ترجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ». قال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: فوالذي نفسي بيده؛ إنها لوصيَّتُه إلى أمَّته: «لا ترجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ»؛ أخرجه البخاري في "صحيحه".
ولما كان الخروجُ على إجماع الأمة من أعظم أسبابِ الشِّقاق والتنازُع؛ فقد كان التحذير من الخروج عن الطاعة ومُفارقة الجماعة شديدًا، والعقوبة عليه مُغلَّظَة، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من خرجَ عن الطاعة، وفارقَ الجماعةَ، فمات مات ميتةً جاهليَّةً، ومن قُتِل تحت رايةٍ عُمِّية - أي: جهالةٍ وضلالةٍ -، يغضبُ للعَصَبة، ويُقاتِلُ للعَصَبة فليس من أمَّتي، ومن خرج من أمتي على أمتي يضرِبُ برَّها وفاجِرَها لا يتحاشَى من مؤمنِها، ولا يفِي بعهدِ ذي عهدِها، فليس مني ولستُ منه»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
وفي الحديث الآخر أيضًا عند مسلم - رحمه الله -: «ستكونُ هَناتٌ وهَناتٌ، فمن أرادَ أن يُفرِّقَ أمرَ هذه الأمة وهي جميعٌ فاضرِبوه بالسَّيف كائنًا من كان».
وما ذاك - يا عباد الله - إلا لأن الفُرقةَ والخروجَ على الجماعة أشبهُ بجُرثومةٍ لو سُمِح لها بالحياة لقتَلَت جسدَ الأمة وأوردَته موارِدَ الهلَكَة، وقد كان من شُؤم التنازُع ووبالِه ما حصلَ يوم أُحُد فإنما وقعَ من تنازُعٍ وعِصيان أمرِ الله وأمرِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - كان سببَ ما مُنُوا به من هزيمةٍ في جهادٍ بذَلوا فيه لله أنفُسَهم وأموالَهم، وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ[آل عمران: 152].
وكانت أول موعظةٍ وُعِظوا بها بعد ما كان من نصرِ الله لهم يوم بدرٍ أن أُمِروا بجمع صُفُوفهم، والحذَر من التنازُع المُفضِي إلى الفُرقة، فقال - سبحانه -: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[الأنفال: 46].
وإنه لفشلٌ وذهابُ ريحٍ لا عاصِمَ منه، ولا منجاةَ من غوائِلِه إلا بالاعتصامِ بحبلِ الله؛ أي: بدينه، وبكتابه، وبشرعه، وبنَبذِ التفرُّق المُفضِي إلى جحدِ نعمةِ الله علينا؛ إذ هدانا إلى الإسلام، وجعلَنا من بعد عداواتِ الجاهليَّة وأحقادِها وتفرُّقها وتحزُّبها إخوانًا في الدين، أعوانًا على الخير، كما قال - سبحانه -: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[آل عمران: 103].
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

ابوحاتم 07-02-2012 09:52 PM

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرِه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن الاختلافَ الناشِئ عن تفاوُت المدارِك في الفهمِ، وتبايُن العقولِ في الاستِنباط لم يكن أبدًا ولا يصِحُّ أن يكون سببًا للفُرقة والتنازُع؛ لأنه اختلافٌ بين مُجتهِدين أساغَه الشارِعُ، وجعل الأمرَ فيه دائرًا بين أجرَيْن لمن أصابَ وأجرٍ لمن أخطأ، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه".
وهو ارتباطٌ بين صلاحِ القصدِ ونتيجة الفِكرِ، فما دام القصدُ صحيحًا والوسيلةُ صائبةً والأهليَّةُ قائمةً فلا مُوجِبَ للتنازُع؛ إذ المقصودُ معرفةُ الحق، والعملُ به، والدَّلالةُ عليه رغبةً في التواصِي بالحق والتواصِي بالصبر، وذلك من أسباب الاجتماع لا التفرُّق، ومن عوامل الاتحاد لا التنازُع.
وما أحسنَ أن يكون الإعلامُ الجديدُ بما يُتيحُه من وسائل وما يُوفِّره من مواقع تواصُلٍ سببًا لاجتماع الكلمة، وطريقًا لاتحاد المشاعِر، لا أن يكون عامل فُرقة وخُصومةٍ وتنازُع.
فاتقوا الله - عباد الله -، واعملوا على كل ما يُحقِّقُ اتحادَ الكلمة، ووحدة الصفِّ، وحَذَارِ من التناحُر والتنازُع والتفرُّق المُؤذِنِ بالفشل وذهابِ الريح؛ فإنه أسوأُ مصيرٍ ينتظِرُ المُتخاصِمِين المُتنازِعين.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم رُسُل الله: محمدِ بن عبد الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتاب الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.
اللهم أنزِل رحمتَك وغُفرانَك على عبدك الأمير نايف بن عبد العزيز - رحمه الله -، اللهم اغفر له في المهديين، وارفع درجاته في علِّيِّين، وألحِقه بصالحِ سلفِ المؤمنين، واجزِه عمَّا قدَّم للإسلام والمُسلمين خيرًا يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما فيه خيرُ الإسلام والمسلمين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده سلمان بن عبد العزيز إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ البلاد والعباد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم اكفِنا أعداءَنا وأعداءَك بما شِئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحورِ أعدائِك وأعدائِنا، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك يا رب العالمين.
اللهم احفظ مصر وشعبَها، ووفِّق قادتَها لكلِّ خيرٍ عاجلٍ أو آجلٍ، وانصر بهم دينَك وكتابَك وسنَّةَ نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم أنجِ المُستضعَفين في سُوريا، اللهم احفظ دماءَهم، اللهم احفظ دماءَ المُسلمين في سُوريا، اللهم احقِن دماءَهم، وارحم موتاهم، واكتُب لهم أجرَ الشهادة في سبيلِك يا رب العالمين، اللهم كن لهم، واجبُر كسرَهم، وارحم ضعفَهم يا رب العالمين.
اللهم أطعِم جائِعَهم، واكسُ عارِيَهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 09-12-2012 06:08 PM

الإحسان


خطبة الجمعة 16 شعبان 1433هـ من المسجد الحرام بمكة المكرمة لفضيلة الشيخ /صالح بن حميد

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله استخلفَ الإنسانَ في الأرض ليعمُرها، وخلق له ما في السماوات وما في الأرض وسخَّرَها، أحمده - سبحانه - وأُثني عليه والَى علينا نعمَه وآلاءَه لنشكُرَها، ومن رامَ عدَّها فلن يحصُرَها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ حقٍّ ويقينٍ أرجو عند الله أجرَها وذُخرَها، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله رسمَ معالمَ الملَّة وأظهرَها، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه كانوا أفضلَ هذه الأمة وأكرمَها وأبرَّها، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - عز وجل - رحمكم الله -، وأخلِصُوا لربكم القصدَ والنيةَ فإنما الأعمالُ بالنياتِ، واجتهِدوا في الطاعة فقد أفلحَ من جدَّ في الطاعات، والزَموا الصدقَ في المُعاملة فإن دين الله في المُعاملات.
بادِروا - رحمكم الله - إلى ما يحبُّه مولاكم ويرضاه؛ فكلُّ امرئٍ موقوفٌ على ما اقترفَه وجناه يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ[النبأ: 40]، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ[آل عمران: 30].
أيها المسلمون:
كلمةٌ عظيمةٌ تتضمَّن معاني واسعة تدور حول صلاح الإنسان وفلاحه في معاشه ومعاده، ونفسه وأهله ومُجتمعه، وفي كل ما حوله من حيوانٍ ونباتٍ وجمادٍ. كلمةٌ تدخلُ في الدين والعبادة، والقول والعمل، والخُلُق والمظهر والسلوك. كلمةٌ عظيمةٌ لها مدارُها في التعامُل والتعايُش، ولها آثارُها في رأبِ الصدع، وتضميد الجراح، وغسلِ الأسَى، وزرعِ التصافِي، والدفع إلى التسامِي صُعُدًا في مكارم الأخلاق.
كلمةٌ إليها ترجع أُصولُ الآداب وفروعُها، وحُسنُ المُعاشرة وطرائِقُها. كلمةٌ هي غايةُ الغايات، ومحطُّ نظر ذوي الهِمَم العاليات. هذه الكلمة العظيمة يُوضِّحُها ويُجلِّيها حديثان صحيحان عن نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -:
أما الأولُ: فقد سأل عن هذه الكلمة جبريلُ - عليه السلام - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حين قال له: أخبِرني عن الإحسان. قال: «الإحسانُ: أن تعبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».
وأما الحديثُ الثاني: فحديثُ أبي يعلَى شدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيءٍ؛ فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلَة، وإذا ذبحتم فأحسِنوا الذِّبحة، وليُحِدَّ أحدُكم شفرَته، وليُرِح ذبيحتَه».
أخرج الحديثين: الإمامُ مسلمُ بن الحجاج في "صحيحه"، وأصحاب السنن.
معاشر الإخوة:
الإحسانُ مُشتقٌّ من الحُسن، وهو نهايةُ الإخلاص، والإخلاصُ على أكمل وجوهه من الإتقان والإحكام والجمال في الظاهر والباطن.
والإحسانُ في العبادة: أن تعبُد الله كأنك تراه، فهو قيامٌ بوظائف العبودية مع شهودك إياه. فإن لم تكن تراه فإنه يراكَ؛ أي: فتكون قائمًا بوظائف العبودية مع شهوده إياك.
إنه مُراقبةُ العبد ربَّه في جميع تصرُّفاته القولية والعملية والقلبية، علمُ القلب بقُرب الربِّ، فهو من أعلى مقامات التعامُل مع الله.
أيها المسلمون:
الإحسانُ مطلوبٌ في شأن المُكلَّف كلِّه؛ في إسلامه، وإيمانه، وفي عباداته، ومُعاملاته، وفي نفسه، ومع غيره، وفي بدنه، وفي ماله، وفي جاهِه، وفي علمِه وعمله.
وأولُ مقامات الإحسان: الإحسانُ في حقِّ الله - عز وجل -، وهو الإحسانُ في توحيده: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[محمد: 19]، فيُوحِّدُ المُسلمُ ربَّه على الشهود والعِيان كما عبدَه بالدليل والبُرهان.
ومن الإحسان في التوحيد: الرضا بمقادِر الله؛ فيُظهِرُ الرضا والقبول في المنع والعطاء: «عجبًا لأمر المُؤمن وأمرُه كلُّه خيرٌ؛ إن أصابَته سرَّاء شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاء صبرَ فكان خيرًا له، ولا يكونُ ذلك إلا للمؤمن».
وهل عوَّدك ربُّك - يا عبد الله - إلا إحسانًا؟! وهل أسدَى إليك إلا جودًا ومِنَنًا؟!
ومن الإحسان في توحيده: فهمُ العلاقة بين السببِ والمُسبِّبِ، «وإذا سألتَ فاسأل اللهَ»، فيتوجَّه العبدُ بقلبه لربه ربِّ الأرباب ومُسبِّب الأسباب طالبًا منه، مُعتمِدًا عليه، راضيًا عنه.
ومن الإحسان: تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في صدق محبَّته، ولزوم طاعته، وحُسن مُتابعته، وعدم مُجاوزة شرعه، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[آل عمران: 31].
ومن الإحسان: إحسانُ العبد في عبادته ربَّه، والعبادة: اسمٌ جامعٌ لكل ما يُحبُّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، وإحسان العبادة: الإخلاص، والخشوع، وفراغُ البال، ومُراقبة المعبود؛ فللصلاة طهورُها، وآدابُها، وسُننها، وسكينتُها، وقُنوتُها، وطُمأنينتُها حتى تقول لصاحبها: حفِظَك الله كما حفِظتَني.
والإحسانُ في الزكاة والإنفاق: أن يُخرِج من طيِّب ماله بطِيبٍ من نفسه من غير منٍّ ولا أذًى، شاكرًا لربه فضلَه؛ إذ جعلَ يدَه هي اليدَ العُليا.
والإحسانُ في الصيام: الصومُ إيمانًا واحتسابًا، يدَعُ الصائمُ طعامَه وشرابَه وشهوتَه من أجل ربِّه ومولاه، ولخَلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المِسك.
والإحسانُ في الحجِّ: أن يُهِلَّ الحاجُّ بالتوحيد، مُتمِّمًا الحجَّ والعُمرةَ لله، مُجتنِبًا الرَّفَثَ والفسوقَ والجِدالَ، فمن حجَّ ولم يرفُث ولم يفسُق خرجَ من ذنوبه كيوم ولدَتْه أمُّه.
أيها الإخوة الأحِبَّة:
وبعد حقِّ الله في الإحسان في توحيده وفي عبادته، وحقِّ رسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في الطاعة والمُتابعة يأتي الإحسانُ إلى عباد الله، ويأتي في المُقدِّمة الوالِدان: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[الإسراء: 23، 24].
ويتبَعُ الإحسانَ إلى الوالدَيْن: الإحسانُ إلى الرَّحِم وذوي القُربَى؛ بالبرِّ والصلة واللُّطفِ في القول والعمل، وليس الواصِلُ بالمُكافِئ ولكنَّ الواصِلَ من إذا قطعَت رحِمُه وصلَها.
ومن الإحسان: الإحسانُ إلى اليتَامَى والمساكين والضُّعفاء وأصحابِ الحاجات الخاصَّة؛ قولٌ ليِّن، وإنفاقٌ من غير منٍّ، ومُعاملةٌ من غير عُنف، وصادِقُ الخدمة، ورفعُ مُعاناتهم، وعدمُ التعالِي عليهم، والحَذَرُ من إشعارهم بما ابتُلوا به، فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ[الضحى: 9، 10]، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان: 8، 9].
وممن يتعيَّنُ الإحسانُ إليهم: الغُرباءُ وأبناءُ السبيل والوافِدون، فهم لا يعرِفون الأعرافَ الجارية ولا العادات السائدة؛ بل لا يعرِفون منكم إلا أخلاقَكم وحُسن تصرُّفكم.
ولا تغفَلوا عن الإحسان إلى المُعسَرين من المَدينين، فتكون المُطالَبة بالمعروف، والإنظارُ إلى ميسَرة، وتجاوَزوا لعلَّ الله أن يتجاوَزَ عنكم في يومٍ لا ينفعُ فيه مالٌ ولا بنون، إلا من أتَى اللهَ بقلبٍ سليمٍ.
وأحسِنوا في بيعكم وشرائِكم، وحُسن التقاضِي فيما بينكم؛ فرحِمَ الله عبدًا سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، وسمحًا إذا قضَى، وسمحًا إذا اقتضَى.
ومن الإحسان: الإحسانُ بترك المُحرَّمات واجتنابها بالكلية، والانتهاء عنها ظاهرًا وباطنًا، وفي التنزيل العزيز: وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ[الأنعام: 120].
أما الإحسانُ إلى الحيوان؛ ففي كل كبدٍ رطبةٍ أجرٌ.
وللجماد نصيبُه من خُلُق المُسلم وإحسانه، وأُحُد جبلٌ يُحبُّنا ونُحبُّه.
عباد الله:
أما قولُه - عليه الصلاة والسلام -: «فإذا قتلتُم فأحسِنوا القِتلَة، وإذا ذبحتُم فأحسِنوا الذِّبحَة»، فهذا شأنٌ عظيمٌ في دين الإسلام، فالله أكبر؛ استحقاقُ القتل لا يُنافِي الإحسان في كيفيَّته وآلته. قال أهل العلم: ضربَ المثالَ بالقتل والذبحِ الذي ربما يُتوهَّم أنه في غاية البُعد عن الإحسان.
إن الإحسانَ في الإسلام يرسُمُ ويُرسِّخُ القِيَم الإنسانيةَ العُليا، ويترفَّعُ عن الأحقاد والضغائن، نعم؛ الذي يستحقُّ القتلَ قد لا يُفيدُه ولا ينفعُه ترفُّقُك به، وإنما تتجلَّى القيمةُ في سُمُوِّ إنسانية المُسلم وعلوِّ منزلة الأخلاق عنده.
إن خُلُق الإحسان هذا وعلى هذه الصفة هو الذي يُجسِّدُ التحضُّر والسُّلُوكَ الإنسانيَّ الراقي، ويتجلَّى الإحسانُ فيه، «الراحِمون يرحمُهم الرحمن»، «وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه».
ومن اللطائف: ما ذكرَه بعضُ أهل العلم في قوله - سبحانه -: فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ[محمد: 4]، وفي قوله - عزَّ شأنه -: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ[الأنفال: 12].
قال أهل العلم: "إن المقصودَ الإحسانُ في القتل حتى في حال الحربِ والقتالِ والكُفرِ وشدِّ الوَثاق".
معاشر المسلمين:
ذو الإحسان ينطلقُ في ميادين الإصلاح الواسِعة يبذُلُ ما في وُسعه، ينشرُ الخيرَ والفضلَ والبرَّ في كل ما يُحيطُ به أو يمُرُّ به. المُحسِنُ عنصرٌ صالحٌ، ومُسلمٌ مُستقيمٌ مع نفسه ومع الآخرين، لا يصدُرُ عنه إلا ما يُحبُّه لنفسه ويرضاه للآخرين، وفي مسلَكه تزدادُ الحياةُ استقامة، والمحبَّةُ عُمقًا، وتسُودُ الثقة، وتنتشرُ الطُّمأنينةُ، فيكونُ الإنتاجُ المُثمِر، والسعادةُ الشامِلة.
المُحسِنُ شخصيَّةٌ مُهذَّبةٌ راقِيةٌ، يستبطِنُ بين جوانِحه جُملةً من مكارِمِ الأخلاق تدورُ بين العدل والإحسان وفقَ توجيهات الشرع وترتيباته وأولوياته.
الإحسانُ مِعيارُ قياس نجاح العلاقات، وثباتها، ودوامِها، وإذا كان العلُ أساسَ الحُكم وقيامِ الدول فإن الإحسانَ هو سبيلُ رُقِيِّها ورفعتِها وتقدُّمها، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ[النحل: 90].
ومن أجل هذا - عباد الله - كان جزاءُ الإحسان عظيمًا؛ فإن الله –عزَّ شأنه - أحسنُ صِبغة، وأحسنُ قيلًا، ومن أقرضَ اللهَ قرضًا حسنًا وأبلَى بلاءً حسنًا ضاعفَ له المثوبةَ أضعافًا كثيرةً، ومنَّ علينا - سبحانه - بالرزقِ الحسن والمتاع الحسن في الدنيا، والحُسنى وزيادة في الأُخرى، ولمن أحسنَ في هذه الدنيا حسنة، ومن هاجرَ إليه بوَّأه في الدنيا حسنة، ومن اقترفَ حسنةً زادَ له فيها حُسنًا، ومن سألَه في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً فله نصيبٌ مما كسَب، ومن صدَّق بالحُسنى ودعاه بأسمائه الحُسنى أعطاه في هذه الدنيا الحُسنى، وجعلَه من الذين سبقَت لهم في الآخرة الحُسنى.
وكلما كان الإيمانُ أكمل والعملُ أحسن كان الجزاءُ أوفَى والثوابُ أعظم، لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ[الزمر: 34]، آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ[الذاريات: 16]. وللمُحسِنات من النساء مثلُ ذلك: فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا[الأحزاب: 29].
وبعدُ، عباد الله:
فيقول الإمام النووي - رحمه الله -: "الإحسانُ هو عُملةُ الصدِّيقين، وبُغيةُ السالكين، وكنزُ العارفين، ودأبُ الصالحين، وهل جزاءُ من صبرَ على البلوَى إلا التقرُّبُ من المَولَى؟ وهل جزاءُ من أسلمَ قلبَه لربِّه إلا أن يكفِيَه ويحفظَه".
فإذا حكمتُم فاعدِلوا، وإذا تعاملتُم فأحسِنوا؛ فإن الله مُحسنٌ يحبُّ المُحسنين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ[النحل: 30، 31].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهديِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله على توفيقه وإحسانه وإرشاده، والشكرُ له على توالِي فضلِه وازدياده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تقُودُ صاحبَها إلى فوزه وإسعاده، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أفضلُ رُسُله وخيرُ عباده، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم معاده.
أما بعد، أيها المسلمون:
إن للإحسان آفاقه الواسِعة في هذه الحياة؛ فهو ميزانُها الدقيقُ في كل جوانبها؛ بل هو خُلُقٌ عظيمٌ يتجاوزُ المُعاملةَ بالمثلِ أو ردَّ الجَميل، أو الشكرَ على الصنيع، إنه يرتفعُ بصاحبِه ويسمُو به إلى أن يُحسِنَ للناس ابتِداءً ولو لم يسبِق له منهم إحسانٌ؛ بل يترقَّى إلى مرتبةٍ أعلَى حين يُقابِلُ إساءَتهم إليه بالإحسان إليهم، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ[المؤمنون: 96].
مُقابلةُ الإساءة بالإحسان هي التِّرياقُ النافعُ في مُخالطَة الناس، والدواءُ الناجِعُ لإصلاحِهم وبثِّ الأمان فيهم. إحسانٌ تتحوَّلُ العداوةُ معه إلى صداقةٍ، والبُغضُ إلى محبَّة. الإحسانُ هو دواءُ السيئة وجزاؤُها من أجل أن تُسلَّ السخائِم، ويُقضَى على الضغائِن فينقلبُ العدوُّ صديقًا، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت: 34، 35].
يقول الثوري - رحمه الله -: "الإحسانُ أن تُحسِنَ إلى المُسيءِ؛ فإن الإحسانَ إلى المُحسِن تجارة"؛ أي: مُعاوَضة ومُقابلَة للإحسان بالإحسان، ومُقابلةُ السيئة بالحسنة شيءٌ عظيمٌ لا يُطيقُه إلا ذوو الهِمَم العالية، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. إنه صبرٌ جميلٌ، وتحمُّلٌ لأذى، وغُفرانٌ لإساءة.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فإن هذه المواقف النبيلة المُتسامِحة سُرعان ما تُعطِي ثمارَها، وتُؤدِّي نتائِجَها من الحبِّ والقَبول، كم هم النُّبلاءُ الذين يُقابِلون هذه الإساءات مهما بلغَت مساوئُها ومهما كانت آثارُها، والخلقُ كلُّهم عيالُ الله، فأحبُّهم إلى الله أنفعُهم لعياله؛ في يُسرٍ، ورفقٍ، وحُسن ظنٍّ وتجاوُزٍ.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الحبيب المُصطفى، والنبيِّ المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحِدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمة الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعَزُّ فيه أهلُ الطاعةِ، ويُهدَى فيه أهلُ المعصيةِ، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المُنكَر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم احفظ إخواننا في سوريا، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شَريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، اللهم واجعل لهم من كلِّ همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً.
اللهم انصرهم على عدوِّك وعدوِّهم، اللهم عليك بالطُّغاة الظلَمة في سُوريا، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القومِ المُجرِمين، اللهم إنا ندرَأُ بك في نُحُورِهم ونعوذُ بك من شُرُورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وأصلِح أعمالَنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، وارحمنا، يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.

ابوحاتم 09-12-2012 06:18 PM


الإسلام والأمن

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 23 شعبان 1433هـ بعنوان: "الإسلام والأمن"، والتي تحدَّث فيها عن الأمن والأمان في الإسلام، وأن الله تعالى أنعمَ على هذه الأمةِ بهذه النعمةِ العظيمة، ومنَّ عليها بتلك المنَّة الكريمة، وذكرَ ما حبا الله بلادَ الحرمين الشريفين من الأمن والاستقرار، وذكَّر في خطبته الثانية بضرورة توخِّي وسائل الإعلام الحذر مما يُعرضُ عليها مما يخدِشُ حُرمةَ شهر رمضان، ويُذهِبُ بركاتِه وخيراته التي تفضَّل الله بها على عباده.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُك ربَّنا ونستعينُك ونتوبُ إليك ونستغفرُك، ونُثنِي عليك الخيرَ كلَّه.
الحمدُ لله حمدًا دائمًا وكفَى
شُكرًا على سَيْبِ جَدواه الذي وكَفَا
لك الحمدُ ربِّي على الأمنِ وارِفًا
صِرنا بفضلِه موطِنَ المُحسَدِ
أحمدُه - سبحانه - مكَّنَ فينا الأمنَ وأوثقَا، وأضاءَ من نوره الكونُ فأشرقَا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستكشِفُ بها دخَنً، ونستنيرُ بها دغَنًا، ونرجُو بها أمنًا مُتحقِّقًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله الهادي إلى النور المُبين فأفلَقًا، فملأَ الكونَ أمنًا وأغدَقًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الأعراق، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين الأعلاق، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم التلاقِ.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا ربَّكم - تبارك وتعالى - واشكُروه، وأطيعوه ولا تعصُوه، اشكُروه على نعمِه الباطنة والظاهرة، وعلى آلائه المُتوافِرة المُتكاثِرة، تفُوزوا بخير الدنيا ونعيمِ الآخرة.
الشكرُ يفتحُ أبوابًا مُغلَّقةً
لله فيها على من رامَه نِعَمُ
فبادِرِ الشكرَ واستغلِق وثائِقَهُ
واستدفِعِ اللهَ ما تجري به النِّقَمُ
أيها المسلمون:
في أغوار الفتنِ وأعماقِها، وبين فحيحِها وضُبَاحِها، تأتلِقُ قضيَّةٌ فيحاء، عريقةٌ بلْجَاء، هي من الضرورات المُحكَمات، والأصول المُسلَّمات، ومن أهم دعائم العُمران والحضارات، يُذكَّرُ بهذه القضية في زمنٍ روَّقَ علينا بكَلكَلِه، وأوانٍ كثُرت فيه الفتنُ البَهماء، واكفهرَّت لياليه الظَّلماء، واسبقَرَّت مِحَنُه العمياءُ الدَّهماء.
فبَين صياخِدةٍ حادَّة، وأزماتٍ مُتضادَّة، مُتشاكِسةٍ هادَّة، وأشلاءٍ ودماءٍ، ودمارٍ وأصلافٍ وأرزاءٍ، تستعِرُ جوانبُ أمَّتنا الإسلامية، وتتقلَّبُ فيها الأحداثُ الدولية والعالمية، وإلى الله وحده المُلتجَأ أن يُجلِّيَ الخُطوبَ، ويكشِف عن المُسلِمين الكُروبَ.
إنها - يا رعاكم الله –: قضيةُ الأمن والأمان، والاستقرار والاطمئنان.
وما الدينُ إلا أن تُقامَ شعائرٌ
وتُؤمَنُ سُبلٌ بيننا وشِعابُ
فيا للهِ! ما أعظمَها من نعمةٍ، وأكرمَها من مِنحةٍ ومِنَّة، فمنذُ أن أشرَقَت شمسُ هذه الشريعة الغرَّاء ظلَّلَت الكونَ بأمنٍ وارِفٍ، وأمانٍ سابغِ المعاطِفِ، لا يستقِلُّ بوصفِه بيان، ولا يخُطُّه يَراعٌ أو بَنان، فالأمنُ فيها من أولَى المطالِب، وأفضلِ الرغائِب، وأهمِّ المقاصِد؛ فهو مطلبٌ ربَّانيٌّ، ومقصدٌ شرعيٌّ، ومطلبٌ دوليٌّ، وهاجِسٌ إنسانيٌّ.
فإذا ما تحقَّق وتأكَّد، وعمَّ وتوطَّد، تأتلِقُ قُدراتُ الإنسان شطرَ الازدِهار، والتميُّز والابتِكار، والإنماء والإعمار، وينحسِرُ الاضطرابُ والبَوار.
فلله ثم لله؛ كم في الأمنِ من الفضائل والبركات، والآثار السنيَّات؛ كيف وقد جعله - سبحانه - من أجلِّ النِّعَم، وقرَنَه بالإطعام من الجوع، فقال - سبحانه -: الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ[قريش: 4].
معاشر المسلمين:
ولقد كان الأمنُ أولَ دعوةٍ دعا بها خليلُ الرحمن إبراهيم - عليه السلام -؛ حيث قال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ[البقرة: 126]، فقدَّم الأمنَ على الرزقِ؛ بل جعلَه قرينَ التوحيد في دُعائِه، فقال: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ[إبراهيم: 35].
وقد عمَّقَ الإسلامُ هذا المعنى ورنَّقَه، ففي ظِلالِه يتضوَّعُ الجميعُ الأمنَ والأمانَ، ويأمَنونَ الغُدَرَ الجِوان، ورميَ الرَّجَوَان؛ في "البخاري" عن أبي شُريحٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله لا يُؤمِن، والله لا يُؤمِن، والله لا يُؤمِن». قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يأمَنُ جارُهُ بوائِقَه».
الله أكبر، الله أكبر!
ببعثَته المكارِمُ قد تجلَّت
فولَّى الشركُ وانهزَمَ انهزامًا
وسادَ الأمنُ بعد الخوف حتَّى
ترقَّى الكونُ وانتظمَ انتظامًا
أمةَ الإسلام:
تلكُم هي المنهجيَّة الإسلامية الصحيحة لهذه القضية الشاملة الرَّبيحة: قضية الأمن والأمان، فهما جنبان مُكتنِفان للإيمان مُنذُ إشراق الإسلام إلى أن يُحشَرَ الأنام، فلقد أعلَى الإسلامُ شأنَها ورفعَ شأوَها؛ حيث قال نبيُّ الهدى - صلى الله عليه وسلم -: «من أصبحَ آمنًا في سِربِه، مُعافًى في جسده، عنده قُوتُ يومه، فكأنَّما حِيزَت له الدنيا بحذافِيرها»؛ أخرجه الترمذي، وحسَّنه.
لقد طابَت الدنيا بطِيبِ مُحمَّدِ
وزِيدَت به الأيامُ حُسنًا إلى حُسنِ
لقد فكَّ أغلالَ الضلالِ بسُنَّةٍ
وأنزلَ أهلَ الخوف في كنَفِ الأمنِ
ولقد امتنَّ الله تعالى على بلاد الحرمين الشريفين بنعمة الأمن والأمان، فقال - سبحانه -: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[القصص: 57]، وقال - سبحانه -: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ[العنكبوت: 67].
فسبحان الله - عباد الله -، ها أنتم أُولاء ترونَ الناسَ من حولكم وما يعيشونَه من خوفٍ واضطرابٍ، ما هي أنباءُ إخوانكم في الأرض المُبارَكة فلسطين؟ بل ما حال إخواننا على رُبَى الشام الحَزين؟ ناهِيكم عمَّا يجري للمُسلمين في بُورما وأراكان من تقتيلٍ وتنكيلٍ وحرقٍ شائنٍ مُهينٍ، وقُل مثلَ ذلك في كل صِقعٍ رَهينٍ.
ولو كان سهمًا واحدًا لاتَّقيتُه
ولكنَّه سهمٌ وثانٍ وثالثُ
فبلادُنا - بحمد لله - وهي قبلةُ المُسلمين، ومُتنزَّلُ وحي ربِّهم، ومبعثُ ومُهاجَرُ نبيِّهم - عليه الصلاة والسلام - آمِنةٌ - بفضل الله - من الحروبِ العاصِفة، والفتنِ القاصِفة التي تقُضُّ المضاجِع، وتُغوِّرُ الفواجِع، وتذَرُ الديارَ بلاقِع.
سلَّمها الله تعالى من الأحداث النوازل، والنَّكَبات القوازِل، وبسطَ الأمنَ في رُبُوعها، ونشرَ الأمانَ في أرجائِها، فلله الحمدُ والشكرُ أولًا وآخرًا، وباطنًا وظاهرًا.
وليس مثلُ الأمنِ يحلُو به
رغيدُ العيش وتهنَأُ الأنفُسُ
أمةَ الأمن والأمان:
إن استِحكام الأمن في البلد الحرام عقيدةٌ راسخةٌ، أصلُها ثابتٌ ورفعُها في السماء، لا يضيرُها عُكابات الأغتام ولا ذمُّ الصَّعافِقة اللِّئام، فقد أجدَبَت أشفارُهم، وتطايَرَت أحلامُهم، ووخَرَ الحقدُ صُدورَهم، فصاروا أطيَشَ من القدُوح الأقرَح، وساءَهم كلُّ ما يُفرِح، ومهما قطَّروا الجَلَب وناهَزوا الغَلَب؛ انعكَسَ عليهم الحال، وساءَت بهم الفِعال. الأمرُ الذي أقضَّ مضاجِعَهم، وزادَ حنَقَ ناعِقهم، فأجلَبوا بخيلِهم ورجِلهم، وبثُّوا الأراجيفَ الكاذِبة، والشائعات المُغرِضة، وما أشبهَهم بقول الأول:
كناطحٍ صخرةً يومًا ليُوهِنَها
فلم يُضِرها وأوهَى قرنَه الوعِلُ
وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ[فاطر: 43]، مما يُؤكِّدُ وبقوةٍ لاسيَّما للأجيال الناشِئة عدمَ الإصغاء لدُعاة الفتنة، وخفافيش الظلام، ومُثيري الشَّغَب والفَوضَى، ومُروِّجي الأفكار الضالَّة، ومن أسلَسُوا قِيادَهم وجعلُوا من أنفسهم أدواتٍ في أيدي أعدائهم، لاسيَّما عبر شبكات البثِّ المعلوماتيِّ، ووسائل التواصل الاجتماعيِّ.
فبلادُنا - بحمد لله - آمنةٌ مرغُوسة، وفي تُخوم الأمانِ مغروسة، ومن الأعادي - بإذن الله - مصونةٌ محروسة، وستظلُّ - بحول الله - ثابتةً على عقيدتها، مُتلاحِمةً مع وُلاتها وقادتها، وإن أصابَتها العُضالات، ومهما فقَدَت من رجالاتٍ وكفاءاتٍ، فخلفَهم أقيالٌ قاداتٌ.
إخوة الإيمان:
وإننا إذ نُشنِّفُ الآذان في الحديث عن قضية الأمن والأمان لا ننسَى ما رُزِئَ به الأمنُ من فاجِعةٍ عظيمةٍ، وما ألمَّ به من مُصيبةٍ جسيمةٍ بوفاة رمزٍ من رموزه الكِبار الذي قادَ لأعوامٍ عديدةٍ منظومةَ العمل الأمنيِّ في البلاد، حتى انتشرَ الأمنُ - بفضل الله - في كل الأصقاع والوِهادِ.
وطلبُ الأمنِ في الزمانِ عسيرُ
وحديثُ المُنَى خِداعٌ وزُورُ
فأضحَت البلادُ - بفضل الله تعالى ومنِّه - واحةَ أمنٍ وأمان، ودَوحةَ سلامٍ واطمئنان، والله وحده أمان.
ودَّ العِدَى أن يكون من رعيَّته
ليأخذوا الأمنَ تعويضًا من الحَذَرِ
كما نتذكَّرُ الأيادي الشاهِدة والأعمال الرائِدة التي أزجاها فقيدُ الأمة - رحمه الله، وطيَّب ثراه -، وخصوصًا فيما يتعلَّقُ بأمنِ الحَجيج والمُعتمرين، وسلامة القاصِدين والزائِرين.
فرحِمَ الله عبدَه الفقيدَ رحمةَ الأبرارِ، وألحقَه بعباده المُصطفَيْن الأخيار، وأمطرَ على قبره شآبِيبَ الرحمات، وأسكنَه فسيحَ الجنات، ورفعَ درجتَه في المهديِّين، وأخلفَه في عقبِه في الغابِرين.
سلامٌ عل نفسِك الزاكِيَّة
وشكرًا لهمَّتك العالية
بل الأمنَ أرسلتَه مُحسِنًا
أمِنتُ به كيدَ أعدائِيَ
وإننا وإن رُزِئنا بفقده فعزاؤُنا فيمن خلَفَه وأتى بعده من هذه المنظومة المُتألِّقة، والسلسلة المُتأنِّقة.
وإنا إذا قمرٌ تغيَّبَ أو خبَا
إذا قمرٌ في الأُفقِ يتلُوه ساطِعُ
فوفَّقهما الله وسدَّدَهما، وأعانَهما وأيَّدَهما في تحمُّل هذه الأعباء الجَسيمة، والمسؤوليَّات العظيمة، ووفَّق الله الجميعَ لما يحبُّ ويرضَى، وجنَّبَنا ما لَه يسخَطُ ويأبَى، إنه جوادٌ كريمٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام: 82].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفورًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله ذي الطَّول والمنِّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أفاضَ علينا من جزيلِ آلائِهِ الإيمانَ والأمنَ، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه خيرُ من صلَّى وصامَ، وأفضلُ من تهجَّدَ وقامَ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبِهِ سادات الأزمان، كانوا من الليل الرُّهبانَ القُوَّام، ومن النهار الفُرسان الصُّوَّام، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا ربَّكم واشكرُوه على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحصَى، ومِنَنه التي أرسلَها تَترَى ولا تُستقصَى، فكما أفاءَ علينا - سبحانه - الأمنَ والأمانَ، فقد خصَّ هذه الأمةَ بمواسم الخيرات والنَّفَحات والبَرَكات، ومن أجلِّ هذه المُناسَبَات: ما نستشرِفُ مُحيَّاه، ونتطلَّعُ إلى لُقياه، خيرُ الشهور على مرِّ الأعوام والدُّهور: شهرُ رمضان شهرُ الخير والبرِّ والإحسان.
في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه».
أهلًا بشهر التُّقَى والجُودِ والكرَمِ
شهر الصِّيامِ رفيعِ القدرِ في الأُمَمِ
أقبلتَ في حُلَّةٍ حفَّ البهاءُ بها
ومن ضِيائِكَ غابَت بصمةُ الظُّلَمِ
فيا لهُ من فرصةٍ عظيمةٍ، ومُناسبةٍ كريمةٍ، تشرئِبُّ إليها الطُّلَى لتنالَ الدرجاتِ العُلَى، لكنَّها تحتاجُ منَّا إلى تهيِئَة فؤاد، وإعدادٍ للنفوسِ والأجساد.


أمةَ الصيام والقيام:
إن الأمةَ وهي تستقبِلُ شهرَها الكريمَ، ووافِدَها العظيمَ بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى استِدعاء معاني المُحاسَبة والتدبُّر، والتقويم والتفكُّر، وتهيِئَة النفوس للصيام والقِيام، والوحدة والاعتِصام، والتسامُح والتصافِي والوِئام، والحَذَرِ من الفُرقة والانقِسام، وأعمال العُنف والاضطِرابِ والخِصام، وتجديدِ التفاؤُل والأمل بنصر هذه الأمة في فلسطين، وبلاد الشام التي تتطلَّبُ قراراتٍ سريعةً مُلزِمةً، وخطواتٍ عاجلةً صارِمةً لإنهاءِ مأساتِها الخطيرة مع حلول شهر النصر والبطولات، وصلاحِ أحوال الأمة في كل مكان، ونهاية الظَّلَمة والطُّغاة والبُغاة بقوةِ الواحد الديَّان.
فاستقبِلوا شهرَكم يا قومِ واستبِقُوا
إلى السعادةِ والخيراتِ لا الوِزرِ
أحيُوا ليالِيَه بالأذكار واغتنِموا
فليلةُ القدر هذِي فُرصةُ العُمرِ
ألا فليهنَأِ المُسلِمون جميعًا في مشارقِ الأرض ومغارِبِها بهذا الموسم العظيم، ولينعَموا بحُسن استِقبال هذا الشهر الكريم، وهنا لا بُدَّ من لفتةٍ جادَّة للقائمين على الوسائل الإعلامية والقنوات الفضائيَّة أن يُراعُوا حُرمةَ هذا الشهر الفَضيل؛ فلا يخدِشُوا روحانيَّتَه بما لا يليقُ من البرامِج والمشاهِد والأفلام، لاسيَّما ما يمَسُّ سيدَ الأنام وآله وصحابته الكرام.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وعاهِدوا أنفسَكم - أيها المُوفَّقون - على الصلاح والاستِقامة، والإخلاص والاستِجابة، والتوبة والإنابة؛ تسعَدوا في الدنيا، ودار الخُلد والكرامة.
ثم صلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على نبيِّ الرحمة والهُدى أفضلِ الصائمين، وأشرفِ القائمين، كما أمرَكم بذلك ربُّكم ربُّ العالمين، فقال - وهو أصدقُ القائلين -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا»؛ خرَّجه مسلمٌ في "صحيحه".
يا أيها الراجُون خيرَ شفاعةٍ
من أحمدٍ صلُّوا عليه وسلِّموا
صلَّى وسلَّم ذو الجلال عليه
ما صامَ عبدٌ أو تهجَّدُ مُسلِمُ
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على الرحمة المُهداة، والنعمةِ المُسداة، سيدِ الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرمَ الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، دمِّر الطغاةَ والظَّلمةَ وسائرَ المُفسدين وسائر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين يا قويُّ يا عزيزُ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألِّف بين قلوبِهم، وأصلِح ذات بينهم، واهدِهم سُبُلَ السلام، وجنِّبهم الفواحِشَ والفتنَ ما ظهرَ منها وما بطَنَ.
اللهم احفَظ على هذه البلاد عقيدتَها، وقيادتَها، وأمنَها، ورخاءَها، واستِقرارَها، اللهم احفَظها من شرِّ الأشرار، وكيدِ الفُجَّار، وشرِّ طوارِق الليل والنهار، وسائر بلاد المسلمين يا عزيزُ يا غفَّارُ.
اللهم انصر إخوانَنا المُجاهِدين في سبيلِك في كل مكانٍ، اللهم انصر إخوانَنا في سُوريا، اللهم انصر إخوانَنا في بلاد الشام، اللهم انصر إخوانَنا في بلاد الشام، اللهم أصلِح حالَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم برحمتك نستغيثُ، فلا تكِلنا إلى أنفُسِنا طرفةَ عينٍ وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه، اللهم إنهم حُفاةٌ فاحمِلهم، اللهم إنهم عُراةٌ فاكسُهم، اللهم إنهم جِياعٌ فأطعِمهم، ومظلومون فانصُرهم، ومظلومون فانصُرهم، ومظلومون فانصُرهم يا ناصرَ المُستضعَفين، يا ناصرَ المُستضعَفين، يا مُجيبَ دعوة المُضطرين، يا مُجيبَ دعوة المُضطرين.
اللهم بلِّغنا بمنِّك وكرمِك شهرَ رمضان، اللهم اجعلنا ممن يصومُه ويقومُه إيمانًا واحتِسابًا، اللهم سلِّمنا لرمضان، وسلِّمه لنا، وتسلَّمه منا مُتقبَّلًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا ولجميع المُسلمين الأحياءِ منهم والميِّتين برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
سُبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عمَّا يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 09-12-2012 06:28 PM

رمضان أقبل
أفضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة غرة رمضان 1433هـ بعنوان: "رمضان أقبل"، والتي تحدَّث فيها عن شهر رمضان وما فيه من خيراتٍ وبركاتٍ ورحماتٍ، ووجَّه النصحَ لعموم المسلمين بضرورة اقتناصِ هذا الشهر والعمل فيه بما يُقرِّبُنا إلى الله تعالى؛ من إخلاصٍ وصدقٍ في الصوم والصلاة والقيام والأعمال الصالحة، وذكَّر بأن هذا الشهر هو شهر النصر والتمكين على أمة الإسلام.

الخطبة الأولى
الحمد لله يُعيد على عباده مواسمَ الخيرات، ويُهيِّئُ لهم ما تزكُو به الأنفسُ وتعلو الدرجات، ويُسهِّل لهم ما يُقرِّبُهم لربِّ البرِّيات، فمنهم من لربه يدنُو فيعلُو، ومنهم من يهِنُ ويلهُو، وآخرين تحطُّ بهم أهواؤُهم في أدنى الدَّركات، أحمد ربي تعالى وأشكره، وأُثنِي عليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يجزِي بالجليل على القليل ويغفِرُ الذنبَ العظيم، يُذهِبُ عن المؤمنين الحَزَن، ويسترُ القبيحَ ويُظهِرُ الحسن، جلَّ عن الشبيه وعن الندِّ وعن النَّظير، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[الشورى: 11]، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله وخليلُه ومُصطفاه، قد أفلحَ من اهتدَى بهُداه، وضلَّ من جافاه عنه هواه، صلَّى الله عليه وصلَّى على الآل والأصحاب ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[البقرة: 223].

أيها المسلمون:
تسيرُ بنا الأيام عجلَى ونحن فيها لاهِثون، وتُنتقَصُ أعمارُنا ونحن غافِلون، وتُشغِلُنا الشواغِلُ عما نحن به مُطالَبون، وقد مرَّ بنا عامٌ عاصِفٌ سقطَت فيه عروشٌ ودالَت دول، واضطربَت أحوالٌ وتغيَّر وجهٌ من التاريخ، دوَّامةٌ من الأحداث المُتسارعة لا يكادُ يُدرِكُ غورَها الإنسانُ، منها ذاتُ العِبَر وذاتُ الإحسان.
ومن رحمة الله ولُطفه أن نستيقِظ هذا اليوم على صُبح يوم من رمضان بفضله وبركته وبِشاراته وانتِصاراته، رمضان شاطئٌ ترفعُ فيه سفينةُ القلوب بعد عواصِف الأحداث وغفلةِ الأيام، عامٌ مضَى بتقلُّبات أحواله، وانشغِالنا وتفريطنا.
وقد آنَ اليوم أن تبتلَّ أرواحُنا بعد الجفاف، وتترطَّب أفئدتُنا بعد القسوة، ورغِمَ أنفُ من أدركَه رمضان فلم يُغفَر له.
اللهم أهِلَّه علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام.
أيها المؤمنون:
إن مواسِم الخيرات فرصٌ سوانِح، بينما الموسمُ مُقبِلٌ إذ هو رائحٌ، والغنيمةُ فيها ومنها إنما هي صبرُ ساعةٍ، فيكون المسلمُ بعد قَبول عملِه من الفائزين، ولخالِقِه من المُقرَّبين.
فيا لله! كم تُستودَعُ في هذه المواسِم من أجور، وكم تخفُّ فيها من الأوزار الظهور، فاجعلنا اللهم لنفحَاتك مُتعرِّضين، ولمغفرتك من المُسارعين، ولرضوانك من الحائزين، ووفِّقنا لصالحِ العمل، واقبلنا اللهم فيمن قُبِل، واختِم لنا بخيرٍ عند حضور الأجل.


أيها المسلمون:
الصومُ شرعٌ قديمٌ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ[البقرة: 183]، ورمضان شهرُ الرحمات والبركات، والحسنات والخيرات، تُفتحُ فيه أبوابُ الجنة، وتُغلَق أبوابُ النار، فيه ليلةُ القدر هي خيرٌ من ألف شهر، ولله تعالى عُتقاءُ من النار، وقد ثبتَ في "الصحيحين" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن «من صام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه»، وأن «من قام ليلة القدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه».
خَلوفُ فم الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المِسك، وللصائم فرحتان: إذا أفطرَ فرِح بفِطره، وإذا لقِيَ ربَّه فرِح بصومه.
وفي "صحيح مسلم" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «.. ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبت الكبائرُ».
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[البقرة: 185]، كان جبريلُ - عليه السلام - يُدارِسُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فيه القرآن، وكان السلفُ - رحمهم الله - إذا جاء رمضان تركُوا الحديثَ وتفرَّغوا لقراءة القرآن، والصيامُ والقرآن يشفَعان لصاحبهما يوم القيامة.
هو شهرُ التراويح والقيام، والاصطفاف في محاريبِ التهجُّد والناسُ نِيام، شهرُ سكبِ العبرات وإقالة العثَرات، للصائم دعوةٌ لا تُردُّ، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ[البقرة: 186].
في رمضان تصفُو النفوس وتتهذَّبُ الأخلاق، وفي الصوم تربيةٌ على كسر الشهوة، وقطع أسباب العبودية للأهواء والشهوات، في رمضان يُواسَى الفُقراءُ والبُؤساء، فهو شهرُ الصدقة والمواساة.
أيها المسلمون:
أخلِصوا دينَكم لله، وتخلَّصُوا من أدران الذنوب والمعاصي، واغسِلوها بالتوبة والاستِغفار؛ فإن الذنوبَ مُقعِدةٌ عن الطاعات، وحائلٌ عن القُرُبات.
ثم صُونوا صومَكم عما يُنقِصُه أو يُحبِطُه، حقِّقُوا الإخلاصَ والمُتابعَة في كل عبادتكم، وحاذِروا الشركَ فهو أشدُّ مانعٍ لقبول العمل؛ بل هو مُحبِطٌ له، وابتعِدوا عن كل مُحدثةٍ في الدين فلا يقبَلُ الله عملًا لم يُشرَع.
صُونوا صومَكم عما يجرَحُه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به والجهلَ فليس لله حاجةٌ في أن يدَعَ طعامَه وشرابَه»؛ رواه البخاري.
وفي "الصحيحين" أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفَث ولا يصخَب، فإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه فليقُل: إني صائمٌ».
أيها الصائمون:
إن مقصودَ الصيام: تربيةُ النفس على طاعة الله وتزكيتُها بالصبرِ، واستِعلاؤُها على الشهوات، وكما يُمنَعُ الجسدُ عن بعض المُباحات حال الصيام؛ فمن بابِ أولَى منعُ الجوارح عن الحرام. إن وقت رمضان أثمنُ من أن يضيعَ أمام مشاهِد هابِطة لو لم يكن فيها إلا إضاعةُ الوقت الثمين لكان ذلك كافِيًا في ذمِّها؛ كيف وقنواتُها في سباقٍ محمومٍ مع الشيطان في نشر الفساد والفتنة، والصدِّ عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل أنتم مُنتهون؟!
رمضان تذكرةٌ للأمة لمُراجعة حساباتها وعلاقتها بدينها، وتفقُّد مواضع الخلل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183]، فهو شهرُ تزكية النفوس وتربيتها.
يا مُسلم يا عبدَ الله! دُونَك دعوةُ الجبَّار لك بالتوبة، فأجِبِ النداءَ: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31]، بادِر بالتوبة - غفر الله لي ولك -، وإياك أن تضعَ في صحيفتِك اليوم ما تستحِي من ذكرِه غدًا، وإنما الراحةُ الكُبرى لمن تعِبوا.
أيها الصائمون:
وفي الأسحار أسرار، نفحاتٌ ورحماتٌ حين التنزُّل الإلهيُّ، ورُبَّ دعوةٍ يُكتَبُ لك بها الفوزُ الأبديُّ، وعند الفِطرِ دعوةٌ لا تُردُّ.
فاسعَدوا بشهركم - أيها المسلمون -، وأودِعوا فيه من الصالِحات ما تستطيعون، وتقرَّبُوا فيه لمولاكم، فللجنة قد ناداكم: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس: 25].
باركَ الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفِروا الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل الصيام جُنَّة، وسببًا مُوصِلًا إلى الجنة، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه هدَى ويسَّر فضلًا منه ومنَّة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه دلَّنا على أوضحِ طريقٍ وأقوم سُنَّة، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


أيها المؤمنون الصائمون:
رمضان شهرُ الذكريات والفُتوحات والانتِصارات، وبقدرِ ما نستبشِرُ بحُلوله بقدر ما نعقِدُ الآمالَ أن يُبدِّلَ اللهُ حالَ الأمة إلى عزٍّ ونصرٍ وتمكينٍ، وأن يرُدَّها إليه ردًّا جميلًا، وإلا فإن رمضان يحِلُّ بنا والأمةُ مُثخنةٌ بالجِراح، مُثقلةٌ بالآلام.
يحِلُّ رمضان ومسرَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُحتلٌّ يئِنُّ تحت وطأة الظالمين.
يحِلُّ رمضان والمُرابِطون في أكنافِ بيت المقدسِ من المؤمنين يُقتَلون ويُشرَّدون، وتُهدَمُ منازِلُهم وتُجرَفُ أراضيهم، وتُبادُ جماعتُهم.
يحِلُّ رمضان وإخوانُنا في سوريا يُذبَحون ويُدمَّرون، ويتواطَؤ عليهم شِرارُ أهل الأرض، وإن كنا نرى الفرجَ لهم أقربَ مما يظنُّ الظانُّون، نصرًا يُشادُ إلى سواعِد الصابرين، وتستجلِبُه دعواتُ الصائمين الضارِعين، وليس على الله بعزيزٍ أن يكون العيدُ في الشام عِيدان: عيدُ الفِطر وعيدُ النصر.
فيا ربِّ! عبادَك عبادَك، أنت بهم أدرَى، وقد جاءتهم المصائبُ تَترَى، فيا ربِّ! هبْ لهم من لدُنك نصرًا، نصرًا لا يشكُرون به سِواك، ويستغنُون به عن عِداهم وعِداك.
ثم صلِّ يا ربِّ وسلِّم على خير الورَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.

اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجَك القريب، اللهم أتِمَّ عليهم، اللهم أتِمَّ عليهم.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماكَ بهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم إنك سميعُ الدعاء.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 09-12-2012 06:35 PM

مزايا الصيام في الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 8 من رمضان 1433هـ بعنوان: "مزايا الصيام في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن مزايا الصيام في الإسلام وخصائصه التي اختصَّ الله بها الأمةَ عن غيرها من الأمم.

الخطبة الأولى
الحمد لله الكريم المنَّان، أحمده - سبحانه - واهِبُ النعم، كريم العطايا، قديمُ الإحسان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له اختصَّ بالمزايا هذا الشهرَ المُبارك رمضان، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله صاحبُ المناقب الجميلة والصفات الحِسان، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[النحل: 111].
أيها المسلمون:
لئن كان الصيامُ فريضةً كتبَها الله على أهل الإسلام كما كان فريضةً على الذين من قبلهم من الأمم، فإن للصيام في الإسلام من الخصائص والمزايا ما جعل منه تشريعًا إصلاحيًّا وتنظيمًا ربَّانيًّا رفيعًا، يبلغُ به العبدُ الغايةَ من رضوان الله، ويحظَى عنده بالحُسنى وزيادة، ويُحقِّقُ به التقوى التي هي خيرُ زاد السالكين، وأفضلُ عُدَّة السائرين إلى رب العالمين.

وإنها لخصائصُ ومزايا كثيرة، يأتي في الطليعة منها:
أنه سببٌ لتحقيق العبودية لله رب العالمين؛ إذ لا إمساك ولا إفطار إلا على الصفة التي شرعَها الله ورسولُه - صلى الله عليه وسلم -، وفي الزمن الذي حدَّه، فإن الصائم عبدٌ لله لا تتحقَّق عبوديَّته إلا بعبادته - سبحانه - وحده بما شرع، فجِماعُ الدين ألا يُعبَد إلا الله، وألا يُعبَد إلا بما شرعَ - سبحانه -، ولن يصِحَّ للصائم صيامٌ ولا عبادة إلا إذا وُزِنت بهذا الميزان التي تقوم كِفَّتاه على الإخلاص لله والمُتابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولذا كان الصومُ كلُّه - كما قال بعضُ أهل العلم -: "كان الصومُ كلُّه خضوعًا للأمر الإلهي، فلا أكل ولا شُرب ولا مُتعة بما حُظِر على الصائم بعد تبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى غروب الشمس، مهما جمحَت النفس، وطغَت شهوةُ الطعام والشراب".
ولا إمساك عن الطعام والشراب وما حُذِر في النهار بعد غروب الشمس مهما جمحَت طبيعةُ الزهد والتنسُّك، فليس الحُكم للنفس والشهوة والعادة؛ لكن الحُكم لله وحده، وكلما كان الصائمُ مُتجرِّدًا عن هواه مُنقادًا لحُكم الله، مُستسلِمًا لقضائه وشرعه كان أصدقَ في العبودية وأطوعَ لله.
ومن مزايا الصيام في الإسلام - يا عباد الله - أيضًا: أنه عبادةٌ فرضَها الله على كل مُسلمٍ مُكلَّفٍ قادرٍ؛ فلم يقصُر وجوبَه على طبقةٍ دون طبقةٍ، ولا فئةٍ دون فئةٍ؛ كفئة النساء دون الرجال، كما هو الشأنُ في الأمم السابقة، وفي بعض الديانات القديمة؛ بل جعلَه واجبًا على كل من شهِد منهم هلالَ الشهر برؤيةٍ صحيحةٍ مُحقَّقة، مع استثناء أضحاب الأعذار من المرضى والمُسافرين والعاجزين عن الصيام لكِبَر سنٍّ ونحوه، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ[البقرة: 185].
ومن مزاياه أيضًا: أنه سدَّ ذرائعَ التعمُّق التي تذرَّع بها العربُ في الجاهلية وبعضُ من سبقَنا من الأمم، فشرعَ ما لم يأذَن به الله بالزيادة فيه نوعًا أو عددًا ظنًّا منه بأنه قُربةٌ وزُلفَى إلى الله فأحدثَ وابتدَع، فسدَّ الشارعُ ذرائعَ التعمُّق وردَّ ما أحدثَه المُتعمِّقون حين نهى عن صوم يوم الشك ويوم الفطر،وحين رغَّب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل الفطر وتأخير السحور، وحثَّ عليه، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يزالُ الناسُ بخيرٍ ما عجَّلوا الفِطرَ».
وسدَّ ذرائعَ التعمُّق أيضًا حين نهى عن الوِصال - وهو استمرارُ الصائم في صومه فلا يُفطِر اليومين أو الأيام -، فجاء في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الوِصال .. الحديث. وفيه: أنهم لما أبَوا أن ينتهوا عن الوِصال واصَلَ بهم - صلى الله عليه وسلم - يومًا ثم يومًا، ثم رأوا الهلالَ فقال: «لو تأخَّر الهلال لزِدتُّكم» - كالمُنكِّل لهم -، حين أبَوا أن ينتهوا.
غيرَ أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل لمن أراد الوِصالَ حدًّا لا يجوز له تجاوُزه، وهو أن يُواصِلَ إلى السَّحَر، كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُواصِلوا، فأيُّكم أراد أن يُواصِل فليُواصِل إلى السَّحَر».
وهو كما قال الإمام ابن القيِّم: "أعدلُ الوِصال وأسهله على الصائم، وهو في الحقيقة تأخُّر عشائه".
وسدَّ ذرائع التعمُّق أيضًا حين أباحَ للصائم ليلة الصيام الرَّفَث إلى النساء، والأكلَ والشربَ وجميع ما حُذِر عليه بالصيام: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ[البقرة: 187].
ومن مزايا الصيام في الإسلام - يا عباد الله - أيضًا: أنه ليس رمزًا للحِداد، أو شِعارًا للحُزن، أو مُذكِّرًا بالمصائب والرزايا، كما هو الحال في ديانات بعض الأمم السابقة؛ بل هو عبادةٌ وطاعةٌ وقُربَى، وسببُ تفاؤلٍ واستِبشار، وباعثُ فرحٍ وسرور، بفضل الله وبرحمته، وكريم جزائه، وحُسن ثوابه لمن صام إيمانًا واحتِسابًا، كما جاء في الحديث: «كل عمل ابنِ آدم يُضاعف الحسنةُ بعشر أمثالِها إلى سبعمائة ضِعف»، قال الله تعالى: «إلا الصومُ فإنه لي وأنا أجزِي به، يدَعُ شهوتَه وطعامَه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحةٌ عند فِطره، وفرحةٌ عند لقاء ربه ..» الحديث؛ أخرجه البخاري في "صحيحه".
وفي "الصحيحين" عن سهل بن سعدٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن في الجنة بابًا يُقال له الريان، يدخلُ منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخلُ منه أحدٌ غيرُهم، فإذا دخلوا أُغلِق فلم يدخل منه أحد»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما"، والنسائي، والترمذي، وزاد: «ومن دخلَه لم يظمَأ أبدًا».
وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - رفعَه: «من صام رمضان إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه».
ومن مزايا الصيام في الإسلام أيضًا: أن الإمساك ليس مُقتصِرًا عن الكفِّ عن الطعام والشراب والشهوة وسائر المُفطِّرات الحِسِّيَّة؛ بل جاء المنعُ أيضًا عن كل ما يُنافِي مقاصِدَ الصيام وغاياته، ويُضيِّع ثمراته، ويمحو آثارَه، ويُنقِصُ من أجره، كما جاء في الحديث: «إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخَب، وإن سابَّه أحدٌ أو قاتلَه فليقُل: إني صائمٌ»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
وفي الحديث أيضًا: «من لم يدَع قولَ الزُّور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامَه وشرابَه».
وفي حديث عثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه - أن قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «الصيامُ جُنَّةٌ من النار كجُنَّة أحدِكم من القتال ..» الحديث؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والنسائي، وابن ماجه في "سننهما" بإسنادٍ صحيحٍ.
وكل أولئك - يا عباد الله - مما جعلَه الله تعالى سِياجًا واقيًا من الأدب والتقوى يحُوطُ صيامَ العبد ويصُونُه من التلوُّث بأقذار المعاصِي، ويحفَظه من أوزارِ الذنوب.ألا وإن تذكُّر الصائم هذه المزايا العظيمة الكريمة في الإسلام يجبُ أن يكون باعثًا على كمال الشكر لله تعالى المُنعِم بهذه النعمة بتمام الحِرص على حُسن أدائها، ورعايتها حقَّ رعايتها، وبالحذر من إضاعة فرصتها، وتفويتِ مغنَمها، والتفريط في جميل الموعود عليها.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الكريم الرحيم، أحمده - سبحانه - حمدًا نرجو به الفضلَ السابغَ والخيرَ العميمَ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[آل عمران: 74]، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ من صلَّى وصامَ وسار على نهجٍ قويم، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن من مزايا الصيام في الإسلام: الجمعَ بين الإيجابية والسلبية، فكما أنه لا طعامَ ولا شرابَ ولا رفَث ولا فسوق ولا لغوَ ولا كذبَ ولا غيبةَ ولا نميمةَ زمنَ الصيام، فإن زمانه أيضًا زمنُ عبادةٍ ووقتُ طاعةٍ، وموسم تلاوةٍ وقيامٍ وذكرٍ، واستغفارٍ وتسبيحٍ، وصدقةٍ وصِلةٍ وبرٍّ وإحسانٍ ومُواساة.
وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجودَ الناس، وكان أجودُ ما يكونُ في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارِسُه القرآن، فلرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجودُ بالخير من الريح المُرسَلة"؛ أخرجه البخاري في "صحيحه".
وأخرج الترمذي في "جامعه"، والنسائي وابن ماجه في "سننهما"، وابن خزيمة وابن حبان في "صحيحيهما" بإسنادٍ صحيحٍ عن زيد بن خالد الجهني - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من فطَّر صائمًا كان له مثلُ أجره غيرَ أنه لا ينقُص من أجر الصائم شيءٌ».
إلى غير ذلك من أنواع البرِّ والإحسانِ إلى النفسِ وإلى الخلق، وهو إحسانٌ لا حدود له، حتى أصبح بهذا الإحسان أصبح هذا الشهر - كما قال بعض أهل العلم -: "ربيع الأبرار والمتقين، وعيد العُبَّاد والصالحين، تتجلَّى فيه عنايةُ هذه الأمة بإقامة أحكام دينها، وإخباتها إلى ربها، ورقَّة القلوب، والتنافُس في البرِّ، والمُواساة في أروع مظاهره مما لا تبلغُه ولا تبلغُ عُشر مِعشاره أمةٌ من الأمم، أو طائفةٌ من طوائف بني آدم".
فاتقوا الله - عباد الله -، واشكروا نعمة الله عليكم؛ إذ هداكم للإسلام، ومنَّ عليكم بفريضة الصيام، وخصَّها بمزايا لا نظيرَ لها عند غيرنا من الأنام، فأحسِنوا إن الله يحبُّ المُحسِنين، وأرُوا اللهَ من أنفسكم فيه خيرًا تكونوا عنده من الفائزين المُفلِحين.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم النبيين ورسول رب العالمين؛ فقد أُمرتُم بذلك في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
اللهم تقبَّل منا الصيامَ والقيامَ، الله اجعله صيامًا إيمانًا واحتسابًا، اللهم اجعلنا ممن يصومُ هذا الشهر إيمانًا واحتسابًا يا رب العالمين.
اللهم احفظ المسلين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في سوريا، اللهم كن لهم، اللهم كن لهم، اللهم ارحم ضعفَهم، وابُر كسرَهم، وارحم موتاهم، واكتب له أجر الشهادة في سبيلك، اللهم اشفِ مرضاهم، واكسُ عارِيضهم، وأطعِم جائِعَهم، وفُكَّ قيدَ أسراهم.
اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، وانصرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 09-12-2012 06:52 PM

القرآن .. يا أمة الإسلام

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 15 رمضان 1433هـ بعنوان: "القرآن .. يا أمة الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن ضرورة اهتمام الأمة الإسلامية بالقرآن الكريم تلاوةً وتدبُّرًا لا سيَّما في شهر رمضان المبارك شهر القرآن؛ إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهِد فيه ما لا يجتهِد في غيره.

الخطبة الأولى
الحمد لله الحليم الرحيم، ذي المنة والفضل العميم، له الحمدُ - سبحانه - حتى يرضى، وله الحمد إذا رضيِ، وله الحمد بعد الرضا، وله الحمد على كل حال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، وخليلُه وخِيرتُه من خلقه، خيرُ من صلى الله وصام، وأفضلُ من تلا كتابَ ربه وقام، بلَّغ الرسالةَ، ونصحَ الأمَّة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى من سار على طريقهم واتبع هُداهم إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - بوصية الله للأولين والآخرين في مُحكَم التنزيل: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131].
أيها المسلمون:
هذه هو شهر البركات والرحمات الذي تتجلَّى فيه النفوسُ الصافية، وتصعدُ فيه الهِمَم النديَّة إلى معالي الإيمان والمعرفة بالله - سبحانه -. شهرٌ تضيقُ فيه منافذُ الشياطين، فتصفُو عبادةُ المرءِ لربه، ويلَذُّ الأُنسُ بكتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفه تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت: 42].
إنه شهر القرآن الكريم، شهرُ الانكسار والمُناجاة، شهرُ التدبُّر والاعتبار والخشية؛ لأن المرءَ بلا قرآن كالحياة بلا ماءٍ ولا هواءٍ، وهو بمثابة الروح للحياة، والنور للهداية. خيرُ جليسٍ لا يُملُّ حديثُه، وتَردادُه يزدادُ به المرءُ تجمُّلًا وبهاءً.
هو الكتابُ الذي من قام يقرأه كأنما خاطبَ الرحمن بالكلِم، قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[المائدة: 15، 16].
دخل أبو جهلٍ على الوليد بن المُغيرة يُحرِّضه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما جاء به من القرآن، فقال أبو جهلٍ للوليد: قُل فيه قولًا يبلغُ قومَك أنك كارهٌ له. قال: وماذا أقول؟ فوالله ما فيكُم رجلٌ أعلمُ بالأشعار مني، ولا أعلمُ برجَزه ولا بقصيدته مني، ولا بأشعار الجنِّ، واللهِ ما يُشبِه الذي يقول شيئًا من هذا، ووالله إن لقولِه الذي يقول حلاوةً، وإن عليه لطلاوةً، وإنه لمُثمِرٌ أعلاه، مُغدِقٌ أسفلُه، وإنه ليعلو وما يُعلَى، وإنه ليحطِمُ ما تحته.
نعم - عباد الله -؛ هذا هو القرآن الذي أدهشَ العقول، وأبكَى العيون، وأخذ بالألباب والأفئدة، وطأطأت له رؤوسُ الكُفر، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[المائدة: 83].
أخرج البخاري ومسلم في "صحيحيهما" أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلقَ في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى سوق عُكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأُرسِلَت عليهم الشُّهُب، فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء. قال: ما حالَ بينكم وبين خبر السماء إلا شيءٌ حدث، فاضرِبوا مشارقَ الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث؟
فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها ينظرون ما هذا الأمر الذي حالَ بينهم وبين خبر السماء. قال: فانطلق الذين توجَّهوا نحو تِهامة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنخلة وهو عامِدٌ إلى سوق عُكاظ وهو يُصلِّي بأصحابه صلاةَ الفجر، فلما سمِعوا القرآنَ تسمَّعوا له، فقالوا: هذا الذي حالَ بينكم وبين خبر السماء.
فهُنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا[الجن: 1، 2].
هذا هو حالُ الناس مع كتاب ربهم - إنسِهم وجنِّهم، مُؤمنهم وكافِرهم -، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا[الإسراء: 9].
إنه ليس شيءٌ أنفعَ للعبد في معاشه ومعاده وأقربَ إلى نجاته وسادته في الدارَين من تلاوة كتاب ربِّه آناء الليل وأطراف النهار، وتدبُّره وإطالة النظر فيه، وجمعِ الفِكر على معاني آياته؛ فإن ذلكم يُطلِعُ العبدَ على جوامع الخير والشر وعلى حال أهلها، ويُريه صورةَ الدنيا في قلبه، ويُحضِرُه بين الأمم السالفة، ويُريه أيام الله فيهم والمَثُلات التي حلَّت بهم أو قريبًا من دارهم.
فيرى المُتدبِّرُ غرقَ قوم نوح، ويعِي أثرَ صاعقة عادٍ وثمود، ويعرفُ غرقَ فرعون وسف هامان، ويستوعِبُ ماهيَّة طريق الشر وعاقبة أهله، وماهيَّة طريق الخير ومآل أهله، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[الكهف: 49].
لقد جعل الله هذا الكتابَ فُرقانًا بين الحق والباطل، من طلبَ الهُدى منه أعزَّه الله، ومن ابتغَى الهُدى من غيره أذلَّه الله.
لقِيَ عمرُ الفاروق - رضي الله عنه - نافعَ بن عبد الحارث بعُسفان - وكان عمرُ يستعملُه على مكة -، فقال: من استعملتَ على أهل الوادي؟ فقال: ابنَ أبزى. قال: ومن ابنُ أبزى؟ قال: مولًى من موالينا. قال عُمر: فاستخلفتَ عليهم مولًى؟! قال: إنه قارئٌ لكتاب الله - عز وجل -، وإنه عالمٌ بالفرائض. قال عُمر: أما إن نبيَّكم قد قال: «إن الله يرفعُ بهذا الكتاب أقوامًا ويضعُ به آخرين»؛ رواه مسلم.
إنه النورُ الذي لا تُطفَأُ مصابيحُه، والمنهاجُ الذي لا يضِلُّ ناهِجُه، هو معدِنُ الإيمان، وينبوعُ العلم، ومائدةُ العُلماء، وربيعُ القلوب، ودستورُ الحياة برُمَّتها، والشفاءُ الذي ليس بعده داء، قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ[فصلت: 44].
كتابٌ محفوظٌ بحفظ الله له، لا يُغيِّره تحريفُ المُحرِّفين، ولا تأويلُ المُبطِلين، ولا عِنادُ النكِصين، يعلُو ولا يُعلَى عليه، ويودُّ أهلُ الباطل لو غسَلوا آياته وأحكامَه بماء البحر ليُمحَى أثره عن الوجود، ولكن الله غالبٌ على أمره، وهو القائلُ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر: 9].
قال يحيى بنُ أكثَم: كان للمأمون - وهو أميرٌ إذ ذاك - مجلسُ نظر، فدخل في جُملة الناس رجلٌ يهودي. قال: "فتكلَّم فأسن الكلام والعبارة. قال: "فلما أن تقوَّضَ المجلس دعاه المأمون، فقال له: إسرائيليٌّ؟ قال: نعم. قال له: أسلِم حتى أفعل بك وأصنع. ووعده فانصرف.
فلما كان بعد سنةٍ جاء مُسلِمًا فدعاه المأمون وقال: ألستَ صاحبَنا بالأمس؟ قال: بلى. قال: فما سببُ إسلام؟ قال: انصرفتُ من حضرتك فأحببتُ أن أمتحِنَ هذه الأديان، وأنا مع ما تراني حسنُ الخط، فعمدتُ إلى التوراة فكتبتُ ثلاثَ نُسخٍ فزِدتُّ فيها ونقصتُ، وأدخلتُها الكنيسة، فاشتُرِيَت مني. وعمدتُ إلى الإنجيل فكتبتُ ثلاثَ نُسخٍ فزِدتُ فيها ونقصتُ، وأدخلتُها البَيعة، فشتُرِيَت مني. وعمدتُ إلى القرآن فعملتُ ثلاثَ نُسخٍ وزِدتُ فيها ونقصتُ، وأدخلُها إلى الورَّاقين، فتصفَّحوها، فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رمَوا بها فلم يشتَروها. فعلِمتُ أن هذا كتابٌ محفوظ، فكان سببَ إسلامي.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت: 41، 42].
هذا هو كتابُ الله الكريم الذي نزل ب الروح الأمين؛ فما نحن صانِعون فيه؟! أيكون رائِدَنا ودستورَنا في حلِّنا وترحالنا، وغضبنا ورضانا، ومنشطنا ومكرهنا؟! أم أنه سيكون ضيفًا على الرفوف لا يلحقُه البرُّ إلا في رمضان؟!
أنعتصِمُ به ونعَضُّ على أنواره بالنواجِذ أم نكون كالعِيسِ في البيداء يقتُلها الظمَأ والماءُ فوق ظهورها محمول؟! أم تكون أسماعُنا كالأقماع فتدخل الآياتُ مع اليُمنى وتخرجُ مع اليُسرى.
أخرج مسلم في "صحيحه" أن الله قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: «إنما بعثتُك لأبتليك وأبتلِي بك، وأنزلتُ عليك كتابًا لا يغسله الماء، تقرأه نائمًا ويقظان».
قال الحسن البصري - رحمه الله -: "إن هذا القرآن قد قرأه عبيدٌ وصبيان لا علمَ لهم بتأويله، وما تدبُّر آياته إلا باتباعه، وما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: لقد قرأتُ القرآن كلَّه فما أسقطتُ منه حرفًا، وقد والله أسقطَه كلَّه، ما يُرى له في خُلق ولا عمل، حتى إن أحدهم ليقول: إني لأقرأُ السورةَ في نفسٍ واحدٍ، والله ما هؤلاء بالقُرَّاء ولا بالعلماء ولا الحكماء ولا الورِعة".
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وأرُوا اللهَ من أنفسكم في هذا الشهر المبارك قُربًا من كتابه تلاوةً وتدبُّرًا وعملًا وهدايةً، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ[فاطر: 32].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفرُ الله إنه كان غفَّارًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واغتنموا هذا الشهرَ المبارك في تلاوة كتابه وتدبُّر آياته، والنَّهل من عِبَره وعِظاته؛ إذ فيه نبأُ من قبلَنا، وخبرُ ما بعدنا، وفصلُ ما بيننا، فطُوبَى لمن تدبَّرض كتابَ ربه حقَّ تدبُّره، وهنيئًا لمن تقشعِرُّ منه جلودُهم وتلينُ جلودُهم وقلوبُهم إلى ذكر الله، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ[ق: 37].
ولعل أمة الإسلام في هذا الشهر المبارك تعيشُ صورًا جديدةً من التدبُّر والتأمُّل مع كتاب ربها بعد هذه الأحداث المُتسارعة والزوابع المُدلهِمَّة لتقول بلسان حالِها: ما أشبَه الليلة بالبارحة، واليوم بالأمس، وها هو التاريخُ يُعيدُ نفسَه.
نعم، إن لسانَ حالها يقول: لقد كنا نظنُّ أن فرعون وقارون وهامان والنمرود وذا النواس شخوصٌ طواها التاريخ، فلن تتكرَّر على مر الزمان، وإذا بأمة الإسلام تُشاهِدُ أكثرَ من فرعون يعيشُ بين ظهرانيهم ممن يستبيحُ الأرواح والأعراضَ، ممن علا في الأرض وجعل أهلَها شِيعًا يستضعِفُ طائفةً منهم يُذبِّحُ أبناءَهم ويستحيِي نساءَهم.
نعم، لقد قرأنا جرائمَ فرعون الأول فظنَّنا أنها قصصٌ لن يكون لها ضَريب، لقد شاهَدنا ثم شاهَدنا بأم أعيننا ممن هم من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، شاهَدنا منهم القتلَ والتشريدَ، وشاهَدت جموعُ المسلمين الظلمَ والاضطهادَ واستباحةَ الأعراض، ورأينا من يئِدُ الناسَ وهم أحياء، ورأينا من يُنشَرون بالمناشِير ومن يُحرَقون بالنيران، وكأنَّ مشاهد قوم فرعون وأصحاب الأخدود والجاهلية الجهلاء تقعُ أمام ناظِرنا، بعد أن كانت أخبارًا تُتلَى وتُسمَع.
وإن كان فرعون الأول قد قال لقومه: ما علِمتُ لكم من إلهٍ غيري، فإننا قد رأينا وسمِعنا ضريبَ قول فرعون، فامتُحِن الناسُ في تأليه طواغيتهم، وأكرهوا الناسَ على السجود لصورهم، ودمَّروا البلادَ والعبادَ انتقامًا وظلمًا وعدوانًا ليكون مثلُ هؤلاء الحاكمَ بأمره. وكأنه وأمثالُه يُجدِّدون مقولةَ فرعون الأول: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[غافر: 29]، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[النمل: 76، 77].
إن كل مسلم غيُور له قلبٌ ينبِض وعينٌ تطرِف لا يتجاهلُ ما يُلاقيه إخوانُنا المسلمون في ميانمار وما فعله عدوُّهم بهم من التنكيل والتقتيل، ولا ما يُصيبُ إخوانَنا في بلاد الشام في سوريا الخلافة والأمجاد من صنوف البطش والجَور والطغيان، ولن تبرحَ جموعُ المسلمين حتى ترفع أكُفَّ الضراعة للواحد القهَّار أن ينصرهم على عدوِّهم عاجلًا غير آجِل.
ونسأل الله - جل وعلا - أن يكون هذا المُؤتمر الذي دعا إليه خادمُ الحرمين الشريفين - وفقه الله - لبِنةً صالحةً في استنهاض هِمَم المُسلمين للوقوف جنبًا إلى جنبٍ في نُصرة قضايا المسلمين، إنه - سبحانه - خيرُ مسؤول.
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ[الأعراف: 127- 129].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56]، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصر إخواننا المسلمين في ميانمار وفي سوريا وفي يرها من بلاد المسلمين، اللهم انصرهم على عدوِّك وعدوِّهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل مواسِمض الخيرات لنا مربَحًا ومغنَمًا، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقًا وسُلَّمًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 09-12-2012 07:00 PM

مؤتمر القمة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 22 رمضان 1433هـ بعنوان: "مؤتمر القمة"، والتي تحدَّث فيها عن جماعة المسلمين مُمثَّلة في دعوة خادم الحرمين حكام العرب والمسلمين لعقد مؤتمر لمناقشة قضايا المسلمين المُعاصِرة، وأشادَ بهذا المؤتمر، ووجَّه نصائحَه للحكام بوضع قضايا المسلمين في كل مكانٍ نُصبَ أعينهم، والخروج بحلولٍ شافيةٍ لها، ولم يُهمِل التذكير بهذه الأيام الفاضلة أيام العشر من رمضان وما فيها من نفحاتٍ وخيراتٍ، وما ينبغي على المسلمين اغتنامه فيها.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الملك المعبود، ذي الفضل والكرم والجُود، أحمده - سبحانه - وأشكره على جزيل إنعامه وفضله الممدود، والشاكر بالمزيد موعود، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تُسبِّح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن ومخلوقاتُه على ربوبيته وألوهيته شهود، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله صاحب المقام المحمود واللواء المعقود والحوض المورود، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله المُوفين بالعهود، وأصحابه في نُصرة الحق هم الأسود، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى اليوم الموعود، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله - رحمكم الله -، ألا تطمعون في اللحاق بالصالحين؟ ألا تتسابقون في الخيرات مع المُتسابقين؟ كم بين الساعي والقاعد والراغب والزاهد؟ السابقون السابقون شغلَهم حبُّ مولاهم عن ملذَّات دنياهم، والمُتنافِسون المُتنافِسون دموعُهم على وجناتهم تتدفَّق، يشتاقون إلى الحبيب، والحبيبُ إليهم أشوق، ما أبهى منظرهم في ظُلمات الدُّجَى ونورُهم قد أشرق، تعرفهم بسيماهم وللصدق نورَق.
يا عبد الله:
لا يجعلُ الله عبدًا أسرع إليه كعبدٍ أبطأ عنه، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الحديد: 21].
أيها المسلمون الصائمون القائمون:
تقبَّل الله صيامَكم وقيامَكم، وأعظمَ أجرَكم ومثوبتكم، وأحسن جزاءَكم.
في خواتيم هذا الشهر المبارك، وفي عشره الأخيرة يحسُن النظرُ في دروس الشهر وعِبَره:
شهر رمضان شهر القرآن والفرقان، شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[البقرة: 185]، قرآن وفرقان يملأُ العقولَ حكمة، والقلوبَ طهارة، والنفوسَ إشراقًا وبهجة.
شهر رمضان شهر الفرقان بين الحق والباطل، فُرقان بدرٍ المعركة الكبرى، بدر الانتصارات، وفُرقان الفتح فتح مكة، ذلكم الفتح الذي علَت به كلمةُ الدين، ومنه انطلقَت فتوحاتُ المُسلمين.
بقوة الحق والفُرقان استوثَقَت عُرى دولة الإسلام، وامتدَّ سلطانُه العادلُ، وساس الأممَ بعقيدة التوحيد وشريعة الصلاح والإصلاح.
معاشر المسلمين:
والأمة الإسلامية على مُفترق طُرقٍ، تخفقُ قلوبُها شغفًا بما يُداوي جراحَها، ويرفعُ مآسِيَها، ويسرُّ صديقَها، ويدحَرُ عدوَّها.
إنها أمام ظروفٍ ومُتغيِّراتٍ ومُستجداتٍ فيها الفرص الحقيقية لبناء سياساتٍ عربيةٍ إسلاميةٍ تملأُ الفراغَ الذي تعيشُه هذه الأمة بسبب استقطاباتٍ مُهلِكة، واصطفافاتٍ مُدمِّرة، وتشرذُماتٍ قاتلة.
في هذه الظروف والبواعث والمُستجدات تأتي بلاد الحرمين - المملكة العربية السعودية - والتي تعوَّد قادتُها أن يتصدَّوا لكوارث الأمة والعمل مع الأشقَّاء لمُعالجتها شعورًا بالواجب، ونهوضًا بالمسؤولية.
معاشر المسلمين:
الدعوةُ إلى وحدة المسلمين وتضامُنهم والتحاوُر والمُشاورة فيما بينهم هي إحدى رواسِخ هذه الدولة وثوابتها؛ فمُؤسسُ هذه الدولة: الملكُ عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - رحمه الله - حالما فرغَ من توحيد هذا الكِيان العظيم أولُ عملٍ إسلاميٍّ قام به دعوتُه إلى أول مؤتمر إسلامي عام خمسٍ وأربعين وثلاثمائةٍ وألفٍ (1345 هـ) هنا في مكة المكرمة.
ثم تعاقبَ على ذلك أبناؤُه: الملكُ سعود، وفيصل رائدُ التصامُن الإسلامي، وخالدٌ، وفهدٌ - رحمهم الله -، تعاقَبوا على احتضان مؤتمراتٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ يشهدُ لها التاريخُ وتشهَد لها الأجيال.
وقد سارَ على هذا السَّنَن: خادمُ الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود - حفظه الله ووفقه وأعانه - في رغبةٍ صادقةٍ، وعملٍ جادٍّ من هذه القيادة الصالحة لتحذير هذه الأمة بقياداتها وزعمائها من محاولات الاستقطابات الإقليمية والدولية، ومن أجل اعتماد مسار التضامُن والوحدة.
لقد دعا قبل ذلك - حفظه الله - إلى قمتين: إحداهما: إسلامية، والأخرى: عربية من أجل هذه الأغراض النبيلة الكبرى.
وله تطلُّعاته؛ فهو يتطلَّع إلى أمةٍ إسلاميةٍ مُوحَّدة، ويتطلَّع إلى حكمٍ مسلمٍ رشيدٍ يقضي على الظلم والقهر، ويتطلَّع إلى تنميةٍ مسلمةٍ شاملةٍ تقضي على العَوز والفقر، ويتطلَّع إلى انتشار وسطية سمحة تُمثِّل سماحة الإسلام، ويتطلَّع إلى تِقنيَّة مُسلمة مُتقدمة.
هذا الملك الصالح قبل الحوار اهتمامه المُنقطع النظير، فله في ذلك سجلٌّ ناصع، ومُبادراتٌ لا تُنكر لدحض مقولة: صدام الحضارات.
وقد سجَّل مقولته: إننا صوتُ تعايُش وحوارٍ عاقلٍ وعادلٍ، صوتُ حكمةٍ وموعظةٍ وجِدالٍ بالتي هي أحسن.
وها هو - حفظه الله وسدَّده - يُوجِّه دعوتَه لإخوانه وأشقائه قيادات العالم الإسلامي وزعمائه لمُؤتمرٍ استثنائيٍّ يجتمعُ فيه فضلُ الزمان، وشرفُ المكان، ومكانةُ الداعي؛ في شهر رمضان المبارك، وفي عشره الأخيرة، وفي أرجى أيامه ولياليه، وبجوار الكعبة المُشرفة وزمزم والحَطيم.
إنه اجتماعٌ استثنائيٌّ بكل المقاييس، مشاعر تترقَّبُها الأمةُ وتأملُ أن يكون المُأتمِرون في درجاتٍ عُليا من الباعث الإيماني، والصفاء الذهني، والصدق الوجداني، في جوار بيت الله، وفي شهر رمضان المُبارك المُعظم.
نعم، إنه من المُؤمَّل أن يكون في هذا التأطير الزمانيِّ والمكانيِّ مزيدٌ من استشعار هذه القيادات الكريمة لعِظم المسؤولية أمام ربها، ثم أمام شعوبها.
وإن هذا الحضور الكريم والتجاوُب المشكور لهذه الدعوة دليلٌ ظاهرٌ إن شاء الله بأن في أعماق الأمة رغبةً حقيقيةً في التغيير نحو الأفضل، وعزمًا صادقًا - بإذن الله - على الإصلاح المنشود، وتحقيق أهداف هذا المُؤتمر العظيم.
معاشر القادة والزعماء:
ينبغي أن ينتهِج المؤتمر الكريم حوارًا راقيًا شفَّافًا يُعيدُ للأمة حيويتها، ويُزيلُ الحواجز المُفتعلة، يجبُ لنجاح القمة أن تتغلَّب القِيَم الأصيلة، والمصالح الكُبرى، والوقوف مع كل مطلبٍ عادلٍ تفعيلً لقُدرات الأمة، وتوحيدًا لطاقاتها في تضامُن حقيقي، وإرادةٍ حازمةٍ جادَّة للنهوض بالأمة، وعزمٍ صادقٍ لا يَلين لمواجهة التحديات.
حذارِ ثم حذارِ - حفظكم الله - أن تقِف المطامِع الصغرى والمصالح الضيقة أمام المصالح الكبرى وآمال الأمة وثقتها.
أيها المُؤتمِرون الكرام:
إن أولَى الأولويات: تعزيزُ التضامُن الإسلاميِّ، والسيرُ الجادُّ نحو تحقيق الوحدة الكُبرى، وحدةً تُنقِذُ الأمةَ من هذا التشرذُم والاضطراب والتقطيع والاستقطاب.
إن شعوبَكم تنتظر منكم مواقف حازِمة ضد الحملات التي يتعرَّض لها الإسلام ونبيُّ الإسلام - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وكتابُ الإسلام كتابُ الله العزيز، لا بُدَّ من مواقف حازمة ضدَّ كل من يضع الإسلام في دائرة التطرُّف ودائرة الإرهاب، ويجعلُ أهلَ الإسلام يدفعون ثمنَ ذلك غاليًا من أنفسهم وكرامتهم واقتصادهم وسياستهم وعلاقاتهم.
وإن الحلال بيِّن، وإن الحرام بيِّن، وإن العدلَ بيِّن، وإن الظلمَ بيِّن.
أيها القادة:
وإن الفتنة التي ذرَّ قرنُها، والأفعى التي أطلَّت برأسها هي هذه الطائفية المذهبية المقيتة التي يُحاول من يُحاول من أعداء الأمة ممن لا يُريد لها خيرًا، ولا يُريد لها قيامًا يُحاول أن يُرسِّخها، وأن يُتنامَى دورُها السلبيُّ، إنها - والله - تُنبِتُ الشِّقاق والتناحُر والخصومة والأحقاد، وهي - والله - المدخلُ العريضُ للتنافُس الدولي لتحقيق مصالحهم الخاصة ومطامعهم على حسابِ تقسيم المُقسَّم، وتوسيع الخلافات، وبثِّ روح الانكفاء على الاصطفافات الضيقة.
الطائفية هي العائقُ الصلبُ والسدُّ العظيمُ أمام تحقيق كل هدفٍ إسلاميٍّ نبيلٍ، وأعظمُها الوحدةُ الإسلاميةُ المنشودة، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات: 10].
أيها القادة والزعماء:
وقضيةُ المسلمين الكُبرى ومُشكلتُهم الأوليى: فلسطين، ثم فلسطين، ثم فلسطين، فلسطين السَّليبة، فلسطين الأقصى، أولى القبلتين وثالثُ الحرمين الشريفين لا يزالُ تحت الاحتلال، ولا يزالُ العدو المُحتَلّ يُقطِّع الأراضي ويعبَثُ بالمُقدَّرات؛ بل يعبَثُ بالاتفاقيات، ويُحاصِرُ غزة، ويسرِقُ الضفة، ويسعى ومن معه بما أُوتوا من قوةٍ ليجعلوا هذه القضيةَ الكُبرى في مُؤخرة الاهتمام أو المُهم من القضايا.
أيها المُؤتمِرون المُعظَّمون:
في ديار الإسلام مذابِح جماية تُنظَّم، يذهبُ كل يومٍ ضحيتها رجالٌ ونساءٌ وأطفالٌ كلهم أبرياء عُزَّل، مُسالِمون، في سوريا الجريحة، وفي الروهينجا في ميانمار في بورما، يقوم بذلك كله طغاةٌ مُتجبِّرون مُجرمون، ما نقَموا منهم إلا أن لهم حقوقًا مشروعةً، ومُطالباتٍ عادلةٍ في العدل والإصلاح والعيش الكريم.
لا بُدَّ من وقفاتٍ حازمةٍ لحمايةِ هؤلاء المظلومين ورفع الظلم عنهم وتمكينهم من نيل حقهم المشروع في الحياة الآمِنة الكريمة والأخذ على يد الظالم.
وثمة قضايا أساسية هي الطريق لتحقيق الودة المنشودة يجبُ النظرُ فيها ويكون الاعتماد بعد الله في بحثها والنظر فيها على جهود دولنا الإسلامية ومواردها ورجالاتها وكفاءاتها في وضع الخطط ورصد الموارد للمشاريع المُشتركة الاقتصادية والصناعية والعسكرية، وإصلاح التعليم، وتحقيق الريادة العلمية والتقنية في أقطار المسلمين، مع ما ينبغي مُلاحظته من حفظ حقوق الناس، والحريات العامة، وحقوق الأقليات، وما يتطلَّبه ذلك من ضبطِ مسار الإعلام حتى لا يزيدَ من مناخات التوتُّر، وزرع الشكوك، وافتعال التافُر، وتقليل مواطن الالتقاء مما يُراكِمُ الأخطاءَ في حق أوطاننا ومُستقبل شعوبِنا وتربُّص أعدائنا.

معاشر الزعماء الأكارم:
هذه مطالبُ مشروعة، وتطلُّعاتٌ مُحِقَّة، وآمالٌ ليس تحقيقُها بعد توفيق الله وعونه بعزيزٍ، وما هي على هِمَم الصادقين المُخلِصين ببعيدٍ.
إن اجتماعكم المُبارك - حفظكم الله - فرصةٌ تاريخية يجب استغلالها وعدم تفويتها، فأرُوا اللهَ في هذا الشهر الكريم من أنفسكم خيرًا، وجِدُّوا وشمِّروا وانطلقوا على بركة الله في مسيرة التضامُن الإسلاميِّ في دعوةٍ إلى دينكم والتزام أحكامه، وإحياء روح الأُخُوَّة الإيمانية، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 103]، من أجل أن يعود الدمُ المُسلمُ غاليًا، وتنطلقُ مشاريعُ التكامُل الإسلاميِّ في البناء والتنمية، وحتى تتحقَّق الاستقلالية الإسلامية المنشودة.
وثِقوا بوعد الله - عزَّ شأنه - في قوله - سبحانه -: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور: 55]، وبقوله - عزَّ شأنه -: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ[الحج: 40، 41]، وبقوله - جل وعلا -: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[الأنفال: 46].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله حمدًا يليقُ بجلاله وعظيم سُلطانه، والشكرُ له على سابغ إنعامه وجميل إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُوصِلُ إلى جنته ورضوانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه جاهدَ في الله حق جهاده حتى أقام الدين على أركانه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون:
شهر رمضان المُبارك موعدٌ معلومٌ يظهر فيه جماعة المسلمين واجتماعُهم، إنه تذكيرٌ وحدة الهدف، ووحدة الشعور، ووحدة الضمير، ووحدة المصير، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[البقرة: 183]، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ[البقرة: 185].
المسلمون كلُّهم ينتظمِون في هذا الشهر الكريم على نمطٍ واحدٍ من المعيشة، الغنيِّ والفقير، والذكر والأنثى، والشريف والوضيع، كلُّهم صائمٌ لربه، مُستغفِرٌ لذنبه، مُمسِكٌ عن المُفطِرات في موعدٍ واحدٍ بدءًا وانتهاءً، مُتساوون في الجوع والحِرمان، وإذا أردتم استشعار مظهر الوحدة في هذه الشعيرة العظيمة فارجِعوا البصرَ ثم ارجِعوا البصرَ على هذه الجموع المُكتظَّة في حرم الله وحرم رسوله الكريم - صلى الله عليه وسلم -، لتروا مئات الألوف من المسلمين والمُسلمات والصائمين والصائمات والقائمين والقائمين وقد اجتَمعت في هذه الرحاب الطاهرة بأجناسها وألوانها لتعيشَ أجواءَ الأمن والإيمانِ والبذل والعطاء والخير والنماء.
هذه الرحاب المُباركة تحتضن الإسلام ودعوته، مهوَى أفئدة المسلمين أجمعين، تلتقي هذه الجُموع في رِحابها، وتلتقي معها آمالها، وتتجِه إليها قلوبُها وأجسادُها، وتُولِّي نحوَها في القبلةِ وجوهَها.
معاشر الأحِبَّة:
هذا هو شهرُ الصوم، وهذه شذَراتٌ من دروسه وعِبَره، وق بدأت خِيامُه تتقوَّض، فاستدرِكوا في خواتيمه، وأحسِنوا في توديعه، وجِدُّوا وشمِّروا فيما بقِيَ من أيامه؛ كيف وما بقِي منه هو أفضلُ أيلامه ولياليه، فكونوا لربكم ائعين، ومع إخوانكم بررةً مُحسنين، والأُسوةُ في ذلك نبيُّكم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، فقد كان أجودَ ما يكون في رمضان، وكان إذا دخلَت العشرُ أيقظَ أهلَه، وأحيا ليلَه، وجدَّ وشدَّ المِئزَر.
فأرُوا للهَ من أنفسكم خيرًا؛ فإن الشقي فيه من حُرِم رحمة الله، فمن كان مُجِدًّا فليُكثِر، ومن كان مُقصِّرًا فليُقصِر، ومن شاغَل فليُبادِر بالتوبة النَّصُوح، وليعظُم رجاءَه بربِّه؛ فأبوابُ التوبة مُشرَعة.
وبعد:
وأنتم في حال التوديع وأخذ العِبرة اتقوا اللهَ ربكم - رحمكم الله -، وتذكَّروا أحوالَ الأكباد الجائعة، والنساء العارية، والنساء المُترمِّلة، والأطفال الضائعة.
استشعِروا حالَ إخوانكم من ذوِي المسربة والنكبات والمُهجَّرين والمُشرَّدين، وتفاعَلوا مع ذوي الضعفِ والحاجةِ والمساكين، وكونوا ممن وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا[الإنسان: 7- 9].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا وفي بورما، اللهم واجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم يِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، اللهم اجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافية.
اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، وعليك اللهم بالطغاة الظلمة فإنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، الله فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وصيامَنا، وقيامَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، إنك أنت الغفور الرحيم.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201]، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

ابوحاتم 09-12-2012 07:08 PM

كلمة في ختام الشهر الفضيل
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 29 رمضان 1433هبعنوان: "كلمة في ختام الشهر الفضيل"، والتي تحدَّث فيها عن ختام شهر رمضان المبارك وما ينبغي على كل مسلمٍ التأمُّل في حاله وماذا يكون بعده، وحثَّ على الثبات على الطاعات بعد شهر الرحمات حتى يُقبَل عملُ العبدِ، وأشادَ بمُؤتمر التضامُن الإسلامي وتوصياته.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونُثنِي عليه الخيرَ كلَّه، أحمدُه - سبحانه - ترادفَت نعماؤه وتوالَت نعمُه وآلاؤه.
لك الحمدُ اللهم حمدًا مُخلَّدًا
على نعمٍ لم تُحصَ عدًّا فتنفَدا
ونسألُه التوفيقَ للشكر إنه
يكونُ لنعماءِ الإلهِ مُقيِّدًا
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نستبصِر بها الفتنَ الصحماء، ونرقَى بها في ذُرَى المجد القَعساء، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله جاء بالحق اللألاء، وشمس الهُدى العَلياء، صلَّى الله عليه صلاةً وارِفَة الأفياء، وعلى آله الأتقياء الكُرماء، وصحابتهِ الغُرِّ بدورِ السماء، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا اللهَ حق تقاته، وابتغوا من فضله ومرضاته، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 102، 103].
فمن تدرَّع بالتقوى استنار بها
وباتَ في بهجة الأعمال جَذلانًا
فسِر أمامك دربُ الخير مُزدهِرٌ
شُجونُه امتلأت روحًا وريحانًا
في عقابيل الأيام والشهور، وبين علاجيم الأزمان والدهور، تلتمس وجِدَّتها، وإن لله في أيام الدهر لنفحات، تتنزَّل فيها الرحمات والبركات، ومنذ أيام قليلة كنا نستطلِعُ مُحيَّاه بقلبٍ ولهان، وبعد ساعاتٍ وربما سُويعاتٍ نُودِّعه وعند الله نحتسِبه ونستودِعه، وقد فاز فيه من فازَ من أهل الصلاح، وخابَ وخسِر فيه أهلُ الغفلة والجُناح.
رمضانُ ما لكَ تلفِظُ الأنفاسا
أوَلم تكن في أُفقنا نبراسًا
لُطفًا رُويدَك بالقلوب فقد سمَت
واستأنَسَت بجلالك استئناسًا
إخوة الإيمان:
ما أسرع مرور الليالي والأيام، وكرَّ الشهور والأعوام، فها هو شهر الصيام قد قُوِّضَت خيامُه، وتصرَّمَت أيامه، وأزِفَ رحيلُه ولم يبقَ إلا قليلُه، وتلك سنةُ الله في كونه؛ أيامٌ سيَّارة، وأشهرٌ دوَّارة، وأعوامٌ كرَّارة، فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا[فاطر: 43].
لقد مرَّ كلمحة برقٍ أو غمضة عينٍ، شمرجَ القلوبَ ببركاته، وأينعَ صرادِحَه برحماته، كم ذَرَفَت فيه العيونُ الدوامِع، ووِجلَت فيه القلوبُ الخواشِع، ورُفِعت فيه الأكُفُّ الضارِعة، ووُطِّئَت فيه الحوباءُ التالِعة.
ترحَّل الشهرُ والهفاه وانصرَما
واختصَّ بالفوز بالجناتِ من خدَما
فطُوبَى لمن كانت التقوى بضاعتَه
في شهره وبحبل اللهِ مُعتصِمًا
ها نحن نتضوَّع أريجَ ليالِيَه الزاهِرة الغامِرة، أنِسَت القلوبُ بجنب الرحيم الغفار، ولهجَت الألسُنُ بالدعاء والحمد والاستغفار، فيا من أعتقَه مولاه من النار! إياك ثم إياك أن تعود إلى رقِّ الأوزار، ويا من استجبتَ لربك في شهر الصيام! استجِب له في سائر الأيام؛ فربُّ رمضان هو ربُّ شوال وهو ربُّ أشهر العام.
أمة الإسلام:
ونحن نودِّعُ شهر الصيام والقيام، لا تزالُ مآسِي أمتنا تذرِفُ، وجراحاتُها تنزِف، وجسدُهامُثخنٌ بالجراح، وأبناؤُها يُعانون في كثيرٍ من الوِهاد والبِطاح، تُراقُ فيهم الدماء، وتتقطَّع منهم الأشلاء في صلَفٍ ورعونة، وصُدارةٍ مأفونة.
أما جاءكم أنباءُ الصامدين في الأقصى وفلسطين، والمرزوئين في سوريا الشام الحزين؟! أما علِمتم حالَ إخوانكم في بُورما وأراكان؟! لقد عمِل الطغاةُ الظالمون بالمسلمين هناك قتلًا وتشريدًا، فأراقوا الدماء، ونثَروا الأشلاء على مسارِح اليَهماء، وقتَّلوا الأبرياء، ويتَّموا الأبناء، وانتهَكوا أعراضَ النساء، وسط صمتٍ عالميٍّ، وتجاهُلٍ دوليٍّ.
هناك لا يُسمَع إلا شغشغةُ الطِّعان، وهيقعَة الصوارم في الأبدان، وضعضعة الأركان، وتقويض المساجد وعامر البُنيان، وإلى الله الملجأ والمُشتكى، وهو وحده المُستعان وعليه .
ونِعم العُدَّة المذخورة الصبرُ
وقلنا غدًا أو بعده ينجلِي الأمرُ
فكان غدًا عُمرًا ولو مُدَّ حبلُه
فقد ينطوِي في جوفِ هذا الغدِ الدهرُ
إخوة الإسلام:
وفي حوالك الكروب والضوائق، وتحت وطأة الأرزاء والعوائق تشرئِبُّ طُلى أهل الإيمان إلى إشراقات الانفراج، وبشائر الخير والتفاؤُل والانبلاج، وفي هذه الآونة العصيبة، والحِقبة التأريخية اللهيبة، ومن هذه البِقاع الطاهرة ليلةٍ من ليالي العشر الزاهِرة أُثلِجَت صدورُ المؤمنين، وقرَّت أعينُ الغَيورين بمُؤتمرٍ استثنائيٍّ تأريخي، هو مُؤتمر التضامُن الإسلامي الذي دعا إليه خادمُ الحرمين الشريفين - حفظه الله وأدام توفيقه - عملًا بقوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 103]، وبقوله - سبحانه -: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 92]، وبقوله - جل جلاله -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات: 10].
واستبصارًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مثَلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم كمثَل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالسهر والحُمَّى».
وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: "عليكم بالجماعة؛ فإن الله لن يجمع أمةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - على ضلالةٍ".
وقد تألَّق - بحمد الله - مُؤتمرُ قادة، وتأنَّق بموضوعاته الجسيمة وتوصياته العظيمة؛ فلله درُّهم وقد أشرقَ جمعُهم، وتلألأت بالمحبة صفوفُهم في هذه الرحابِ المُباركة والأيام العابِقة، وفي ليلةٍ غرَّاء من هذا الشهر المُبارك اعتصَموا بحبل الله أجمعين، واتَّحدوا على الخير أكتَعين، فحازوا شرفَ الزمان والمكان، وطاعةَ الواحد الديَّان، قُدوةً لشعوبهم وأبناء أوطانهم في الوحدة والائتلاف، والتآزُر والإيلاف، والاعتصام ونبذ الاختلاف.
لقد جاء هذا المُؤتمرُ المُوفَّقُ في أوانه، وما بدَرَ عنه من توصياتٍ جاءت لتُبدِّد غياهِب الغُمَّة التي أظلَّت الأمة، فتُفيق من تهوينها الذي طال أمَدُه، وتغويرها الذي اسبطَرَّ عمَدُه، وتعودُ الأمةُ الإسلاميةُ إلى سابق مجدها ورفعتها، وتسترِدُّ سامِق عزِّها ومكانتها.
سدَّد الله خُطاهم، وبارَكهم ورعاهم، ووفَّقهم لما فيه صلاحُ الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعباد، وجزى الله خادمَ الحرمين الشريفين على جهوده المُباركة في جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، وليهنَأ - وفَّقه الله - ولتهنَأ الأمةُ جميعًا بهذا الإنجاز والنجاح والامتياز.
ألا فالزَموا - أيها المسلمون - طاعةَ ربكم وطاعةَ رسولكم - صلى الله عليه وسلم -، ثم طاعةَ أولي الأمر في صالح الأمور في الغَيبة والحضور، وشُدُّوا من أزرِهم، وعزِّزوا أمرَهم، ولا تُنصِتوا للأبواق الناعِقة وأصحاب الأفكار الهدّامة النافِقة الذين يسعَون في الأرض فسادًا، ويحسبون السرابَ ماءً بِقيعة بعد كدَر الصنيعة، لعلهم يفطِمون نفسَهم عن مراضع الفِتَن ومراتِع الأَفَن.
فما الشِّقاقُ بناةُ المجد مبدؤكم
ولا النِّزاعُ ولا الإحجامُ عن قِيَمِ
فسارِعوا سدَّ ثغر الخُلف واعتصِموا
لو اعتصَمنا بحبل الله لم نُضَمِ
معاشر الصائمين الميامين:
وحينما تفيَّأت هذه الأمةُ ذه الأجواءَ الروحانيةَ العبِقة فإنها - بحمد الله - على الطاعة والتقوى في هذه الأيام أكثر من أي زمانٍ، فبهما تُستدفَعُ الخُطوب وتُكشَف الكُروب، ويُصلِحُ حالَنا علامُ الغيوب.
فلنستمسِك بالكتاب والسنة، ولنتأسَّ بسلَفنا الصالح قادة الحقِّ وسادة الخلقِ الذين أسَّسوا المجدَ الراسِخ، والمحتِدَ الباذِخ، وأتَوا على الباطل فضعضَعوا أركانَه، وقوَّضوا بُنيانَه في توحيدٍ خالصٍ، ومُعتقَدٍ سليمٍ، ومنهجٍ وخُلُقٍ قويم، ووحدةٍ مُتكاملة، ووسطيةٍ شاملة، وحوارٍ هادفٍ، فتن الطائفية ومسالك الغلو والجفاء.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، ولا تركنوا إلى الدنيا وقد ذُقتُم حلاوةَ الطاعة؛ فمن ركنَ إليها عكَلَته وأهلكَته، ومن أمِنَ لها كان كمن يستعيذُ من الفخِّ بالخاتل، يستعينُ على الحياة بالقاتل، ويُضارِبُ بلا ربحٍ، وفي بَهيمِ الليلِ يبحَثُ عن صُبحٍ.
هي ذي أفاعي الغدر تنفُثُ سُمَّها
أفلا نُحطِّمُ نابَها المهزولَ
لو سادَ حُكمُ الله فينا لم تهُن
في القدس قبلةُ مصطفانا الأولَى
فاللهَ اللهَ في الثبات على صراط الله المستقيم، والتمسُّك بحبل الله المتين، والله يقولُ الحق وهو يهدِي السبيلَ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد: 7].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المُرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي رحيمٌ ودودٌ.

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي تتمُّ الصالحات بنعمته، وتعظمُ الخيراتُ بمنَّته، وأُصلِّي وأُسلِّم على الداعي لملَّته وسنَّته، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابِهِ وأزواجه وعِترته.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حق التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
شهرِكم أعمالًا عظيمةً تسدُّ الخلل وتجبُر التقصيرَ، فندبَكم إلى الاستغفار والشكر والتكبير، كما شرعَ لكم زكاةَ الفطر طُهرةً للصائم من اللغو والرَّفَث وطُعمةً للمساكين، وهي صاعٌ من طعامٍ كما في حديث أبي سعيدٍ وابن عمر - رضي الله عنهما -، أو من غالبِ قُوت البلد، والأفضلُ أن يُخرِجَها قبل صلاة العيد، ويجوزُ إخراجها قبل العيدِ بيومٍ أو يومين.
أيها الإخوة في الله:
إن الثباتَ على الطاعة والتقوى لمن علامات قبول العمل، يقول الإمام علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "كونوا لقبول العمل أشد اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا قول الله تعالى: إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ[المائدة: 27]".
ولما سُئِل بشرٌ الحافي عن أناسٍ يتعبَّدون في رمضان ويجتهِدون، فإذا انسلخَ رمضانُ تركوا، قال: "بئس القومُ لا يعرِفون اللهَ إلا في رمضان".
فكونوا - عباد الله - ربانيين لا رمضانيين. قال الحسن البصري - رحمه الله -: "لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت، وقرأ قولَه تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99]".
وما المرءُ إلا حيثُ يجعلُ نفسَه
فكُن طالبًا في الناس أعلى المراتِب
ألا وإن من التحدُّث بنِعَم الله ما نعِم به الصائمون والمُعتمِرون من أجواءٍ إيمانيةٍ آمنة، ومنظومة خدماتٍ مُتوفِّرة، وأعمالٍ مذكورة، وجهودٍ مشكورة، لم تكن لتحصُل لولا توفيقُ الله - جل جلاله - ثم ما منَّ به - سبحانه - على الحرمين الشريفين ورُوَّادهما من الولاية المُسلِمة المُخلِصة التي بذَلَت وتبذُلُ كلَّ ما من شأنه تسهيلُ أمور العُمَّار والزوَّار.
جعله الله خالصًا لوجهه الكريم، وزادَها خيرًا وهُدًى وتوفيقًا بمنِّه وكرمه.
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على سيد الأنام، وقدوة أهل الإسلام، وأفضل من صلَّى وصامَ وتهجَّد وقام، خيرِ الخلق إمام الحق، كما أمرَكم المولَى - جل في عُلاه -، فقال تعالى قولًا كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
ونُهدي صلاةَ الله خالِقِنا على نبيٍّ
عظيمِ القدر للرُّسلِ خاتَمِ
صلاةً وتسليمًا يدومان ما سرَى
نسيمُ الصبا وانهلَّ صوبَ الغمائمِ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيد الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم انصر به دينَك، وأعلِ به كلمتَك، واجمع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين، وأسبِغ عليه لباسَ الصحة والعافية، واجزِه خيرَ الجزاء على ما قدَّم للإسلام والمسلمين يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين.
اللهم وفِّق قادةَ المسلمين، اللهم وفِّق جميع قادة المسلمين، اللهم اجعلهم لشرعِك مُحكِّمين، ولسنةِ نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - مُتَّبعين، ولأوليائِك ناصرين.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من اليهود المُعتدين، والصهاينة المُحتلِّين، اللهم اجله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم فرِّج عن إخواننا في سوريا، اللهم عجِّل بنصر إخواننا في سوريا، اللهم عجِّل بنصر إخواننا في سوريا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم يا ناصر المظلومي، ويا مُجيبَ دعوة المُضطرين.
اللهم كن لإخواننا في بُورما وفي كل مكانٍ يا حي يا قيوم.
اللهم اختِم لنا شهر رمضان برضوانك والعتق من يرانك، واعِده علينا أعوامًا عديدة، وأزمِنةً مديدة ونحن في خيرٍ وصحَّةٍ وحياةٍ سعيدة.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم ارزقنا الاستقامة على الأعمال الصالحة ما حيِينا، اللهم ارزقنا الاستقامة على الأعمال الصالحة بعد رمضان يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام.
اللهم اختِم لنا بخيرٍ، اللهم اختِم لنا بخيرٍ، اللهم اختِم لنا بخيرٍ، والعتقِ من النار، والعتقِ من النار، والعتقِ من النار، يا عزيزُ يا غفارُ.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا وجميع المُسلمين الأحياءِ منهم والميِّتين برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
سُبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عمَّا يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 09-12-2012 07:17 PM

عبادات يسيرة بأجور كبيرة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 6 شوال 1433هـ بعنوان: "عبادات يسيرة بأجور كبيرة"، والتي تحدَّث فيها عن الإكثار من النوافل بعد شهر رمضان؛ من الصيام، والقيام، وقراءة القرآن، وغير ذلك، وذكرَ العديدَ من الأحاديث الدالَّة على عِظَم أجور الكثير من العبادات اليسيرة؛ كالذكر، والوضوء، والصلاة، وإماطة الأذى عن الطريق، وما إلى ذلك.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله مُعيد المواسم والأعياد، ومُيسِّر طرق الخير ليستكثِر العبدُ من الخير ويزداد، فالحمدُ لله على ما شرَع، والشكرُ له على ما وفَّق، والفضلُ له على ما هدى، إليه المرجعُ وإليه المعاد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شركاء له ولا أنداد، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله وخيرُ العباد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أُولِي الهُدى والرشاد، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم التناد.
أما بعد:
فالتقوى - أيها المسلمون - التقوى؛ وصيةُ الأنبياء، وحليةُ الأولياء، وخيرُ عُدَّةٍ ليوم اللقاء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].
أيها المسلمون:
لم يزَل في ثيابنا عبَقٌ من شَذَى شهرنا لم يخِف، ولم يزَل في نفوسِنا طراوةٌ من تراتيل القرآن لم تجِف، ولم تزَل عيونُنا ندِيَّةً على وداعِ رمضان، ومن ذا يلومُها أن تجِف، وما ذاك إلا لما افتقدناه من لذَّة الطاعات، وحلاوة القُرُبات المُقرِّبات، وما جافانا عنه مركبُ الزمان من العبادات الجالِيَة لصدى النفوس ورانِ القلوبِ.
ولو صابرَ الإنسانُ نفسَه، وغالبَ هواه، وواصلَ نوافل العبادات التي اعتادَها في شهر رمضان؛ من صيامٍ، وقيام ليلٍ، وقراءةٍ للقرآن، وصدقةٍ، وخيرٍ لانقلَبَت حياتُه إلى موسمٍ للخير دائم، وتقلَّبَت نفسُه في رياضٍ من القُرُبات مُتصل، وتمثَّل قولَ الله - عز وجل -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 162].
أيها المسلمون:
الأرضُ ميراثُ الله لعباده يختارون منازِلَهم من الجنةِ بقدرِ حرثِهم للآخرة، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ[الزمر: 74]، والمؤمنُ الحقُّ سائرٌ إلى ربه يسعى ويحفِد، لا ينِي حتى يكون مُنتهاه الجنة، ولا يقِفُ حتى يُدرِكَه الموتُ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
ولئن انقضَى شهرُ رمضان - وهو شهرُ مُضاعفَة الأجور - فإن اللهَ تعالى هو ربُّ كل الشهور، وفي الحياة آفاقٌ واسعةٌ للعمل الصالح، وأجورٌ تُضاعَفُ هي - واللهِ - المتجَرُ الرابح، وفي شرع الله وهديِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - فِجاجٌ تُوصِلُ إلى الله، ودُروبٌ تُؤدِّي وتهدِي لمرضاته، وأعمالٌ تستجلِبُ مراضِيَ الله ورحماته، ويُكافِئُ عليها بجنَّته. ولكن أين المُشمِّرون؟!
قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبِي فقال: «كُن في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابِرُ سبيلٍ». وكان ابنُ عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظِر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظِر المساء، وخُذ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"؛ رواه البخاري.
وقد دلَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أعمالٍ يسيرة، ورتَّب عليها أجورًا كثيرة، وفتحَ لنا أبوابًا واسعةً من الأعمال الصالحة نتزوَّدُ بها ليوم الحِساب، وندَّخِرُها عند لقاء الله ربِّ الأرباب، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء: 19].
عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُصبِحُ على كل سُلامَى من أحدِكم صدقةٌ؛ فكلُّ تسبيحةٍ صدقة، وكلُّ تحميدةٍ صدقة، وكلُّ تهليلةٍ صدقة، وكلُّ تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، ويُجزِئُ من ذلك: ركعتان يركعهُما من الضُّحَى»؛ رواه مسلم.
والسُّلامَى: هي المِفصَلُ.
وعنه - رضي الله عنه - أن ناسًا قالوا: يا رسول الله! ذهبَ أهلُ الدُّثور بالأجور، يُصلُّون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصُوم، ويتصدَّقون بفُضول أموالِهم. قال: «أولَيسَ قد جعلَ الله لكم ما تصدَّقون به؟ إن بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، وفي بُضعِ أحدِكم صدقة». قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: «أرأيتُم لو وضعَها في حرامٍ أكان عليه وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعَها في الحلال كان له أجرٌ»؛ رواه مسلم.
وقد يبلغُ المؤمنُ أعلى المنازِل بعملٍ يسيرٍ لا يظنُّ أن يبلُغَ به ما بلغَ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّبُ في الجنةِ في شجرةٍ قطَعَها من ظهر الطريق كانت تُؤذِي المُسلمين»؛ رواه مسلم.
وفي روايةٍ له: «مرَّ رجلٌ بغُصنِ شجرةٍ على ظهر طريقٍ، فقال: واللهِ لأُنحِّيَنَّ هذا عن المُسلمين لا يُؤذِيهم، فأُدخِلَ الجنة». وفي روايةٍ لهما: «بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجدَ غُصنَ شوكٍ على الطريق فأخَّره فشكرَ الله له فغفرَ له».
أيها المسلمون:
وكلمةٌ يسيرةٌ قد يستجلِبُ العبدُ بها رضا ربِّه الكريم، ويشكُرُ فضلَه العَميم؛ عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ ليرضَى عن العبدِ أن يأكُل الأكلَةَ فيحمَده عليها، أو يشرَبَ الشربَةَ فيحمَده عليها»؛ رواه مسلم.
أما الوُضوءُ والصلاةُ، وهي المُتكرِّرة في اليوم عدَّة مراتٍ، فاستمِع إلى ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضَّأ العبدُ المُسلمُ - أو المؤمنُ - فغسلَ وجهه خرجَ من وجهه كلُّ خطيئةٍ نظرَ إليها بعينه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ يدَيه خرجَ من يدَيه كلُّ خطيئةٍ كان بطَشَتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ رجلَيْه خرجَت كل خطيئةٍ مشَتْها رِجلاه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء - حتى يخرُج نقيًّا من الذنوب»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدلُّكم على ما يمحُو الله به الخطايا ويرفعُ به الدرجات؟». قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغُ الوضوء على المَكارِه، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكُم الرِّباط»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمعةُ إلى الجُمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبَت الكبائرُ»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفِّ الأولِ ثم لم يجِدوا إلا أن يستهِموا عليه لاستهَموا عليه، ولو يعلَمون ما في التهجير لاستبَقوا إليه، ولو يعلَمون ما في العتَمة والصبحِ لأتَوهُما ولو حَبوًا»؛ متفق عليه.
والتهجيرُ: التبكيرُ إلى الصلاةِ.
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - ويُقال: أبو عبد الرحمن - ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عن ثوبان - قال: سمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عليك بكثرة السُّجود؛ فإنك لن تسجُد لله سجدةً إلا رفعَك الله بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً»؛ رواه مسلم.
وذِكرُ الله تعالى عنوانُ الفلاح، وشارةُ التوفيق والصلاح؛ عن عبد الله بن بُسْرٍ - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن شرائِعَ الإسلام قد كثُرَت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به. قال: «لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذِكرِ الله»؛ رواه الترمذي.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عند مليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذهبِ والفضة، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضرِبوا أعناقَكم؟». قالوا: بلى. قال: «ذِكرُ الله تعالى»؛ رواه الترمذي، وقال الحاكمُ: إسنادُه صحيحٌ.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لزِم الاستغفارَ جعلَ الله له من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل همٍّ فرَجًا، ورزَقَه من حيثُ لا يحتسِب»؛ رواه أبو داود.
وعن شدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيدُ الاستغفار أن يقولَ العبدُ: اللهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلَقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتِك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفِر لي؛ فإنه لا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنت. من قالَها في النهار مُوقِنًا بها فمات من يومه قبل أن يُمسِي فهو من أهل الجنة، ومن قالَها من الليل وهو مُوقِنٌ بها فمات قبل أن يُصبِح فهو من أهل الجنة»؛ رواه البخاري.
وفي الإحسان إلى الخلق؛ لا تتردَّد في معروفٍ، ولا تحتقِر خيرًا تُقدِّمه مهما قلَّ؛ يقول عديُّ بن حاتمٍ - رضي الله عنه -: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اتَّقُوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ لهما عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه ترجُمان، فينظُر أيمنَ منه فلا يرَى إلا ما قدَّم، وينظُر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظُر بين يدَيه فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهه، فاتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجِد فبكلمةٍ طيبةٍ».
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على كل مسلمٍ صدقة». قال: أرأيت إن لم يجِد؟ قال: «يعملُ بيديه، فينفعُ نفسَه ويتصدَّق». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجةِ الملهوف». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يأمرُ بالمعروف أو الخيرِ». قال: أرأيتَ إن لم يفعل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنها صدقةٌ»؛ متفق عليه.
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمينُ، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله:
والعملُ الصالحُ المُعظَّمُ أجرُه، والسابِغُ ثوابُه يكتنِفُ المجتمعَ المُسلِمَ بكل علاقاته من الوالدَيْن، والزوجةِ، والأقاربِ، والجيران؛ عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! من أحقُّ الناسِ بحُسن صحابَتي؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أبوك»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ: يا رسول الله! من أحقُّ الناس بحُسن الصُّحبَةِ؟ قال: «أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثمُّ أباك، ثم أدناك أدناك».
وقولُه: «ثُمَّ أباك» أي: ثم بِرَّ أباك. وفي روايةٍ: «ثُمَّ أبوك».
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحبَّ أن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسَأَ له في أثَره فليصِل رحِمَه»؛ متفق عليه.
ومعنى «يُنسَأ له في أثَره»؛ أي: يُؤخَّر له في أجلِه وعُمره.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
وعن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيُورِّثُه»؛ متفق عليه.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليُكرِم ضيفَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليصِل رحِمَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليقُل خيرًا أو ليصمُت»؛ متفق عليه.
وفي السِّترِ على الناس قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يستُر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستَرَه الله يوم القيامة»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ الجنة. قال: «تقوى الله وحُسن الخُلُق». وسُئِل عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ النار. فقال: «الفمُ والفرْجُ»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ صحيحٌ".


أيها المسلمون:
يا مَن أكرمَه الله بصيام شهر رمضان! إن من السُّنة أن تصُومَ ستَّة أيامٍ من شهر شوال؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صامَ رمضان وأتبَعَه ستًّا من شوال كان كصيامِ الدهرِ»؛ رواه مسلم.
ويصِحُّ أن تصُومَها مُتَّصلةً أو مُتفرِّقةً.
فاستكثِروا من الصالحات، وأديموا الطاعات، وحاذِروا السيئات، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا[النحل: 92]، ومن أعتقَه ربُّه من النار فلا يرجِعنَّ إلى المعاصي، فيعُود إلى رقِّ الذنبِ وإلى الإسار.
ثم صلُّوا وسلِّموا على النبي المُجتَبى، والرسول المُرتضَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، وجازِه بالخير على نُصرة قضايا المُسلمين، وسعيِه لتوحيد صفِّهم وجمع كلمتِهم، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم عاجلاً غيرَ آجلٍ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، وارحمهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم انتصِر للمظلومين في بُورما، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم، وكُن لهم يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ دينَك، وأظهِر أولياءَك، وأخزِ أعداءَك، في عافيةٍ لأمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم تقبَّل صيامَنا، وقيامَنا، ودعاءَنا، وصالحَ أعمالنا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 09-12-2012 07:22 PM

عبادات يسيرة بأجور كبيرة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 13 رمضان 1433هـ بعنوان: "عبادات يسيرة بأجور كبيرة"، والتي تحدَّث فيها عن الإكثار من النوافل بعد شهر رمضان؛ من الصيام، والقيام، وقراءة القرآن، وغير ذلك، وذكرَ العديدَ من الأحاديث الدالَّة على عِظَم أجور الكثير من العبادات اليسيرة؛ كالذكر، والوضوء، والصلاة، وإماطة الأذى عن الطريق، وما إلى ذلك.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله مُعيد المواسم والأعياد، ومُيسِّر طرق الخير ليستكثِر العبدُ من الخير ويزداد، فالحمدُ لله على ما شرَع، والشكرُ له على ما وفَّق، والفضلُ له على ما هدى، إليه المرجعُ وإليه المعاد، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شركاء له ولا أنداد، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله وخيرُ العباد، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه أُولِي الهُدى والرشاد، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم التناد.
أما بعد:
فالتقوى - أيها المسلمون - التقوى؛ وصيةُ الأنبياء، وحليةُ الأولياء، وخيرُ عُدَّةٍ ليوم اللقاء، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].
أيها المسلمون:
لم يزَل في ثيابنا عبَقٌ من شَذَى شهرنا لم يخِف، ولم يزَل في نفوسِنا طراوةٌ من تراتيل القرآن لم تجِف، ولم تزَل عيونُنا ندِيَّةً على وداعِ رمضان، ومن ذا يلومُها أن تجِف، وما ذاك إلا لما افتقدناه من لذَّة الطاعات، وحلاوة القُرُبات المُقرِّبات، وما جافانا عنه مركبُ الزمان من العبادات الجالِيَة لصدى النفوس ورانِ القلوبِ.
ولو صابرَ الإنسانُ نفسَه، وغالبَ هواه، وواصلَ نوافل العبادات التي اعتادَها في شهر رمضان؛ من صيامٍ، وقيام ليلٍ، وقراءةٍ للقرآن، وصدقةٍ، وخيرٍ لانقلَبَت حياتُه إلى موسمٍ للخير دائم، وتقلَّبَت نفسُه في رياضٍ من القُرُبات مُتصل، وتمثَّل قولَ الله - عز وجل -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 162].
أيها المسلمون:
الأرضُ ميراثُ الله لعباده يختارون منازِلَهم من الجنةِ بقدرِ حرثِهم للآخرة، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ[الزمر: 74]، والمؤمنُ الحقُّ سائرٌ إلى ربه يسعى ويحفِد، لا ينِي حتى يكون مُنتهاه الجنة، ولا يقِفُ حتى يُدرِكَه الموتُ، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
ولئن انقضَى شهرُ رمضان - وهو شهرُ مُضاعفَة الأجور - فإن اللهَ تعالى هو ربُّ كل الشهور، وفي الحياة آفاقٌ واسعةٌ للعمل الصالح، وأجورٌ تُضاعَفُ هي - واللهِ - المتجَرُ الرابح، وفي شرع الله وهديِ رسولِه - صلى الله عليه وسلم - فِجاجٌ تُوصِلُ إلى الله، ودُروبٌ تُؤدِّي وتهدِي لمرضاته، وأعمالٌ تستجلِبُ مراضِيَ الله ورحماته، ويُكافِئُ عليها بجنَّته. ولكن أين المُشمِّرون؟!
قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكبِي فقال: «كُن في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابِرُ سبيلٍ». وكان ابنُ عمر يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظِر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظِر المساء، وخُذ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك"؛ رواه البخاري.
وقد دلَّا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أعمالٍ يسيرة، ورتَّب عليها أجورًا كثيرة، وفتحَ لنا أبوابًا واسعةً من الأعمال الصالحة نتزوَّدُ بها ليوم الحِساب، وندَّخِرُها عند لقاء الله ربِّ الأرباب، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا[الإسراء: 19].
عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «يُصبِحُ على كل سُلامَى من أحدِكم صدقةٌ؛ فكلُّ تسبيحةٍ صدقة، وكلُّ تحميدةٍ صدقة، وكلُّ تهليلةٍ صدقة، وكلُّ تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، ويُجزِئُ من ذلك: ركعتان يركعهُما من الضُّحَى»؛ رواه مسلم.
والسُّلامَى: هي المِفصَلُ.
وعنه - رضي الله عنه - أن ناسًا قالوا: يا رسول الله! ذهبَ أهلُ الدُّثور بالأجور، يُصلُّون كما نُصلِّي، ويصومون كما نصُوم، ويتصدَّقون بفُضول أموالِهم. قال: «أولَيسَ قد جعلَ الله لكم ما تصدَّقون به؟ إن بكل تسبيحةٍ صدقة، وكل تكبيرةٍ صدقة، وكل تحميدةٍ صدقة، وكل تهليلةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهيٌ عن المُنكَر صدقة، وفي بُضعِ أحدِكم صدقة». قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوتَه ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: «أرأيتُم لو وضعَها في حرامٍ أكان عليه وِزرٌ؟ فكذلك إذا وضعَها في الحلال كان له أجرٌ»؛ رواه مسلم.
وقد يبلغُ المؤمنُ أعلى المنازِل بعملٍ يسيرٍ لا يظنُّ أن يبلُغَ به ما بلغَ؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّبُ في الجنةِ في شجرةٍ قطَعَها من ظهر الطريق كانت تُؤذِي المُسلمين»؛ رواه مسلم.
وفي روايةٍ له: «مرَّ رجلٌ بغُصنِ شجرةٍ على ظهر طريقٍ، فقال: واللهِ لأُنحِّيَنَّ هذا عن المُسلمين لا يُؤذِيهم، فأُدخِلَ الجنة». وفي روايةٍ لهما: «بينما رجلٌ يمشي بطريقٍ وجدَ غُصنَ شوكٍ على الطريق فأخَّره فشكرَ الله له فغفرَ له».
أيها المسلمون:
وكلمةٌ يسيرةٌ قد يستجلِبُ العبدُ بها رضا ربِّه الكريم، ويشكُرُ فضلَه العَميم؛ عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ ليرضَى عن العبدِ أن يأكُل الأكلَةَ فيحمَده عليها، أو يشرَبَ الشربَةَ فيحمَده عليها»؛ رواه مسلم.
أما الوُضوءُ والصلاةُ، وهي المُتكرِّرة في اليوم عدَّة مراتٍ، فاستمِع إلى ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا توضَّأ العبدُ المُسلمُ - أو المؤمنُ - فغسلَ وجهه خرجَ من وجهه كلُّ خطيئةٍ نظرَ إليها بعينه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ يدَيه خرجَ من يدَيه كلُّ خطيئةٍ كان بطَشَتها يداه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء -، فإذا غسلَ رجلَيْه خرجَت كل خطيئةٍ مشَتْها رِجلاه مع الماء - أو مع آخر قطرِ الماء - حتى يخرُج نقيًّا من الذنوب»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أدلُّكم على ما يمحُو الله به الخطايا ويرفعُ به الدرجات؟». قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغُ الوضوء على المَكارِه، وكثرةُ الخُطا إلى المساجد، وانتظارُ الصلاة بعد الصلاة، فذلكُم الرِّباط»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الصلواتُ الخمسُ، والجُمعةُ إلى الجُمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ إذا اجتُنِبَت الكبائرُ»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفِّ الأولِ ثم لم يجِدوا إلا أن يستهِموا عليه لاستهَموا عليه، ولو يعلَمون ما في التهجير لاستبَقوا إليه، ولو يعلَمون ما في العتَمة والصبحِ لأتَوهُما ولو حَبوًا»؛ متفق عليه.
والتهجيرُ: التبكيرُ إلى الصلاةِ.
وعن أبي عبد الله - رضي الله عنه - ويُقال: أبو عبد الرحمن - ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عن ثوبان - قال: سمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «عليك بكثرة السُّجود؛ فإنك لن تسجُد لله سجدةً إلا رفعَك الله بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئةً»؛ رواه مسلم.
وذِكرُ الله تعالى عنوانُ الفلاح، وشارةُ التوفيق والصلاح؛ عن عبد الله بن بُسْرٍ - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله! إن شرائِعَ الإسلام قد كثُرَت عليَّ، فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به. قال: «لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذِكرِ الله»؛ رواه الترمذي.
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُنبِّئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأزكاها عند مليكِكم، وأرفعِها في درجاتِكم، وخيرٍ لكم من إنفاقِ الذهبِ والفضة، وخيرٌ لكم من أن تلقَوا عدوَّكم فتضرِبوا أعناقَهم ويضرِبوا أعناقَكم؟». قالوا: بلى. قال: «ذِكرُ الله تعالى»؛ رواه الترمذي، وقال الحاكمُ: إسنادُه صحيحٌ.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «من لزِم الاستغفارَ جعلَ الله له من كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل همٍّ فرَجًا، ورزَقَه من حيثُ لا يحتسِب»؛ رواه أبو داود.
وعن شدَّاد بن أوسٍ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سيدُ الاستغفار أن يقولَ العبدُ: اللهم أنت ربِّي لا إله إلا أنت، خلَقتَني وأنا عبدُك، وأنا على عهدك ووعدِك ما استطعتُ، أعوذُ بك من شرِّ ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتِك عليَّ وأبوءُ بذنبي، فاغفِر لي؛ فإنه لا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنت. من قالَها في النهار مُوقِنًا بها فمات من يومه قبل أن يُمسِي فهو من أهل الجنة، ومن قالَها من الليل وهو مُوقِنٌ بها فمات قبل أن يُصبِح فهو من أهل الجنة»؛ رواه البخاري.
وفي الإحسان إلى الخلق؛ لا تتردَّد في معروفٍ، ولا تحتقِر خيرًا تُقدِّمه مهما قلَّ؛ يقول عديُّ بن حاتمٍ - رضي الله عنه -: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «اتَّقُوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ لهما عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما منكم من أحدٍ إلا سيُكلِّمُه ربُّه ليس بينه وبينه ترجُمان، فينظُر أيمنَ منه فلا يرَى إلا ما قدَّم، وينظُر أشأمَ منه فلا يرى إلا ما قدَّم، وينظُر بين يدَيه فلا يرى إلا النارَ تلقاءَ وجهه، فاتَّقوا النارَ ولو بشقِّ تمرةٍ، فمن لم يجِد فبكلمةٍ طيبةٍ».
وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «على كل مسلمٍ صدقة». قال: أرأيت إن لم يجِد؟ قال: «يعملُ بيديه، فينفعُ نفسَه ويتصدَّق». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجةِ الملهوف». قال: أرأيتَ إن لم يستطِع؟ قال: «يأمرُ بالمعروف أو الخيرِ». قال: أرأيتَ إن لم يفعل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشرِّ؛ فإنها صدقةٌ»؛ متفق عليه.
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمينُ، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله:
والعملُ الصالحُ المُعظَّمُ أجرُه، والسابِغُ ثوابُه يكتنِفُ المجتمعَ المُسلِمَ بكل علاقاته من الوالدَيْن، والزوجةِ، والأقاربِ، والجيران؛ عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! من أحقُّ الناسِ بحُسن صحابَتي؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أمُّك». قال: ثم مَن؟ قال: «أبوك»؛ متفق عليه.
وفي روايةٍ: يا رسول الله! من أحقُّ الناس بحُسن الصُّحبَةِ؟ قال: «أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثمُّ أباك، ثم أدناك أدناك».
وقولُه: «ثُمَّ أباك» أي: ثم بِرَّ أباك. وفي روايةٍ: «ثُمَّ أبوك».
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحبَّ أن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسَأَ له في أثَره فليصِل رحِمَه»؛ متفق عليه.
ومعنى «يُنسَأ له في أثَره»؛ أي: يُؤخَّر له في أجلِه وعُمره.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
وعن ابن عمر وعائشة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما زالَ جبريلُ يُوصِيني بالجارِ حتى ظننتُ أنه سيُورِّثُه»؛ متفق عليه.
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليُكرِم ضيفَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليصِل رحِمَه، ومن كان يُؤمنُ بالله واليوم الآخِر فليقُل خيرًا أو ليصمُت»؛ متفق عليه.
وفي السِّترِ على الناس قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا يستُر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستَرَه الله يوم القيامة»؛ رواه مسلم.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئِل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ الجنة. قال: «تقوى الله وحُسن الخُلُق». وسُئِل عن أكثر ما يُدخِلُ الناسَ النار. فقال: «الفمُ والفرْجُ»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ صحيحٌ".


أيها المسلمون:
يا مَن أكرمَه الله بصيام شهر رمضان! إن من السُّنة أن تصُومَ ستَّة أيامٍ من شهر شوال؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من صامَ رمضان وأتبَعَه ستًّا من شوال كان كصيامِ الدهرِ»؛ رواه مسلم.
ويصِحُّ أن تصُومَها مُتَّصلةً أو مُتفرِّقةً.
فاستكثِروا من الصالحات، وأديموا الطاعات، وحاذِروا السيئات، وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا[النحل: 92]، ومن أعتقَه ربُّه من النار فلا يرجِعنَّ إلى المعاصي، فيعُود إلى رقِّ الذنبِ وإلى الإسار.
ثم صلُّوا وسلِّموا على النبي المُجتَبى، والرسول المُرتضَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، وجازِه بالخير على نُصرة قضايا المُسلمين، وسعيِه لتوحيد صفِّهم وجمع كلمتِهم، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم عاجلاً غيرَ آجلٍ يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، وارحمهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم انتصِر للمظلومين في بُورما، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم، وكُن لهم يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ دينَك، وأظهِر أولياءَك، وأخزِ أعداءَك، في عافيةٍ لأمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
اللهم تقبَّل صيامَنا، وقيامَنا، ودعاءَنا، وصالحَ أعمالنا.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 09-12-2012 07:30 PM

احرص على ما ينفعك
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 13 شوال 1433هـ بعنوان: "احرص على ما ينفعك"، والتي تحدَّث فيها عن أصلَين عظيمَين جامِعين لكل أسباب التوفيق ومجامع الخير، وهما: الحرصُ على ما ينفع، والاستعانةُ بالله على طاعته والكفِّ عن معصيته.

الخطبة الأولى
الحمد لله الهادي لمن استهداه، الكافي لمن تولاَّه، أحمده - سبحانه - يُبلّغُنا رضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا ربَّ سواه، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله وأمينُه على وحيِه ومُصطفاه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرَه واتبع هُداه.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[البقرة: 281].
أيها المسلمون:
أصلان عظيمان جامِعان لكل أسباب التوفيق ومجامِع الخير، تضمَّنتهما وصيةٌ نبويةٌ عظيمةٌ، جاءت في الحديث الذي أخرجه مسلمٌ في "صحيحه"، وأحمد في "مسنده" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «المؤمنُ القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمنِ الضعيفِ، وفي كلٍّ خيرٌ، احرِص على ما ينفعك، واستعِن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا وكذا لم يُصِبني كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتحُ عمل الشيطان».
عباد الله:
إن الحرصَ على ما ينفع، والاستعانةَ بالله بالثقة فيه، والاعتماد عليه، والتوكُّل واللُّجوء إليه، هما بمنزلة طريقين من وُفِّق إلى السير فيهما كان هو المُوفَّق إلى بلوغ ما يُؤمِّل، والسلامة مما يرهَب، وذلك بإدراك كلِّ خيرٍ في العاجِلة والآجِلة.
وأعلى ذلك وأشرفُه وأعظمُه: الحَظوة برضوان الله، والنظرُ إلى وجهه الكريم في جنات النعيم، وتلك هي الزيادة التي وعدَ الله بها الذين أحسَنوا العملَ وأخلَصوا القصدَ، لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[يونس: 26].
فقد جمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بين هذين الأصلَين العظيمين أبلغ جمعٍ وأدلَّه على المقصود، حين أمرَ بالحرصِ على الأسباب، وبالاستعانة بالمُسبِّب - سبحانه -، ونهى عن العجز إما بالتقصير في طلب الأسباب وعدم الحرصِ عليها، وإما بالتقصير في الاستعانة بالله وترك تجريدها.
والدينُ كلُّه - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "تحت هذه الكلمات النبوية".
فالحرصُ على ما ينفع أصلُ كل ما يكون به فلاحُه وسعادتُه في دُنياه وأُخراه، والاستعانة بالله تعالى بالثقة فيه - سبحانه -، والالتجاء إليه، والاعتماد عليه أصلُ القبول، وسبيلُ الثواب، وطريقُ الهداية إلى صراط الله المُستقيم، فإذا حرِصَ المرءُ على ما ينفعه، ولا أنفع له في دُنياه من عبادة ربه التي هي غايةُ خلقه، كما قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56].
والعبادةُ هي فعلُ كل ما يُحبُّه الله، وترك ما ينهى عنه مُبتغيًا بذلك وجهَه، مُتابعًا فيه رسولَه - صلى الله عليه وسلم -، كما تكون صلاةً، وصيامًا، وحجًّا، وزكاةً، تكون كذلك شُكرًا، وصبرًا، ورضًا، وشوقًا إلى الله، ودُعاءً، وتذلُّلاً، وتضرُّعًا، وإخباتًا، وإنابةً، وخشوعًا له وحده - سبحانه -.
وتكون أيضًا أكلاً للحلال الطيب واجتنابًا للحرام الخبيث، وأمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وبرًّا بالوالدين، وحُسنَ خُلق، وتوقيرًا للكبير، ورحمةً بالصغير والمسكين، وصدقًا في الحديث، وأداءً للأمانة، ووفاءً بالعهد، واجتنابًا للربا، وسائر ما حرَّم الله، وغضًّا للبصر، وحفظًا للفَرج، وصيانةً للعمر من ضياعه في الفُضول من المُخالطة والنظر والكلام والأكل والنوم.
وحجابًا للمرأة، وعفَّةً وعفافًا، ودعوةً إلى الله على بصيرةٍ، وجهادًا في سبيله، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
وإذا استعان بالله وتركَ عبادة ما سِواه، وفي الطليعة من ذلك: عبادةُ الشيطان الذي هو رأسُ الطواغيت الذي قال الله في التحذير من عبادته: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[يس: 60]، وعبادتُه هي طاعتُه فيما يأمرُ به من الكفر بالله والشرك به.
فإذا فعلَ ذلك فقد أخذَ بمجامع أسباب التوفيق، وحظِيَ بيُمن هذه الوصية النبوية، وكان له من حُسن التأسِّي وكمال الاقتداء بسيد الأنام - عليه أفضل الصلاة وأتم السلام -، وصدق الاتباع لهديِه ما يكونُ عونًا له على بلوغ الحياة الطيبة في الدنيا، والظَّفَر بالجزاء الضافِي الكريم الذي أعدَّه الله بالجنة للمتقين المُوفَّقين إلى الخيرات في الأيام الخالية.
فاتقوا الله - عباد الله -، واستَجيبوا لهذا التوجيه النبوي الذي تضمَّنته هذه الوصيةُ العظيمة، فاحرِصوا على ما ينفعُكم في دينكم ودُنياكم، واستعينوا بالله في كل أموركم، واجتنِبوا القُعودَ عما لا يصِحُّ القعود عنه؛ من خيرٍ تُرضونَ به ربَّكم، وتعلُو به درجاتُكم، وتبلُغون به ما ترجون في دُنياكم وأُخراكم.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
ليس للإنسان أن يدَع السعيَ فيما ينفعه الله به مُتَّكلاً على القدر؛ بل يفعل ما أمرَه الله ورسولُه به، فقد أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المُسلمَ أن يحرِص على ما ينفعه، والذي ينفعه - كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "يحتاج إلى مُنازعة شياطين الإنس والجن، ودفع ما قُدِّر من الشر بما قدَّره الله من الخير".
وعليه مع ذلك أن يستعين بالله؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن يكون عملُه خالصًا لله، فإن الله لا يقبلُ من العمل إلا ما أُريدَ به وجهُه، وهذه حقيقةُ قولِك: إِيَّاكَ نَعْبُدُ[الفاتحة: 5]، والذي قبلَه حقيقةُ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ.
فعليه أن يعبُد الله بفعل المأمور وترك المحظور، وأن يكون مُستعينًا بالله على ذلك، وفي عبادة الله وطاعته فيما أمر إزالةُ ما قُدِّر من الشر بما قُدِّر من الخير، ودفعُ ما يُريدُه الشيطان ويسعَى فيه من الشر قبل أن يصِل بما يدفعُه الله به من الخير، قال الله تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ[البقرة: 251].
فاتقوا الله - عباد الله -، واجعلوا من الحرصِ ما ينفعُكم، والاستعانة بالله على ذلك ديدنَكم وسبيلَكم تبلغُوا مرضاةَ ربِّكم، وتكونوا عنده من الفائزين المُفلِحين.
وصلُّوا وسلِّموا على خاتم النبيين ورسول رب العالمين؛ فقد أُمرتُم بذلك في الكتاب المبين: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نحور أعدائك وأعدائنا، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم احفظ إخواننا المسلمين في سوريا وبورما وفلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين، اللهم كن لهم، واجبُر كسرهم، وارحم ضعفَهم، وأطعِم جائعَهم، واكسُ عاريَهم، وكن لهم بمنِّك يا رب العالمين، وأيِّدهم بتأييدك، اللهم أيِّدهم بتأييدك، اللهم أيِّدهم بتأييدك، وانصُرهم بنصرك يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 09-25-2012 12:08 AM

مِعيارُ الحق والعدل
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 20 شوال 1433هـ بعنوان: " مِعيارُ الحق والعدل" عند المؤمن، والتي تحدَّث فيها عن ذم الكثرة في القرآن الكريم، وخطورة أن يكون المسلم إمَّعةً يُقلِّد على غير بصيرةٍ وهُدى، وذكر على ذلك الأمثلة والنماذج.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[النساء: 1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة،وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يدَ الله على الجماعة.
أيها الناس:
الحق والحكمة ضالَّة كل مؤمنٍ مُنصفٍ عدلٍ، مُؤمنٍ بخالقه ومولاه، يلتمسُ رضا الله لا رضا خلقه، ويهتدي بهدي الحكيم العليم واللطيف الخبير؛ لأنه - سبحانه - وحده الذي يهدي إلى الحق، أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[يونس: 35].
مِعيارُ الحق والعدل عند هذا المؤمنِ الصادقِ وضابطُ الاتباع والانقياد عنده: قولُ الله - جل وعلا - عن أمثاله: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ[آل عمران: 53]، هذا هو المؤمنُ البصيرُ الذي لا يخطفُ بصرَه أطيافٌ جذَّابة، ولا سرابٌ بقِيعة، ولا يستميلُ قلبَه تزويقٌ ولا تدليسٌ، قلبُه قلبُ المؤمن الصادق الذي يرى بنور الله، ويُدرِك أن الإثمَ هو ما حاك في صدر المؤمن وكرِه أن يطَّلِع عليه الناس، يتعامَلُ مع ربه كأنه يراه لإدراكه الجازم بأن ربَّه يراه.
ثم هو بذلك لا يُقيم وزنًا لأمر القلَّة أو الكثرة؛ فلا هو يغترُّ بالكثرة الكاثِرة إذا جانَبَت الصوابَ، ولا هو يستوحِش من القِلَّة القليلة إذا كانت على الحق.
ومثلُ هذا اللبيب يُوفِّقُه ربُّه لأن يعلمَ علمَ اليقين، وحقَ اليقين، وعينَ اليقين، وأن الأمر لله من قبلُ ومن بعدُ، والغايةَ لن تكون إلا لما يُرضِي اللهَ - سبحانه -، وأن الكثرةَ الكاثِرة لن تكون شافِعةً لمن يغشَى الزَّللَ في نهاية المطاف.
ولن تنفع المقولةُ المشهورةُ: الموتُ مع الكثرة رحمةٌ؛ لأنه يُدرِك قولَ الله - جل وعلا - عن صناديد الأمم وأشرافهم وعُتاتهم حينما يُلقون في النار: وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ[الزخرف: 39].
لقد ظنَّ بعضُ من لا علمَ عندهم أن الكثرةَ هي معيارُ الحق والصواب، وأن القلَّة هي معيارُ الخطأ والعُدول عن الصواب. وهذا ظنٌّ مغلوطٌ لا بُرهان لصاحبه عند ربه؛ لأن الحق وإن قلَّ تابِعوه فهو كثيرٌ ببراهينه وحُججه لا بأتباعه، ولا تزيدُه الكثرةُ حقًّا، ولا تنقصُه القلَّة عن هذا الحق مثقالَ ذرَّة؛ لأن الحق لا يُوزن بالناس، وإنما يُوزن الناسُ بالحق.
ومن شاءَ فليقرأ قولَ الله: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ[الأنعام: 116].
وقد صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «عُرِضَت عليَّ الأمم، فجعل يمرُّ النبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي معه الرهط، والنبي ليس معه أحد»؛ رواه البخاري ومسلم.
فها هُم الأنبياء يأتون في القلَّة من الأتباع، وبعضُهم لا تابِع له، ونوحٌ - عليه السلام - مكثَ في قومه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا فقال الله عنه: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ[هود: 40]، فلم تكن هذه القلَّة دليلَ نقصٍ في نبوَّاتهم ورسالاتهم، كما أن كثرةَ خصومهم وسوادَ مُخالفيهم لم تكن دليلاً على أنهم على الحق، ولم تمنَعهم من كونهم على الباطل.
ولهذا قال الله عن فرعون وكثرة أتباعه: يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ[هود: 98].
وإن من المُؤسِف حقًّا: أن تكون حُجَّة كل مُقصِّر مُفرِّط في جنب الله هي أن أكثر الناس يفعلون كذا، أو يقولون كذا، أو يعتقِدون كذا! مِعيارُهم الوحيد هو ما يفعله الكثرةُ الكاثِرة من الناس، لا ما هو الحقُّ والدليلُ.
وهذه حُجَّةٌ فرعونيةٌ قد أبطلَها الله - سبحانه - في ذكر حوار موسى مع فرعون حينما دعاه إلى توحيد خالقه فقال له فرعون: فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى[طه: 51]؛ أي: ما بالُ الكثرة الكاثِرة من الأمم السابقة؟ أهم على ضلالةٍ وأنت على الهُدى؟ قال: أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى[طه: 57].
إن من كان هذا صنيعُه فهو أخرقٌ مأفونٌ، إمَّعةٌ لا استقلالَ له، إنما هو غِرٌّ سلَّم قيادَه للعدو لا للرَّشَد، وأرجعَ بصرَه للكم لا للكيف.
وقد قال ابنُ مسعود - رضي الله عنه -: "لا يكوننَّ أحدُكم إمَّعةً تقول: إنما أنا مع الناس؛ إن اهتدَوا اهتديتُ، وإن ضلُّوا ضللتُ، ألا ليُوطِّننَّ أحدُكم نفسَه على إن كفر الناس ألا يكفُر".
فالمؤمنُ الصادقُ - عباد الله - لا تغرُره كثرةُ الناس، ولا أن يكون لها رواجٌ في التصحيح والتخطِئة، وادِّعاء أن ما عليه الكثرة هو الصحيح، وما عليه القلَّة هو الباطل.
ولقد أحسن ابنُ قُتيبة - رحمه الله - في وصف مثلِ هذا؛ حيث قال: "والناسُ أسرابُ طيرٍ يتبعُ بعضُها بعضًا، ولو ظهر لهم من يدَّعي النبوَّةَ مع معرفتهم بأن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خاتم الأنبياء، أو من يدَّعي الربوبية لوجدَ على ذلك أتباعًا وأشياعًا". اهـ كلامُه - رحمه الله -.
ولهذا - عباد الله - لو نظرنا إلى كتاب ربنا - جل وعلا - وما جاء فيه لوَجَدنا ما يدلُّ على أن الكثرةَ ليست مِعيارًا يُعتمَد عليه في تحديد الحق في جوانب كثيرة من أمور الدين:
ففي الجانب الإيماني قال الله - سبحانه -: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[يوسف: 103].
وفي جانب الحق وقبوله يقول - سبحانه -: لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ[الزخرف: 78].
وفي جانب القتال والدفاع يقول أيضًا: وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ[الأنفال: 19]، ويقول: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا[التوبة: 25].
وفي جانب الشُّكر يقول - جلَّ شأنه -: اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ: 13].
وفي جانب المُعاملات المالية يقول - سبحانه -: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ[ص: 24].
وفي جانب صحة الاعتقاد يقول - سبحانه -: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ[يوسف: 106].
وأما في جانب العِظة والاعتبار أمام الآيات والبراهين يقول - سبحانه -: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ[الشعراء: 8، 9].
ففي هذه الآيات - عباد الله - نلحَظُ أن نظرة الإسلام في عددٍ من الجوانب عن الكثرة نظرةٌ سلبيَّةٌ؛ للتدليل على أن الكثرةَ ليست هي محلَّ الاعتبار والاعتماد، لما يترتَّبُ على هذا الاعتماد من المفاسِد والمَيل عن صراط الله المُستقيم، وإيكال الحق إلى الناس لا إلى براهِينه.
وفي الوقت نفسه نجِد أن الإسلام لم يُهوِّن من شأن القلَّة، وربما مدَحها في مواضع كثيرةٍ، أو كان أصحاب القلَّة ممن مدَحَهم الله في كتابه؛ لبيان أنك - أيها المؤمن - كثيرٌ بإيمانك وإن كنتَ وحدك، فقد قال - سبحانه -: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[النحل: 120].
وفي جانب الإيمان قال - سبحانه -: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ[الواقعة: 13، 14].
وفي جانب القتال والمُدافعة قال - سبحانه -: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ[البقرة: 249].
والحاصِلُ - عباد الله - أنه يتَّضِح لنا مما سبقَ ذِكرُه أن الكثرةَ ليست هي المِقياسَ للحقيقة، وليس هي الوسيلةَ لإعطاء المرء قيمتَه المعنويةَ والإيمانيةَ، وفي الوقت نفسه قد تُحمَدُ الكثرةُ حينما لا تتجاوزُ حدودَها المُعتبرة شرعًا، وربما وافقَت الهدفَ المنشودَ كما في ثناء الباري - سبحانه وتعالى - على من يُنفِقون أموالاً كثيرةً في سبيل الله، وللفقراء، والمساكين، واليتامى، وابن السبيل.
وفي المُقابل: نُدرِك أن القلَّة جاءت في مواطن كثيرةٍ في مقام المدح الإلهي؛ لأنها التعبيرُ الصادقُ عن رفضِ الانسياقِ وراء الأكثرية التي خُيِّل لها أن كثرتَها تجعلُها هي الأحق والأصوَب، ولذا لم تكُن القلَةُ في الأتباع، ولا القلَّة في المال، ولا القلَّة في القتال مانعةً الأنبياء عن وصفِهم أنهم أهل الحق والصواب الذين استحقُّوا الثوابَ والنصرَ والتمكينَ أمام كثرة خُصومهم وسواد أعدائهم.
وما ضرَّ أبا بكرٍ - رضي الله عنه - أن كان معه الحق في قضية قتال المُرتدِّين وهو واحدٌ بنفسه كثيرٌ بالحق.
وما ضرَّ أحمد بن حنبل أن كان معه الحق في فتنة القول بخلق القرآن وهو واحدٌ بنفسه كثيرٌ بالحق.
ما أكثرَ الناس لا بل ما أقلَّهُمُ
اللهُ يعلمُ أني لم أقُل فنَدًا
إني لأفتحُ عيني حين أفتحُها
على كثيرٍ ولكن لا أرى أحدًا
ولقد صدق رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ حيثُ يقول: «إنما الناسُ كالإبل المائة لا تكادُ تجِدُ فيها راحِلة»؛ رواه البخاري ومسلم.
باركَ الله ولكم في القرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ والحكمة، قد قلتُ ما قلتُ، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفرُ الله إنه كان غفَّارًا.

ابوحاتم 09-25-2012 12:09 AM



الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أنه بالحق قامَت السماوات والأرض، فاتبعوا الحق وأهلَه حيث كانوا، وتذكَّروا قولَ علي - رضي الله عنه -: "لا تزيدُني كثرةُ الناس حولي عزَّةً، ولا تفرُّقهم عني وحشةً".
فلا تستوحِشوا في طريق الهُدى لقلَّة من يسلُكُه.
ثم اعلموا - عباد الله - أن الله - سبحانه - بيَّن في كتابه حالَ أكثر الناس في قوله: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[الأعراف: 187]، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ[المائدة: 103]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ[الرعد: 1]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ[البقرة: 243]، وقال أيضًا: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ[المائدة: 49].
وما ذاك - عباد الله - إلا لأن العلمَ يتبَعُه العقل، وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ[العنكبوت: 43]، ومن علِم فقد عقَل، ومن عقَل آمنَ فشكرَ، ونأى بنفسه عن الفسق والانحراف، ولذا فإن من وقع في الفسق فإن ذلك بسبب نُقصان واحدٍ من هذه الأمور؛ إما عدمُ العلم، أو عدمُ العقل، أو عدمُ الإيمان، أو عدمُ الشكر. وهذا كلُّه مُحبِطٌ للثبات والفلاح؛ لأن هلاكَ الأمم إنما يكونُ بالفسق المُقصِي للعلم، والعقل، والإيمان، والشكر، وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء: 16].
وتوافُر العقل والعلم والإيمان والشكر يُولِّدُ - ولا شك - قيمةً مُطلقةً تتمثَّلُ في النُّصح والإصلاح للحِفاظ على كِيان الأمة، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ[هود: 117]، أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[ص: 28، 29].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح أحوال إخواننا المُسلمين في سائر الأوطان، اللهم كن لإخواننا المسلمين المُضطهدين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصرهم في بُورما وفي سوريا وفي بلاد المسلمين يا رب العالمين، اللهم عجِّل لهم بالنصر والفرَج، واجعل شأن عدوِّهم في سِفال، وأمرَه في وَبال يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين .

ابوحاتم 09-25-2012 12:33 AM

الفخر باللغة العربية
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 27 شوال 1433هـ بعنوان: "الفخر باللغة العربية"، والتي تحدَّث فيها عن لغتنا العربية وأهميتها ومدى إهمال المسلمين وإغفالِهم لتعلُّمها، وذكرَ كيف كان السلفُ يحرِصون على تعلُّمها وتعليمها لأبنائِهم، ويُعاقِبون ويُثِيبون على ذلك، وسردَ بعضَ الآثار من أقوالهم، وبيَّن كيف أراد الأعداءُ في كل عصرٍ ومصرٍ أن يُغيِّروا اللغةَ ويُحارِبوها ويمحُوها من صدور المسلمين حتى وصَلت الأمةُ إلى ما نراه اليوم.

الخطبة الأولى
الحمد لله، فتقَ ألسِنةَ عباده بالبيان، وأجراها باللغة في كلِّ آنٍ وشانٍ، يصِلون بلُغاتهم إلى قِمَم الإبداع، وذروة الإفهام والإقناع، أحمدُه - سبحانه - ترادفَت نعماؤه وتوالَت نعمُه وآلاؤه.
الحمد لله حمدًا طابَ وانتشرا
على ترادُفِ جُودٍ في الوُجود سَرَى
حمدًا كثيرًا به نرقَى بجنَّته
على منابرِ أُنسٍ نبلُغُ الوَطَرَا
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بيده الملكُ والملكوت، وله الأسماءُ الحُسنى وجلالُ النُّعوت، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله طُبِع على رائقِ الكلام، وبديعِ اللفظِ والنظام، تنهالُ المعاني على فُؤادِه انهِيالاً، وتنثالُ المُفرداتُ على لسانه انثِيالاً، فحديثُه العذبُ المُصفَّى والشهدُ المُوفَّى، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه صلاةً:


تندَى عبيرًا ومِسكًا سُحبُها دِيَمًا
تُمنَى بها للمُنى غاياتُها شُكرًا
تُضاحِكُ الزهرَ مسرورًا أسِرَّتُها
مُعرَّفًا عَرفُها الآصالَ والبُكَرا
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أطيعُوا ربَّكم واتقوه، وراقِبوه ولا تعصُوه؛ فإن التقوى خيرُ الزاد في المعاش والمعاد، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[البقرة: 197].
ألا إن تقوى الله خيرُ مغَبَّةٍ
وأفضلُ زاد الظاعِنِ المُتحمِّلِ
ولا خيرَ في طولِ الحياةِ وعيشِها
إذا أنت منها بالتُّقَى لم ترحَلِ
أيها المؤمنون:
المُتأمِّل في تأريخ الأمم والمُجتمعات وتعاقُب الأمجاد والحضارات يُلفِي فيها رُكنًا ركينًا، وقُطبًا من أقطابها متينًا، يُعدُّ من أهم ثوابتها وأُصولها، وسببَ نشاتها وقيامها، ذلكم هو: لسانُها ولُغتُها.
فاللغةُ تُعلِي الرفيعَ عن الوضيع، وأنَّى يُدرِكُ الضالِعُ شأوَ الضَّليع، وإننا أبناء هذه الأمة الإسلامية قد منَّ الله علينا بأفصَحِ لسانٍ، وأبلغ بيانٍ، وأفضلِ لُغةٍ لغةِ القرآن الكريم: اللغة العربية.
وإذا طلبتَ من العلومِ أجلَّها
فأجلُّها منها مُقيمُ الألسُنِ
اللغةُ العربيةُ زهرةُ التأريخ العابِقة، ومُزنةُ النور الوادِقة، وإشراقةُ الدنيا الصادقة، وشهادةُ الأجيال الناطقة، إنها المنهلُ الدَّفوقُ للعلاء والتَّمكين، والبيانُ والتبيينُ للنورِ والحقِّ المُبين، والينبوعُ الثَّرُّ الذي ترتوِي منه العقولُ الصادِية، والسِّراجُ الوهَّاجُ الذي يُضِيءُ المُجتمعاش العاشِية.

لغةٌ إذا وقعَت على أسماعنا
كانت لنا بردًا على الأكبادِ
ستظلُّ رابطةً تُؤلِّفُ بيننا
فهي الرجاءُ لناطقٍ بالضادِ
لقد كان العربُ قبل الإسلام أمَّةً مُمزَّقةَ الإهاب، مُفترسَة الجَناب، تعيشُ في يَبابٍ وتَبابٍ، ولكن جمعَتهم أواصِرُ الفصاحةِ الهُمامة، وألبَسَتهم أثوابَ المُروءةِ والشهامة، فعلى بِساط اللغةِ يجتمعون، وفي وَريفِ ظلِّها يُبدِعون، ويُبدِي كلٌّ ما في وِطابِه ويكشِفُ عما حوَى في جِرابه من نثرشها وشِعرها، ونحوِها وصَرفِها، وبلاغتها واشتِقاقِها؛ فبَين فخرٍ وهِجاءٍ، ومدحٍ ووصفٍ ورِثاءٍ يُمتِعون أسماعَ الزمان، ويُبهِجون مُقَل الأكوان بسَلسَالٍ من بديع الألحان، وعَذبِ الكلماتِ الحِسان. فاللغةُ كانت نبعًا ثَرًّا يُؤلِّفُ بين قبائل العربِ في مجالسِهم ومُنتدياتهم.
سرَت كالمُزنِ يُحيِي كلَّ أرضٍ
ويُبهِجُها سُهولاً أو وِهادًا
وما للهجةِ الفُصحَى فَخارٌ
إذا لم تملأِ الدُّنيا رشادًا
إخوة الإيمان:
إن اللغةَ العربيةَ الشريفةَ لها حقٌّ علينا حقيقٌ؛ فمن بعضِ حقِّها:
أن نبُلَّها ببِلالِها، وأن نرعَى قدرَها في كلِّ منسوبٍ إليها، وأن نسعَى لنجدَتها كلَّما مسَّها ضُرٌّ، أو حَزَبَها أمرٌ؛ فلُغتُنا العربيةُ اليوم وفي عصر أنماط العَولَمة، وغلبَة عامِّيِّ اللهَجات، وثورة التِّقَنات، وانفجار المعلومات، وفضائيِّ القنوات والشبكات رِباعُها مجفُوَّة، وقِصاعُها مكفُوَّة، ورِقاعُها غيرُ مُلتامةٍ ولا مرفُوَّة، بعدما كانت عذبَة التغاريد، حسنةَ الألفاظِ والمفاريد، رضِيَ بها الأسلافُ في المفاخِر والمنافِحِ، وصَقَلُوا بها الأذهانَ والقرائحَ، وكانت تُرجمانًا صادقًا لكثيرٍ من الحضارات المُتعاقِبة، وكانت سببًا لتقارُب الأمم التي دخلَت في دين الله أفواجًا، فتمازَجَت أذواقُهم، وتوحَّدت مشارِبُهم، وأعلَى الدينُ شأوَها، ورفعَ شأنَها.

فما أهوَى سِوَى لغةٍ سَقَتْها
قريشٌ من براعتِها شِهَادًا
وطوَّقَها كتابُ الله مجدًا
وزادَ سَنَا بلاغتها اتِّقادًا
أمةَ الإسلام:
لقد أضحَت اللغةُ العربيةُ لدى كثيرٍ من المُسلمين في خُفُوت، ورياحُها الشذِيَّةُ العبِقةُ في هُفُوت، بما يُلِحُّ أن نُدندِنَ حول ذَيَّاك المَعينِ السَّلسَال، ونلِجَ هذا النَّميرَ المِنهالَ، لنُحيِيَ شقاشِقَ اللغةِ الهادِرة، ونعبُر دياجيرَ العُجمةِ الغامِرة، فلقد حرَبْنا العربيةَ معانِيَها اللِّطافَ، وألبسناها ثوبَ السنينَ العِجاف.
ولقد كان سلفُنا الصالحُ - رحمهم الله - يُعنَون بالعربية، ويُعاقِبون صِبيانَهم على اللَّحنِ، ويُثِيبونَهم على الفصاحَة والبيان.
يقول الفاروقُ عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه -: "تعلَّموا العربيةَ؛ فإنها تُنبِتُ العقلَ، وتزيدُ المُروءةَ".
وكبَ كاتبٌ لأبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه - خطابًا لعُمر فبدأَه بقوله: "من أبو موسى"، فكتبَ إليه عُمرُ: "أن اضرِبه سَوطًا، واستبدِله بغيره".
الله أكبر، ويا لله! ما أعظمَ غيرتهم على لُغة القرآن، فلله درُّهُم.
سمِعَ الأعمشُ رجلاً يلحَنُ في كلامِه فقال: "من الذي يتكلَّم وقلبي منه يتألَّم".
وكان الحسنُ البصريُّ - رحمه الله - يقول: "ربما دعوتُ فلَحَنتُ فأخافُ ألا يُستجابَ لي".
وكان أيوبُ السِّختيانيُّ - رحمه الله - إذا لحَنَ استغفرَ اللهَ.
وسِعَ الخليفةُ المأمونُ بعضَ ولده يلحَنُ، فقال: "ما على أحدِكم أن يتعلَّم العربيةَ، يُصلِحُ بها لسانَه، ويفُوقُ أقرانَه، ويُقيمُ أوَدَه، ويُزيِّنُ مشهَدَه، ويُقِلُّ حُجَجَ خصمِه بمُسكِتات حِكَمه".
الله أكبر، إن اللغةَ العربيةَ - يا رعاكم الله - هي كما قالَ الإمام الشافعيُّ - رحمه الله -: "أوسعُ الألسِنة مذهبًا، وأكثرُها ألفاظًا، ولها مكانتُها العُظمى في هذا الدين".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "اللغةُ العربيةُ من الدين، ومعرفتُها فرضٌ واجبٌ؛ فإن فهمَ الكتاب والسنة فرضٌ، ولا يُفهمُ إلا بفهم اللغةِ العربية، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ".
ويقول أيضًا - رحمه الله -: "ومعلومٌ أن تعلُّمَ العربية وتعليمَها فرضٌ على الكفاية".
فنحنُ مأمورون أمرَ إيجابٍ أو أمرَ استِحبابٍ أن نحفظَ القانونَ العربيَّ، ونُصلِح الألسِنةَ المائلَةَ عنه.
وقد عبَّر الشاطبيُّ - رحمه الله - عن هذا المعنى بقوله: "إن الشريعةَ عربيةٌّ، وإذا كانت عربيَّةً فلا يفهمُها حقَّ الفهمِ إلا من فهِمَ اللغةَ العربيَّةَ حقَّ الفهمِ، فإذا فرضنا مُبتدِئًا في فهم العربية فهو مُبتدِئٌ في فهم الشريعة، أو متوسِّطًا فهو متوسِّطٌ في فهم الشريعة، فإن انتهى إلى درجة الغايةِ في العربية كان كذلك في الشريعة".
أمة الإسلام:
لقد زادَت الشريعةُ اللغةَ العربيةَ مكانةً وأهميَّةً؛ حيث أصبَحت ثانِيَ اثنين لأقوى هُوِيَّة: الهوِيَّة الإسلامية؛ لأنها كما قال الإمامُ ابنُ كثيرٍ - رحمه الله -: "أفصحُ اللُّغات، وأجلاها، وأحلاها، وأعلاها، وأبينُها، وأوسعُها، وأكثرُها تأدِيةً للمعاني التي تقومُ بالنفوس، فلهذا أُنزِل أشرفُ الكتبِ بأشرفِ اللُّغات".
وهي من أهمِّ الوشائِجِ لرَفوِ الرَّتقِ، وإحكامِ الآصِرة في وجه الفتنِ العواصِف، والمِحَن المُتراكبةِ القواصِف، لذا تنمَّرَ لها الأعداءُ، وكشَفُوا عن مِرَّتهم السوداء، وقال قائلُهم: "إننا لن ننتصِرَ على المُسلمين ما دامُوا يقرأون القرآنَ ويتكلَّمون العربيةَ، فيجبُ أن نُزيلَ القرآنَ من وجوهِهم، ونقتلِعَ العربيةَ من ألسِنَتهم".
وأعلَنوا عليها حربًا ضَروسًا، وأظهَروا لها وجهًا عَبوسًا، وأنفَقوا الغالِيَ والنَّفيس لتغريبِ اللسانِ العربيِّ وقطعِه عن منابِعِ البلاغة، واللَّجاجة به في العُجمة والمَغاغة.
وأثارَ هؤلاء الجَعاظِرةُ العَكُوبُ، وصَعفَقُوا في الآفاقِ والضُّروب، ولكن انعكَسَ عليهم الأملُ، واستنوَقَ فيهم الجملُ، وصارَت فِعالُهم ضِغثًا على إبالَة، وسقطَت أحلامُهم في سِفالة، وارتدَّت أعمالُهم على وجوهِهم خاسِئة، واشتدَّت لُغتُنا فكأنما هي ناشِئة.
وما على العنبَر الفوَّاحِ من حرجٍ
أن ماتَ من شمِّه المأفونُ والنَّتِنُ
معاشر المسلمين:
ومع كلِّ التحديات والمُتغيِّرات فإن اللغةَ العربيةَ محفوظةٌ بحفظِ الله تعالى لكتابه العزيز: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر: 9]، وإن تراكَمَت عليها العُكابات، وتكاثَرَت عليها السِّهامُ الحاسِرات، وظنُّوها عِظامًا نخِرات، وأيقَنوا فيها البِلَى والممات، وظلَّت طويلاً غريبةَ النفس واليدِ واللسانِ في مرابِعها؛ فإنها قامَت وستقومُ فتِيَّةً قويَّة، شامِخةً عفِيَّة، مُشمَخِرَّةً حفِيَّة، وشمَّرت عن ساقِها، وجلَّلَت نورًا على أرواقِها، وألجَمَت أفواهَ عِداتها.
ولله درُّ القائل على لِسانها:
وسِعتُ كتابَ الله لفظًا وغايةً
وما ضِقتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيفَ أضيقُ اليوم عن وصفِ آلةٍ
وتنسيقِ أسماءٍ لمُخترعاتِ
وبعدُ، أمة اللغة والضاد:
إنها ذِكرى للذاكرين، وهَتفةٌ لتنبيه الغافلين؛ فتمسَّكوا بلُغتكم، وربُّوا عليها أبناءَكم؛ لتظفَروا بالغُنم والكرامة في الدنيا ودار الخُلد والمُقامة.

أئمةَ اللغة الفُصحى وقادتها
ألا بِدارًا فإن الوقتَ كالذَّهَبِ
ردُّوا إلى لُغةِ القرآن رونَقها
هيَّا إلى نصرِها في جحفَلِ اللَّجِبِ
حفِظَ الله لغتَنا من كل مكروه، وحيَّا اللهُ أهلَها وذوِيها، وأبقاهم لها ذُخرًا يصُونون عِرضَها، ويحفَظون أرضَها، ويسترِدُّون قرضَها، ويجمَعون شتاتَها، ويُحيُون مواتَها، إنه جوادٌ كريمٌ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[إبراهيم: 4].
بارك الله ولي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه كان حليمًا غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله، جعلَ القرآنَ عربيًّا غيرَ ذِي عِوَج، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تحدَّى بفصاحةِ القرآن العربَ ذوِي الحُجَج، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه بالفصاحةِ منعوتٌ، وبالبلاغة مبخُوت، صَلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبِهِ العُدولِ الثُّبُوت، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، والزَموا لغةَ دينكم تسعَدوا في الدَّارَين، وتفوزوا بخير الجزاء في الدنيا ودار الخُلد والبقاء.
معاشر المؤمنين:
وفي هذه الاضطراباتِ التي تجتاحُ أمَّتَنا، والنَّعَرات التي تُهدِّدُ وحدتَا، والسَّعَراتِ التي تُناوِشُ لمَّتَنا، في خِضَمِّ هاتِيكَ الأمواج، وزخَّارها الثَّجَّاج، لا بُدَّ من الاستِمساك بهُويَّتنا الإسلامية، ولُغتنا العربية، وربطِ الأجيالِ بها، وفَطمِ أنفُسنا عن مراضِع العُجمةِ المَقيتة، وهَجر الألفاظ الأجنبيَّة اللَّقيطة، وأن نُقبِلَ على لغتِنا، وننأَى بها عن اللَّحن فيها.
ولعلَّ أبناءَنا الذين يبدأون هذه الأيام عامَهم الدراسيَّ الجديدَ يجِدون في هذه الذِّكرى شحذًا لهِمَمهم في الاعتزاز بلُغتهم، وكونِهم قُدوةً لغيرهم.
كما أن اعتِزازَنا بلُغتنا الأمِّ لا يُنافِي حاجةَ الأمة إلى تعلُّم اللغاتِ الأخرى لتحقيقِ رسالتِنا العالميَّة بلا نِدِّيَّة، ولا مُزاحمةٍ ولا انهزاميَّة، كما أن رسالةَ الإعلام ووسائل الدِّعاية والإعلان عظيمةٌ في هذا الشأنِ المُهمِّ.
يا فِتيةَ الضادِ! حان الوقتُ فاطَّرِحوا
هذا الوَنَى وانهَضوا فالناسُ قد طارُوا
سِيروا على نهجِ آباءٍ لكم سلَفوا
فإنهم في طريق المجدِ قد سَارُوا
وإن العزمَ لا تثنِيهِ عادِيةٌ
عن المُضِيِّ ولا يُضْفِيه إعصارُ
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خير الورَى، كما أمرَكم بذلك ربُّكم - جل وعلا -، فقال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
صلَّى عليك اللهُ يا علَمَ الهُدى
ما ناحَ طيرٌ أو رفَّت الأشجارُ
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيد الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين: نبيِّنا وقُدوتنا وحبيبِنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، والأئمةِ المهديين ذوي الشرفِ العلِيِّ، والقدرِ الجلِيِّ: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمانَ، وعليٍّ، وارضَ اللهم عن سائر أصحاب نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعن الطاهرات أمَّهات المُؤمنين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، واخذُل الطغاةَ والظالمين وسائرَ أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك.
اللهم وفِّق المُسلمين لنُصرة دينك، ونُصرة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - يا رب العالمين.
اللهم إنا نبرأُ إليك ممن استَهزؤوا بدينك، وأساؤُوا لنبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم عليك بالشانئين المُغرِضين المُتنقِّصين لجنابِ حبيبِك وخليلِك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم إنك قلتَ - وقولُك الحق -: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 95]، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 3]، اللهم فانتقِم لحبيبِنا وقُدوتنا ممن أساء إليه، واستهزأَ بجنابه، وسخِرَ بأتباعه وأحبابِه.
إنا لنعلمُ أن قدرَ نبيِّنا
أسمَى وأن الشانِئينَ صِغارُ
ما نالَ منك مُعانِدٌ أو شانِئٌ
بل منه نالَت ذِلَّةٌ وصَغارُ
لكنَّه ألمُ المُحِبِّ يزيدُه شرفًا
وفيه لمن يُحبُّ فَخارُ
اللهم خُذ بأيدي المُسلمين للأفعال الحكيمة، وجنِّبهم رُدودَ الأفعال العَنيفة، واكفِهم شرَّ استِفزازاتِ أعدائِهم يا حيُّ يا قيُّوم، يا حيُّ يا قيُّوم، يا حيُّ يا قيُّوم برحمتك نستغيثُ، فأصلِح لنا شأنَنا كلَّه ولا تكِلنا إلى أنفُسِنا طرفةَ عينٍ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأدِم الأمنَ والاستقرارَ في دِيارِنا، وأصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه.
اللهم وفِّق نائبَ خادم الحرمين الشريفين لكلِّ خيرٍ، اللهم وفِّقهم وإخوانَهم وأعوانَهم إلى يه صلاحُ البلاد والعباد.
اللهم أصلِح حالَ إخواننا المُسلمين في كلِّ مكان، اللهم أصلِح شأنَ إخواننا المُسلمين في كلِّ مكان، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهايِنة المُعتدين، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من براثِن الصهاينة اليهود المُعتدين.
اللهم كن لإخواننا في سوريا، اللهم كن لإخواننا في سوريا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم طالَ ليلُ ظُلمهم، ففرِّج عليهم بإصباحٍ فيه النصرُ للإسلام والمُسلمين يا رب العالمين.
اللهم انتقِم من الطُّغاة الظالمين المُفسِدي يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كن لإخواننا في بُورما وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا وجميع المُسلمين والمسلمات، الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
سُبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عمَّا يصِفُون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 09-25-2012 12:38 AM

نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم .. كيف تكون؟
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 5 ذي القعدة 1433هـ بعنوان: "نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم .. كيف تكون؟"، والتي تحدَّث فيها عن عظمة أنبياء الله ورسله، وأعظمهم خاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم -، وذكرَ ما تعرَّض أعداء الإسلام بالإساءة لمقام النبي - عليه الصلاة والسلام -، وبيَّن الواجبَ على كل مُسلمٍ تجاه مثل تلك الأفعال الرَّعناء بضرورة استِغلالها وعدم تشويه صورة الإسلام ونبيِّه والمُسلمين.

الخطبة الأولى
الحمد لله المُتفرِّد باسمِه الأسمَى، المُختصِّ بالمُلكِ الأعزِّ الأحمَى، ليس دونه مُنتهى ولا وراءَه مرمَى، وسِع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأسبغَ على عباده نِعمًا عُمَّى، وبعثَ فيهم رسولاً من أنفُسِهم أنفَسُهم عُرْبًا وعُجمًا، والحمدُ لله كثيرًا كما يُنعِمُ كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه أرجحُ الخلائقِ عقلاً وعلمًا وحلمًا، وأزكاهُم نفسًا وفهمًا، زكَّاه ربُّه روحًا وجسمًا، وحاشاه عيبًا ووصمًا، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالتقوى - أيها الناس - التقوى؛ لازِموها سرًّا وجهرًا، وأعِدُّوا لما يُنجِيكم يوم العرضِ على الله، فكلُّنا إليه صائِرون، وليس ثَمَّ سِوى حضرةِ النعيم، أو عذاب الجحيم، والمُوفَّق من استنقَذَ مُهجَتَه، وأعدَّ للأمر العظيم عُدَّتَه، جبَرَ الله صدعَ قلوبنا، وغفرَ عظيمَ ذنوبنا، وهدانا لما يُنجِينا من عقابه، ويُقرِّبُنا زُلفَى إلى رحمته وبابِه.


أيها الناس:
البِقاعُ والبشر، والكتب والكلِم قد تتساوَى في أصلِها المُجرَّد، فإذا أُضِيفَت فإنها تكتسِبُ قيمتَها من قيمة ما أُضيفَت إليه، وأعظمُ وأجلُّ وأخطرُ إضافةٍ هي الإضافةُ إلى الله الأعظم؛ فكتبُ الله تاجُ الكتب، وبيوتُ الله أطهرُ البيوت، وكلامُ الله أعظمُ الكلِم، ورُسلُه هم غُرَّة البشر وزينةُ الدنيا.
اصطفاهم الله خيارًا من خِيارٍ، وعصَمَهم قبل النبوَّة وبعدها، وتمثَّلَت كمالات البشر في ذواتِهم، وسُمُوُّ الإنسانية في أرواحهم، وأقومُ السُّبُل في هداياتهم.
رُسُل الله وأنبياؤُه هم خيرُ من وطِئَ الثَّرى، وأكرمُ وأبرُّ الورَى، لا سبيلَ للجنة إلا بطاعتهم، ولا نجاةَ من النار إلا بتصديقهم، ولا وصولَ إلى الله الأجلِّ الأكرم إلا بإرشادِهم. عظمةُ الرسول من عظمةِ من أرسلَه، وتكريمُه من تكريمِ من بعثَه، ومقامُهم عند الله عظيمٌ.
وإن اللهَ يغارُ على أنبيائه ويُدافِعُ عنهم، كم من أُمم أُبيدَت بدعواتِ أنبيائِها عليها، وكم من ديارٍ قُلِبَت وصُعِقَت ورُجِفَت بسبب تكذيبهم لرُسُلهم واستِهزائهم بهم، وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[الأنعام: 10].
وما زالَ الأنبياءُ والرُّسُل لهم المكانةُ العُظمى في الشرائع والرسالات، كلما جاء رسولٌ صدَّق الرسولَ الذي قبلَه، وبشَّر برسولٍ بعده، واجتمعَت بشاراتُ الرُّسُل لأقوامهم برسولٍ يأتي من بعدهم اسمُه: (أحمد)، هو خاتمُهم وإمامُهم، وفي الخير مُقدَّمُهم، وإن كان آخرَهم في الزمان - صلى الله عليه وصلَّى على أنبيائه ورُسُله وأتباعهم أجمعين -.


أيها المسلمون:
تقصُر العباراتُ والمدائحُ، وتغيضُ المعاني والقرائِح أمام عظمة النبي الكريم والرسول العظيم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشميِّ القُرشيِّ العربيِّ، ولن تبلُغ شأوَه المنابِر، ولن تُوفِيَ قدرَه المحابِر. وليست السيرةُ الشريفةُ بحاجةٍ إلى تعريفٍ؛ فالقدرُ عالٍ والشأْوُ مُنيفٌ.
كيف ترقَى رُقِيَّك الأنبياءُ
يا سماءً ما طاوَلَتها سماءُ
أيها الناس:
إن العالَم من أزَله إلى أبَده لم يعرِف بشرًا مُصفَّى المعدِن، زكِيَّ السيرة، بهِيَّ الخلائق، صلبَ الجهاد، شديدَ التعلُّق بربِّه مثلَ ما عرَفَ في النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
ولم يعرِف العالَمُ إنسانًا شقَّ طريقَ الكمالِ، ومهَده للناس تمهيدًا، ودعاهُم إليه أحرَّ دعوةٍ، وشرحَ معالِمَه لهم أرقَّ شرحٍ، وتحمَّلَ في ذات الله ما لم يتحمَّل أحدٌ مثلَ ما عرَفَ عن النبي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
وقد يعرِفُ طرفًا من عظمة هذا الرسول العظيم من درَسَ فلاسِفة الأخلاق والاجتماع، وساسَةَ الشعوب، وقادةَ الجيوش، ومُؤسِّسي الحضارات والدول، فإذا فرغَ من هذا الدرسِ المُستوعِبِ لعُظماء الأرض، وانتهى من استِعراضِه لمُبرِّزين من قادَة البشر وقفَ بكلِّ ما لديه أمام أمجاد الإنسان الكامِل: محمدِ بن عبد الله، ليرى أن عباقِرة الأرض تلاشَوا في سَناه، وأن آثارَهم تضاءَلَت أمام هُداه، وأن امتيازَهم على أقرانِهم تحوَّل صفرًا أمام شمس النبوَّة الطالِعة وهالتِها الرائِعة.
إن حقيقةَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوق ما يصِفُ الواصِفون، والأيادي التي أسدَاها تجعلُ كلَّ مُؤمنٍ مدينًا له بنورِ الإيمان الذي أضاءَ نفسَه وزكَّاها، وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ[الشورى: 52، 53].
إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - جاء في أعقابِ نُبوَّاتٍ أعقبَ الشيطانُ ثمارَها، وكانت بعثتُه كلمةَ السماء الأخيرة، فكانت ضمانًا يمنعُ العِوَج، ويقِي من الانحراف، لتصُونَ مُستقبَلَ الإنسانيَّة الطويل، وفي القرآن الكريم: تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ[النحل: 63، 64].
لقد وُجِدت دياناتٌ مُفتعلَة، ومُعتقَداتٌ نسبَت إلى الله ما لا يليقُ، وقوَّلَته ما لم يقُل، وبلغَ من رُسوخ هذه وتلك انها قاوَمَت الحقَّ أشدَّ مُقاومةٍ لما جاءَها، ولم يكسِبِ العالَمُ منها إلا الشقاءُ، لذلك قال الله - عز وجل -: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ[الزمر: 32- 34].
إن بعثةَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - كانت ميلادًا للحق في أبهَى صُوره وأزهى أشعَّته، وكان شُرُوقُ هذا الحقِّ إيذانًا بزوالِ الحيرَة السائِدة والشقاء المُخيِّم.
لقد جاء الإسلام ليُعلِنَ عن إلهٍ واحدٍ خلقَ كلَّ شيءٍ، وتنزَّه عن مُشابهة كل شيءٍ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[الشورى: 11، 12].
والتوحيدُ المُطلقُ هو الحقُّ الذي غالَى به الإسلام، وبسَطَ آياته في كل أُفُق، لقد كانت بعثةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنقاذًا من هذا الإلحاد وعواقِبِه الشائنة، ورفعًا ودفعًا للظلم واستِعباد الإنسان للإنسان، وتلك أولَى آيات الرحمة العامَّة التي بُعِثَ بها صاحبُ الرسالة العُظمى، يلِي ذلك العملُ والسلُوكُ؛ فإن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى الاجناسِ كافَّةً بدينٍ يأمُرُهم بالمعروف، وينهاهُم عن المُنكَر، ويُحِلُّ لهم الطيبات، ويُحرِّمُ عليهم الخبائث. إن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - صناعةٌ إلهيَّةٌ لم تتكرَّر، فسُبحانَ من أبدعَ محمدًا.
أيها الناس:
وليس المقامُ اليوم مقامَ إحاطةٍ بمكانةِ الرسُل وفضلِ خاتمهم - صلى الله وسلم عليهم أجمعين -، ولا إثباتًا لصِدقِ نُبُوِّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وصحَّة رسالتِه؛ فهذا مما لا يٌجادِلُ فيه إنسانٌ يحترِمُ عقلَه، وقد توافَرَت اليوم أسبابُ المعرفة بطرقٍ هائِلةٍ. ولكن ثمَّةَ وقفاتٍ وإشاراتٍ حول ما شغلَ الناسَ من إساءةٍ لجَنابِ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ومَساسٍ بديننا الخاتِم مما جاشَ في الصدور، وغلَت منه القلوبُ كما تغلِي القدور، ولا خيرَ في أمةٍ تُؤذَى في نبيِّها فلا تغضَب، ولا خيرَ في غضبةٍ لرسول الله تُؤدِّي إلى غضبٍ من الله ورسوله.
ويستحيلُ أن يحقِدَ على محمدٍ رجلٌ له ثقافةٌ مُحترمةٌ أو عقلٌ بصيرٌ. لماذا يحقِدُ عليه؟! ألِأنَّ كتابَه يصِفُ الخالقَ الأعلى فيقول: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ[البقرة: 255].
محمدٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم وبارَك - بأبي هو وأمي ونفسي - يتبَعُه اليوم مليارٌ وخمسمائة مليون من البشر أو يزيدون، هو أحبُّ إليهم من أنفُسهم وأموالهم وأولادهم والناس أجمعين، أنفُسهم لنفسَه فِداء، وأعراضُهم لعِرضِه وِقاء، كلُّهم يقول بقولِ حسَّان:
فإنَّ أبي ووالدَه وعِرضِي
لعِرضِ مُحمَّدٍ منكم وِقاء
وسُؤالٌ لمُدَّعي الحُرِّياتِ: لمصلَحةِ مَن تُثارُ هه النَّزَغات؟! ولمصلَحةِ مَن تُصادَمُ الحضاراتُ والثقافات؟! ومتى كانت حُريةَ التعبير تعنِي العُدوانَ بلا حدودٍ أو قيودٍ؟!
ألا فأين حُرية التعبير عند إنكار مذبَحة اليهود قبل عقود والتي فرَضَتها السياسةُ أكثرَ من حقائق التاريخ؟! لن يجرُؤ فردٌ في العالم أن يُنكِرَها أو يُشكِّك فيها حتى تُلاحِقَه مُنظماتُ العالَم وحُكوماتُه ومحاكِمُه وساسَتُه، اما الرسولُ العظيمُ محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فالحديثُ عنه مُباحٌ، وحريةٌ يكفَلُها القانون! ما لكم كيف تحكُمون؟!
إن على السَّاسة وصُنَّاع القرار أن يُدرِكوا أن رُدودَ أفعال الشُّعوب طوفانٌ لا يُمكِن ضبطُه، وجحيمٌ مُتفجِّرٌ لا يُمكِن توقِّيه، وربما أفلَت الزِّمامُ، فلا كلمةٌ تُسمَع، ولا حِكمةٌ تنفَع، وبخاصَّةٍ إذا اُهينَت الأمةُ في رمزِها المُقدَّس.
لذا على الحُكماء منعُ السُّفهاء، وعلى السَّاسة منعُ الذين يُشعِلون الحرائِق، ولن يقبَلَ أحدٌ في دينه عُذرًا.
إننا نُنادي بالحوار والتفاهُم والتسامُح، ولكنَّ هذا كلَّه لا يُجدِي إذا بقِيَ أولئك الناسُ يتوارَثون إحَنَ القُرون، ويطوُونَ أفئِدَتهم على بغضاء لا قرارَ لها نحو الإسلام ورسوله وأمَّته.
أين القانون الدولي والمُعاهدات الدولية التي تُجرِّمُ الدعوةَ إلى الكراهية والتمييز العُنصريِّ، وبخاصَّةٍ حين تُشكِّلُ تحريضًا مُباشِرًا على العُنف؟!
إننا نُطالِبُ العالَمَ الذي يدَّعِي بمجموعه وضعَ الضوابِط لحماية الجميع أن يُصدِرَ ميثاقَ شرفٍ، ويسُنَّ قانونًا مُلزِمًا يُحرِّمُ ويُجرِّمُ الإساءَة للأنبياء والرُّسُل، ورسالاتهم السماوية.
وقد نادى بذلك خادمُ الحرمين الشريفين في كل محفلٍ، وسعى إلى مدِّ جسورِ الحوارِ بين أتباع الديانات السماوية، والثقافات الإنسانية، حتى تكون العلاقةُ بين أُمم الأرض مبنيَّةٌ على أُسس التعارُف والعدالَة والمرحمة، ويتحوَّل العالمُ من صِدام الحضارات إلى حوارِ الحضارات، والدعوةِ إلى الحقِّ بلا صدٍّ ولا تشويهٍ، فهذا مبدؤُنا مبدأُ الإسلام، فيه احترامُ الأنبياء كلِّهم، والإيمانُ بهم كلِّهم، واتباعُهم، ونشرُ الخير والأمن والسلام.
وفي وصفِ الله لنبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
باركَ الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفَعَنا بما فيهما من الآياتِ والحكمة، قد قلتُ ما أسلَفتُ، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَكَ عليه، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
عباد الله:
قيل لأحد السَّلَف: إن فلانًا اغتابَك. قال: "لقد رماني بسَهمٍ لم يُصِبني، حتى جئتَ أنت وحملتَه إليَّ".
فأنبياءُ الله - عليهم السلام - لم يزَالوا يُؤذَون ويُستهزَأُ بهم وبأتباعهم، ويحدثُ هذا في كلِّ عصرٍ ومصرٍ، وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[الحجر: 11].
ولئن بدَا ذلك من أدنى البشرية قَدرًا وأسوأهم حظًّا في الدَّارَين فإن الواجبَ على من سمِعَ بشيءٍ من ذلك ألا بنشُرَه ولا يحدِثَ به إلا لذِي سُلطةٍ قادرٍ يمنَعُ المُتجاوِزَ.
ولقد ضاعَ شِعرُ المُشركين في هِجاء سيد المُرسَلين مع كثرته وتغنِّي القٍيان به، وماتَت تلك القصائِدُ في حينها حين لم يحفَل بها المُسلِمون ولم يتداوَلُوها بينَهم، ولم يعُد لأكثرها ذِكرٌ في دواوين الشِّعر وأخبار العرب.
دينُكم - يا عباد الله - ظاهرٌ، ونبيُّكم مكفيٌّ ومنصورٌ، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[التوبة: 33]، ولن يلحَقَ مقامَ الأنبياء شيءٌ لتطاوُل مُلحِدٍ سفيهٍ أو كافرٍ مخذولٍ، والله تعالى يقول: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 95].
فمقاماتُ الأنبياء محفوظةٌ، وأقدارُهم عزيزةٌ مصُونةٌ، وإنما المُتطاولُ هو المسكينُ الخاسِر، إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 3].
ولعلَّ في هذا مرهمًا لنفوس المكلومين، وترطيبًا لقلوب المُؤمنين الغَيورين، ترشيدًا لغيرتهم المشكورة، ونُصرتهم المأجورة.
أيها المُسلِمون:
في حادِثة الإفك المشهورة قال الله - عز وجل -: لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ[النور: 11]، وفي حادِثة هذه الأيام هاجَت مشاعِرُ طالَما كانت بارِدةً في نفوس بعضِ المُسلِمين، التفَتَت أنظارٌ غيرُ مُسلِمةٍ لهذا الدين ونبيِّه الكريم، وحرَّكَت ماءًا راكِدًا لدى المُسلمين وغيرهم.
ولو أحسنَ المُسلِمون استِغلالَ هذه الحادِثة لكان بها فتحٌ وعِزٌّ، وإن أساؤُوا التعامُل معها صارَت نكسةً وتنفيرًا.
إن الخيريَّةَ الموصوفة بها هذه الأمة خيريةٌ مطلقةٌ لا تتجزَّأ، فيجبُ على المُسلمين إظهارُ خيريَّتهم في رُدود الأفعال؛ فليس من الخيريَّة قتلُ الأبرياء، وتدميرُ المُمتلكات، ولا الغوغائية في التعاطِي مع الأحداث.
ولو أظهرَ المُسلِمون زيادةً في التمسُّك بهَديِ نبيِّهم واقتِفاءِ أثره، ونشرِ سِيرتِه والتعريفِ به؛ مُستَفيدين من المواقع العالمية للتواصُل - كما فعلَ كثيرٌ من المُسلمين مشكورين - لكان هذا أبلغَ ردٍّ على المُتطاولين، ولبادَرَ خُصومُهم لمنعِ تكرارِ الإساءَة لما يُشاهِدونَه من نشاطٍ دعويٍّ مُضادٍّ؛ فإن هذا الردَّ هو الأنكَى لمن أساء، وهو مُعاملةٌ بنقيضِ القصد.
أما الانجِرارُ وراء كل من يُريدُ بهذه الأمةِ شرًّا إما بإشغالِها عن حالِها الذي ابتُلِيَت به في هذا الزمان، أو لاستِفزاز الجالِيات المُسلِمة في بلاد الغربِ إلى أفعالٍ غير مسؤولةٍ ليُبرِّؤوا بها طردَهم، كما تُنادِي الأحزابُ اليمينيةُ في تلك البلاد، أو لتكون تلك الأفعالُ مُبرِّرًا لمنع ومُحاصَرة كل نشاطٍ دعويٍّ في بلاد الغرب، بعدما أحسُّوا بأن الإسلام حاضِرٌ في كل زوايا بلادِهم، وأن المُستقبَل له.
إن على المُسلمين أن يُدرِكوا أنهم ليسوا في حاجةٍ إلى حوادِث جديدةٍ ينحسِرُ بها مدُّ الإسلام وتضيعُ مكاسِبُه. إن على المُسلمين أن يكونوا على مُستوى من الوعي والنُّضج، وألا تتكرَّر الأخطاءُ، وإن الحياةَ للإسلام أوقعُ على خُصومه أحيانًا من الموت له.
إن نُصرةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا تعنِي الخروجَ عن سُنَّته، ولا عملاً يُخالِفُ هديَه، إن حادثةَ الإساءة يجبُ ان تزيدَ الأمةَ تمسُّكًا بدينها، وحمِيَةً لنبيِّها، وعودةً لاتباع سُنَّته في الرضا والغضب، والضعف والقوة، فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ[الروم: 60].
اللهم صلِّ على الرحمة المُهداة، والنعمةِ المُسداة، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، وجازِه بالخير على نُصرة قضايا المُسلمين، وسعيِه لتوحيد صفِّهم وجمع كلمتِهم، وموقفه الحازِم لمنع كل الروابط والمواقع المُوصِلة إلى نبيِّنا الكريم، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَلهم مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم وفرِّج عنهم كربَهم، اللهم وفرِّج عنهم كربَهم.
اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماك بهم يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم أنزِل بهم بأسَك ورِجزَك إلهَ الحق.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنةَ نبيك وعبادَك المؤمنين، اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمَعهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم انتصِر للمظلومين في بُورما، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح أحوالَهم، وكُن لهم يا رب العالمين، ويا أرحمَ الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وذُريَّاتهم وأزواجنا وذُرِّياتنا، إنك سميعُ الدعاء.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 10-03-2012 09:21 AM

من وصايا القرآن الكريم
[color="rgb(139, 0, 0)"]ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 12 ذي القعدة 1433 هـبعنوان: "من وصايا القرآن الكريم"، والتي تحدَّث فيها عن الحضِّ على التدبُّر والتفكُّر في كتاب الله تعالى والعمل بما فيه، وذكرَ وصيةً من وصاياه، وهي: تحكيمُ الشريعة المُطهَّرة وعدم اتباع أهواء المُشركين والمُخالفين.


الخطبة الأولى

الحمد لله يهدي من يشاءُ إلى صراطٍ مُستقيم، أحمده - سبحانه - على فضله العَيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له البرُّ الرؤوف الرحيم، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله صاحبُ النهج الراشدِ والخُلُق العظيم، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكُروا أنكم مُلاقوه، موقوفون بين يديه؛ فالسعيدُ من أعدَّ لهذا الموقف عُدَّتَه، مُتزوِّدًا بخير زاد، سالِكًا إلى الله كلَّ وادٍ، كادِحًا إليه من كل طريقٍ، مُبتغِيًا إليه الوسيلةَ بكل قولٍ وعملٍ، راجِيًا منه القبولَ والمغفرةَ والرضوان.
أيها المسلمون:
فيما جاء من عِظات القرآن ووصاياه من الهداية للتي هي أقوم، والدلالة إلى سبيل السعادة في العاجِلة، والفوز والحَظوة برضا الربِّ الرحيم ونزول رفيع الجِنان في الآجِلة ما يبعثُ المُوفَّقين أُولي الألباب عل إدامة التفكُّر في آياته، ومزيد التدبُّر لمعانيه، والكشف عن أسراره؛ استِجابةً لأمر الله القائل: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29].
ومما جاء في هذا الكتاب المُبارَك: ذلفك الحديثُ الضافِي عن فضل هذه الشريعة المُحمدية المُبارَكة، وكونها الحق الذيب لا يجوزُ العُدولُ عنه، ولا استبدالُ غيره به من أهواء الذين لا يعلَمون.
وإذا كانت الأهواء أسوأ مُتّبع، وأقبَح مُطاع، وأضلَّ دليلٍ؛ فكيف بأهواء الذين لا يعلمون، وهم الجاهِلون بالحق، الضالُّون عن سبيلِه، العامِلون بضدِّه من المُشركي أهل الجاهلية وغيرهم ممن نهَجَ نهجَهم، وارتضَى طريقتَهم في أعقاب الزمن، إن اتباعَ أهوائهم ليس طريقًا إلى الفشل والخُسران فحسب؛ ولكنه مع ذلك دليلٌ بيِّن على سُوء اختيار المرء لنفسه وفَداحة غبنِها.
فإن هؤلاء الجاهلين بالحق العامِلين بالباطل لن يُغنوا عمن اتبع أهواءَهم من الله شيئًا حين يُعرَضون عليه يوم القيامة، ولن يرُدُّوا عنه غضبَه وعقابَه وأليمَ عذابه.
وهم أيضًا لا يملِكون أن يضُرُّوا غيرَهم شيئًا، كما قال - عزَّ اسمُه - مُخاطِبًا أشرفَ خلقه - صلوات الله وسلامه عليه -، آمرًا إياه باتباع هذه الشريعة المُبارَكة وتحكيمها، والمُداومة على ذلك، مُحذِّرًا إياه من اتباع هذا الفريق: ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ [الجاثية: 18، 19].
بل إن هؤلاء الجاهلين لَيُعلِنون البراءة ممن اتَّبَعهم وانساقَ لأهوائهم، كما أخبرَ - سبحانه - عنهم بقوله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ [البقرة: 166] أي: الصِلاتُ التي ارتبَطوا بها في الدنيا من القرابَة والدين والمصالح وغير ذلك.
مثلُهم في هذا: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر: 16].
ولا يقِفُ الشيطان معهم عند هذا الحد؛ بل يزيدُ عليه توجيهَ اللوم والتقريع تبكيتًا تعظُم به الحسرة، وتشتدُّ به الندامة، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22].
إنهما - يا عباد الله - سبيلان لا ثالث لهما، فإما هُدى الله ودينُه وشرعُه، وإما أهواءُ الذين لا يعلمون؛ فأيُّ السبيلَين يسلُك اللبيبُ الناصِحُ لنفسه المُريد الخير لها؟ وإلى أي الوجهتَين يُولِّي وجهَه؟
ل ريبَ أن هُدى الله هو الهُدى، وأن دينَه هو الدينُ الحق الذي لا يقبَل من أحدٍ سِواه، وأن صراطَه هو الصراطُ المُستقيم المُوصِلُ إلى رَضوانه ونزول رفيع جِنانه، وأن اتباعَ غيره ما ه إلا اتباعٌ للأهواء التي حذَّر الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - منها مُبيِّنًا له أن اتباعَها ظلمٌ مُبينٌ للنفس: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 145].
وأمرَه أن يُبيِّن لهم أنه - سبحانه - قد نهاه عن بادة ما يعبُدون من دون الله من أوثان، وأنه لو اتبَع أهواءَهم بعبادتها لكان عاقبةَ ذلك الضلالُ عن صراط الله المُستقيم، قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الأنعام: 56].
كما بيَّن له أنه - سبحانه - أنزل إليه هذ الكتابَ بالحق ليحكُم بين الناس بحُكم الله الذي أنزلَه فيه، ونهاه أن يتَّبِع أهواء أهل الكتاب الذين جاؤُوه مُحتَكمين إليه، وحذَّرَه أن يفتِنوه فيصُدُّوه عن بعض ما أنزلَ الله إليه من حُكم كتابه فيحمِلوه على ترك العمل به، واتباع أهوائهم، فقال - عزَّ اسمُه -: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ [المائدة: 49].
ولما أمرَه بدعوة الناس كافَّةً إلى الاستِمساك بدينه الذي شرعَه لأنبيائه كافَّةً ووصَّاهم به، وبالاستقامة والثبات عليه، قرَنَ ذلك بالنهي عن اتباع أهواء المُشركين به الضالِّين عن سبيله، فيما اختَلقوه وافتَروه من عبادة غيره - سبحانه - وما أعرَضوا به عن هُداه، فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ [الشورى: 15].
فاتقوا الله - عباد الله -، واستمسِكوا بما جاءَكم من ربكم من البيِّنات والهُدى، وحذارِ من اتباع الأهواء حذارِ؛ فإن اتباعَها أصلُ الضلال، وسبيلُ الزيغ، وطريقُ الخيبة في الدنيا، وسببُ الخُسران المُبين في الآخرة.
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
جاء في بيان فضل هذه الشريعة المُحمدية المُبارَكة وآثار تحكيمها في حياة الناس: قولُ بعض العلماء: "إن في شريعة الإسلام وتحكيمها صلاحَ المُجتمعات؛ فهي العدالةُ الحقَّة التي لا جَورَ فيها ولا ظلمٌ، وما ضاقَت هذه الشريعةُ عن بيان حكم أي مسألةٍ من مسائل شُؤون الحياة، ولا وقَفت في سبيل مصلحةٍ أو ريق عدالةٍ؛ بل تضمَّنَت كلَّ مصلحةٍ أو عدالةٍ ووسِعَت مصالحَ الناس على اختلاف أجناسِهم وأزمانهم.
لقد كانت الدولةُ الإسلامية في عُصورها الأولى تمتدُّ رُقعتُها من بلاد الصين شرقًا إلى المغرب الأقصَى غربًا، وكانت رايةُ الإسلام تخفِقُ على جميع ممالِكها المُخلفة التي ضمُّ أجناسًا مُتباينةً من البشر في الأجناس والعبادات والعادات.
فنظَّمَت الشريعةُ بدولتها الإسلامية شُؤونَ هذه الأمم والشعوب على أحسن نظامٍ وأدقِّه وأعدله، وكلما فتحَ الله على المُسلمين بلادًا أو أقاليم أو استجدَّ فيها أشياء ونوازل لم تُعهَد قبل ذلك أوجدَ علماءُ الشريعة باجتِهاداتهم واستِنباطاتهم من الكتاب والسنة ما يُقدِّم الحلولَ لجميع المُشكلات، ولم يقصُروا عن تحقيقِ مصلحةٍ، أو يصطدِموا بأي وسيلةٍ تهدِفُ إلى غرضٍ سامٍ يُحقِّقُ مصلحةً عامَّةً خاليةً من الجَور والظلم.
لقد عاشَ مع المُسلمين وتحت ظلِّهم أناسٌ لم يدينوا بالإسلام فشمِلهم عدلُه، ووسِعَتهم شريعتُه، فلم يظلِمهم ولم يهضِم حقوقَهم؛ بل كان خيرًا لهم، وأرحمَ بهم من كثيرٍ ممن ولِيَ أمرَهم من أهل دينِهم وبني جِلدتهم".
فاتقوا الله - عباد الله -، واجعَلوا من استِمساككم بهذه الشريعة المُبارَكة وتحكيمها والعمل بما جاءت به خيرَ دعوةٍ تدعُون بها إلى دين الإسلام، وتُرضون بها ربَّ الأنام.
وصلُّوا وسلِّموا على خير لق الله مُحمَّد بن عبد الله؛ فقد أُمرتُم بذلك في كتاب الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمُسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد يا مَن إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شئتَ، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم، اللهم إنا نجعلُك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي فيها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ. اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها. اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك. رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيك آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم إنا نسألك فعلَ الخيرات، وتركَ المُنكرات، وحبَّ المساكين، وأن تغفِر لنا وترحمَنا، وإذا أردتَ بقومٍ فتنةً فاقبِضنا إليك غيرَ مفتونين. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

[/color]

ابوحاتم 10-09-2012 10:32 AM

[COLOR="Re
حماية جناب الإسلام
d"]

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة19ذي القعدة 1433هـ بعنوان: "حماية جناب الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن الإسلام وما يتعرَّض له هذه الأيام من حملاتٍ شرسة واستِهزاءٍ وسُخريةٍ، وقد وجَّه كلامَه بضرورة اتخاذ الإجراءات الدوليَّة لحماية جناب الإسلام وعِرض الرسول - عليه الصلاة والسلام -، وأشادَ بالتحرُّكات الإيجابيَّة في نُصرة سُنَّة سيد البشريَّة - صلى الله عليه وسلم - من خلال توسِعة الحرمين الشريفين.

ا
لخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله حمدًا لا يُدانَى ولا يُضاهَى، تبارك ربًّا وجلَّ إلهًا، أحمده - سبحانه - خصَّنا بشريعةٍ عمَّ الإنسانية سَناها، وأشرقَ بالرحمات الصيِّبات دُجاها.
فالحمد لله حمدًا لا نفادَ له والشكرُ لله في بدءٍ ومُختَتمِ
فلا تُعدُّ ولا تُحصَى محامِدُه ولا تُقاسُ بمنثورٍ ومُنتَظَمِ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُبلِغُ النفوسَ هُداها وتُقاها، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله جلَّى مُحكمات الحقِّ وأبانَ ذُراها وصُواها، اللهم يا ربَّنا فصلِّ وسلِّم وبارِك عليه المبعوث للعالمين رحمةً مُهداة، ونعمةً مُسداة، جلَّت خصائصُها ومزاياها، وآله وصحبِه الأُلى بلَغوا من الأمجاد مُنتهاها، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.


أما بعد، فيا عباد الله:
خيرُ ما يُوصَى به سرًّا وإعلانًا، جُموعًا ووحدانًا: تقوى الإله ربِّنا ومولانا؛ فتقواه - تبارك وتعالى - مِشكاةُ الأنام في الدجِنَّة، ومرقاةٌ لأعالي المنازلِ في الجَنَّة، وبُرهانٌ للاستقامة ومئِنَّة، وإنها - وايْمُ الحقِّ - خيرُ الزاد للقلوب المُطمئنَّة، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ [البقرة: 197].
أهلُ التُّقى أبدًا عِزٌّ ومفخرةٌ من جدَّ في السيرِ يُدرِك ما تمنَّاهُ
حيِّ الخِصالَ مع التقوى إذا اجتمعَت ذاك الجمالُ الذي قد سرَّ مرآهُ
أيها المسلمون:
في خِضمِّ أمواج الفتنِ العاتِية، والتحديات الغاشِية، واستِفزازاتِ الحريات القاتِمة العاشِية، وخلخلةِ الوشائجِ الإنسانية الراسِية؛ لزِمَ إيضاحُ مقاطع الحق الذي دعَت إليه شرائعُ ربِّ البريَّات، فقامت على أصولها شُمُّ الحضارات، وبسَقَت على أطنابِها الأُممُ الباهِرات، والمُجتمعاتُ الزاهِرات، استِدناءً من دلالات الخير والسداد، واستِكناهًا لمعاني التعايُش الإنساني بين العباد، المُضمَّخ فحواه بعبير الحقِّ التِّبهاج، المُوشَّى مرآه بالوِئام الوهَّاج.
أيها المؤمنون:
من أجلَى خصائص شريعتنا الإسلامية الزكيَّة: جمعُها جوهرَ الشرائع السماوية، وخُلاصةَ الرسالات الإلهية التي تبني أمجادَ المُجتمعات الإنسانية، وشوامِخَ الحضارات العليَّة، ولُبابَ القِيَم السنِيَّة، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
فهي رسالةٌ ربانيةٌ عالميةٌ، شمسُ الهُدى والحقيقة لكل البريَّة والخليقة، حتى غدَت من الأحداق بُؤبُؤَها، ومن الأصداف لُؤلُؤَها، في أزكى أرومةٍ وغِراسٍ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110].
وفي ضوء سَناها، ونور هُداها تسترِدُّ الإنسانيةُ المُضرَّجة المُعنَّاة في لفظِها ومبناها، وجوهرها ومغزاها بريقَ نقاوتها، وعِزَّ كرامتها؛ وذلك بانتِحاء تعايُشٍ دوليٍّ خيِّر، وشراكةٍ إنسانيَّة جازِمة تتغيَّؤُ المُحكمات والمُسلَّمات، والتكافُل الذي يُحقِّق حوار الحضارات وتكامُلها، لا صراعَها وتظالُمها.
دينُ السلام على البسيطةِ كلها دينٌ أقامَ العدلَ في ساحاتها
عدلٌ ومرحمةٌ وحُسنُ تعايُشٍ بين الشعوبِ على اختلافِ فِئاتِها
إن الذبَّ عن المُشترك الدينيِّ، والحثَّ على القاسم الإنسانيِّ: شريعةٌ مُحكَمة أمرَت بها الشرائعُ الإنسانيَّة، وكفَلَتها الدساتيرُ الأرضية، وما وُصِف القانون الدوليُّ بالإنساني إلا لاستِهدافه الإنسانيَّةَ في معناها التكريميِّ والقِيَميِّ والحقوقيِّ والتوافُقيِّ، وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: 70].
أيها المسلمون:
وهذه المُبادراتُ النديَّة، والمفاهيمُ الجليَّة تُبحِرُ بالإنسانيَّة في أمداء الحياة الآمِنة الأجمل، ومُستقبلها الوارِف الأكمَل؛ إذ ليس للمُجتمعات الإنسانية المُعاصرة الضارِبة في يَهْماءِ العُنجُهيَّة، والنظرات الذاتية والإقصائية، ليس لها بديلٌ عن الحوار والالتِقاء إلا التِّيه والعناء، إلا يفعلوه كانوا كالمَرْخ والعَفار، كلما احتكَّ أسفرَ اللهيبَ والنارَ، وباءُوا بالهُون والخَسار.
وليس لها دون مدِّ جُسور الثقة والائتلاف إلا التسافُكُ والاختلافُ، وما مآلُ التعايُش والاعتراف إلا النَّهَلُ من معينِ السلام والاغتراف، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13].

إخوة الإيمان:
ومن أعظم وأجلِّ القواسِم التي تهُبّ على الأمم بأطيَب النواسِم: عبادةُ الله وحده لا شريك له، والإيمانُ بجميع الأنبياء والرُّسُل - عليهم الصلاة والسلام -، وعدمُ التطاوُل على مقام أحدٍ منهم، يقول - جلَّ شأنُه -: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران: 64]. وتلك أعظمُ المناقِب، وأسمَى المراتب، ومُنتهاها صَفوُ الوِفاق، ومحضُ الاتفاق.
هذا، ولما تمرَّد فِئامٌ من المُجتمعات على أُصول الشريعة الربَّانيَّة، وهتَكوا الأعرافَ الدوليَّة، وتجرَّأوا بكل صفاقةٍ وفَدامةٍ دون ارعِواءٍ أو ندامةٍ، ونالوا - يا ويْحَهم - من جَنابِ رسول ربِّ العالمين، وقُرَّة عيون المُسلمين، بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -.
أمَا قرأتُم في التوراة هيئتَه ألم يُبشِّر به الإنجيلُ عندكمُ؟
أمَا علمتُم بأنَّ اللهَ ناصِرُه؟ يكفيه هُزءُ شرارِ الناسِ دُونَكمُ
لذلك وجبَ على الفورِ دون إمهالٍ أو تراخٍ: البِدارُ في غيرةٍ دينيَّةٍ ما لها انشِداخ لسنِّ القوانين والضمانات التي تُجرِّمُ دون مَيزٍ أو ثَنِيَّةٍ التطاوُلَ على الدين والشرائعَ السماويَّة، وثَلْمَ جنابِ النبوَّات والرسالات بالإفكِ والبَذاءات؛ تنكيلاً بالعابثين وإيلامًا، وتشريدًا لمن خلفَهم وإفحامًا، وتبيانًا للعالَمِ وإفهامًا، وأنَّ ذلك قدحٌ في قُدسيَّة رسالات الله كلِّها في أشخاصِ مُبلِّغيها من الأنبياء والمُرسلين - عليهم الصلاة والسلام -، كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285].
شاهَت وجوهُ الشانِئين وكُلِّ مَن قد خاضَ في العِرضِ الشريفِ ولاكَا


أمة الإسلام:
وتأكيدًا لمُحكمات التعايُش الإنسانيِّ الحضاريِّ، وإعلاءً لكلمتها، وتقويةً لشوكتها تحتَّم التوارُد على قيمةِ العدلِ بين العالمين، فبِه أمرَ الحَكَمُ العدلُ - سبحانه - في جميع الشرائع، لتحقيق أسمَى المعاني الحياتيَّة البدائع، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ [النحل: 90].
والتآلف على نبذِ الظلم والقهر؛ لأنه أصلُ البلايا والنِّقَم، ومسلَبَةُ الرخاء والنِّعَم، وهنا تتقصَّف الأقلام، ويصطرِخُ كلُّ أبِيٍّ هُمام، أين العدلُ على ثرَى فلسطين؟ أين بيارقُ العدل في سُوريا التي تجاوزَ فيها الظلمُ والطغيان ما يُعجِمُ اللسان ويُعجِزُ البيان، مجازرُ ودماءُ، ورُضَّعٌ تحت الدمارِ وأشلاء.
أين مُشتركُ الوفاءِ بالعهود والمواثيق، وإنه لآكَدُ العُرَى وأوثقُ الخصائص التي تبسطُ من العدل والتراحُم رُواقَه، وتُشِعُّ في الدُّنَى ائتلاقَه. فمتى استعانَت الأممُ بهذا القاسم الوثيق طاشَت هيبتُها في قعرٍ سحيقٍ، وعمَّها الفناءُ كهشيمِ الحريق.
إن الأُمم التي ترومُ السلام العالميَّ المنشود، وتبذُل للتصافِي الإنسانيِّ كلَّ الجهود لن تُدرِك أمنِيَها إلا بسَديد الأقوال، وشهيدِ الفِعال، المُجرَّدة عن كل اعتبارٍ ذاتيٍّ أو قوليٍّ، أو عنصريٍّ أو عِرقيٍّ، يُذكِي التعصُّب والكراهِية، ويُؤجِّجُ الصراعَ والعُنفَ والعُدوانيَّة.
بل إنما هو التسامِي الإنسانيِّ في أروع جماله الإحسانيِّ، وهل ينسى التعايُش الإنسانيُّ المنشود مأساةَ بُورما وأراكان، وهما يتجرَّعان من صُنوف الظلمِ والبُؤسِ كُؤوسًا دِهاقًا، ويُقلَدان من ألوان الاستِبداد الأرعَنِ أطواقًا، في تعتيمٍ إعلاميٍّ أغلَف، وتأهُلٍ دوليٍّ مُجحِف.
هو الإسلامُ ما أسخاهُ غيثًا لهذا العالَمِ الموبوءِ غدرًا
فلا صُفرٌ به تعلُو زُنوجًا ولا بيضُ الأديمِ تُبيدُ حُمرًا
فيا هؤلاء وأولئك! يا عُقلاء العالَم! يا شُرفاء الإنسانية! إننا نُناشِدُكم التصديَّ لكل من يُحاول المِساسَ بالرسالات السماوية والثوابت والرموز الدينية، أحيُوا العدلَ العالميَّ وانشروه، ودكُّوا التباطُؤَ والتصامُم وارمِسوه، يلتئِم عقدُ المُشتركات الإنسانية والحضارية، مُعتبِرين أنَّ إنسانيَّة الجميع رهينةُ الجميع؛ إعلاءً لشأن القِيَم الفاضِلة التي نهَلَ رادَةُ الحضارات ونحاريرُ المُبادرَات من نبعِ مكارمِها السَّلسال، وارتشَفوا من مَعينها الذي جرَى وسالَ.
يقول - عليه الصلاة والسلام - الرحمةُ المُهداة، والنعمةُ المُسداة -: «إنما بُعِثتُ لأتمِّمَ صالحَ الأخلاق»؛ أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"، وأحمد في "المسند".
وقد شهِد - عليه الصلاة والسلام - في دار عبد الله بن جُدعان حِلفَ الفضول، وبُرهانُه: إشاعةُ الخير والنعماء بين ذوي الخصاصَة من بني الغَبراء، والقضاءُ على المسغَبة والفقر والأسقام والأدواء، والأخذُ على يدِ الظالِم، ونُصرة المظلوم، وذلك مِعراجٌ لرعاية المُشتركات الإنسانيَّة حقَّ رعايتها، وحفظها في سُموِّ مكانتها.
وبعدُ:
فثمَّة ملحظٌ مهمٌّ - يا رعاكم الله -، ألا وهو: أنه متى أُسِّس التوافُق العالميُّ على المُساواة والمُماثَلة لا على الفوقيَّة والمُفاضَلة والكيلِ بمِكيالَين، وسِيسة القضاء المهمات والنوازل المُدلهِمَّات بقوَّة الحق المجلُوَّة، لا بحقِّ الأنا والقوَّة؛ كان لهذا التوارُد مِلاكُ الشموخ، ومِساكُ الثبات والرسُوخ، وسينطلقُ العالَمُ - بإذن الله - إلى أفياءِ المحبَّة والرحمةِ والوِئام، والإنسانيَّة الزاخِرة، بالتقارُب والاحترام والسلام؛ بل وما أجمل هنا بل سيُعظِّم العالَمُ رسالات الملكِ العلاَّم وأنبياءَه ورُسُلَه الكرام، وفي ذُؤابَتهم سيدُ الأنام: محمدُ بن عبد الله - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام -.
وحينئذٍ ستهتِفُ الدنيا: ما أروعَ الحق حين ينتصِرُ ويأتلِق، وما أجملَ السلام حين يسُودُ ويتدفَّق، وما أبهَى العدل حين يسُوسُ ويتفتَّق، وما أبدعَ الأمن حين يعُمُّ العالَمَ ويترقرَق، ويومئذٍ يسعَدُ الجميعُ بالعَيش في ظلِّ عالَمٍ يسُودُه الأمنُ والاعتِدالُ والسلام، وتُرفرِفُ على جَنباتِه راياتُ الخير والتسامُح والوِئام، ذاك الرجاءُ والأمل، ومن الباري - تبارك وتعالى - نستلهِمُ خالِصَ القول وصوابَ العمل، والعِصمةَ من الخطأ والزَّلَل، إنه جوادٌ كريمٌ.
بارك الله ولي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ؛ فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي لغفورٌ رحيمٌ.

الخطبة الثانية

الحمد لله، أسبغَ علينا نعمًا غامرةً عِظامًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تقدَّس إجلالاً وإعظامًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُجتبى من العالمين رسالةً ومقامًا، اللهم صَلِّ على نبيِّنا وحبيبنا وقُدوتنا وسيدنا محمدِ بن عبد الله، وآله البالغين من محبَّته السنامَا، وصحبه المُقتفين لسُنَّته التِزامًا واعتِصامًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ النيِّران وداما.
أما بعد، فيا أيها الناس:
اتقوا الله تعالى، واعلموا أن تحقيق نُصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - والوفاء: اتباع هدي الرسول المُصطفى دون غلوٍّ أو جَفا - عليه الصلاة والسلام - جهرًا أو خفَا.
إخوة الإيمان:
ومن غُرَر المكارِم والخِلال، والحِكمةِ المُكتنِزة بسَديد الردود ورواجِح الفِعال: ما تطرَّزت به حضارةُ الإسلام في هذا الأوان، وإلى مديد الأزمان، بمناقب الفضلِ والجودِ الهتَّان، في الدفاع عن نبيِّنا وحبيبِنا سيدِ ولد عدنان، وذلك بالخُطوات العمليَّة الحضاريَّة، والمشروعات الإنسانيَّة الإيجابيَّة.
ومن تلك النماذج المُشرِقة: إرساءُ أكبر وأفخَم وأعظم توسِعةٍ تأريخيَّة للحرم المكي المُنيف، ومسجدِ الحبيبِ المُصطفى النبويِّ الشريفِ، وهذا الردُّ الحضاريُّ الرشيدُ إنما مُتِح من الروح المُترَعة بحبِّ سيدِ البريَّة - عليه أفضلُ الصلاة وأزكى التحيَّة -، وتعظيمٌ لشأن الرسالات السماوية، وإنها لرسالةٌ للمُجتمعات الإنسانية جهيرةٌ ناطقة، لكنها بالرشاد والحنكَة والأناةِ وادِقة، ولآلِئُ تلك الرسالة: لن تطولوا قدرَ حبيبِنا، وهذه نُصرتُنا له الحقيقيَّة الحضاريَّة - لا الغَوغائيَّة - في أجلَى معانيها وأسمَى مبانيها.
إن هذه التوسِعات التي دبَّجَها الحبُّ الشَّفيفُ هي رحمةٌ للحُجَّاج والعُمَّار والزوَّار من قاصِدي بيت الله الحرام، ومسجدِ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، كي ينعَموا بأجواءٍ إيمانيَّةٍ فريدة، مِلؤُها السَّكينةُ الضارِعة، والأمنُ والطُّمأنينةُ الخاشِعة، دون نصَبٍ وزِحام، ومشقَّةٍ والتِدام.
وهذه التوسِعةُ ونظيرتها في المسجد الحرام المبرورةُ الشاسِعة المُترامِيةُ المكان - ولله الحمدُ والمنَّة - هي أسمَى ما يُتوَّجُ به شرفُ الزمان، في استِقبال طلائعِ حُجَّاج بيت الله الحرام الذين يتوافَدون هذه الأيام.
فمرحبًا بهم وأهلاً، وطِئتُم وهدًا وسهلاً، تشرُفُ بكم بلادُ الحرمين الشريفين، رُعاتُها ورعيَّتُها، في جامعة الحجِّ العظيمة التي تتجسَّدُ فيها المنافعُ والمقاصِدُ الشرعيَّة، والمصالِحُ والقواسِمُ والمُشتركاتُ الإنسانيَّة، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج: 28].
في نأيٍ تامٍّ بهذه الفريضة العظيمة عن كل ما يُعكِّرُ صفوَها، أو يخرُجُ بها عن سَنَنها، وذلك برفع الشِّعارات، أو تنظيمِ المسيرات والمُظاهرات، ونحوِها من المُخالفات.
وها هُم المُسلِمون في مشارقِ الأرض ومغاربِها وقد أُثلِجَت صدورُهم، وابتَهَجت قلوبُهم مسرَّةً وحُبورًا، وتبريكًا وسرورًا، لَيرفَعون أكُفَّ الضراعة للمولَى - سبحانه وتعالى - أن يجزِيَ من يقِفُ وراء هذه الإنجازات العظيمة في الحرمين الشريفين عن الإسلام، وعن نبي الإسلام، ونُصرة قضايا المُسلمين، وخدمةِ الحرمين الشريفين أعظمَ المثوبةِ والمنَّة، وأعالِيَ درجات الجنَّة، دُعاءٌ لا يزالُ يتكرَّرُ ويتعدَّد، ويزكُو ويتجدَّد أن يجزِيَه خيرَ الجزاء وأوفاه، وأعظمَه وأسناه، إنه سميعٌ قريبٌ، كريمٌ مُجيبٌ.
آمينَ آمينَ لا أرضى بواحدةٍ حتى أُضيفَ لها ألفًا
فلعلَّه دُعاءٌ أصابَ الإجابةَ وألفَى.
ألا وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على الرسول المُصطفى، والحبيب المُقتفَى، كما أمرَكم بذلك المولَى - جل وعلا -، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
يا ربِّ صلِّ على المُختار قدوتِنا محمدٍ خيرِ مبعوثٍ إلى الأُممِ
أزكى صلاةٍ وتسليمٍ وتكرِمةٍ والآل والصحبِ والأتباعِ كلِّهمِ
وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمةِ المهديين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمانَ، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين والزائرين، واحمِ حوزةَ الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا، سخاءً رخاءً، وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، واجزِه عن الإسلام والمُسلمين خيرَ الجزاء وأوفاه يا رب العالمين، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه إلى ما فيه صلاحُ البلاد والعباد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
اللهم احفظ على هذه البلاد عقيدتَها وقيادتَها، وأمنَها واستقرارَها ورخاءَها يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطَّول والإنعام.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة المُسلمين، اللهم اجعَلهم لشرعك مُحكِّمين، ولسُنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - مُتَّبعين، ولأوليائك ناصِرين يا رب العالمين.
اللهم انصُر إخوانَنا المُضطهدين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم انصُرهم في بلاد الشام، اللهم انصُرهم في سوريا، اللهم انصُرهم في بُورما وأراكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم فرِّق جمعَهم، وشتّت شملَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبرين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحَم موتانا، اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المُسلمين، وارحَم موتانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليمُ، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفِر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وجميع المُسلمين والمسلمات، الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.
[/COLOR]

ابوحاتم 10-20-2012 02:34 AM

الحج عِبر وعِظات

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 26ذي القعدة 1433هـ بعنوان: " الحج عِبر وعِظات "، والتي تحدَّث فيها عن استِحضار العِبَر والعِظات التي تضمَّنتها فريضةُ الحجِّ؛ من تذكُّر بناء البيت العتيق وكيفية ذلك، وسعي هاجر – عليها السلام – بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء لابنها الرضيع، ووقوف النبي - صلى الله عليه وسلم – على الصفا والمروة في غير موضعٍ، وبيَّن بعضَ مقاصِد الحجِّ ولطائفه.

الخطبة الأولى
الحمد لله ذي العِزَّة والجلال، والقوة والكمال، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوبُ إليه وأستغفِره، له الحمدُ كلُّه، وبيده الخيرُ كلُّه، وإليه يُرجَعُ الأمرُ كلُّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وخيرتُه من خلقه، خيرُ من صلَّى وزكَّى وحجَّ وصام، فصلواتُ الله وسلامُه عليه، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -؛ إذ ما خابَ من اتقاه، ولا أيِسَ من رجاه، ولا ذلَّ من أعزَّه، ولا عزَّ من أذلَّه، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة: 100].
أيها الناس:
حُجَّاج بيت الله الحرام! لقد حلَلتم أهلاً، ووطِئتُم سهلاً في بيت الله الحرام مكة المُكرَّمة البلد الأمين، أم القرى، دعوةِ أبينا إبراهيم - عليه السلام -: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ[إبراهيم: 37].
فها هي أفئدةٌ من الناس تتقاطَرُ إلى هذا البيت العتيق، تهوي إليه أفئدتُهم قبل أجسادِهم، يفِدون إليه رجالاً وعلى كل ضامرٍ يأتين من كل فجٍّ عميقٍ.
إن من تأمَّل قصةَ هذا البيت العتيق وما مرَّ به عبر القرون والعصور، وهو شامخُ البُنيان، ثابتُ الأركان، بدأ في وادٍ غير ذي زرعٍ، لا ماءٌ به ولا شجَرٌ ولا شيءٌ، خلاءٌ بلقَع، ليس به أنيسٌ ولا جليسٌ، ونراه اليوم بيتًا معمورًا، لا تمرُّ لحظةٌ إلا وفيه طائفٌ أو راكعٌ أو ساجدٌ.
بلدٌ كان لا يقصدُه القاصِد إلا ووصيَّته مكتوبةٌ عنده؛ لأن شدَّ الرَّحل إليه مظِنَّةٌ من مظانِّ الهلاك؛ إما تيهًا، أو جوعًاوعطشًا، أو قطعًا للطريق، وربما كان يُقال عنه قديمًا: الذاهبُ إليه في عِداد المفقود، والعائدُ منه كالمولود؛ لبُعد المسافة، ووعورة الطريق، وقلَّة الزاد والرَّاحِلة.
وقد أشارَ إليه المولَى بقوله: وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ[النحل: 7].
قال المُفسِّرون: "هي مكة".
وتتوالَى نعمُ المولَى - سبحانه - على عباده، فيخلُق ما لم يكونوا يعلمون به ولا يحتسِبون، فيُذلِّلُ لهم رَكوبَ ثبَج الهواء والبحار والبراري، ويُؤمِّنُ لهم الطريق، ويُنعِمُ على عباده بالمَركب الرَّخِيِّ، والرزقِ الهنِيِّ، والمسكن السلِيِّ، ويُكرِم عبادًا حمَّلَهم خدمةَ الحرمين الشريفين ليُفيضُوا فيه مما أفاءَ الله عليهم، يُسخِّرون نعمةَ الله خدمةً لوفود بيته الحرام، في صورةٍ لو ذُكِرت لأسلافنا لوُصِف راويها بالخَبال، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا[إبراهيم: 34].
ومع ذلكم كلِّه - عباد الله - فإن السفرَ قطعةٌ من العذاب، وورود عرَصات المناسِك بأركان الحجِّ وواجباته وسُننه لم يأتِ في شريعتنا الغرَّاء في دائرة الترفُّه أو التنعُّم، كلا؛ بل إن الحجَّ عبادةٌ تميَّزَت باشتراك الجهد البدنيِّ والماليِّ فيه، ومهما بلَغَت وسائلُ الراحة والترفُّه مبلغَها في هذا العصر فلن يُعفِيَ أحدًا من التفَث والشَّعَث والمشقَّة؛ إذ عرَصاتُ المناسِك إنما هي امتحانٌ للمرء المُسلم أيصبِرُ أم يضجر.
وما مُنِع الحاجُّ مما كان حلالاً عليه قبل الإحرام إلا لحكمةٍ يعلمُها - سبحانه -، تُشعِرُ الناسِك بالنَّصَب والوَصَب والمشقَّة في ذات الله - سبحانه -، وإلا فما معنى المنع من قصِّ الشعر وتقليم الأظافر والطِّيب ولُبس المخيط، والخِطبة والنِّكاح، ومُعاشَرة الزوجة، إن لم يكن من أجل استِحضار نعمة الله على العبد حالَ الترفُّه وترادُف النعم.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -: «إنما لكِ من الأجر على قدر نصَبكِ ونفقَتِك».
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج: 29].
وحينما يمتنِعُ الحاجُّ والمُعتمِر عما حرَّمَه الله عليه حالَ النُّسُك - وهي كلُّها من وسئل الترفُّه - ليرسُخُ في أفئدتِهم مبدأُ الوقوف عند حدود الله، والسمع والطاعة له فيما أباح وفيما حرَّم، لا يُجادِلون في حُرمة ذلك، ويتلقَّونَه بعين الرِّضا، والتعبُّد للواحد القهَّار الذي منعَهم من مُزاولة ومُلابَسة ما نهاهم عنه، فيُدرِكون أن الحُكمَ لله وحده، والأمرَ لله وحده، وأنه لا معبودَ بحقٍّ إلا الله.
إذ لك - أيها المرء المسلم - أن تُجادِل كلَّ من منعَك حقَّك، أو أراد أن يُجرِّدَك من ثيابك، أو يمنع عنك زوجَك، أو يمنعَك من قصِّ شعرك وتقليم ظُفرك إلا الله - سبحانه -؛ فإنه لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون.
وبمثل هذا تُصقَل النفوسُ المؤمنة من خلال توثيق الصِّلَة بالله في الحجِّ، وتجديد الولاء له بالتوحيد في صيغة التلبية: لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك، لا شريك لك، وفي صيغة التهليل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وفي صيغة التكبير: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، عند الإحرام، وفي عرفة، وعند رمي الجِمار.
وكأنَّ ذلك التوحيد علامةٌ على أن من أراد أن يغفِر الله له فليُوحِّده حقَّ تويده، وليجعل الأمرَ كلَّه لله خلقًا وعبادةً، وأمرًا ونهيًا، لا مُبدِّل لكلمات الله، ولن تجِد من دونه مُلتحدًا.
ولهذا - عباد الله - كان جزاءُ من أقام شعائر التوحيد في الحجِّ ولم يرفُث ولم يفسُق أن يرجِع كيوم ولدَتْه أمُّه، كما صحَّ الخبرُ بذلكم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإذا كان الباري - سبحانه - قد جعلَ اجتِنابَ الكبائر سببًا في كفَّار الذنوب، كما في قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا[النساء: 31]، فإن تركَ الشرك بالله - أكبر كان أو أصغر - وإقامة التوحيد من بابِ أولَى، الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[البقرة: 197].
باركَ الله ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، والصلاة والسلام على نبيِّه الداعي إلى رِضوانه.
وبعد:
فاعلموا - عباد الله - حُجَّاج بيت الله الحرام أن من مقاصِد الحجِّ: إقامةَ ذكر الله بالتوحيد؛ فتارةً يكون بالتلبية، وتارةً يكون بالتهليل، وتارةً يكون بالتكبير، وكلُّها أذكارٌ تُؤكِّدُ انفرادَ الله في رُبُوبيَّته وألوهيَّته وأسمائه وصفاته.
وهكذا تظلُّ جُموع الحَجيج تجأرُ بذكر الله، لها هذيرٌ لا ينقطِع، يُستحبُّ لهم ذلك كلُّهخ حال القيام والقعود والمشي والركوب، والاضطجاع والنزول والسير، للمُحدِث والجُنُب والحائض، في الليل والنهار، وعند الأسحار، وفي أدبار الصلوات؛ فقد سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الحجِّ أفضلُ؟ فقال: «العَجُّ والثَّجُّ»؛ رواه الترمذي.
والعَجُّ: هو رفعُ الصوت بالتلبية. والثَّجُّ: هو نحرُ البُدْن.
وفي الحديث الآخر مرفوعًا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنما جُعِل الطوافُ بالبيت، وبين الصفا والمروة، ورمي الجِمار لإقامة ذِكر الله»؛ رواه أحمد، والترمذي، وأبو داود.
ومما يدلُّ على ذلكم، وأن أعمال الحج معمورةٌ بذِكر الله: أن الله - سبحانه - حينما ذكرَ رميَ الجِمار في كتابه العزيز أتَى بلفظِ الذِّكر؛ حيث قال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ[البقرة: 203].
وفي السعي - عباد الله - يقِفُ النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا ثم وحَّد اللهَ وكبَّرَه، وقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له المُلك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجزَ وعدَه، ونصرَ عبدَه، وهزمَ الأحزابَ وحده».
ومن هنا يستحضِرُ كلُّ مؤمنٍ مُوحِّدٍ أن الله سيُنجِزُ وعدَه لمن وعَد، وأنه لا يفُلُّ كيدَ عدُوِّهم ويُفرِّقُ شملَهم إلا هو - سبحانه -، فهو القاهرُ فوق عباده، وهو على كل شيء قدير، وأن النصرَ من عند الله ينصُر من يشاء وهو العزيزُ الرحيمُ، وأما العباد فلا حول لهم ولا طَول إن لم يكن لهم نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ[آل عمران: 126، 127].
ولعلَّ من اللطائف في كون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختارَ موضعَ الصفا والمروة ليذكُر فيه نعمةَ النصر وإنجازَ الوعد: أنه هو الموضع التي كانت تقطعُه هاجَر أم إسماعيل - عليهما السلام - تبحثُ فيه عن الفَرَج وكشف الكُربة، تبحثُ عن الماء لابنِها الرَّضيع، فيكشِفُ الله غُمَّتَها، ويُفرِّجُ كُربتَها.
ومن اللطائف أيضًا: أنه - صلى الله عليه وسلم - حينما ضُيِّق عليه في مكة وأُخرِج منها، وقفَ بالحزورة - قيل: إنها عند الصفا -، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «واللهِ إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ»؛ رواه أحمد.
فحريٌّ بكل حاجٍّ أن يستلهِمَ هذه العِبَر والعِظات، وأن يستحضِر وهو يقِفُ على الصفا والمروة ما كان يقولُه - صلى الله عليه وسلم -، مُعطَّرًا بالفأل الحسن، وتغيُّر الحال من الضعف إلى القوة، ومن الاضطهاد إلى الصر.
هذا هو الحجُّ - عباد الله -، يبدأُ بالذكر، ويتوسَّطه الذكر، ويُختَتم بالذكر، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة: 200- 202].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمدٍ، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجَبين الأزهَر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشركَ والمشركين، اللهم انصُر دينَكَ وكتابَكَ وسنةَ نبيِّك وعبادَكَ المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المُسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدَّيْن عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضَى المُسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم سلِّم الحُجَّاج والمُسافرين، اللهم تقبَّل منهم إنك أنت السميعُ العليمُ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 10-20-2012 02:41 AM

وقفاتٌ وتأملاتٌ في نُصرة المصطفى
- صلى الله عليه وسلم –
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 3 ذي الحجة 1433هـ بعنوان: "وقفاتٌ وتأملاتٌ في نُصرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -"، والتي تحدَّث فيها عن الحملات الشعواء التي طالَت خير البشر ونالَت منه - عليه الصلاة والسلام -، وبيَّن المنهجَ الربانيَّ الذي علَّمنا الله إياه في الرد على مثلِ هذه السُّخرية والاستهزاء الذي يتوالَى من لدُن بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى قيام الساعة، في وقفاتٍ مهمةٍ من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله المُتفرِّد باسمه الأسمى، أحمده - سبحانه - وسِع كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، وأُثنِي عليه وأشكرُه أسبغَ علينا آلاءً وأفضالاً ونِعمًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصةً تكونُ لبلوغ رِضوانه سُلَّمًا، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله فتحَ به أعيُنًا عُميًا، وقلوبًا غُلفًا، وآذانًلا صُمًّا، وآتاه من فضله علمًا وحكمةً وحُكمًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه هم الأرجحُ عقلاً وحلمًا، والأوفرُ علمًا وفهمًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله - حقَّ تقواه؛ فالمغبونُ من جعلَ أكبرَ همِّه دُنياه، والمخذولُ من اتخَذَ إلهَهُ هواه، والخزيُ والحسرةُ لمن كان في النار مثواهُ، فانظروا في العواقبِ؛ فالسعيدُ من نظرَ في عُقباه، وتأهَّبُوا للعَرضِ الأكبر يومئذٍ تُعرَضون حُفاةً عُراةً، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ[لقمان: 33].
أيها المسلمون:
حُجَّاج بيت الله الحرام! ها أنتم حلَلتم الديارَ المُقدَّسة في مكة المكرمة مولد رسول الله - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم - ومبعثه، وفي المدينة النبوية المُنورة مُهاجَر الحبيب محمدٍ - صلى الله عليه وآله وسلم -، ومنزله «ما بين بيتي ومنبري روضةٌ من رياض الجنة».
حلَلتُم أهلاً، ووطِئتُم سهلاً، وعلى الرَّحبِ والسَّعة في الحرمين الشريفين مُتنزَّل الوحي، ومهبِط الرسالة، ومنبَع الإسلام، ومُنطلَق الدعوة. وتقبَّل الله منا ومنكم، وجعلَ حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا.
حُجَّاجَ بيت الله! وأنتم بين هذه الشعائر والمشاعر تستحضِرون مقامَ نبيِّكم محمدٍ - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم -، وما يجبُ له من التوقير والتعظيم والنُّصرة، وقد حاولَ أن يتطاولَ عليه من يتطاوَل، وينالَ منه من ينال.
وفي هذا وبين شعائركم ومشاعِركم - حفظكم الله - ينبغي أن تعلَموا أن الإساءة إلى الدين الحقِّ، والتطاوُل على مقامات النبيين والاستهزاء بالمُرسلين، وتنقُّص ما جاؤوا به، وازدراء ما بُعِثوا به، هذا هو دَيدَنُ المُكذِّبين عبر التاريخ.
فالأفَّاكون الظالِمون يُوحي بعضُهم إلى بعضٍ زُخرُفَ الإساءة وأنواع السُّخريات، والتي تتجدَّدُ بتجدُّد الأحداث والوسائل، ونبيُّنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ليس بِدعًا من الرُّسُل، مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ[فصلت: 43]، فقد طالَته الإساءة، ونالَته التجاوُزات من أول يومٍ بدأ فيه دعوتَه؛ فقالوا: سَاحِرٌ كَذَّابٌ[ص: 4]، وقالوا: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا[الفرقان: 5]، وقالوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ[النحل: 103]، وقالوا: وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ[الفرقان: 4]، وقالوا: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا[الفرقان: 8]، وقالوا: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ[المنافقون: 8]، في أقوالٍ وأفعالٍ وأكاذيب وأساطير وتحريضاتٍ لا تقِفُ عند حدٍّ.
وأمام ذلك - عباد الله - كان للقُرآن منهجُه وطريقتُه في توجيه نبيِّ الله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وتثبيتِ فُؤادِه، وإرشاد أتباعه لما ينبغي من مواقف.
وهذه - رعاكم الله وحفظكم - وقفاتٌ وتأملاتٌ في هذا المنهج:
فمن الوقفات والتأمُّلات: أن هذا هو ما تعرَّض له الأنبياءُ من قبل محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، كما قال - عزَّ شأنُه -: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[الأنعام: 10]، وقال - جل وعلا -: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا[الأنعام: 34].
ومن التأمُّلات: أن من انتقصَ من الأنبياء أو استهزأَ بهم أو أهانَهم أو نالَ منهم فهو المخذولُ، وهو الأبترُ، وهو مقطوعُ الذِّكر، وهو الأدحرُ والأحقرُ. وهذا أمرٌ مشهورٌ ومعروفٌ مُتقرِّرٌ طِوالَ التاريخ بصورةٍ باهرةٍ واسِعةٍ.
إن الإيمان بالحق والخير والفضل لا يُمكن أن يكون أبتَر، وإن مقاييس الله غير مقاييس البشر؛ أين الذين كانوا ينالُون من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - طِوالض التاريخ منذ أول يومٍ من البعثة إلى يومنا هذا إلى ما شاء الله؟! هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[التوبة: 33].
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 3]، إن شانِئَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ومُبغِضَه والمُستهزِئَ به ومُبغِضَ ما جاء به من الوحي العظيم والشرع الكريم هو الأذلُّ، وهو المُنقطعُ من الخير، المقطوعُ من طيِّبِ الذِّكرِ، المقطوعُ دابِرُه. أما محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فمرفوعٌ ذِكرُه، وعالٍ أمرُه، ومُنتشرٌ دينُه، ومُنتصرٌ أتباعُه.
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ[الكوثر: 1]، عجيبٌ هذا التقابُل الباهِرُ بي ما أُعطِيَه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - من الخير الكثير الوافِر وغير المُنقطع في الدنيا والآخرة، وما عليه أعداؤُه وشانِئُوه ومُبغِضوه من انقطاع الذِّكر، والذلِّ والصَّغار!
تأمَّلوا - رحمكم الله - هذا الحديثَ العجيبَ، وهذا التوجيهَ النبويَّ الكريمَ للصحبِ الكرام، ولمن جاء بعدهم إلى يوم القيامة؛ ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا ترَونَ كيف يصرِفُ الله عني شتمَ قريشٍ ولعنَهم؟! يشتُمون مُذمَّمًا ويلعَنون مُذمَّمًا، وأنا مُحمدٌ!»، فنزَّه الله اسمَه ونعتَه عن الأذىن وصرَفَ ذلك إلى من هو مُذمَّم.
يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "قوله: «يشتُمون مُذمَّمًا» كان الكفارُ من قريش من شدَّة كراهتهم في النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُسمُّونَه باسمِه الدالِّ على المدحِ، فيعمَدون إلى ضِدِّه، فيقولون: مُذمَّم، وإذا ذكرُوه بسُوءٍ قالوا: فعلَ الله بمُذمَّم، ومُذمَّم ليس هو اسمَه - عليه الصلاة والسلام -، ولا يُعرَفُ به. فكان الذي يقعُ منهم في ذلك مصروفًا إلى غيره".
وعليه - أيها المسلمون -؛ فتلك الرُّسوم والأفلام والصور من أشباهها إنها قطعًا لا تُمثّلُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نبيَّنا، لا في اسمِها ولا في رمزِها؛ فمحمدٌ هو الضياءُ، وهو الطُّهرُ، وهو البهاءُ، وهو الإجلالُ والتقديرُ والرِّفعةُ، وهو الرحمةُ، مرفوعٌ ذِكرُه، عالٍ أمرُه، ومُنتشرٌ دينُه، ومُنتصرٌ أتباعُه.
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[يس: 30].
من أجل هذا كلِّه؛ فإننا نحن المسلمين نعلم أن دينَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يكسَبُ كلَّ يومٍ عقولاً وقلوبًا وديارًا، وأن غيرَه في انحِسارٍ وانبِتارٍ وانقِطاعٍ.
ومن الوقفات والتأمُّلات: الاستمرارُ في الدعوة، والعملُ لدين الله، وسيرُ القافِلة، وعدمُ الالتفات أو الاكتراث لنعيقِ الناعِقين، قال - عزَّ شأنُه -: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 94، 95]، وقال - عزَّ شأنُه -: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ[الكوثر: 2]، وقال - جل وعلا -: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 98، 99].
غير مُلتفتين إلى ما يقومُ به المُعادُون الأعداءُ من أسباب الإعاقات والسُّدود والحواجِز، فاللهُ حافِظُك وكافِيك ومُؤيِّدُك وناصِرُك، إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ، فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[البقرة: 137].
يكفيه بما شاء من أنواع العُقوبات، فما تظاهَرَ أحدٌ بالاستِهزاء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به إلا أهلَكه أشدَّ هلاكٍ، وخذَلَه أعظمَ خُذلان، وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[الأنعام: 10].
ومن التأمُّلات: قولُه - عزَّ شأنُه -: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ[الحجر: 97]؛ فالرسولُ - عليه الصلاة والسلام - بشرٌ لا يملِك نفسَه أن يضيقَ صدرُه وهو يسمعُ الشِّركَ بالله والاستِهزاءَ بالرسالة ودعوةِ الحقِّ، فيغارُ على الدعوة، ويغارُ على الحق، ويضيقُ بالضلال والشِّرك والباطلِ. وهذا تنبيهٌ إلى أن العواطِفَ البشريةَ مُقدَّرة، وهي دافِعةٌ، لكن لا ينبغي أن تكونَ قائدةً.
فالحماسُ والإثارة والاستِثارة لا ينبغي أن يُتجاوَزَ بها حُدود الحلال والمشروع، وهذا يتطلَّبُ شجاعةً ونزاهةً، مما يجبُ معه التحلِّي بالحكمة والتثبُّت وحفظ التوازُن، والرجوع إلى أهل العلم والعقل والرأي والحكمة، والحذرُ من سلوك مسالِك تضرُّ بمصالح الدين والمُسلمين، والحذرُ كذلك أن يكون المُحرِّكُ للعقول هي السواعِد؛ بل السَّواعِدُ يجبُ أن تضبِطَها العقولُ.
وبقدرِ ما يكونُ الفِكرُ عاقلاً واعيًا هادِئًا تكونُ النتيجةُ مُؤثِّرةً مُثمِرةً - بإذن الله -.
ومما ينبغي لفتُ النظر إليه الابتعادُ عن التصرُّفات غيرِ المُنضبِطة وبخاصَّةٍ إذا استحضرَ المُسلِمون أن الآخرين يرقُبُون التصرُّفات، ويرصُدونها؛ بل يُوظِّفُونَها في تداعِياتِها وآثارِها؛ فمواقفُنا تعكِسُ أخلاقَنا، وأخلاقُنا نابِعةٌ من ديننا، وهُدوؤُنا وسكونُنا سكونُ عِزَّةٍ وإباءٍ، وليس سُكونَ ضعفٍ ولا جُبنٍ ولا خَوَرٍ.
فنحنُ لا نقبل ولا نرضَى ولا نسمَح أن يتطاولَ أحدٌ على مقام نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، أو ينالَ من ديننا، أو كتابِ ربِّنا - عز وجل -، وكل هذه الأحداث تزيدُنا تمسُّكًا بديننا وحُبِّ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
ومن الوقفات والتأمُّلات - حُجَّاجَ بيت الله -: أن مفاهيم الحق والباطل، ومبادئَ العدل والظلِ، وحُدودَ الصحيح والخطأ شكَّلَها في نفسيَّات الشباب والمظلومين في العُقود الأخيرة، شكَّلَتها هذه المظالِمُ التي يرَونَها تُرتَكَب من القوى الكُبرى، ومن كِيان إسرائيل - الدولة المُحتلَّة -، وما يُتابِعُه هؤلاء الشباب من العَبَث بالاتفاقات الدولية والمُعاهَدات والتعسُّف في تفسيرِها وتطبيقِها، والتستُّر على الظالِمِ، وغضِّ النظر ع بعض التصرُّفات؛ بل الانحيازُ إلى الظالم والدفاع عنه، والكَيل بمِكيالَيْن؛ بل بمكاييل، والسياسات الظالِمة، والمواقِف الجائرة، وتغليبِ المصالِح الضيِّقة، وإهانةِ الشُّعوب وعدم احترامِها.
كلُّ ذلك مما يُولِّدُ الشعورَ بالقهر، ويُثيرُ الاستِفزازَ والاشمِئزازَ، نفاقٌ سياسيٌّ دوليٌّ يستنكِرُ متى شاء، ويسكُتُ ويغُضُّ الطرفُ متى شاء.
والذين يلُوذون بحريَّة التعبير يتجاوَزون كلَّ الاتفاقيات والمواثيق والمُصطلحات إذا رأَوا أنهم بحاجةٍ إلى ذلك، أو أن مصالِحَهم تُمسُّ أو تُنتقَص.
على أن نهجَ الإنصافِ - رحمكم الله - والاعتدال الذي علَّمنَاه إيَّاه دينُنا يُؤكِّدُ أن في الآخرين مُنصِفون وعقلاء، وفيهم مُدافِعون عن الحق، وباحِثون عن الحقيقة، وفيهم جاهِلون ومُغرَّرٌ بهم، وفيهم مفتونون.
وحاشَ لله أن يكون كلُّ هؤلاء في خِطابٍ واحدٍ أو في كِفَّةٍ واحِدةٍ؛ فنُقدِّرُ لكل ذي قدرٍ قدرَه، والمُسلِمون - ولله الحمدُ - عندهم المعايير مُنضبِطة لتمييز المُحِقِّ من المُبطِل، والجائرِ من (..).

معاشر المسلمين:
حُجَّاج بيت الله! ومن الوقفات: قولُ الله - عز وجل -: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[يونس: 85]، وقولُه - جل وعلا -: رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[الممتحنة: 5].
كم هو عقلٌ وأناةٌ أن ننظُرَ إلى أن بعضَهم مفتونون بأحوال بعضِ المُسلمين وأوضاعِهم؛ فتراهُ حين يرى ما في المُسلمين من مظاهر ضعفٍ وتخلُّفٍ، قد يقولُ: لو كان محمدٌ نبيًّا حقًّا ولو كان دينُه صحيحًا لوجَدنا أتباعَه في أحسن حالٍ من حُسن السياسة، والانضِباط، وحُسن السلوك، والتدبير والتصرُّف، ولتفوَّقوا، ولبَرَعوا.
أما أن يكونوا غيرَ حضاريين ضِعافًا مهزوين قوةً وعلمًا، وإدارةً واقتِصادًا، إلى غير ذلك من أمثال هذه المقولات، فهذه - يا إخواني - مما يجعلُ أهلَ الإسلام في مواقع الفتنةِ، رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[يونس: 85].
نعم - حفظكم الله -؛ جميلٌ وحقٌّ أن نغضبَ لمن يُحاوِلُ النَّيلَ من ديننا ونبيِّنا، ولكن من الحقِّ والعقلِ أن نُراجِعَ أنفُسَنا وألا نغضبَ من قُصورنا وتقصيرنا في الاستِمساك بديننا والالتزامِ بسُنَّة نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، ونُحاسِبُ أفعالَنا وتصرُّفنا. وأين نحنُ من القيام بمسؤوليَّاتنا والأمانة في أداء أعمالِنا؟!
ينبغي أن نغضبَ حين نرى الإهمالَ والمُهمِلين، والتقصيرَ والمُقصِّرين من أهلِنا وقومِنا، وكما تُخاضُ معركةُ الموت تُخاضُ معركةُ الحياة، وكما نموتُ في سبيل الله نحيا في سبيل الله.
لا بُدَّ من أخذ الدروس والعِبَر حتى لا نكون فتنةً للذين كفروا، لا بُدَّ أن نُثبِتَ أننا أمةُ الخيرية الوسطيَّة، تُؤمِنُ بكتاب ربِّها، وتسيرُ على خُطى نبيِّها، وتأخُذُ بكلِّ أسباب القوَّة والعِزَّة، ووسائل العلمِ، والتقدُّم، والتقنِيَّة، مما يُحقِّقُ صلاحَ الأمةِ وفلاحَها، ويحفَظُ لها تُراثَها وعِزَّتَها وأصالتَها وهويَّتَها، ويرقَى بها، وتنشُرُ رسالتَها رحمةً للعالمين.
نحتاجُ إلى أن نكون أمَّةً مُنتِجةً مُبدِعةً صانِعةً، ومن لا يملِكُ قُوْتَه لا يملِكُ حرِّيَّتَه في إصلاح التعليم والسياسة والمُجتمع والاقتِصاد، وكل وجوه الإصلاح.
ومن حُسن الإفادة من مثلِ هذه الأحداث: مزيدٌ من الدعوةِ إلى الله، ومزيدٌ من الانتِصار للنبيِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -؛ بالتعريفِ به، ونشر سيرتِه، وشمائلِه، في أحسن عرضٍ، وقُوَّةِ بلاغٍ، وبلاغةِ حديثٍ، وإبرازِ الوجهِ الحضاريِّ لديننا، بالحوار والمُجادَلة بالتي هي أحسنُ، ودفع السيِّئة بالحسَنة،ونبذ مسالِك الغلُوِّ والانفِلات والإفراطِ والتفريطِ.
وبعد:
فهذه كانت بعضُ الوقفات والتأمُّلات مع يقيننا وإيماننا أنَّ نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لن تضُرَّه سُخريةُ الساخِرين، ولن ينالَ منه استِهزاءُ المُستهزِئين؛ فهو من جمَعَ المحامِد، وحازَ المكارِم، وهو خاتَمُ الأنبياء، أكمَل الله به الدينَ، وأتمَّ به النِّعمةَ، فمولدُه فتحٌ، ومبعثُه فجرٌ، وهجرتُه نصرٌ، أغنَى به بعد العَيْلَة، وكثَّرَ به بعد القِلَّة، وأعزَّ به بعد الذِّلَّة.
وما تحرَّك هؤلاء وما زادَ استِفزازُهم إلا لما يرَونَه من انتشار هذا الدين، وإقبال الناس عليه وقبوله، وتلكم من البشائر لأهل الإسلام؛ حين يرى الأعداءُ أنوارَ الإسلام تُبدِّدُ ظُلماتِ الجهل والجهالة، وتقِفُ أمام مكر الماكِرين، وتظلُّ سائرةً رغمَ حقدِ الحاقِدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 92- 99].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله رفعَ قدر أولي الأقدار، وحطَّ بفضله عن التائبين الأوزار، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على فضلِه المِدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تُنجِي من عذاب النار، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله السادة الطيبين الأطهار، وعلى أصحابه البَرَرة الأخيار المُهاجِرين منهم والأنصار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهارُ.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
إن الاستِنكارَ وإظهارَ الغضب شيءٌ مشروعٌ؛ بل هو مطلوبٌ؛ لأنه من إنكار المُنكَر، وبخاصَّةٍ إذا زادَ انتشارُ الخبر، وتمادَى المُخالِفون في غيِّهم وبغيِهم.
ومن هنا؛ فإن على الأمة بحُكَّامها وشُعوبِها، وساسَتها وعلمائها، ورجال أعمالها وإعلامِها، وربِها وعجَمها، وأقلِّيَاتها وجالياتِها أن يهُبُّوا جميعًا لنُصرة نبيِّهم محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - بهُدوءٍ وفاعليَّةٍ وعملٍ مُنظَّمٍ، تُباشِرُه هيئاتٌ وجهاتٌ مُتخصِّصة، تكونُ مسؤوليَّتُها وضعَ المناهِج والخُطَط لما ينبغي من مواقِفِ في مثلِ هذه الأحوال والأوضاع، وتكونُ لها صلاحيَّاتُ اتَّخاذُ المواقفِ اللازمة، والاتصالاتِ المُلائِمة، والرُّدود المُحكَمة، وفقَ أُطُرٍ نظاميَّةٍ وقانونيَّة، مع التأسيس لمنهجيَّةٍ فاعِلة، محليَّةٍ ودوليَّة، لتوضيح حقائق ديننا، والدفاع عنه، وكشف المُتطاوِلين على الإسلام والمُسلمين، وأنهم ضحايا التشويه والظلمِ والتعسُّف.

معاشر المُسلمين:
وفي أسلوبٍ إسلاميٍّ عمليٍّ حضاريٍّ حين تسابَقَ مُلُوك العالم ورُؤساؤُه إلى منبَر الأمم المُتَّحِدة ليقولَ كلٌّ ما يُريدُ أن يقولَه حولَ ما يهمُّه من شأنٍ توجَّهَ وليُّ أمرِنا خادمُ الحرمين الشريفين الملكُ عبدُ الله بن عبد العزيز إلى طيبَة الطيِّبة المدينة النبويَّة المُنورة، توجَّه إلى منبَر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقولَ - حفظه الله -: "إيمانُنا بالحقِّ تعالى نستمِدُّ منه عزيمتَنا وقوَّتَنا في الدفاع عن شريعتنا وعقيدتنا وعن نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، في وجهِ كلِّ حاقدٍ أو كارهٍ أو مُبغِضٍ، وسنبقَى كذلك ثابتين على ذلك، لا نتراجَعُ عنه إلى يوم الدين - إن شاء الله -".
قال ذلك - حفظه الله - وهو يأذَنُ بالتوسِعَة الكُبرى لمسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نُصرةٍ لهذا الدين، وإظهار قوَّته، والاعتِزاز بخِدمتِه، والافتِخار بالانتِساب إلى شريعةِ نبيِّه محمد - صلى الله عليه وسلم -.
ونحن السعوديُّين نعلمُ أن هذه التوسِعَة قد أُقِرَّت منذ فترةٍ، ولكنَّ توقيتَ الأمر ببدئِها هو الذي يُجسِّدُ هذا الهدفَ العظيمَ، وإعلانَ القوَّة والعِزَّة.
فلله الحمدُ والمِنَّةُ.
ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فالإسلامُ ومُستقبلُه أعظمُ وأكبرُ من كل المكائِد، ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ، وهو غالبٌ على أمره ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن السِّبطَين الطاهِرَين الحسنِ والحُسَين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قديرٌ.
اللهم احفظ إخواننا في سوريا وفي بورما، اللهم اجمع كلمتَهم، واحقِن دماءَهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحم ميِّتَهم، وآوِي شريدَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، واجعل لهم من كل همٍّ فرجًا، ومن كل ضيقٍ مخرجًا، ومن كل بلاءٍ عافيةً، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم.
اللهم عليك اللهم بالطغاة الظلمة في سوريا وفي كل مكانٍ، اللهم إنهم قد طغَوا وبغَوا وآذَوا وأفسَدوا وأسرَفوا في القتل والطغيان، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، الله فرِّق جمعَهم، وشتِّت شملَهم، واجعل الدائرةَ عليهم يا قوي يا عزيز يا أرحم الراحمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
اللهم إنا نستغفِرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعَل ما أنزلتَه قوَّةً لنا على طاعتِك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنَّا بذُنوبنا فضلَك، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، ليس بنا غِنًى عن سُقياك، فلا تمنَع عنَّا بذُنوبنا فضلَك، اللهم واجعل ما أنزلتَه عونًا لنا على طاعتِك.
رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا[الممتحنة: 4]، رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[يونس: 85]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك رب العِزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين.


الساعة الآن 01:01 AM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir