ساحات وادي العلي

ساحات وادي العلي (http://www.sahat-wadialali.com/vb/index.php)
-   الساحة الإسلامية (http://www.sahat-wadialali.com/vb/forumdisplay.php?f=91)
-   -   خطبة الجمعة من المسجد النبوي (http://www.sahat-wadialali.com/vb/showthread.php?t=14278)

ابوحاتم 11-04-2011 06:46 PM

يوم عرفة يومٌ عظيم

ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 8/12/1432هـ بعنوان: "يوم عرفة يومٌ عظيم"، والتي تحدَّث فيها عن عِظَم يوم عرفة وذكر بعض فضائله، وأشار إلى بعض العِبَر المأخوذة من مناسك الحج.

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله بارئِ النَّسَم، ومُحيِي الرِّمَم، ومُجزِلِ القِسَم، مُبدِع البدائع، وشارِعِ الشرائِع، دينًا رضيًّا، ونورًا مُضِيًّا، أحمدُه وقد أسبَغَ البرَّ الجزيل، وأسبلَ السترَ الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ آمنَ بربِّه، ورجا العفوَ والغُفرانَ لذنبه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وحِزبه، صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
بالتقوى تحصُل البركة، وتندفعُ الهلَكة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون:
بين الجِبال والتِّلال، والمهابةِ والجلالِ، والبهاءِ والجمال، وفي البلد الأمين والحرمِ الآمِن تجتمعُ قوافلُ الحجيج، وتكتملُ حُشُودُهم ووفودُهم، وفي الرحابِ الطاهرة يسكُبُون عبَرات الشوق وخشَعات الإنابة ودموعَ التوبة.
والحُجَّاجُ والعُمَّارُ وفدُ الله دعاهم فأجابوا، وسألوه فنالوا، والحجُّ يهدِمُ ما قبلَه، ومن حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ من ذنوبه كما ولدَته أمُّه، والحجَّةُ المبرورةُ ليس لها ثوابٌ إلا الجنة.
فهنيئًا لمن وردَ مشارِعَ القبول، وخيَّم بمنازل الرحمة، ونزلَ بحرمِ الله الذي أوسعَه كرامةً وجلالاً ومهابةً.
أيها المسلمون:
ما أعظمَها من أيامٍ، وما أجلَّها من مواسم، وغدًا يوم عرفة يومٌ شريفٌ كريم، وعيدٌ لأهل الموقفِ عظيمٌ، يومٌ تُعتَقُ فيه الرِّقابُ، يومٌ تُعتَقُ فيه الرِّقابُ، يومٌ تُعتَقُ فيه الرِّقابُ، ويُسمَعُ فيه الدعاءُ ويُجابُ، وما من يومٍ أكثر من أن يُعتِقَ الله - عز وجل - فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائكةَ، فيقول: ما أراد هؤلاء؟
وخيرُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة؛ فأظهِروا فيه التوبةَ والاستغفار، والتذلُّل والانكِسار، والندامةَ والافتقار، والحاجةَ والاضطرار.
أيها المسلمون:
ويُستحبُّ صيامُ يوم عرفة لغير الحاجِّ، وصيامُه يُكفِّرُ السنةَ الماضيةَ والباقية، ويُستحبُّ التكبيرُ عقِبَ الصلوات المفروضات من فجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق، والمسبوقُ ببعض الصلاة يُكبِّر إذا فرغَ من قضاء ما فاتَه، ويُكبِّرُ الحُجَّاج ابتداءً من صلاة الظهر يوم النَّحْر.
أيها المسلمون:
قدِّسوا الحرَم، وعظِّموا حُرمتَه، وراعُوا مكانتَه، وتذكَّروا شرفَ الزمان وجلالةَ المكان، والتزِموا بالأنظمة والتعليمات التي تصدُرُ من الجهات المسؤولة، واحذَروا ما يُعكِّرُ صفوَ الحجِّ، أو يُخالِفُ مقاصِدَه، أو يُنافِيَ أهدافَه.
ولا يليقُ بمن دخلَ في النُّسُك وتلبَّس بالإحرام وقصدَ البيتَ الحرام أن يخرجَ عن حُدود الشرع، أو يجعل الحجَّ سبيلاً للخُصومات والمُنازعَات، والمُلاحاة والمُجادلات، والنداءات والشِّعارات والنَّعرات، والتجمهُرات والمُظاهرات والمسيرات، والحجُّ أجلُّ وأسمَى وأعلى من أن يكون مسرحًا للخلافات الحِزبيَّة والمذهبيَّة والسياسية، والحجُّ المبرورُ هو الحجُّ السالمُ عن التجاوُزات والتعدِّيات والجنايات.
والدولةُ السعودية - أيَّدها الله تعالى - أعطَت الحجَّ عَنان العناية وقصَبَ الرعاية، ووجَّهَت جهودَها، وجنَّدَت جُنودَها، وحشدَت حُشُودَها لأمن الحاجِّ، وسلامة الحاجِّ، وصحَّة الحاجِّ، وراحةِ الحاجِّ.
فاحذَروا الأفعالَ المُخزِية، والمسالِكَ المُردِية، والمزالِقَ المُترِبة، والمواقِع المُهلِكة المُنافِية للشرع الحكيم، والعقل السليم.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من البينات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي لا خيرَ إلا منه، ولا فضلَ إلا من لدُنه، الخلقُ بيديه، ولا اعتمادَ إلا عليه، ولا ملجأَ ولا منجا منه إلا إليه، أحمدُه حمدًا لا انقطاعَ لراتِبِه، ولا إقلاعَ لسحائبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سميعٌ لراجِيه، قريبٌ ممن يُناجِيه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبدُه ورسوله ونبيُّه، وصفيُه ونجِيُّه، ووليُّه ورضِيُّه، وأمينُه على وحيِه، وخِيرتُه من خلقِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
هذه التوبةُ قد شُرِعَت أبوابُها، وحلَّ زمانُها، ونزلَ أوانُها، فهُبُّوا من نومةِ الرَّدَى، وأفيقُوا من رقدَة الهَوى، وامحُوا سوابِقَ العصيان بلواحِق الإحسان، ولتكن مواسمُ الخيرات والعشرُ المُباركات بدايةَ عودتكم، وانطلاقةَ رجُوعكم، وإشراقَ صُبحكم، وتباشِيرَ فجركم، وادلِفوا إلى باب الإنابة، وانزِعوا عن الخطيئة، وأقلِعوا عن المعصية، ولا تُؤخِّروا التوبة، وتخلَّصوا من حقوق الناس، ورُدُّوا الحقوقَ إلى أصحابها، وطهِّروا لُقمتَكم عن الحرام؛ فالحرامُ وبالٌ على صاحبه، تنالُه سُقبَتُه، وتُدرِكُه نقمتُه، وتلحَقُه عقوبتُه، وفي الطيِّبِ غُنيةٌ عن الخبيث، وفي الحلال كفايةٌ عن الحرام.
ومن تابَ وأنابَ تابَ الله عليه، والتائبُ من الذنبِ كمن لا ذنبَ له.
ثم اعلموا أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون - من جنِّه وإنسِه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا وسيدنا محمد بشير الرحمة والثواب ونذير السَّطوة والعقاب الشافع المُشفَّع يوم الحساب، اللهم وارضَ عن جميع الآل والأصحاب، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك يا كريم يا وهَّاب.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح اللهم أئمَّتَنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وأصلِح له بِطانتَه يا رب العالمين.
اللهم واجزِ خادمَ الحرمين الشريفين الملكَ عبدَ الله بن عبد العزيز ووليَّ عهده الأميرَ نايف بن عبد العزيز خير الجزاء وأوفاه على بذلهم وعطائهم وخدمتهم للحرمين الشريفين والمشاعر المُقدَّسة وحُجَّاج بيتك الحرام، اللهم متِّعهما بالصحة والعافية يا كريم.
اللهم واحفظ رجالَ أمننا، اللهم واحفظ رجالَ أمننا، اللهم واحفظ رجالَنا العاملين في الحج، واجزِهم خيرَ الجزاء، وارفع درجاتهم، وكفِر سيئاتهم يا كريم يا غنيُّ يا رحيم.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، وادفع شرَّ الكائدين ومكرَ الماكرين وعُدوان المُعتدين وتربُّص المُتربِّصين وكيدَ الحاسدين وحسدَ الفاجِرين وفُجور المنافقين يا رب العالمين.
اللهم احفظ الحُجَّاج والزُّوَّار والمُعتمرين، اللهم احفظ الحُجَّاج والزُّوَّار والمُعتمرين، اللهم تقبَّل مساعِيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم حقِّق لهم من الآمال أعلاها، ومن الخيرات أقصاها، اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوالَ إخواننا في اليمن والشام، اللهم أصلِح أحوالَ إخواننا في اليمن والشام، اللهم أصلِح أحوالَ إخواننا في اليمن والشام يا كريم.
اللهم طهِّر المسجد الأقصى من رِجس يهود، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم لا ترفع لهم راية، ولا تُحقِّق لهم غاية، واجعلهم لمن خلفَهم عبرةً وآيةً.
اللهم اشف مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَك، اللهم تُب علينا برحمتك وإحسانِك، اللهم تُب علينا برحمتك وإحسانِك، اللهم تُب علينا برحمتك وإحسانِك، وتفضَّل علينا بفضلك وامتِنانِك يا كريم.



عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90]. فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 11-08-2011 10:00 PM

وصايا مهمة لعموم المسلمين
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة عيدالأضحى 1432هـ بعنوان: "وصايا مهمة لعموم المسلمين"، والتي تحدَّث فيها عن بعض الوصايا والنصائح المهمة والتي وجَّهها لعموم المسلمين؛ حيث ذكَّر بالإقلاع عن المعاصي والإقبال على فعل الطاعات والأعمال الصالحة، والبُعد عن المحرمات، وتوجَّه بالنُّصح للمرأة والشباب المسلم وحُكَّام المسلمين.
الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ[سبأ: 1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ الكبير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله البشيرُ النذيرُ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه إلى يوم الدين.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
تمسَّكوا بتقوى الله - جل وعلا -؛ فهي سببُ المخرَج من كل كربٍ في الدنيا والآخرة: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[الطلاق: 2، 3].
أيها المسلمون:
إن العيدَ يومُ فرحٍ وسُرور، وإن المسلمون يفرَحون، وكيف لا يفرَحون وقد فازُوا بطاعة المَولَى، وحازوا النعمةَ العُظمى بالمُسابقة إلى الخيراتِ والأعمال الصالحات، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[يونس: 58].
ليس العيدُ من لبِسَ الجديد، ولكن العيدَ الحقيقي لمن كان في طاعة ربِّه مُكثِرًا ومن كانت طاعتُه تكثُر وتزيد، ليس العيدُ من ركِبَ أفخمَ مركوب، ولكن العيدَ لمن حُطَّت عنه الخطايا وغُفِرَت له الذنوب.
يقول الحسن - رحمه الله -: "كل يومٍ لا نعصِي اللهَ فيه فهو عيد، وكلُّ يومٍ نقضِيه في طاعة الله - جل وعلا - فهو عيدٌ".
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
إن هذا اليوم يومٌ عظيمٌ، وهو أعظمُ عيدَي الإسلام وأفضلُهما؛ روى أحمد وغيرُه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أعظمُ الأيامِ يومُ النحر».
وهذا اليومُ والثلاثةُ بعده أعيادُ أهل الإسلام، يقول الله - جل وعلا -: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ[البقرة: 203].
وروى أحمد وأهل السنن - بسندٍ حسنٍ - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق عيدُنا أهل الإسلام، وهي أيامُ أكلٍ وشُربٍ».
وخرَّج مسلمٌ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أيامُ مِنَى أيمُ أكلٍ وشُربٍ وذكرٍ لله - جل وعلا -».
ولهذا حرُم صومُها - أي: أيام التشريق - إلا لمن لم يجد هديَ التمتُّع فيصومُ صومًا واجبًا.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الأضاحِي سنَّةُ الخليلين: محمد وإبراهيم - عليهما أفضلُ الصلاة والسلام -، شُرِعت لتحقيق التوحيد والتعظيم والتبجيل لله - جل وعلا -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
شُرِعت الأضاحي لتحقيق تقوى الله - جل وعلا -: لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ[الحج: 37]. ولهذا فأجرُها عظيمٌ، وثوابُها جزيلٌ.
وتتأكَّد مشروعيتها لمن كان لثمنها واجِدًا؛ روى ابن ماجه وغيره - بسندٍ حسنٍ - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من وجدَ سعَةً فلم يُضحِّ فلا يقربنَّ مُصلاَّنا».
ثم إن هناك أحكام شرعَها - عليه الصلاة والسلام - لهذه الفريضة العظيمة؛ فالشاةُ الواحدةُ تُجزئُ عن الرجل وأهل بيته من الأموات والأحياء، والبدَنة والبقرة تُجزئُ عن سبعة، ومن كان عنده وصايا وأوقاف فإنه يجبُ عليه أن يُنفِذَها حسبَ المنصوص.
ولا يُجزئُ في الأُضحِية إلا ما كان سليمًا من العيوب المانعةِ من الإجزاء؛ فلا تُجزئُ العوراءُ البيِّنُ عورُها - وهي ما نتأت عينُها أو انخسَفَت -، ولا العرجاءُ البيِّنُ ضَلْعُها - وهي التي لا تقدِرُ المشيَ مع الصحيحة -، ولا تُجزئُ المريضةُ البيِّنُ مرضُها في بدنها أو الذي يُؤثِّرُ في فساد لحمها -، ولا تُجزئُ العَجفاءُ - وهي الهزيلةُ التي لا مُخَّ فيها -. ثبت ذلك في حديث البَراء.
وألحقَ أهلُ العلم ما كان بمثل هذه العيوب أو أشد، وقد ثبتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عنه أن يُضحَّى بأعضبِ القرن أو الأذن.
ولهذا نصَّ أهل العلم على أنه لا يجوز التضحيةُ بمكسور القرن ولا مقطوع الأُذن إذا كان ذلك النصف فأكثر.
وأما البَتراء التي لم يُخلَق لها ذنَبٌ، أو الجمَّاء التي لا قرنَ لها فإنها تُجزئُ عند أهل العلم.
ولا يُجزئُ في الأضاحي إلا ما تمَّ له السنُّ المُعتبَر؛ ففي الإبل خمسُ سنين، وفي البقر سنتان، وفي الماعز سنةٌ، وفي الشاةِ نصفُها.
ووقتُ الذبح - أيها المسلمون - من بعد صلاة العيد، والأفضلُ أن يكون بعد الخُطبة لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويستمرُّ وقتُ الذبحِ إلى ثلاثة أيامٍ بعد يوم النحر - على الصحيح من قولي أهل العلم -.
والمُستحبُّ - أيها المسلمون - أن يأكل منها وستصدَّقَ ويُهدِي، والسنَّةُ أن يذبَحَها بنفسه إن كان مُحسِنًا، أو يشهَدَ ذبحَها، كما ثبتَ ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولا يجوزُ أن يُعطِي الجزَّار أُجرَته منها، وإنما لا بأسَ أن يُعطِيَه على سبيل الهدية.
ولا يجوز بيعُ جلدُها ولا شيءٌ منها، وإنما يُباحُ الانتفاعُ بذلك.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون:
في الأعياد تُظهِرُ الأُمَم زينتَها، وتُعلِنُ فرحَها وسُرورَها، وتُسرِّي عن نفسها ما يُصيبُها من مشاقِّ الحياة ولأوائِها، فتمتَّعوا بالطيباتِ هنيئًا مريئًا، وإياكم والمنهيَّات، وتجنَّبوا المُحرَّمات، والتزِموا بالمفروضات.
ثم أيتها المرأة المسلمة:
عليكِ بتقوى الله - جل وعلا -، وإياكِ والسفورَ؛ فإن ذلك مما يُغضِبُ الله - جل وعلا -، في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صِنفان من أهل النار لم أرَهما ..»، ثم ذكرَ منهما: «.. ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ مائلاتٌ مُميلاتٌ رؤوسهنَّ كأسنِمةِ البُختِ المائلة، لا يدخلن الجنةَ ولا يجِدنَ ريحَها».


أيها الشباب:
اتقوا الله - جل وعلا -، والتزِموا بأخلاق الإسلام ومحاسن الفضائل لتكونوا في ظلِّ الله - جل وعلا - يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه؛ ففي الحديث الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سبعةٌ يُظِلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلُّه»، وذكر منهم: «شابًّا نشأَ في طاعة الله».
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رِضوانِه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشر المسلمين:
وفي مثل هذا الموسمِ وأمتُنا تعيشُ حالةً قاسية ومرحلةً خطيرة، فإنه آنَ الأوانَ إلى أن نستدرِكَ ونستيقِنَ يقينًا جازمًا أن المسلمين لن يكونوا في منأًى عن الشقاء والمِحَن، ولا عن العناء والفِتَن إلا حينما يتمسَّكون بثوابتِهم ويعودون لأصالتهم، إن أساس القوة والتمكين ورُكن الأمن المَكين هو التمسُّك بالوحيَيْن والهديَين، ولذلك أعلنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك المحفَل العظيم الذي ودَّع فيه أمتَه حينما قال: «وتركتُ فيكم ما إن تمسَّكتم به فلن تضِلُّوا: كتابَ الله»، وفي روايةٍ: «وسُنَّتي».
فقد رأى المسلمون جميعًا ما حلَّ ببعض بُلدان المسلمين التي جعل حُكَّامُها كتابَ الله - جل وعلا - وراءَهم ظِهرِيًّا، واستبدَلوها بالقوانين الوضعيَّة، وما كان مآلُ ذلك إلا الخزيُ والعارُ والتفرُّق والاختلاف والعاقبةُ السيئة والحالُ الحزينة.
نسأل الله - جل وعلا - أن يُهيِّئَ لشُعوب تلك البُلدان حياةً طيبةً وعيشةً راضيةً تُرضِي الخالقَ - جل وعلا -، وتُسعِدُ العبادَ في الدنيا والآخرة.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشر المسلمين:
إن الدماءَ في الإسلام مُصانة، إن الدماءَ المعصومة مُحترمةٌ مُعظَّمةٌ في القرآن وسنةِ سيد ولد عدنان - عليه أفضل الصلاة والسلام -، ولهذا حذَّر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الذي يعلمُ بعلم الله له بما أوحى إليه ما تؤولُ إليه أمورُ أمته، فوقفَ في مثل هذا اليوم فخطبَ في خُطبة يوم النَّحر - وقبل ذلك في خطبة عرفة -، فكان مما قال: «إن دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم كحُرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا».
لقد حذَّر أمتَه من التهاوُن في الدماء، ومن التقاتُل بين المسلمين، فقال: «لا ترجِعوا بعدي كفَّارًا يضرِبُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ».
فالويلُ ثم الويلُ لمن تلطَّخَت يدُه بدماء المسلمين؛ ماذا عُذرُه عند ربه يوم يلقاه؟!
الله - جل وعلا - يقول: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء: 93].
فأين العقل الرَّصين؟ وأين أُخُوَّة الدين؟ وأين محبَّةُ الله ومحبَّةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم -؟!
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
معاشر المسلمين:
يتسامَعُ العالَم ما أصابَ بُلدانًا كثيرة من هزَّاتٍ اقتصادية، وانهياراتٍ مالية، يلمَّسون لها الحلولَ والعلاجَ، ألا وإن العلاجَ الأوحدَ والسبيلَ الوحيدَ للإصلاح عند الخالق - جل وعلا - الذي أرسل للبشرية جميعًا رحمةً مُهداة، ونورًا لهذه الأرض ولأهلها، إنه: محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - الذي حذَّر البشرية من أسباب الانهيار الاقتصادي، حينما أعلنَها جليَّةً في موقفه يوم عرفة حينما قال: «وإن ربَا الجاهليَّة موضوعٌ».
فيا عُقلاءَ العالم! هلمُّوا إلى هذه الرحمة وإلى هذا النور، وادرُسوا نظامَ الإسلام الشامل - خاصةً النظامَ الاقتصادي - تجِدون العلاجَ الناجعَ الناجحَ للأزمات كلِّها.
الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون:
إن هذه البلاد قد أنعمَ الله عليها بنعمٍ عظيمة، ألا وإن أعظمَ نعمةٍ حينما قامت على منهجِ الوحيَيْن منذ بداية الدعوة السلفية على يدِ الإمامَين المُجدِّدين: الإمام محمد بن سعود والإمام محمد بن عبد الوهاب، حتى نشأت هذه الدولة في مراحلها الثلاث، - ولله الحمد - في رخاءٍ وازدهار، ثم قام الملكُ عبد العزيز - رحمه الله - بهذه البلاد بكل خيرٍ، فقامت مُزدهِرةً سعيدةً هنيئةً - ولله الحمد -.
ألا وإن من أعظم النعَم على حُكَّامها وأهلها: أن جعلهم خُدَّامًا لضُيوف الرحمن، فلم يألُ حُكَّامُها بكل غالٍ ورخيصٍ في خدمةِ الحُجَّاج والمُعتمِرين وفي خدمةِ البيتين العظيمَيْن والمسجدَيْن الشريفين والحرمَيْن الكريميْن.
فجزى الله حُكَّامَها خيرًا، ومدَّ الله في عُمر خادم الحرمَيْن ونائبِه، وجزاهم الله خيرًا، وجعل الله هذه البلادَ آمنةً مُطمئنةً رخاءً سخاءً.
وإن الواجبَ - أيها المسلمون - تجاه هذه النِّعَم التي أنعمَ الله بها على أهل هذه البلاد أن يتكاتفَ أهلُها مع حُكَّامها على الخير والبرِّ، وأن يتعاوَنوا على ذلك، وأن يحذَروا من كل دعوةٍ تَكِيدُ لحُكَّامها ولأهلها ولمُجتمعها.
نسأل الله - جل وعلا - أن يُحقِّقَ لنا الأمنَ والأمان في هذه البلاد وفي جميع بُلدان المسلمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللم أذِلَّ الشركَ والمشركين.
اللهم اغفر لنا في هذا اليوم، اللهم اغفر لنا في هذا اليوم الكريم، اللهم كفِّر عنا السيئات وارفع لنا الدرجات، اللهم اكتُبنا مع الفائزين، اللهم اكتُبنا مع الفائزين، اللهم اكتُبنا مع الفائزين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارحمنا برحمتك، اللهم اعفُ عنَّا يا عفوُّ يا كريم.
اللهم سلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم سلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم وأكمِل لهم نُسُكَهم على أحسن حالٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمُسلمات الأحياء منهم والأموات.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضى، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المسلمين لما فيه خدمةُ رعاياهم، اللهم احفَظ بُلدان المسلمين، اللهم احفظ بلاد المسلمين، اللهم احفظ المسلمين في الشام، اللهم احفظ المسلمين في الشام، اللهم احفظ المسلمين في الشام وفي اليمن، اللهم احفظ المسلمين في مصر وفي تونس وفي ليبيا، اللهم اجعل لهم حياةً سعيدةً طيبةً يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أعِد علينا هذا العيدَ أعوامًا عديدة وأزمِنةً مديدة ونحن في صحةٍ وعافيةٍ وفي طاعةٍ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم يا غني يا حميد يا ولي يا حميد يا ولي يا حميد أنزِل علينا الغيث، اللهم أنزِل علينا الغيثَ، اللهم أنزِل علينا الغيثَ، اللهم ارحمنا رحمةً من عندك، اللهم ارحمنا رحمةً من عندك، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
عباد الله:
اذكروا اللهَ ذكرًا كثيرًا، وسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدنا ونبيِّنا محمد وآله وصحبه.

ابوحاتم 11-12-2011 12:13 AM

ما بعد الحج

ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 15/12/1432هـ بعنوان: "ما بعد الحج"، والتي تحدَّث فيها عما يعقُب مناسكَ الحج من المُداومة على الطاعات، والمُسارعة إلى فعل الحسنات وترك السيئات، وأشادَ بجهود خادم الحرمين والقائمين على تيسير المناسك للحُجَّاج والمُعتمرين، ونبَّه على ضرورة تعلُّم آداب وأحكام زيارة المسجد النبوي الشريف.

الخطبة الأولى


إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، أحمده - سبحانه - أكمل لنا المناسك وأتمَّ، وأسبغَ على الحَجيج فضلَه المِدارارَ الأعمَّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نسمُو بها إلى أعلى القِمَم، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أزكى من أدَّى المناسِكَ وطافَ بالبيت العتيق وأمَّ، وأبانَ معالمَ الدين ورسَم بأبلغِ عبارةٍ وأوجزِ الكلِم، صلَّى الله عليه وعلى آله الأطهارِ صفوةِ الأُمَم، السالكين النهجَ القويمَ الأَمَم، وأصحابِه الأخيارِ أُسدِ العَرين ولُيُوثِ الأَجَم، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ما قصدَ المسجدَ الحرام حاجٌّ والتزَم، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله! حُجَّاج بيت الله الحرام:
اتقوا الله - تبارك وتعالى - حقَّ التقوى؛ فإنها أنفسُ الذخائِر، والأثرُ الجليلُ لما أدَّيتُم من أعظم الشعائر، فتقوى الله - سبحانه - ضياءُ الضمائر، ونورُ البصائر، وترياقُ السرائر، وخيرُ عاصمٍ من الجرائر، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة: 197].
يريدُ المرءُ أن يُؤتَى مُناهُ ويأبَى اللهُ إلا ما أرادا
يقول المرءُ: فائدتي ومالي وتقوى اللهِ أعظمُ ما استفادا

وفودَ الرحمن! أيها الحُجَّاج الكرام:
منذ أيامٍ قلائل نعِمتم بإكمال مناسكِ الركنِ الخامسِ من أركان الإسلام، وأحدِ مبانيه العِظام، في أجواءٍ إيمانية سعيدةٍ، وأوضاعٍ أمنيَّةٍ فريدة، فاقدُرُوا هذه النعمةَ الكبرى التي يغبِطُكم عليها سائرُ الأمم، واشكروا المولى - سبحانه -؛ حيث أفاضَ عليكم أزكَى المِنَن والنعَم، وغمَرَكم فضلُ الباري بالحجِّ إلى البيت الذي جعله مثابةً وأمنًا للناس، وفي ذلك الأجرُ الجزيلُ بغير قياس، وعلى إثر ذلك ودَّعَت أمتُنا الإسلامية مناسبةَ عيد الأضحى الغرَّاء، وأيامَه العبِقَة الزهراء؛ إذ المقامُ بعدئذٍ مقامُ شكرِ المُنعِم - سبحانه -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم: 7].
فاشكروه تعالى حقَّ شكره، واذكروه - جل وعلا - حقَّ ذكره؛ فقد وقفتُم بأزكى البِطاح ترجُون غفرانَ الذنوب والجُناح، وتأمُلون الفوزَ بالأجر والفلاح، وقد نقعتُم أنفسَكم وأرواحَكم في مُغتسَل المغفرة ونفحاتها، وسحجتُم الآثامَ بشآبيب الرحماتِ وهبَّاتها، تدعون ربَّكم بألسنةٍ طاهرة وقلوبٍ خاشعة ونفوسٍ مُنكسِرةٍ ضارِعة وأعيُنٍ بالعَبَرات سكَّابةٍ دامِعة.
عيونٌ إلى الرحمنِ ترنُو ضراعةً فينهَلُّ فيضٌ من مدامِعِها سكبًا
حجيجٌ كموجِ البحر في زحمةِ التُّقَى يُلبِّيه ربُّ العالمين إذا لبَّى


فعلى صعيدِ عرفاتٍ لهَجتُم إلى الله بالتجاوُز عما كان من السيئات وفات، ووقفتُم - أحبَّتنا الحُجَّاج - موقفَ المُفتقِر المُحتاج، فأحرزتُم غايةَ الحُبور والابتِهاج، ونحرتُم الأضاحِيَ والهدايا بمِنَى، ورميتُم الجمرات للمُنى، وحلَّقَت أرواحُكم في أنداء الصفا بالسعي بين المروة والصفا، وعند الركن والمقام انهلَّت منكم العبَراتُ السِّجام.
وعند الرُّكنِ تنحسِرُ الخطايا مُلملِمَةً جوانِحَها انهِزامًا
فتنشرِحُ الصدورُ بطِيبِ ذكرٍ أماطَ الكربَ عنها والقَتَاما

ومن كان بهذه المثابة؛ فأحرِ به أن يُكرِمَه المولى بعظيمِ الأجر والإنابة، وحقيقٌ به أن يعمُرَ بالبُرُور والقُرُبات أوقاتَه وأزمانَه، وأن يُطلِقَ دومًا للحسنات عِنانَه.
فهنيئًا لكم، ويا بُشراكم بقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة»؛ خرَّجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
الله أكبر؛ لكأنها كلماتٌ من لؤلؤ على بِساطٍ من سُندُس.
معاشر الحَجيج الأكارِم:
وها قد انعطفتُم في حياتِكم إلى عهدٍ جديدٍ، وميلادٍ مباركٍ سعيد، مُشرِقةٍ صفحاتُه، نقيَّةٍ أوقاتُه، سنيَّةٍ ساعاتُه، وها قد انقَضَت المناسِك؛ فماذا بعدُ أيها الناسِك؟!
ألا فالزَموا المُداومَةَ على الأعمال الصالحة والثبات، والاستقامةَ عليها حتى الممات، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
وتزوَّدوا - يا رعاكم الله - من مناهلِ حجِّكم بالتوبة النَّصوح واليقين المتين، والنفسِ الزكيَّة، والسجايا السنيَّة لخوضِ غِمار الحياة بصالح الأعمال وخالصِ النيَّة، وحُسن استثمار هذه الدنيا الدنيَّة.
قيل للحسن البصري - رحمه الله -: ما الحجُّ المبرور؟ قال: "أن تعودَ زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة".
أمةَ الإسلام، حُجَّاج بيت الله الحرام:
ومُقتضى الحجِّ المبرور: التغييرُ إلى مرافِئِ الرُّقِيِّ والحُبُور، وذلك بالاعتصام بحبل الله المتين، والتوادُدِ والاتفاق ونبذِ التنازُع والافتراق، والتواصِي بالصلاحِ ومكارمِ الأخلاق، واجتِنابِ المُوبِقات والمُنكراتِ ودواعِي النفاق.
فطهِّروا ألسنتَكم من الكذبِ والغِيبَة والآثام، ومنكرِ القولِ والشِّتام، وزكُّوا قلوبَكم فإنها محلُّ نظرِ ذي الجلال والإكرام.

فيا حُجَّاج بيت الله كونوا على المنهاجِ روَّادًا عِظامًا
وتلك العُروةُ الوُثقى شِعارٌ فلا ترضَوا لعُروتها انفِصامًا
معاشر المسلمين، والحُجَّاج الميامين:
ولا بُدَّ لهذه المناسبة الكريمة ومناسِكِها العظيمة أن نستلهِمَ منها الآيات والعِبَر، والتذكُّر في صُروفِ الدَّهر وما له من غِيَر؛ فإن هذه الفريضةَ العظيمةَ منبعٌ ثرٌّ للتسامُح والتحاوُر، والتضامُن والتشاوُر، تتجلَّى فيها أسمَى صور الأمة الواحدة التي اجتمعَت على هدفٍ واحد، فلا ينبغي أن يمرَّ موسمٌ إلا وتعلَّمَت الأمةُ من هذا التجمُّع الكبير دروسًا بليغة، وخرجَت بطاقاتٍ فريدة، تُستَمَدُّ من هذه الجُموع المُبارَكة.
وأرضُ الحرمين - حرسَها الله - منحَت العالمَ - بفضل الله - صُور المُسامَحة والتعاوُن، وقِيَم الأمن والأمان، وكم في هذه الفريضة من المشاهد الإسلامية والإنسانية، والصُور الحضارية التي لا تظهر إلا في هذه البِقاع الطاهرة، لتُدرِكَ الأمة أنها بغير الإيمان والعقيدة وبدون الاعتصام بالكتاب والسنة لن ولا ولم تكن شيئًا مذكورًا، وأن عواملَ الخلافِ والفُرقة لن تحمِلَ غيرَ الشتاتِ والضياع.
وإننا باسم الأمة الإسلامية قاطبةً لنُناشِدُ من مهبِطِ الوحي ومنبَعِ الرسالة قادةَ الأمة وشُعوبَها القيامَ بدورهم التأريخي في العمل على بثِّ الأمن والاستقرار في مُجتمعاتهم، ونبذِ العُنفِ والقمعِ والقتلِ والعُدوان، ورفعِ الظلمِ والبغيِ والطغيان، مُدرِكين أن الوعيَ الحَصيفَ هو السبيلُ - بعد الله - لاختيار طريق التوحيد والوَحدة لا التخبُّط والاضطرابِ والفَوضَى.
فالتحدِّيات المُتسارعة، والمُتغيِّراتُ المُتلاحِقة لهذه الأمة تستدعِي منها أن تعِيَ مخاطرَ المُستقبَل فتستشرِفَه بكل ثقةٍ واقتِدار، وها هو الزمانُ يسيرُ بنا سيرًا حثيثًا ولسانُ العِبَر والعِظات يتلُو علينا كلَّ يومٍ حديثًا، عروشٌ زالَت، ودولٌ دالَت، وأخرى انتصَرَت وقامَت، وكذا ذو المَنون تعثامُ الخِيَرة الأعلام والأعِزَّةَ الكرام والأقارِبَ والأرحام، أسكنَهم الله فسيحَ الجِنان، وجزاهم عنا وعن المسلمين أعظمَ الأجر والإحسان. وهكذا الدنيا راحلٌ بعد راحِل، وعِبَرٌ لكل مُتدبِّرٍ عاقل.
فكونوا - يا عباد الله الكرام، ويا حُجَّاج بيته الحرام - من المُشمِّرين للدار الآخرة، الساعين للمنازل العالية الفاخِرة.
أيها الإخوة المؤمنون:
ومن شُكر المُنعِم المُتفضِّل - جل جلاله -: التحدُّث بما حبَى الله بلاد الحرمين الشريفين - حرسَها الله - من شرفِ خدمةِ الحُجَّاج مُحتسِبَةٍ الأجرَ والمثوبةَ من الله - جلَّ في عُلاه -، ومُضيِّها في خدمةِ ضُيوف الرحمن مُستمِدَّةٍ العونَ من المولى - تبارك وتعالى -، فخدمةُ الحُجَّاج والمُعتمِرين، ورعايةُ أمنِهم وطمأنينتهم تقعُ في أعلى مسؤولياتها وقمة اهتماماتها، مُستشعِرةً في ذلك عِظَمَ الأمانة المُلقاةِ على عاتقها.
ومن فضل الله وتوفيقه تحقيقُها النجاحات المُتميِّزة في تقديم منظومةِ الخدماتِ المُتألِّقة في الجوانب كافَّتها، وهنا لا بُدَّ من إزجاء تحيةِ اعتزازٍ وتقدير، ودعاءٍ وتوقير للقائمين على شؤون وفود الرحمن بكل حِذقٍ وتفانٍ أن يجزِيَهم الله - سبحانه - خيرَ الجزاء وأوفاه، وأعظمَه ومُنتهاه.
والدعاءُ موصولٌ للجُنود المجهولين الساهرين على خدمةِ الحَجيجِ وراحتهم على تنوُّع اختصاصاتهم، لا سيَّما في لجنة الحجِّ العُليا والمركزية والأمنية والعلمية والدعوية والصحية، لا حرمَهم الله ثوابَ ما قدَّموا، وأجرَ ما أحسَنوا، كِفاءَ ما أجدَعوا واجتَهدوا لإنجاحِ هذا الموسمِ العظيم باقتِدار، على الرغمِ من المحدودية المكانية والزمانية والظروفِ الإقليمية والمُتغيِّرات الدولية.
وإننا باسم جُموع حُجَّاج بيت الله العتيق لنرفَعُ التهانِيَ مُضمَّخةً مُعطَّرة، والدعواتِ صادقةً مُؤرَّجَة لمقام خادم الحرمين الشريفين ووليّ عهده الأمين - حفظهما الله -، وللأمة الإسلامية جمعاء على ما منَّ به - سبحانه - من نجاحِ موسم حجِّ هذا العام بامتياز، فلله الحمدُ والفضلُ والشُكر على ما أنعمَ وجادَ، ووفَّق للسداد والرشاد، والأمن والاستقرار والإسعاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة: 200- 202].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافةِ المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوَّابين غفورًا.

ابوحاتم 11-12-2011 12:21 AM

الخطبة الثانية


الحمد لله وليِّ التوفيق والإصابة، أحمده - سبحانه - خصَّ من شاء من عباده بالحجِّ المبرورِ والمغفرة والإنابة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجُو بها من الرحمن دعوةً مُجابة، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله ذو القدرِ العليِّ والذاتِ المُهابَة، خيرُ من درَجَ على ثرَى أمِّ القُرى والمدينةِ طابَة، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ الأطهارِ ذوِي المكارِمِ والنجابَة، وصحبِه الأخيار أُولِي النفوس الأبِيَّةِ المُستطابة، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.


أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله - تبارك وتعالى - حقَّ التقوى، واعتصِموا لذلك بالعُروة الوُثقى، واعلًَموا - رحمكم الله - أن المولى - سبحانه - بعثَ فيكم رسولَه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لتُعزِّرُوه وتوقِّروه، فيا بُشرَى من أجابَ دعوتَه ومُنادِيَه، وأفلحَ من امتثلَ أوامِرَه واجتنبَ نواهِيَه.
أيها الحُجَّاج الميامين:
وبعد أن قضيتُم مناسِكَكم، وزعمَ بعضُكم على زيارة مسجدِ المصطفى - عليه الصلاة والسلام -، وشدَّ لذلك المَطايا والرِّحال، هنيئًا لكم الحِلُّ والتَّرْحال، وليكن من بعلمٍ وحُسبان أن الزيارةَ ليست من واجباتِ الحجِّ وأركانه، وليس في تركها انثِلامُه أو نُقصانُه؛ بل الحجُّ - بفضل الله - تامٌّ صحيحٌ، وصاحبُه ذو عملٍ نَجيح، وأجرٍ عميمٍ رَبيح، وما يُذكَر من روايات ارتباطِ الزيارةِ بالحجِّ ضعيفةٌ موضوعة، أو واهيةٌ مصنوعة.
ولكن من زارَ طيبةَ الطيبة قُربةً واحتِسابًا وحُبًّا لتلك المرابِعِ لُبابًا أثابَه الباري أجرًا وثابًا؛ أليست هي مأرِزَ الإيمان، ومُهاجَرَ سيد ولد عدنان - عليه الصلاة والسلام الأتمَّانِ الأكملان -؟!
هذي دُونَكم طيبَةٌ ورُبُوعُها قد بُورِكَت في العالمين رُبوُعًا
هذي المدينةُ قد تألَّقَ فوقَها تاجٌ يُرصَّعُ بالهُدى ترصيعًا
هي مأرِزُ الإيمان في الزمنِ الذي يشكُو بناءُ المكرُماتِ صُدوعًا
فيا أيها الزوَّار الأخيار:
وأنتم تقدُمون مدينةَ المُصطفى المُختار - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام - تذكَّروا وجوبَ اتباعِ سُنَّته واقتِفاء محجَّته والارتِواءَ من سيرته؛ لأن في اتباعه الهُدى والصلاح والفوزَ والفلاح، وفي التمسُّك بسُنَّته السنيَّة وسيرتِه المُشرِقَة البهيَّة الشمسُ الساطِعة، والمِشعَلُ الوضَّاء، والسَّنَى المُتلألِئُ الذي يُبدِّدُ غياهِبَ الانحِرافاتِ العقديَّة، والمُمارَساتِ السلوكية، والنَّعَراتِ الطائفيَّة، ويرتقِي بالأمة إلى ذُرَى القِمَم الاجتماعية والحيَويَّة.
وقد حذَّرَ المولى - سبحانه - من مُخالفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور: 63].
ومُقتضى طاعته ومحبَّته - صلى الله عليه وسلم -: تعلُّم آداب زيارة مسجده الشريف وآداب السلام عليه وعلى صاحبَيْه - رضوانُ الله عليهما -، وآداب الإقامة في مدينته النبوية المُنوَّرة، لا زالت بالبركات مُحاطةً مُسوَّرة.
وختامًا - إخوة الإيمان -:
وأنتم في مهبِط الوحيِ على وداعٍ، ومن منبَع الرسالةِ على فِراقٍ والتِياع، لا نملِكُ إلا اغتِنام الفُرصة عن الضياع، مُردَّدين على الأسماعِ عبرَ الأصداءِ والأصقاع دعاءَ الأُخُوَّة والوداع: نستودِعُ اللهَ دينَكم وأمانتَكم وخواتيمَ أعمالكم، زوَّدكم الله التقوى، وغفرَ ذنوبَكم، ومحا حُوبَكم، وحقَّق آمالَكم وسُؤلَكم، وبلَّغَكم مرادَكم ومأمولَكم، وجعل حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا، وأعادَكم إلى أهلِكم وديارِكم سالمين غانِمين مأجُورين غيرَ مأزورين، فرِحين مُستبشِرين، وعلى الطاعةِ دائبين، وعلى الاستقامةِ دائمين، إنه سميعٌ مُجيب.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خيرِ الورَى الحبيبِ المُجتبَى والرسولِ المُرتَضَى، كما أمركم المولى - جل وعلا -، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا»؛ خرَّجه مسلمٌ من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -.
صلَّى عليك الله ما قرأَ الورَى آيَ الكتابِ وسُورةَ الفُرقانِ
مِنَّا السلامُ عليك ما هبَّ الصَّبَا فوقَ الرُّبَى وشقائقِ النُّعمانِ
اللهم صلِّ على محمدٍ وآلهِ وأزواجِه وذريَّته، كما صلَّيتَ على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمدٍ وآلهِ وأزواجِه وذريَّته، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم عن الأئمة الأربعةِ الخلفاء الراشدين، الأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، والمُسافِرين في برِّك وبحرِك وجوِّك أجمعين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمَّتنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا.
اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفَين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيَته للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحة التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَهم وأعوانَهم إلى ما فيه صلاحُ الإسلام والمسلمين، اللهم اجزِهم خيرَ الجزاءِ وأوفرَه جزاءَ ما قدَّموا ويُقدِّمون لخدمةِ حُجَّاج بيتك الحرام.
اللهم اجعل ذلك في موازين أعمالهم وصفحات حسناتهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة أمور المسلمين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى، واجعلهم لشرعِك مُحكِّمين، ولسنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - مُتَّبعين، ولأوليائك ناصِرين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم احقِن دماءَ المسلمين، اللهم احقِن دماءَ المسلمين، اللهم احقِن دماءَ المسلمين، واحفَظ أمنَهم وإيمانَهم واستقرارَهم في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من المُحتلِّين المُعتدين، اللهم اجعله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين، اللهم عليك بالصهايِنة المُعتدين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبرين يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر لفقيد الأمة الإسلامية سلطان بن عبد العزيز، اللهم اغفر له وارحمه، اللهم ارفَع درجاته في المهديِّين، اللهم ضاعِف حسناته في علِّيِّين، اللهم اخلُفه في عقِبِه في الغابِرين، اللهم اغفر لنا وله ولسائر المسلمين ولموتانا وموتى المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِث قلوبَنا بالإيمان واليقين، وبلادَنا بالخيرات والأمطار والغيثِ العَميم.
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وجميعِ المسلمين الأحياءِ منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 11-19-2011 01:15 PM


سُبُل المحافظة على الطاعات
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 15/12/1432هـ بعنوان: "سُبُل المحافظة على الطاعات"، والتي تحدَّث فيها عن المحافظة على الطاعات والتي تكون بالاستقامة عليها والثبات، والمُداومة على فعلها والمُسارعة في تأديتها، ومُجاهَدة النفس على العبادة والبُعد عن المحظورات.

الخطبة الأولى
الحمد لله على نعمة الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ العلاَّم، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه - عليه أفضلُ الصلاة والسلام -.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أُوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -؛ فهي سببُ الفلاح في الدنيا وفي الأخرى.
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
هنيئًا لكم على نعمةِ إتمامِ النُّسُك - بحمد الله - بسلامةٍ وعافيةٍ وراحةٍ واطمئنان، أتمَّ الله - جل وعلا - على جميع المؤمنين النِّعَم ودفعَ عنهم النِّقَم، وجعل الله حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبًنا ذنبَكم مغفورًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
الحجُّ المبرورُ يُكفِّرُ الله به السيئات، ويرفعُ به الدرجات، ويُدخِلُ به الجنَّات، ولكن للحجِّ المبرورِ علاماتٌ يُعرفُ بها، ذكرَها أهلُ العلم من خلال استقراء النُّصوص من القرآن والسنَّة.
ألا وإن أعظم تلك العلامات: أن يستقيمَ العبدُ على طاعة الله - جل وعلا -، وأن يرجِعَ الحاجُّ راغبًا في الآخرة، مُشمِّرًا إلى المُسارعة إلى الأعمال الصالحة، مُلتزِمًا طاعةَ الله - جل وعلا - حتى الممات؛ استِجابةً لقول الله - جل وعلا -: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
نعم؛ إن من علامات قبول الطاعات - ومنها الحجُّ -: الاستقامةَ الدائمةَ على البرِّ والتقوى، وربُّنا - جل وعلا - يقول لمن غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر - وهو أمرٌ لأمَّته -: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[هود: 112]، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ[فصلت: 6].
جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدك. فقال: «قُل: آمنتُ بالله، ثم استقِم».
أيها المسلمون:
إنها الاستقامة التي تتضمَّنُ كمالَ الذلِّ لله - جل وعلا - وتمام المحبَّةِ له - عزَّ شأنُه -، مع الصبر على فعلِ المأموراتِ واجتِنابِ المحظورات، والصبر على المقدورات، مع اتباعِ محاسنِ الأخلاق ونبيلِ الصفات.
جاء رجلٌ إلى الحسن البصري، فقال له: إن جزاء الحجِّ المبرور المغفرة. فقال له الحسن: "آيةُ ذلك: ألا يقودَ إلى سيِّئِ ما كان عليه من العمل".
وذكرَ ابنُ رجبٍ وغيره أن رجلاً حجَّ ثم باتَ مع قومه في مكة، فدعَته نفسُه إلى معصية الله، فسمِعَ هاتِفًا يقول: يا هذا! ألم تُحُجَّ؟! فجعل الله ذلك سببًا لعِصمته من ذلك الذنب.
أيها المسلمون:
إنه وإن كان الحجُّ له جزيلُ الثواب وعظيمُ الأجر؛ فإن أعظم ما ينبغي أن يُعتَنى به في هذه الحياة اغايةُ العُظمى، وهي: تحقيقُ الإيمان لله - جل وعلا -.
سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيِّ الأعمال أفضلُ؟ قال: «إيمانٌ بالله، ثم جهادٌ في سبيل الله، ثم حجٌّ مبرور»؛ وهو في "الصحيحين".
فالإيمانُ بالله - جل وعلا - هو الغايةُ التي خُلِق الخلقُ من أجلها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56]، إنه الإيمانُ المُتضمِّنُ تحقيقَ التوحيد بإفراد الله - جل وعلا - بالعبادةِ والخوفِ والرجاء والإنابةِ والتوكُّلِ والدعاء، فالمؤمنُ الصادقُ هو الذي لا يعبُدُ إلا الله - جل وعلا -، ولا يدعُو ويسألُ إلا ربَّه - سبحانه -، فلا يطلُبُ كشفَ ضُرٍّ ولا جلبَ نفعٍ إلا من الله - عز وجل -، فغربُّنا - جل وعلا - يقول: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ[يونس: 106]. والآياتُ في هذا كثيرةٌ جدًّا.
ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعودٍ يقول: «من ماتَ وهو يدعُو من دون الله نِدًّا دخل النار»؛ رواه البخاري.
وخرَّج مسلمٌ من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخلَ الجنةَ، ومن لقِيَه يُشرِكُ به شيئًا دخلَ النارَ».
إنه الإيمانُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطاعته فيما أمر، واجتِنابِ ما نهى عنه وزجَر، وألا يُعبَدَ الله - جل وعلا - بشيءٍ إلا بما شرَعَه وقرَّرَه بقوله أو فعله أو تقريره.
وأما المُجاهَدة في سبيل الله؛ فإن أعظمَها: مُجاهَدةُ النفس على طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد روى أحمد - بإسنادٍ حسن -، ورواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ" - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُجاهِد من جاهدَ نفسَه في سبيلِ الله».
جاء رجلٌ إلى أحد كِبار الصحابةِ فقال له: إني أريدُ أن أغزُو. فقال: "عليك أولاً بنفسك فاغزُها، وعليك بنفسِك فجاهِدها في سبيل الله".
ألا وإن أعظمَ المُجاهَدة: أن يُجاهِدَ الإنسانُ نفسَه على فعل المأمورات؛ ومن ذلك: المُحافَظة على الصلوات المفروضة، وألا يُشغِلَ الإنسانَ عنها شيءٌ إلا لعُذرٍ قاهرٍ.
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم - أنه قال: «ألا أدلُّكم على ما يمحُو اللهُ به الخطايا، ويرفعُ به الدرجات؟ إسباغُ الوضوء على المكارِه، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاة، وكثرةُ الخُطا إلى المساجِد، فذلكم الرِّباطُ، فذلكم الرِّباطُ، فذلكم الرِّباطُ».
ألا وإن أعظم المُجاهَدة للنفس: أن يحفَظ الإنسانُ نفسَه - لسانًا ويدًا وجوارِح - من أن يُؤذِيَ إخوانَه المؤمنين بقولٍ أو فعل؛ فإن من أعظم ما يُكدِّرُ الحسنات حقوقُ المخلوقين، فنبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث الصحيح: «المُهاجِر من هجرَ ما نهَى الله عنه، والمُسلمُ من سلِمَ المُسلِمون من لسانِه ويدِه».
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حذَّرَنا من الإفلاس الحقيقي، حينما قال: «أتدرُون من المُفلِس؟». قالوا: المُفلِسُ هو من لا دِرهَم عندَه ولا دِينار. قال: «المُفلِس: هو من يأتي بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وصومٍ وحجٍّ، ثم يأتي يوم القيامة وقد شتمَ هذا، وضربَ هذا، وأخذَ مالَ هذا، فيأخُذُ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنِيَت حسناتُه أُخِذ من سيئاتهم فطُرِحت عليه، فطُرِح في النار».

أيها المسلمون:
إن من المُجاهَدة للنفس: أن يكون الإنسان ذا همَّةٍ عالية، ونفسٍ شريفةٍ توَّاقةٍ إلى فعل الخيرات، فصحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سمِعوا قولَ الله - جل وعلا -: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة: 148]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[الحديد: 21] حرِصَ كلُّ واحدٍ أن يكون هو المُسارِع المُسابِقَ لغيره في ذلك.
يقول عمر - رضي الله عنه -: "ما استبَقنا إلى خيرٍ إلا سبَقَنا إليه أبو بكرٍ" - رضي الله عن الجميع -.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا حسدَ إلا في اثنتَيْن: رجلٍ آتاه الله مالاً فهو يُنفِقُ منه سرًّا وجهرًا، ورجلٍ آتاه الله القرآن فهو يتلُوه ويُعلِّمُه آناءَ الليل وناء النهار».
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[فصلت: 30].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعَنا بما فيه من الآيات والهُدى والفُرقان، أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.


ابوحاتم 11-21-2011 03:28 PM

آيات الله في الحج
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 22/12/1432هـ بعنوان: "آيات الله في الحج"، والتي تحدَّث فيها عن آيات الله في الحج، وذكر ما ينبغي على الحاج بعد حجِّه من المحافظة على عبادته بالاستمرار على الطاعة بعد الطاعة، ودوام المحاسبة للنفس، وما إلى ذلك.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيها المسلمون:
تفضَّل الله على خلقه بتنوُّع العبادات منها ما هو باطنٌ في القلب، ومنها ما هو ظاهرٌ على الجوارِح، وأركانُ الإسلام والإيمانُ مدارُها على ذلك، وقد عاد الحَجيجُ من بيت الله الحرام بعد أداء أفضل عبادةٍ بدنية.

قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "واستعملَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبا بكرٍ على أول حجَّةٍ حُجَّت من مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وعلمُ المناسك أدقُّ ما في العبادات، ولولا سعة علم أبي بكرٍ لم يستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - أميرًا على الحجِّ في السنة التاسعة؛ ليُعلِّم الناسَ أحكامَ الحج؛ لأنه أفقهُ الصحابة".
في الحج تظهرُ آياتٌ للخلق على صدق الرسل؛ فإبراهيم - عليه السلام - يدعو ربَّه: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ[إبراهيم: 37]، فوفدَ الحَجيجُ من كل فجٍّ عميقٍ وأدَّوا حجَّهم.
قال ابن كثير - رحمه الله -: "فليس أحدٌ من أهل الإسلام إلا وهو يحِنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف، والناسُ يقصِدونها من سائر الجهات والأقطار".
والمُخلِصُ يستجيبُ الله دعوتَه ولو بعد مماته، وفي كل عامٍ يظهرُ أثرُ دعوة الخليل، فيستجيبُ المسلمون لدعوته، والوفاءُ من شِيَم الرجال، ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - صبرَ على الأذى والكُروب لتنعَمَ أمتُه بالهداية. قال لعائشة - رضي الله عنها -: «يا عائشة! لقد لقيتُ من قومكِ ما لقيتُ».
والصحابة - رضي الله عنهم - هجَروا الأوطانَ وتغرَّبوا في البُلدان لحمل رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتبليغها بعزمٍ وأمانة، ونشرِ الإسلام في الآفاق بالدعوة والقُدوة، وواجبٌ على المسلم أداءُ حقوق النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدَّمه لهذا الدين؛ بمحبَّته - عليه الصلاة والسلام - والتأسِّي به ونشر دعوته، والوفاء لصحابته - رضي الله عنهم - بمحبَّتهم والترضِّي عنهم والذبِّ عنهم.
ومن أدَّى فريضَة الحجِّ أو غيرَها واجبٌ عليه الحِفاظُ عليها من الرياء بها أو المُباهاة أو المُفاخَرة، ومن أدخل في عبادته رياءً أو سُمعةً أو ابتغَى مدحَ الناس له لم تُقبَل منه عبادتُه، ولن يكون له منها سوى التعبِ والنَّصَب؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله لا يقبلُ من العمل إلا ما كان له خالِصًا وابتُغِي به وجهُه»؛ رواه أبو داود.
ومن أخلصَ لله تقبَّل الله عمَلَه وضاعفَ أجرَه؛ قال - سبحانه -: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ[البقرة: 261].
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "أي: بحسب إخلاصه في عمله".
والنعمُ تدومُ وتزيدُ بالشُّكر، ومن أدَّى عبادةً وحمِدَ الله عليها يسَّر الله له عبادةً بعدها لينالَ ثوابَها؛ قال - عز وجل -: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ[محمد: 17]، ولذا شُرِع قول: الحمدُ لله، ثلاثًا وثلاثين مرةً دُبُر كل صلاةٍ مفروضة لشُكر الله على أداء تلك الصلاة.
وأمارةُ قبول العمل الصالحِ الحسنةُ بعده؛ قال سعيد بن جُبَير - رحمه الله -: "من ثوابِ الحسنةِ الحسنةُ بعدها، ومن عقوبةِ السيئةِ السيئةُ بعدها".
والمسلمُ إذا فرغَ من عبادةٍ أعقبَها بعبادةٍ أخرى؛ قال - سبحانه -: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ[الشرح: 7].
قال ابن الجوزي - رحمه الله -: "أي: فادأَب في العمل".
ولا تنقطعُ العبادةُ إلا بالموت؛ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
وإذا عمِلَ المسلمُ عملاً صالحًا وأخلصَ فيه لله وجبَ عليه حِفظُه بالحَذَر من الوقوع في الشرك؛ إذ أنه يُحبِطُ الحسنات؛ قال - سبحانه -: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الزمر: 65].
قال ابن القيم - رحمه الله -: "إذا أرادَ اللهُ بعبدٍ خيرًا سلبَ رؤيةَ أعماله الحسنةِ من قلبه، وسلبَ الإخبارَ بها من لسانه، وشغَلَه برؤية ذنبه".
وسؤالُ الله قبول العمل الصالح من صدق الإيمان؛ بنى إبراهيم - عليه السلام - الكعبةَ ودعا ربَّه: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[البقرة: 127].
والثباتُ على الدين من عزائمِ الأمور؛ ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ثبِّت قلوبَنا على دينك»؛ رواه ابن ماجه.
ومن لبَّى في حجِّه بالتوحيد وكبَّره في العيد وجبَ عليه الوفاءُ بوعده مع الله، وذلك بألا يدعو سواه، ولا يلجَأ إلى غيره، ولا يطوفَ بغير الكعبة؛ قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ[فاطر: 13].
ومن توجَّه إلى الله أعانَه؛ قال - جلَّ شأنُه -: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا[العنكبوت: 69].
وليس من شرط صحة الحجِّ زيارةُ المدينة النبوية؛ بل قصدُ مسجدها سنةٌ رغَّبَ فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - للحاجِّ وغيره بالصلاة فيه، فهو أحدُ المساجد الثلاثة التي لا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إليها؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا تُشدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى»؛ متفق عليه. وصلاةٌ فيه عن ألف صلاةٍ فيما سواه إلا المسجدَ الحرام.
ومن وصلَ إلى المدينة وسلَّم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلى صاحبَيْه أبي بكرٍ وعمر - رضي الله عنهما -، فمن المشروعِ له زيارةُ مسجد قُباء؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من تطهَّر في بيته ثم صلَّى في مسجد قُباء كان له أجرُ عمرة»؛ رواه ابن ماجه.
وتُشرعُ له زيارةُ مقبرة البَقيع وشُهداء أُحُد للدعاء لهم وللعِظَة والعِبرة بتذكُّر الآخرة.
والميتُ لا يملِكُ لأحدٍ نفعًا ولا ضرًّا ولا يُتعلَّقُ به، وإنما يُدعَى له بالمغفرة والرِّضوان، ومن يُدعَى له لا يُدعَى مع الله؛ قال - عز وجل -: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ[يونس: 106].
والمُوفَّق من اجتهَدَ في طاعة ربِّه وحفِظَ عملَه من البُطلان وسارَ على هديِ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وحاسبَ نفسَه في حياته، وسارعَ إلى الخيرات، وفازَ بالباقيات الصالحات.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ[الأنفال: 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


ابوحاتم 11-21-2011 03:29 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
من أدَّى فريضةَ الحجِّ حريٌّ به بعد أداء هذا الركن أن يحفظَ صحيفتَه بيضاء نقيَّة؛ فإنه من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ كيوم ولدَتْه أمُّه، وأن يكون قُدوةً لغيره في الصلاح والاستقامة والتفقُّه في الدين والمُحافظة على الصلوات جماعةً في بيوت الله.
ويجبُ أن يكون داعيًا بالحكمة والموعظة الحسنة، مُبتدِئًا دعوتَه بذوِي القُربى، وصادقًا مع ربِّه في دعوته وفي سائر أعماله كلها.
فالزَموا سنَّة نبيِّكم - عليه الصلاة والسلام -، وأخلِصوا لربِّكم، واحرِصوا على نفع إخوانكم المسلمين وتعليمهم ما ينفعهم وما يُصلِحُهم من أمور الدين؛ فلأَن يهدِي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حُمُر النَّعَم.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في محكم التنزيل: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنَّا معهم بجُودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ولِّ عليهم خيارَهم، واجمع كلمتَهم على الهُدى والحق يا رب العالمين.
اللهم تقبَّل من الحُجَّاج حجَّهم، واجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، وعملَهم مُتقبَّلاً صالحًا يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين[الأعراف:23].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 11-26-2011 09:32 PM

اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحات

ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 29/12/1432هـ بعنوان: "اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحات"، والتي تحدَّث فيها عن ضرورة اغتنام وقت المسلم فيما يُفيد، والمُبادرة إلى التوبة والندم على مضى، والمُسارعة إلى الطاعات والإقبال على الأعمال الصالحات.


الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله بارئِ النَّسَم، ومُحيِي الرِّمَم، ومُجزِلِ القِسَم، مُبدِع البدائع، وشارِعِ الشرائِع، دينًا رضيًّا، ونورًا مُضِيًّا، أحمدُه وقد أسبَغَ البرَّ الجزيل، وأسبلَ السترَ الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ آمنَ بربِّه، ورجا العفوَ والغُفرانَ لذنبه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وحِزبه، صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
الدنيا نعَم في طيِّها نقَم، شبابٌ يعقِبُه هرَم، وصحةٌ يتبَعُها سقَم، ولذَّةٌ آخرُها ندَم، وحياةٌ نهايتُها عدَم، حتفٌ موصوب، وموردٌ مكتوب، وما نفسٌ إلا يُباعِدُ مولدًا، ويُدنِي المنايا للنفوس فتخرُجُ.
ويا للمنايا ما لها من إقالةٍ
إذا بلغَت من مُدَّة الحيِّ حدَّها
ستُسلِمُك الساعاتُ في بعض أمرها
إلى ساعةٍ لا ساعةٌ لك بعدها

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[آل عمران: 185].
انظُر لنفسِك يا أخي
حتى متى لا تتقِي
والموتُ غايةُ من مضى
منا وموعدُ من بقِي

كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ[الرحمن: 26، 27].
يا مُدمِنَ الذنوب والإجراما! يا من أتى الآثامَ والحراما، على ما عوَّلتَ قُل لي علامَا.
يا غافلُ يا ذاهِل! أما رأيتَ من العِبرة ما يشفي؟! أما سمِعت من العِظَة ما يكفِي؟! ولذَّةُ الهوى زالَت، وسكرةُ الذنب حالَت، ولم يبقَ إلا التبِعَةُ والمُؤاخَذةُ والمُحاسَبة.
فأفِق من رقدتك، وانتبِه من غفلتك، وأعِدَّ الزاد، وجِدَّ في الجهاز.
شمِّر عسى أن ينفعَ التشميرُ، وانظُر بفكرِك ما إليه تصيرُ، أيُّ الورَى خالدٌ، أيُّ الناس لا يرِدُ، أيُّ نفسٍ لا تموت، أيُّ حيٍّ لا يفُوت، سيكونُ الذي قُضِي، سخِطَ العبدُ أم رضِي، ليس هذا بدائمٍ كلُّ هذا سينقضِي، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[آل عمران: 185].

ألا يا موتُ لم أرَ منك بُدًّا
أتيتَ وما تحيفُ وما تُحابِي
كأنَّك قد هجمتَ على مشيبي
كما هجَمَ المشيبُ على شبابي

«اغتنِم خمسًا قبلَ خمسٍ: شبابَك قبل هرَمك، وصحَتَك قبل سقَمك، وغِناكَ قبل فقرك، وفراغَك قبل شُغلك، وحياتَك قبل موتك». فما بعد الدنيا من مُستعتَب، وما بعد الدنيا دار إلا الجنةُ أو النار.
فحاذِر الزلَل، واحتقِر العمل، وخفِ السباقة، واحذَر الخاتمة، واخشَ فوات الآخرة، فلا رجعةَ ولا ردّ.
فامهَد لنفسك والأقلامُ جاريةٌ
والتوبُ مُقتبلٌ فاللهُ قد وعَدَا

قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ[الزمر: 53- 55].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والبيِّنات والعِظات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه إنه هو كان للأوَّابين غفورًا.


الخطبة الثانية

الحمد لله الذي لا خيرَ إلا منه، ولا فضلَ إلا من لدُنه، أحمدُه حمدًا لا انقطاعَ لراتِبِه، ولا إقلاعَ لسحائبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سميعٌ لمن يُنادِيه، قريبٌ ممن يُناجِيه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والسائرين على ذلك السبيل، وسائر المُنتمين إلى ذلك القَبيل.

أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
الزلَّةُ غلٌّ، والخطيئةُ ذُلٌّ، ورُبَّ عظمٍ هِيضَ فلم ينجبِر، فإن جُبِر فعلى وهاء، فتيقَّظوا وتنبَّهوا، واجعلوا التقوى عُدَّةً لكم عند كل مُشتهَى، واستوثِقوا من لجمِ النفس الجَموح، وامحُوا العثْرَة بالعَبْرة، والهفوَة بالصحوة، والإساءة بالإحسان.
طُوبَى لمن في مراضِي ربِّه رغِبَا
وعن مصارعِ أهل اللهوِ قد هرَبَا
قد وطَّن النفسَ أن اللهَ سائلُه
ففرَّ منه إليه مُنيبًا هرَبًا
وللتُّقَى مركبٌ ينجُو براكِبِه
فيا نجاةَ الذي مع أهلِهِ ركِبَا
وللهُدى رُفقةٌ فاسعَد بصُحبتهم
فيا سعادةَ من أهلَ الهُدى صحِبَا

وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[الكهف: 28].
ثم صلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدة صلَّى الله عليه بها عشرًا.
للخلقِ أُرسِل رحمةً ورحيمًا
صلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على عبدك ورسولِك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة أصحاب السنَّة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر آله وصحابته أجمعين، والتابعين لهم وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين.
اللهم كُن لأهلنا في الشام ناصرًا ومُعينًا، اللهم كُن لأهلنا في الشام ناصرًا ومُعينًا، اللهم كُن لأهلنا في الشام ناصرًا ومُعينًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم انصُرهم على الطغاة الظلَمة المُعتدين، اللهم انصُرهم على الطغاة الظلَمة المُعتدين.
اللهم عليك بالقتَلَة المُجرمين، اللهم عليك بالقتَلَة المُجرمين، اللهم عليك بالقتَلَة المُجرمين الذين سفَكوا الدماء، وقتَلوا الأبرياء، وعذَّبوا الشيوخَ والأطفالَ والنساء، أنزِل عليهم بأسَك، أنزِل عليهم بأسَك، أنزِل عليهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، بدِّد جمعَهم، فرِّق شملَهم، أذهِب قوَّتَهم، خالِف كلمتَهم.
اللهم أرِنا فيهم قُدرتك، اللهم أرِنا فيهم قُدرتك، اللهم أرِنا فيهم قوَّتك، اللهم أرِنا فيهم عظمتَك، زلزِلهم يا قويُّ، زلزِلهم يا قويُّ، زعزِعهم يا قادِر، دمِّرهم تدميرًا، ولا تجعل لهم في الأرض وليًّا ولا نصيرًا.
اللهم نجِّ إخواننا من قبضتهم، ونجِّ إخواننا من ظُلمهم، اللهم مُنَّ على إخواننا في الشام بالنصرِ والتمكين عاجلاً غير آجلٍ يا رب العالمين.
اللهم اجعل مصرَ أمنًا وأمانًا، ورخاءً وسلامًا، اللهم يا حي يا قيُّوم اللهم نجِّ إخواننا في مصر من الفُرقة والخلاف، اللهم وفِّق أهلَنا في مصر لما فيه عِزُّ مصر وصلاحُ مصر وخيرُ مصر يا رب العالمين.
اللهم ارحم موتاهم، واشفِ جرحاهم، واجبُر كسرَهم يا كريم.
اللهم من أراد إشاعةَ الفتنة والفوضى في مصر اللهم اكشِف سِرَّه، واهتِك سِترَه، واكفِهم شرَّه، واجعَله عبرةً يا رب العالمين. اللهم احفظ أهلَنا في اليمن، اللهم احفَظ أهلَنا في اليمن، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، اللهم ولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم شِرارَهم، اللهم حقِّق لهم الأمنَ والعِزَّ يا كريم.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها وعِزَّها واستقرارَها، ووفِّق قادتَها لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين ووليَّ عهده لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين.
اللهم من أراد أمنَنا واستقرارَنا ووحدتنا بسوءٍ اللهم فرُدَّ كيدَه، واجعل تدبيرَه تدميرَه يا سميعَ الدعاء.
اللهم تقبَّل من الحُجَّاج حجَّهم وسعيَهم، اللهم تقبَّل مساعِيَهم وزكِّها، اللهم تقبَّل مساعِيَهم وزكِّها، وارفع درجاتهم وأعلِها، اللهم حقِّق لهم من الآمال مُنتهاها، ومن الخيرات أقصاها، اللهم رُدَّهم إلى ديارهم سالمين غانِمين يا رب العالمين، اللهم رُدَّهم إلى ديارهم سالمين غانِمين يا رب العالمين.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرَق.
اللهم أنزِل في أرضِنا زينتَها، وأنزِل علينا في أرضِنا سكَنَها، اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَك، اللهم اسقِنا واسقِ المُجدِبين، وفرِّج عنَّا وعن أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أجمعين، جُد علينا برحمتك وإحسانك، وتفضَّل علينا بغيثِك ورِزقك وامتِنانِك يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 12-11-2011 11:36 PM

الوقت وأهميته في حياة المسلم
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 14/1/1433هـ بعنوان: "الوقت وأهميته في حياة المسلم"، والتي تحدَّث فيها عن الوقت وانقضائه، والعمر وانصرامِه، وما ينبغي على كل مسلمٍ من اغتنامِ أوقاته فيما يُرضِي الله تعالى، وضرورة مُحاسَبة الإنسان نفسَه دائمًا؛ لضمان السلامة في الدنيا والآخرة.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فالتقوى هي النجاةُ غدًا والزادُ أبدًا.
أيها المسلمون:
في مُرور الشهور والأعوامِ عبرةٌ وعِظَة، وفي طلوعِ الشمسِ وغروبِها إيذانٌ بأن هذه الدنيا شروقٌ ثم أُفول، أيامٌ تُزول، وأجيالٌ تتعاقَبُ على دربِ الآخرة، هذا مُقبلٌ وذاك مُدبِر، وهذا شقيٌّ وآخرُ سعيد، والكلُّ إلى الله يسير، والزمانُ وتقلُّباته أبلغُ الواعِظين، والدهرُ بقوارِعه أفصحُ المُتكلِّمين، ولئن طالَت الحياةُ بأحزانها، أو مضَت بأفراحها فغايتُها الفناء، والناسُ يعيشون في آخر مراحل الدنيا.
نظرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الشمسِ عند غروبِها فقال: «لم يبقَ من دُنياكم فيما مضى منها إلا كما بقِيَ من يومكم هذا فيما مضَى منه»؛ رواه أحمد.
والوقتُ ثمينٌ بلحَظاته، ويزيدُ نفاسةً إذا لم يبقَ منه سوى اليسير، واللهُ أقسمَ به فقال: وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ[العصر: 1، 2]، ومن الناسِ من كتبَ الله له فُسحةً في العُمر، ومنهم من يخطَفُه الأجلُ سريعًا، وخيرُ الناس من عاشَ في لحَظاتها ليرتقِيَ بها إلى آخرته.
قال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس خيرٌ؟ قال: «من طالَ عُمره وحسُن عملُه». قال: فأيُّ الناس شرٌّ؟ قال: «من طالَ عُمره وساءَ عملُه»؛ رواه أحمد.
والناسُ في حياتهم منهم من قصرَها على معاشِه دون معادِه، ومنهم من عمرَ آخرتَه فيها فأدَّى ما أمرَ الله به واجتنبَ ما نهاه عنه، ومنهم من خلَطَ عملاً صالحًا بآخر سيئًا من غفلةٍ واتباعِ هوى؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «كلُّ الناسِ يغدُو؛ فبائعٌ نفسَه فمُعتِقُها أو مُوبِقُها»؛ رواه مسلم.
والله - عز وجل - أقسمَ أحدَ عشر قسمًا بأن المُفلِح هو من زكَّى نفسَه وأن الخاسرَ من أوقعَها في المعاصي؛ فقال: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[الشمس: 1- 10].
والحياةُ مليئةٌ بالمِحَن والفِتن، وقد يكبُو المرءُ في زلاَّتها من حيث لا يشعُر، ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «واجعَل الحياةَ زيادةً لي في كل خيرٍ، واجعَل الموتَ راحةً لي من كلِّ شرٍّ»؛ رواه مسلم.
وكلما دنَت الحياةُ من الزَّوَالِ لاحَت فتِنُها وظهَرَت شُرُورُها؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «وإن أمتَكم هذه جُعِل عافيتُها في أولِها، وسيُصيبُ آخرَها بلاءٌ وأمورٌ تُنكِرونها»؛ رواه مسلم.
ويزدادُ البلاءُ عامًا بعد عام؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يأتي عليكم زمانٌ إلا والذي بعده شرٌّ منه»؛ رواه البخاري.
وإذا ابتعَدَ الناسُ عن الله ولم يمتثِلوا أوامرَه ووقعُوا في نواهيه اضطرَبَت أحوالُهم ومعايِشُهم؛ إذ الذنوبُ مُذهِبَةٌ للنِّعَم مُزيلةٌ لأمنِ النفوسِ والبُلدان؛ قال - عز وجل -: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[النحل: 112].
وأعظمُ بُعدٍ عن الله: التوجُّه إلى غيره بالدعاء والاستغاثةِ والنُّذور وغيرها؛ قال - عز وجل -: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ[آل عمران: 56]، فمن أشركَ بالله استحقَّ العذابَ الشديدَ في الدنيا؛ من الفر وقلَّةِ المالِ والمرضِ وفقدِ الأمنِ وغيرِ ذلك، وله في الآخرةِ عذابٌ عظيمٌ.
وإذا جاهَرَ العبادُ بالمعاصي عظُمَ خطرُها وأذِن الربُّ بالعقوبةِ بسببِها؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «كلُّ أمتي مُعافَى إلا المُجاهِرين»؛ رواه البخاري.
ومن الفتنِ: تقديمُ العقلِ والهوى في النَّوازِلِ وغيرها، ونبذُ الكتاب والسنةِ لتحقيق الأعمال والآمال؛ قال - عز وجل -: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا[النساء: 83].
وما من نازلةٍ إلا ولها أصلٌ في الكتاب والسنة؛ قال - سبحانه -: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ[الأنعام: 38].
ولن يُصلِحَ هذه الأمةَ بما حلَّ بها من اضطرابٍ وفوضَى وكُروبٍ إلا برجوعِها إلى ربِّها؛ قال - سبحانه -: فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا[الأنعام: 43].
ومن لازمَ الاستغفارَ جعل الله له من كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافية، وإذا ألمَّت بالناسِ مُصيبةٌ عليهم أن يُراجِعوا أنفسَهم: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[الرعد: 11].
والحاذِقُ لا ينظرُ إلى كثرةِ المُذنِبين؛ فإن اصطفاءَ الله لك بالسلامةِ من المعاصِي يُوجِبُ عليك التمسُّك بهذه النعمة؛ إذ أضلَّ غيرَك وهداكَ.
وعلى المرءِ أن يُحاسِبَ نفسَه في كلِّ حينٍ: ماذا قدَّمَ لآخرته، وماذا عمِلَ لرِضَا الرحمن عنه، ليسألَ نفسَه عن فرائض الإسلام وعن أدائها، وعن حقوق المخلوقين والتخلُّص منها، وعن مالِه كيف جمعَه وفيمَ أنفقَه؟!
خطبَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه - فقال: "إنك تغدُون وتروحون إلى أجلٍ قد غُيِّبَ عنكم علمُه، فإذا استطعتُم ألا يمضِيَ هذا الأجلُ إلا وأنتم في عملٍ صالحٍ فافعلوا".
وليست الغِبطةُ بكثرةِ السنين والنِّعَم، إنما الغِبطةُ بالشكر وكثرة العمل الصالح والإخلاص؛ فعُمر الإنسان عملُه.
قيل لنوحٍ - عليه السلام - وقد لبِثَ في قومه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عامًا -: كيف رأيتَ هذه الدنيا؟ فقال: "كداخلٍ من بابٍ وخارجٍ من آخر".
فاحذروا الدنيا وتقلُّباتها؛ فجمعُها عناء، ونعيمُها ابتلاء، واغتنِموا ما بقِيَ لكم من النعمِ الخمس: الشبابَ قبل الهرَم، والصحةَ قبل المرض، والغِنَى قبل الفقر، والفراغَ قبل الشُّغل، والحياةَ قبل الموت.
والمُحاسبةُ الصادقةُ ما أورثَت عملاً صالحًا، وتحوُّلاً عن معصية، ومن غفلَ عن نفسه تصرَّمَت أوقاتُه واشتدَّت عليه حسَراته؛ فاستدرِكوا ما فاتَ بما بقِي، ومن أصلحَ ما بقِيَ غُفِر له ما مضى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
المُحسِنُ من كان يومُه خيرًا من أمسِه، وغدُه خيرًا من يومه، واغتنَمَ الحياةَ بما يُقرِّبُه إلى مولاه، وشغلَها بالطاعات، ونأَى بها عن السيئات، واتَّعَظَ بما فيها من تقلُّبات الأمور والأحوال، وكان حذِرًا من الاغتِرار بالسلامةِ والإمهالِ والآمال؛ فما أساءَ أحدٌ العملَ إلا من التسويفِ وطولِ الأمل.
ومن أصلَح ما بينه وبين ربِّه كفاه ما بينه وبين الناس، ومن صدقَ في سريرته حسُنَت علانيتُه، والعبدُ إذا أنابَ إلى الله مما اجترحَ من السيئات والتمسَ عفوَه ورِضاه، وطمِع في واسع رحمته وعطاياه؛ أعطاه الربُّ بإذنه فوقَ ما يتمنَّاه.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واجمع كلمتَهم على الهُدى والحق يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك، وتحكيم شرعك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم إنا نسألك الإخلاصَ في القول والعمل، اللهم إنا نعوذُ بك من الفتنِ ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين[الأعراف:23].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 12-19-2011 12:13 AM

حسن العشرة بين المسلمين
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 21/1/1433هـ بعنوان: "حسن العشرة بين المسلمين"، والتي تحدَّث فيها عن حسن العِشرة بين المسلمين، ووجوبِ المُحافَظة على أواصِر الأُخوَّة وعدم التنازُع فيما بين الإخوان، واستشهدَ على ذلك بشيءٍ مما ذُكِر في سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله بارئِ النَّسَم، ومُحيِي الرِّمَم، ومُجزِلِ القِسَم، مُبدِع البدائع، وشارِعِ الشرائِع، دينًا رضِيًّا، ونورًا مُضِيًّا، أحمدُه وقد أسبَغَ البرَّ الجزيل، وأسبلَ السترَ الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ آمنَ بربِّه، ورجا العفوَ والغُفرانَ لذنبه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه وحِزبه، صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فقد نجا من اتَّقَى، وضلَّ من قادَه الهوَى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
لا تحلُو المُخالَطَة إلا بحُسن المَعايَشة وأداء حُقوق المُعاشَرة وتحقيقِ العدل والنَّصَفَة في المُعامَلة، ومن كان في إيفاء ما يكون عليه مثلما يكون في حفظِ ما يكونُ له فقد أنصفَ في القضاء وعدلَ بالسواء، والاستِقصاءُ يُورِثُ الاستِعصاء، والمُعاسَرة تُكدِّرُ المُعاشَرة، ومن نبَذَ وثائقَ التعايُش وقطَعَ مَرابِعَ التسامُحِ وأوحشَ مغانِيَ العِشرة، وسلكَ طريقَ المُنابَذة والمُبايَنَة والمُنازَعة فقد سلَكَ طريقًا لا يُوصِلُ إلى مطلوبٍ، ولا يهدِي إلى مرغوبٍ.
ومن أخطأ طريقَ التغافُلِ والتغاضِي والتسمُح كثُر مُعادُوه، وقلَّ مُصافُوه، وهجَرَه مُحِبُّوه، وزهِدَ فيه مُعاشِرُوه، ومن جهِلَ مواضِعَ رُشده، وتعثَّرَ في ذُيُولِ جهلِهِ، ووقعَ في مهاوِي سُخفِهِ وحُمقِه، ركِبَ متنَ الفُجور في الدعاوَى والمُنازَعات، والكذبِ في الشكاوَى والخُصومات، واختارَ الجفاءَ على الإخاء، والعداءَ على الولاء، والمُخاشَنةَ على المُلايَنة، تُعاشِر فيُعاسِر، وتُقارِب فيُحارِب، وتُحالِف فيُخالِف، وتُلاحِق فيُفارِق.
نسِيَ قولَ نبيِّنا وسيدِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقاطَعوا، ولا تَدابَروا، ولا تَباغَضوا، ولا تَحاسَدوا، وكُونوا عِبادَ اللهِ إخوانًا، ولا يحِلُّ لمُسلمٍ أن يهجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثٍ»؛ متفق عليه.
أيها المسلمون:
ومن بسطَ للناس فراشَ التوقير، ومدَّ لهم بساطَ التقدير، والتمسَ لهم الحُجَجَ والمعاذيرَ، ولو مع الإساءة له والتقصير؛ عاشَ في النفوسِ مُعظَّمًا، وعلى الألسُنِ مُبجَّلاً.
ومن يلْقَ خيرًا يحمَدِ الناسُ أمرَهُ
ومن يغوِي لا يعدَم على الغَيِّ لائمًا
والأهلُ والقرابةُ أولَى الناسِ بحُسن المُخالَطة، وجميلِ المُعاشَرة، ولينِ المُعامَلة؛ فعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «خيرُكم خيرُكم لأهلِه، وأنا خيرُكم لأهلي»؛ أخرجه الترمذي.
ومن عمَّ أهلَه خيرُه، ووسِعَهم بِرُّه، وغمرَهم مَيْرُه، وبسطَ لهم وجهُهُ، ومهَّدَ لهم كنَفَه؛ فذلك الشهمُ الوفِيُّ، والمُعاشِرُ السخِيُّ، والمُخالِطُ التقيُّ.
ومن غلُظَ طبعُه وعظُمَت فظاظتُه، واشتدَّت على أهلِه قساوَتُه وشراستُه، وكثُرت شتامتُه وجهالتُه، فقابلَ والدَيْه بالصدود والجحود، وعاملَ زوجتَه بالتقصيرِ والتصغيرِ والتحقيرِ والتعزيرِ، وأولادَه بالتعنيفِ والتخويفِ والإذلالِ والإهمالِ، وذوي قرابَته بالقطيعةِ والصريمةِ والهُجرانِ والنُّكرانِ؛ فذلك الذي أساءَ المُخالَطة، وأوغلَ في المُغالَطة، والغِلظةُ والفَظاظةُ هي سببُ التباعُد والنُّفور، وخرابُ الأثسَر والدور.
فتعامَلوا بالعطفِ واللُّطفِ، والرِّفق واللِّين، والشَّفَقةِ والمُسامَحة، والرحمةِ والإحسانِ، وحُسنِ المُعاشرةِ، وجميلِ المُخالَطة؛ تحُوزوا على عظيمِ الأُجور والحسنات، وتحفَظوا أُسَرَكم ومُجتمعاتكم من النِّزاعات والخُصومات، والضياعِ والشَّتاتِ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو كان للأوَّابين غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِهِ، والشكرُ له على توفيقهِ وامتِنانِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لِشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رِضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون:
ومن خالطَ الناسَ فتعاظَمَ وتطاولَ، وفخرَ وتاهَ، وتكبَّرَ وتجبَّرَ، وحقَّرَ وصغَّرَ، وجرَّحَ وشهَّرَ، وأساءَ المقالَ، وولغَ في الأعراضِ واستطالَ، وأكلَ الأموالَ بطُرقِ المكرِ والاحتِيال، وتعاملَ بالحُمقِ والسَّفَهِ والطَّيشِ، ونسِيَ الفضلَ وأنكرَ الجميلَ، وآذَى العبادَ وأفسدَ في البلاد؛ فقد كتبَ على نفسِهِ سُبَّةً لا تَبلَى، وخِزايةً لا تُنسَى، ونقمةً لا تُردُّ، وعذابًا لا يُصدُّ.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أتَدرون من المُفلِس؟». قالوا: المُفلِسُ فِينا مَن لا درهَمَ له ولا مَتاع. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن المُفلِسَ مِن أمتي: مَن يأتي يوم القيامة بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتمَ هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفَكَ دمَ هذا، وضربَ هذا؛ فيُعطَى هذا من حسناتِهِ، وهذا من حسناتهِ، فإن فنِيَت حسناتُه قبل أن يُقضَى ما عليه أُخِذَ من خطاياهم فطُرِحَت عليه، ثم طُرِح في النارِ»؛ أخرجه مسلم.
فاتقوا الله - أيها المسلمون -، وتخلَّصوا من المظالمِ والحقوقِ، وتحلَّلوا ممن ظلمتُم أو آذَيْتم قبل ذلك المردُّ الذي لا مَحيصَ عنه، ولا مفرَّ منه، ولا رجعةَ بعده.
ثم صلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
للخلقِ أُرسِل رحمةً ورحيمًا
صلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا وسيدِنا محمدٍ بشيرِ الرحمةِ والثوابِ، ونذيرِ السَّطوةِ والعِقابِ، الشافعِ المُشفَّعِ يوم الحِسابِ، اللهم صلِّ عليه، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة أصحابِ السنَّة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ أجمعين، وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم كُن لأهلنا في سورية ناصرًا ومُعينًا، اللهم كُن لأهلنا في سورية ناصرًا ومُعينًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم انصُرهم على الطغاةِ المُفسِدين، اللهم انصُرهم على الطغاة المُفسِدين، اللهم انصُرهم على الطغاة المُفسِدين، والظلَمة المُعتدين.
اللهم عليك بالقتَلَة المُجرمين، اللهم عليك بالقتَلَة المُجرمين، اللهم أنزِل عليهم عذابَك ورِجزَك وسخَطَك إلهَ الحقِّ يا رب العالمين، اللهم بدِّد جمعَهم، اللهم فرِّق شملَهم، وأذهِب قوَّتَهم يا قوي يا عزيزُ يا رب العالمين.
اللهم أرِنا فيهم قُوَّتك، اللهم أرِنا فيهم قُدرتك، زلزِلهم يا قويُّ، زعزِعهم يا ولِيّ، دمِّرهم تدميرًا، ولا تجعل لهم في الأرضِ وليًّا ولا نصيرًا.
اللهم نجِّ إخواننا في سورية من القومِ الظالمين يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين، والصهاينةِ الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجسِ يهود يا قويُّ يا عزيزُ يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها وعِزَّها واستقرارَها، ووفِّق قادتَها لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين.
ووفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين ووليَّ عهده لما تحبُّ وترضى يا كريمُ يا عظيمُ.
اللهم عُمَّ بالأمن والرخاءِ والاستقرار جميعَ أوطانِ المسلمين.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرَق.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَك، اللهم اسقِنا واسقِ المُجدِبين، وفرِّج عنَّا وعن أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أجمعين، اللهم جُد علينا برحمتك وإحسانك، وتفضَّل علينا بغيثِك ورِزقك وجُودِك وامتِنانِك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
اللهم ارحم موتانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على مَن عادانا يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 12-27-2011 12:01 AM

القى فضيلة الشيخ الدكتور / حسن آل الشيخ خطبة الجمعة 28/1/1433هـ بالمسجد النبوي
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أمرَ الناسَ بما يُصلِحُ حياتَهم، ونهاهُم عما يُفسِدُ عيشَهم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا اللهَ - جل وعلا - يُصلِح لكم الأحوالَ، ويُسعِدُكم في الدارَين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
معاشر المسلمين:
إن من الأصول المرعيَّةِ في الإسلام: وجوبُ الصدقِ في الأقوالِ والأفعالِ في جميعِ المجالات وكافَّة التصرُّفات، يقول الله - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
إن الصدقَ في شريعةِ الإسلام مأمورٌ به في جميعِ الصور والتعامُلات صغيرِها وكبيرِها؛ يقول - صلى الله عليه وسلم -: «البيِّعانِ بِالخِيار ما لم يتفرَّقَا، فإن صدَقَا وبيَّنَا بُورِك لهما في بيعِهما، وإن كذَبَا وكتَمَا مُحِقَت بركةُ بيعِهما»؛ متفق عليه.
ألا وإن من أشنعِ التصرُّفاتِ وأقبحِ المسالكِ والتعامُلاتِ: الغِشَّ والخِداعَ بجميعِ صوره ومُختلَفِ أشكالِهِ؛ فمن زيَّن له الشيطانُ الغِشَّ في تعامُلِه، وحسَّنَ له الهوى الخِداعَ والتمويهَ على غيره، لمصالحَ شخصيةٍ، ومنافِعَ ذاتية، فليعلَم أن اللهَ له بالمِرصاد، وأنه قد عرَّضَ نفسَه للعذابِ.
يقول الله - جل وعلا -: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ[المطففين: 1- 6].
قال عبد الملك بن مراون: قال لي أعرابيٌّ: يا عبدَ الملك! اللهُ - جل وعلا - يقول في شأنِ المُطفِّفين ما يقول؛ فما ظنُّك بنفسِكَ وأنت تأخُذ أموالَ الناسِ بلا كَيلٍ ولا ميزان!
فيا مَن تأخُذ أموالَ الناس بالغِشِّ والتدليسِ! اتقِ اللهَ - جل وعلا -، تفكَّر في هذه الآيات العظيمات، وازجُر نفسَك عن المُوبِقات والسيئات، قبل فواتِ الأوانِ وحُلولِ المماتِ.
قال بعضُ المُحقِّقين من أهل العلم: كلُّ من غشَّ في تعامُله التجاريِّ أو غيرهِ بأي وسيلةٍ فهو مُطفِّفٌ، يدخُل تحت الوَعيد والتهديد، ذلكم - أيها الأحباب - أن الغِشَّ إفسادٌ في الأرض، وخِيانةٌ وأذًى للخلقِ، وبَخسٌ وإنقاصٌ للحقِّ.
يقول الله - جل وعلا - في حقِّ مديَنَ أنه يقول لقومه: وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ[هود: 85].
أخي المسلم:
اتقِ الجبار - جل وعلا -، واعلَم أن الغِشَّ في كافَّةِ التعامُلات كبيرةٌ من كبائرِ الذنوبِ، لذا حذَّرَ الحَبيبُ - صلى الله عليه وسلم - أمَّتَه من جميعِ أنواعِ الغِشِّ، مهما تعدَّدَت صُوره، واختلَفَت أشكالُهُ.
حذَّرَهم بلفظٍ رادعٍ من الولوغِ في حِياضِ الغِشِّ، وبلفظٍ حاجزٍ من الوقوعِ في هذه الخَصلةِ العفِنَة؛ يقول - صلى الله عليه وسلم -: «من غشَّنَا فليس منَّا». وفي لفظٍ: «من غشَّ فليس منَّا»؛ رواه مسلم.
بل إنه - ولحِرصِه - صلى الله عليه وسلم - على أمَّته لم يكتفِ بهذا التحريمِ العام والنهيِ الشاملِ لكافَّةِ أنواعِ الغِشِّ؛ بل حذَّرَ أمتَهُ من الغِشِّ في تصرُّفاتٍ خاصَّةٍ لكثرةِ وقوعِها، وعُمومِ بلوَاها، وشِدَّةِ خطَرِها:
ففي بابِ الولاياتِ والوظائف؛ يُحذِّرُ - صلى الله عليه وسلم - مَن قلَّدَه الله شيئًا من أمورِهم، واسترعَاه عليهم، ونصَّبَه لمصالِحهم، حذَّرَه أن يغُشَّهم، أو أن يخُونَهم، أو أن يتهاوَنَ في الاجتِهادِ لحفظِ مصالِحِهم الدينيَّةِ والدنيويَّةِ وتحقيقِها.
قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما من والٍ يسترعِيهِ الله - جل وعلا - على رعيَّةٍ ثم يموتُ وهو غاشٌّ لرعيَّته إلا حرَّمَه الله على الجنةِ». وفي لفظٍ: «ما من عبدٍ يسترعِيهِ اللهُ رعيَّةً فلم يُحِطها بنُصحِه إلا لم يدخُل الجنةَ معهم».
أيها المسلمون:
وفي مجالات التعامُلات المالية؛ كالبيعِ والشراءِ والإجارةِ ونحوها، ينهَى الإسلامُ عن الغِشِّ نهيًا قاطِعًا؛ يقول الله - جل وعلا -: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ[البقرة: 188]، ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «المُسلمُ أخو المُسلمِ، لا يحِلُّ لمُسلمٍ أن يبيعَ بيعًا لأخيهِ يعلمُ أن فيه عيبًا إلا بيَّنَه له»؛ والحديثُ رواه ابنُ ماجه، وحسَّنَه ابنُ حجرٍ.
بل بلَغَت عنايةُ الشريعةِ الإسلامية في منعِ الغِشِّ ومُحاربَتِهِ أن حرَّمَت كلَّ بديئةٍ يتحقَّقُ معها الغِشُّ، ولو لم يكُن هذا التصرُّف من البائعِ أو المُشترِي؛ فيقول - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الشيخان -: «ولا تَناجشُوا». والنَّجْشُ: هو أن يزيدَ أحدٌ في ثمنِ السلعةِ وهو لا يريدُ شِراءَها، إنما يُريدُ رفعَ السعرِ لينفعَ البائِعَ أو يضُرَّ المُشترِي.

إخوة الإسلام:
ألا وإن أشدَّ صُور الغِشِّ خُطورةً على المُسلمين وأسوأ عاقبةٍ في حياتِهم: ما يفعلُه بعضُ المُقاولين في المشروعاتِ الحكوميَّةِ العامة، أو في المشروعاتِ الخاصَّة التي تعودُ للمُواطنين، التي يظهرُ الغِشُّ فيها جلِيًّا بعد تنفيذِها، فذلكم فعلٌ مُحرَّمٌ، وإفسادٌ في الأرض، وخِيانةٌ لوليِّ الأمرِ، ولمُجتمع المسلمين.
ويقول - صلى الله عليه وسلم - في مثلِ ذلك: «لكلِّ غادرٍ لواءٌ يوم القيامة، يُقال: هذه غَدرةُ فلان»؛ مُتفق عليه.
واعلمَ - يا أيها المسؤول - أن المشاريعَ الحُكوميَّةَ التي تدخُلُ تحت مسؤوليةِ وزارتِك أو إدارتِك أن هذه أمانةٌ في عُنقِكَ، أنت مُستأمنٌ على مُتابعةِ هذه المشاريعِ مُتابعةً دقيقةً بكلِّ حرصٍ وإخلاصٍ وصدقٍ وعنايةٍ، فأيُّ إهمالٍ أو تفريطٍ في ذلك، فهو غِشٌّ عظيمٌ للمُسلمين ولوليِّ أمرِهم الذي استأمَنَك على هذه المسؤولية.
فيا مَن يُريدُ نجاةَ نفسِهِ وفلاحَ دُنياه وأُخراه! التزِم الصدقَ في تعامُلاتك، والبيانَ والوُضوحَ في أعمالِك، والإتقانَ فيما تقومُ به من أعمالٍ.
تجنَّب بخسَ الحقوقِ، وانأ بنفسِك عن كلِّ غِشٍّ وتدليسٍ ونحوِ ذلك تكن برًّا تقيًّا نقيًّا سليمًا، فرسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دخلَ يومًا السوقَ، فقال: «يا معشرَ التجَّار!». فرفعَ التجَّار أبصارَهم، ثم قال لهم: «يا معشرَ التجَّار! إن التجَّار يوم القيامة يُبعَثون فُجَّارًا إلا من برَّ وصدَقَ»؛ والحديثُ رواه الترمذيُّ، وقال: "حسنٌ صحيحٌ"، وحسَّنه بعضُ أهل العلمِ.
فاتقوا الله - أيها المسلمون -؛ فبِتقواه في كلِّ حالٍ تصلُحُ أحوالُنا، وتسعَدُ حياتُنا، ويَطيبُ عيشُنا.
أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
أحمدُ ربِّي وأشكُرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ.
أيها المسلمون:
إن تحريمَ الغِشِّ والخِيانة، والنهيَ عن التدليسِ الخِداع لا يقتصِرُ على بيعٍ أو شِراءٍ أو تعامُلٍ تجاريٍّ؛ بل يشملُ كلَّ غِشٍّ يكون للمُسلمين في حياتِهم وفي جميعِ مصالِحِهم؛ فمن الغِشِّ: غِشُّ الكلمة الكاذِبة التي تُنشرُ في الإعلام، وكذا كلُّ مقالٍ يدعُو إلى إفسادِ الأديانِ أو الأخلاقِ أو الأعراضِ.
ومن أعظمِ الغِشِّ: ما يُنشَرُ في بعضِ الفضائيَّات؛ من دعواتٍ للرذيلةِ، ونشرٍ لأسبابِ الإجرام، ونبذِ الفضيلةِ.
كما أن من الغِشِّ: إصدارُ الفتاوى استِنادًا لرأيٍ فقهيٍّ مُجرَّدٍ، مع وُضوحِ مُخالفةِ هذا الرأيِ للدليلِ الصحيحِ الصريحِ من القُرآن أو السنةِ، وإنما لمُجرَّدِ تعصُّبٍ مذهبيٍّ لا يتحقَّقُ مع دليلٍ شرعيٍّ ولا مع مقصدٍ مرعيٍّ.
وإن من أقبحِ الغِشِّ: الغِشُّ فيما ولاَّك اللهُ - جل وعلا -، ثم ولاَّك وليُّ الأمرِ من وظيفةٍ حينما تستغِلُّها في تقديمِ غيرِ الكُفءِ على الكُفءِ، في أي نوعٍ من أنواعِ التقديم؛ في ترقيةٍ، أو ابتِداءِ توظيفٍ، أو توليةٍ، أو نحوِ ذلك.
ويقبُحُ ذلك: إذا كان هذا لمصالحَ ذاتيَّة، ومنافِعَ شخصيَّة، أو عُنصريةٍ أو نسَبيَّة أو مُليميَّة، مما لا يستقيمُ مع شرعِ اللهِ - جل وعلا - ولا مع المقاصدِ التي أرادها وليُّ الأمر في بلادِ المُسلمين.
ألا وإن أفضلَ الأعمالِ: الصلاةُ والسلامُ على النبي الكريم.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن جميعِ الصحابةِ وآلِ بيتِ النبي - صلى الله عليه وسلم –، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمُسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمُسلمين، اللهم عليك بأعداء المسلمين، اللهم عليك بأعداء المسلمين، اللهم عليك بأعداء المسلمين، اللهم اكفِنا شرَّهم بما تشاءُ وأنت السميعُ العليمُ.
اللهم من أرادَنا أو أرادَ أحدًا من المسلمين بسوءٍ فأشغِله في نفسه، واجعل تدبيرَه في تدميرِه يا رب العالمين.
اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ المُسلمين، اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ المُسلمين، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المسلمين في كل مكان، اللهم فرِّج هُمومَهم، اللهم اكشِف كُرُباتِهم، اللهم اكشِف كُرُباتهم، اللهم نفِّس غمَّهم يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألُك يا حيُّ يا قيُّوم أن ُتولِّي على المُسلمين خِيارَهم، اللهم واكفِهم شِرَارَهم، اللهم واكفِهم شِرَارَهم بما شِئتَ وأنت السميعُ العليمُ يا قويُّ يا عزيزُ.
اللهم وفّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين لما تُحبُّه وترضاه، اللهم وفّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين لما تُحبُّ وترضى، اللهم كُن له عونًا ونصيرًا على الحقِّ والبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ونائبَه إلى ما فيه صلاحُ البلاد والعباد، اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المُسلمين.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم يا حيُّ يا قيُّوم، نسألُك أن تُفرِّحَ قُلوبَنا بنصرِ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم فرِّح قلوبَ المؤمنين بنصرِ المُسلمين في كلِّ مكانٍ، اللهم فرِّح قلوبَنا بإظهارِ أنوارِ السنَّةِ في كل مكانٍ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم اغفِر للمؤمنين والمؤمنات، والمُسلمين والمُسلمات، الأحياءِ منهم والأموات.
اللهم إنك غنيٌّ حميدٌ، اللهم فأسقِنا، اللهم فأسقِنا، اللهم فأسقِنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم ارحم ضعفَنا، اللهم ارحَم ضعفَنا، اللهم اجبُر كسرَنا بالمطرِ والغيثِ، اللهم اجبُر كسرَنا بالمطرِ والغيثِ.
اللهم لا تُؤاخِذنا بذنوبِنا، اللهم لا تُؤاخِذنا بذنوبِنا، اللهم آمِنَّا برحمتك وفضلِك، اللهم آمِنَّا برحمتك وفضلِك، اللهم آمِنَّا برحمتك وفضلِك.
عباد الله:
اذكُروا اللهَ ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلاً.
وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 01-06-2012 10:04 PM

الجزاء من جنسِ العمل
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 5/2/1433هـ بعنوان: "الجزاء من جنسِ العمل"، والتي تحدَّث فيها عن العبدِ إذا عملَ عملاً صالحًا أثابَه الله عليه في الدنيا والآخرة، وإذا أساءَ نالَ عقابَه في الدنيا والآخرة؛ فإن الجزاءَ من جنسِ العمل، وكما يدينُ المرءُ يُدان.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فالتقوى في مُخالفةِ الهوى، والشقاءُ في مُجانَبةِ الهُدى.
أيها المسلمون:
خلقَ اللهُ الخلقَ لعبادتِهِ وأمرَهم بالإحسانِ إلى خلقِهِ، وهو - سبحانه - مُهيمِنٌ على عبادِهِ، رقيبٌ عليهم، مُطَّلِعٌ على أحوالِهم، وإذا عمِلَ المُسلمُ عملاً صالحًا أثابَه عليه في الآخرة وأذاقَه آثارَ عملِهِ في الدنيا؛ قال - سبحانه -: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[النحل: 97].
وغيرُ المُسلِم حرَّم الله عليه الجنةَ، ويُزادُ عليه العذابُ في النار بما زادَ من ذنوبٍ على الشركِ؛ قال - سبحانه -: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ[النحل: 88].
وإذا عمِلَ غيرُ المُسلِم عملاً فيه صلاحٌ لم يقَع في ميزانِ آخرتِهِ منه شيءٌ، إنما يُكافَأُ عليه في الدنيا؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الكافرَ إذا عمِلَ حسنةً أُطعِمَ بها طُعمةً من الدنيا». وفي روايةٍ: «حتى إذا أفضَى إلى الآخرةِ لم تكن له حسنةٌ يُجزَى بها، وأما المؤمنُ فإن اللهَ يدَّخِرُ له حسناتِهِ في الآخرة، ويُعقِبُه رِزقًا في الدنيا على طاعتِهِ»؛ رواه مسلمٌ.
قال النووي - رحمه الله -: "أجمعَ العُلماء على أن الكافِرَ الذي ماتَ على كُفره لا ثوابَ له في الآخرة، ولا يُجازَى فيها بشيءٍ من عملِهِ في الدنيا مُتقرِّبًا به إلى اللهِ، ويُطعَم في الدنيا بما عمِلَه من الحسناتِ مُتقرِّبًا به إلى اللهِ مما لا يفتقِرُ صِحَّتُه إلى النيةِ؛ كصِلَةِ الرَّحِمِ، والضيافةِ، وتسهيلِ الخيراتِ، ونحوها".
والله - سبحانه - شكورٌ مَن عامَلَه بالطاعةِ زادَ له في العطاءِ، وهو - سبحانه - قويٌّ قهَّارٌ مَن بارزَه بالمعصيةِ عُوقِبَ من جنسِ فعلِهِ، وما يعفُو عنه الربُّ أكثر، كما قال - سبحانه -: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[الشورى: 30].
والجزاءُ من جنسِ العملِ في الثوابِ والعقابِ في التعامُلِ مع الخالقِ والمخلوقِ؛ فمن أفعالِ اللهِ في الثوابِ: أنه يُجازِي على الإحسانِ، وإحسانُهُ فوق كلِّ إحسانٍ، فمن صدقَ مع الله في إخلاصِ الأعمال له أعطاه الله على حسبِ صِدقِهِ معه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن تصدُقِ اللهَ يصدُقْك»؛ رواه النسائي.
ومن وفَى بعهُودِ اللهِ بالوقوفِ عند حُدودِهِ وفَى اللهُ بعهُودِهِ إليه بالعطاءِ والثوابِ؛ قال - عز وجل -: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ[البقرة: 40]، ومن حفِظَ اللهَ بطاعتِهِ واجتنابِ معاصيهِ حفِظَه اللهُ في دينِهِ ودُنياه؛ «احفَظ اللهَ يحفَظْك».
ومن زادَ في الطاعةِ قرُبَ اللهُ منه قُربًا يليقُ بجلالهِ وعظمتِهِ، وكلما زادَ العبدُ في الطاعةِ زادَ منه في القُربِ؛ قال - عز وجل - في الحديثِ القُدُسيِّ: «وإن تقرَّبَ إليَّ بشبرٍ تقرَّبتُ إليه ذِراعًا، وإن تقرَّبَ إليَّ ذِراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، وإن أتاني يمشِي أتيتُهُ هَروَلَة»؛ متفق عليه.
ومن ذكَرَ ربَّه ذكرَهُ الله في السماء، ومن ذكَرَ الربَّ عند الناسِ بموعظةٍ أو تعليمٍ أو مدحٍ لله ولدينِهِ ونحوِ ذلك ذكَرَه الله عند ملائكتِهِ بالثناءِ عليه؛ قال - عز وجل - في الحديثِ القُدُسيِّ: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرَني، فإن ذكَرَني في نفسِهِ ذكرتُهُ في نفسي، وإن ذكَرَني في ملأٍ ذكرتُهُ في ملأٍ خيرٍ منهم»؛ متفق عليه.
ومن أوَى إلى اللهِ والتَجَأَ إليه آواه وكفَاه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ألا أُخبِرُكم عن النَّفَر الثلاثة؟ أما أحدُهُم فأوَى إلى اللهِ فآواهُ الله، وأما الآخرُ فاستحيَا فاستحيَا اللهُ منه، وأما الآخرُ فأعرَضَ فأعرضَ اللهُ عنه»؛ متفق عليه.
ومن تركَ شيئًا لله عوَّضَه الله خيرًا مما ترَكَه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إنك لن تدَعَ شيئًا لله - عز وجل - إلا بدَّلَك اللهُ به ما هو خيرٌ لك منه»؛ رواه أحمد.
ومن نصرَ اللهَ بفعلِ أسبابِ النصرِ نصرَه الله وأيَّدَه؛ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ[محمد: 7].
ومن أحبَّ لقاءَ اللهِ أحبَّ اللهُ لقاءَه، ومن كرِهَ لقاءَ الله كرِهَ الله لقاءَه، ومن عمِلَ حسنةً ضاعَفَها له أضعافًا كثيرةً، وجازاه بجنَّةٍ لا تخطُرُ على قلبِ بشر.
ومن أفعال الله في العقابِ:
أن من عمِلَ ذنبًا عُوقِبَ بمثلِ عملِهِ، فمن تركَ توحيدَ الله زالَت عنه ولايةُ الله وحِفظُهُ؛ قال - عز وجل - في الحديثِ القُدسيِّ: «من عمِلَ عملاً أشركَ فيه معي غيري تركتُه وشركَه»؛ رواه مسلم.
ومن صرفَ شيئًا من أنواعِ العبادةِ لغيرهِ بالرياء أو السُّمعة أظهَرَ الله حقيقتَهُ للناسِ بأنه غيرُ مُخلِصٍ لله؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من سمَّعَ سمَّعَ اللهُ به، ومن يُرائِي يُرائِي اللهُ به»؛ متفق عليه.
ومن علَّقَ قلبَه بغير اللهِ لم تتحقَّق مُناه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من تعلَّقَ شيئًا وُكِلَ إليه»؛ رواه الترمذي.
قال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: "وما رجَا أحدٌ مخلوقًا أو توكَّلَ عليه إلا خابَ ظنُّهُ فيه".
والإيمانُ بالقضاءِ والقدَر ركنٌ من أركانِ الدين، من رضِيَ به رضِيَ اللهُ عنه، ومن لم يرضَ به سخِطَ اللهُ عليه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن اللهَ تعالى إذا أحبَّ قومًا ابتلاهُم، فمن رضِيَ فله الرضا، ومن سخِطَ فله السخَط»؛ رواه الترمذي.
ومن نسِيَ اللهَ بتركِ طاعتِهِ نسِيَه الله بعدمِ تفريجِ كُروبِهِ، وزوالِ هُمُومِهِ، وغير ذلك؛ قال - سبحانه -: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ[التوبة: 67].
ومن ظنَّ أنه يُخادِعُ الربَّ في أفعالِهِ خادَعَه الله باستِدراجهِ؛ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ[النساء: 142]، ومن مكَرَ في فعلِ السيئاتِ مكَرَ الله به من حيثُ لا يشعُر؛ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ[الأنفال: 30]، ومن زاغَ عن طاعةِ الله أزاغَ اللهُ قلبَه إلى المعاصي؛ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ[الصف: 5].
وكما أن للهِ أوامر وحُدودًا فللعبادِ بعضِهم مع بعضٍ واجباتٍ وحقوق، ومن عظَّمَ عبادَه المؤمنين عظَّمَه الله، ومن أهانَهم أهانَه الله.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "ومن عامَلَ خلقَه بصفةٍ عامَلَه الله بتلك الصفةِ بعينِها في الدنيا والآخرة".
فاللهُ تعالى لعبدِهِ على حسبِ ما يكون العبدُ لخلقِهِ، وكما تدينُ تُدان، وكن كيف شئتَ فإن الله لك كما تكونُ أنت له ولعبادِهِ، وكما تعملُ مع الناسِ في إساءتهم في حقِّك يفعلُ اللهُ معك في ذنوبِك وإساءَتك.
والمُسلمُ مُعظَّمٌ عند الله في دمهِ ومالهِ وعِرضهِ؛ قال أهلُ العلم: "وليست السماوات بأعظمَ حُرمةً من المُؤمن".
ولحُرمةِ المُسلمين عند اللهِ ومكانتِهِم؛ فإن من أحسنَ إليهم أحسنَ الله إليه، ومن رحِمَهم ولطَفَ بهم أنزلَ الله عليه رحمتَه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «الراحِمون يرحمُهم الرحمن»؛ رواه أبو داود.
ومن رفقَ بعباده ويسَّر أمورَهم رفقَ الله به، ومن شقَّ عليهم شقَّ عليه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «اللهم من ولِيَ من أمر أمتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُق عليه، ومن ولِيَ من أمر أمتي شيئًا فرفَقَ بهم فارفُق به»؛ رواه مسلم.
ومن أجزَلَ العطاءَ على عبادهِ أعطاه الله وأغدَقَ عليه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «قال اللهُ - عز وجل -: أنفِق أُنفِق عليك»؛ رواه البخاري.
ومن رفقَ بمُعسِرٍ أو وضعَ عنه دَينَهُ شيئًا منه كافأَه الله بتيسير وقوفِهِ في المحشَرِ وأظلَّه تحت عرشِه، ومن كان في حاجةِ أخيهِ كان الله في حاجتِه، ومن نفٍّ عن مؤمنٍ كُربةً من كُرَب الدنيا نفَّس الله عنه كُرُوبَه، ومن يسَّر على مُعسِرٍ وفرَّج عنه همَّه يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن أعانَ غيرَه في قضاء حاجاته كان الله عونَه في أموره.
ومن عفَّ فرْجَه عفَّت نساؤه، ومن حفِظَ لسانَه على الخلقِ صانَ ألسِنةَ الناسِ من الوقوع فيه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ومن يستعفِف يُعِفَّه الله»؛ متفق عليه.
ومن سترَ مُسلمًا وقعَ في ذنبٍ ستَرَه الله في الدنيا والآخرة، ومن أقالَ مُسلمًا زلَّتَه وعفا عنه أقالَ الله عثرتَه يوم القيامة، ومن استغنَى عما في أيدي الخلقِ أغناه الله؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ومن يستغنِ يُغنِهِ اللهُ»؛ متفق عليه.
ومن حبسَ نفسَه عن الوقوعِ في المعاصي أو على فعلِ الطاعات أو عند حُلول المصائبِ أنزلَه الله عليه الصبرِ وأعانَه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ومن يتصبَّر يُصَبِّره اللهُ»؛ متفق عليه.
والرَّحِمُ مُعلَّقةٌ بالعرشِ، فمن كان واصِلاً لرحِمِه وصلَه الله، ومن كان قاطِعًا لها قطَعَه الله.
ومن أساءَ إلى عباده عُوقِبَ بمثلِ ما أساءَ به لخلقِهِ، فمن شقَّ على عبادهِ شقَّ اللهُ عليه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ومن يُشاقِق يشقُق عليه يوم القيامة»؛ رواه البخاري.
ومن استهزأَ بعباده المؤمنين استهزَأَ الله به؛ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ[البقرة: 15]، ومن سخِرَ بهم سخِرَ الله منه؛ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ[التوبة: 79].
ومن عمِلَ معصيةً لإرضاء الناسِ لم يُحصِّل مأمولَه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ومن التمَسَ رضا الناسِ بسَخَط الله سخِطَ الله عليه وأسخَطَ عليه الناسَ»؛ رواه ابن حبان.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وقد استقرَّت سنةُ الله في خلقهِ شرعًا وقدرًا على مُعاقبةِ العبدِ بنقيضِ قصدِهِ؛ «ومن ادَّعَى دعوى كاذبةً ليتكثَّر بها لم يزِده الله إلا قِلَّة»؛ رواه مسلم".
ومن فتحَ على نفسهِ بابَ سُؤال الناسِ العطايا نزلَ به الفقرُ والمَسكَنَة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ولا فتحَ عبدٌ بابَ مسألةٍ إلا فتحَ الله عليه بابَ فقرٍ»؛ رواه الترمذي.
«ومن سألَ الناسَ ليكثُر مالُهُ أتى يوم القيامةِ وليس في وجهِهِ مُزعةُ لحمٍ»؛ رواه مسلم.
ومن أنفقَ على غيرهِ وأحصَى عليهم ما يبذُلُه وشدَّد عليهم فيه أحصَى الله عليه العطاءَ وضيَّقَ عليه؛ قال - عليه الصلاة والسلام - لأسماء: «أنفِقِي ولا تُحصِي فيُحصِي اللهُ عليكِ»؛ متفق عليه.
ومن أخذَ أموالَ الناسِ وصدَقَت نيَّتُه في أدائِها أدَّى اللهُ عنه، ومن أخذَها وهو ناوٍ عدمَ أدائِها أتلَفَه الله.
ومن ضارَّ الناسَ وآذاهم أضرَّ الله به؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من ضارَّ أضرَّ الله به»؛ رواه أبو داود.
والذنوبُ لها عقوباتٌ مُماثلَةٌ في الآخرة؛ فمن تعجَّلَ لذَّةً مُحرَّمةً عليه في الدنيا حرُمَ نعيمُه في الآخرة، فمن شرِبَ الخمرَ في الدنيا لم يشرَبها في الآخرة، ومن لبِسَ الحريرَ في الدنيا لم يلبَسْه في الآخرة، ومن أعمَى قلبَه في الدنيا أُعمِيَ بصرُه في المحشَرِ يوم القيامة؛ وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى[الإسراء: 72].
والمُغتابُ مزَّقَ الأعراضَ بلسانِهِ في الدنيا، ويوم القيامة يُجازَى بخمشِ وجهِهِ بأظافِرَ له من نُحاسٍ يراهُ أهلُ النارِ.
«ومن استمَعَ إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهون صُبَّ في أُذنَيْهِ الآنُك يوم القيامة - وهو: النُّحاسُ المُذابُ -»؛ رواه البخاري.
ومن اقتطَعَ شبرًا من الأرضِ ظُلمًا طُوِّقَه يوم القيامةِ إلى سبعِ أراضين. ومن قتلَ نفسَه بشيءٍ عذَّبَه الله به يوم القيامة. ومن كانت له امرأتان فمالَ إلى إحداهما جاء يوم القيامةِ وشِقُّه مائلٌ، ومن كذبَ كذبةً شاعَ أمرُها يُشرشَرُ - أي: يُقلَبُ شِدْقُه - يوم القيامة إلى قَفاه، ومن وقعَ في الزنا أتاه لَهَبٌ من أسفلَ منه يُعذَّبُ به في النارِ، ومن أكلَ الرِّبا أُلقِمَ حجرًا في فمِهِ جزاءَ أكلِهِ أموال الناسِ.
والأعمالُ الصالحةُ يُرى أثرُها يوم القيامة؛ فمن كان من أهلِ الصلاةِ نُودِيَ من بابِ الصلاة، ومن مات مُحرِمًا بُعِث مُلبِّيًا، ومن ماتَ شهيدًا بُعِث يوم القيامة ودمُهُ يثعُبُ لونُه لونُ الدم وريحُه ريحُ المسكِ.
وأمةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - يُبعَثون في المحشَر غُرًّا مُحجَّلين من آثار الوضوء، والمُؤذِّنون أطولُ الناسِ أعناقًا يوم القيامة.
وبعد، أيها المسلمون:
فأوامرُ الله حقٌّ، ونواهيهِ زجرٌ، ووعدُه صِدقٌ، وكما تعملُ صالحًا تُجازَى، وكما تفعلُ سيئةً تُعاقَب، وإذا أردتَ أن تعرِفَ منزلتَك في الآخرة فانظُر إلى أعمالك في الدنيا، فتزوَّد من الصالحات وسابِق إليها، واجتنِب المُحرَّمات وانأَ عنها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ[فصلت: 46].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



ابوحاتم 01-06-2012 10:05 PM

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
كما تحبُّ أن يكون اللهُ لك فكُن لله تعالى، ومن أقبلَ على الله بكلِّيَّته أقبلَ الله عليه جُملةً، ومن أعرضَ عن الله بكلِّيَّته أعرضَ الله عنه جُملةً، ومن كان مع الله حينًا وحينًا كان الله له كذلك، ومن أحبَّ أن يعلمَ منزلتَه عند اللهِ فلينظُر كيف منزلةُ الله عنده؛ فإن الله يُنزِلُ العبدَ منه حيث أنزلَه من نفسِه.
ومن طلبَ لذَّة العيشِ وطِيبَه بما حرَّمَه الله عليه عاقبَه ربُّه بنقيضِ قصدِه؛ فإن ما عند الله لا يُنالُ إلا بطاعتهِ، ولم يجعل اللهُ معصيتَه سببًا إلى خيرٍ قط.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجعل ديارَهم ديارَ أمنٍ وأمانٍ يا رب العالمين، اللهم ولِّ عليهم خيارَهم، واصرِف عنهم الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطَن، ورُدَّهم إليك ردًّا جميلاً، واجمع كلمتَهم على الحقِّ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك، وتحكيمِ شرعك.
اللهم إنا نسألُك الإخلاصَ في القولِ والعملِ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِين[الأعراف:23].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 01-09-2012 11:38 PM

الصلح خير
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 12/2/1433هـ بعنوان: "الصلح خير"، والتي تحدَّث فيها عن وجوب الصلح بين المُتخاصِمين من المُسلمين لا سيَّما إذا كانا زوجين.

الخطبة الأولى
الحمد لله غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ[غافر: 3]، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، وصفيُّه وخليلُه، وخيرتُه من خلقه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، وجعلنا على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالِك، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن أحسن الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكل مُحدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.
ألا وإن تقوى الله زادُ كل راجٍ، ووازعُ كل خائِف، بها يُرزقُ المرء من حيثُ لا يحتسِب، ويلوحُ له من كل همٍّ فرَج، ومن كل ضيقٍ مخرج، أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[يونس: 62، 63].

أيها المسلمون:
إن اختلافَ الناسِ وتفاوُت مدارِكهم ورغباتهم وطبائعهم لَبعيدُ الشُّقَّة، مع أنهم من أبَوين اثنين، وهو في الحقيقة مثارُ امتحانٍ بالغِ الجَدوى، كما قال - سبحانه -: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا[الفرقان: 20].
ثم إن في الناسِ الحليمَ المُتأنِّي المُحتفظَ برجاحة الفِكرِ وسماحة الخُلُق، فلا يحمَى من قليلٍ يسمعُه فيُوقِعُه في كثيرٍ يكرهُه.
وإن في الناسِ الطائشَ الأهوَج، والغِرَّ المأفون، وضيِّقَ العَطَن الذي تستخِفُّه التوافِه فيحمَقُ على عجَلٍ، ويكونُ لسانُه وفعلُه قبل قلبه وعقله.
والمؤمنُ الكبيرُ من هؤلاء إنما هو مُصلِحٌ عظيم، يجمعُ ولا يفرِّق، ويصلِح ولا يُفسِد، ويُفيضُ من أناته على ذوي النَّزَق والشِّقاق حتى يُلجِئَهم إلى الخيرِ إلجاءً، فيُطلِقُ الناسُ ألسنتَهم له بالدعاء والثناء الحسَن لكونه مُصلِحًا بين الفُرَقاء.
إن التعارُف والتوادَّ بين الناسِ ضَربان خاصَّان من المحبَّة في النفس ليس لهما في الأنواع ضَريب، فهما اللذان يلتقي بهما بشَران يُتمِّمُ كلٌّ منهما الآخر.
والناظرُ في واقعِ الناس اليوم سيجِدُ ثُلمةً تخدِشُ صفاءَ المودَّة والإخاء تظهَرُ في الهوى المُتَّبع، والشُّحِّ المُطاع، وإعجابِ كلِّ رأيٍ برأيه، فضربَ الاستحكامُ بالألفاظِ بأطنابِه ليركُز خيمةَ الخُصومة والتدابُر، فلم يُفرِّق لسانُ بعضهم وقلمُه بين العالِم والجاهِل، ولا بين ذي السلطان والسُّوقَة.
وصارَ منطِقُ بعضِ عُشَاق القلَم ينحَى منحَى الأهوَج الأول: مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى[غافر: 29]، فطاشَت ضوابطُ السلوك عندهم، وكثُرت زلاَّتُهم فأحدَثَت شُرُوخًا يستفحِلُ رأبُها، ويستعصِي على المُصلِحين الإمساكُ بها خليّةً من الخِطام والزِّمام، فانهارَت أمانةُ الكلمة، وتلاشَت الثقةُ العزيزة، وتصدَّعَت الأخُوَّة، فلم يبرُز في الساحة إلا الإِحَن وسُوءُ الظنِّ، وصار وقعُ الألسُن أشدُّ من وقعِ الحُسام المُهنَّد.
ولا غَروَ - عباد الله -:
فإن النارَ بالعيدان تُذكَى
وإن الحربَ مبدؤُها كلامُ
ولقد صدَقَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: «إن الشيطانَ قد أيِسَ أن يعبُده المُصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التحريشِ بينهم»؛ رواه مسلم.
وعند هذه الخُصومات والنزاعات يُحمَدُ الصُّلح، ورأبُ الصدعِ، وجمعُ الكلمة، وإذا كان الخلافُ شرًّا والنزاعُ والخصومةُ معرَّةً؛ فإن الصّلحَ والتصالح رحمةٌ، وجمعُ فُرقةٍ وسدُّ ثُلْمة.
وإذا كان الخلافُ سنَّةً من الله - جل وعلا - في الخلقِ، كما في قوله: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ[هود: 118]، فإنه - سبحانه - استثنَى من أولئك من أسبغَ عليهم رحمتَه فقال: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ[هود: 119]، فالخُصومةُ بلاءٌ والصُّلحُ رحمةٌ، والصُّلحُ والتصالُح ما وقع في أمةٍ إلا زانَها، ولا نزِع من أمةٍ إلا شانَها.
الصُّلحُ نهجُ قويم، ومنارٌ لكلِّ تائهٍ في مهامِهِ الخُصومةِ، الصُّلحُ جائزٌ بين المسلمين في الحقوق، وواجبٌ لنزعِ فتيلِ التباغُض والتدابُر، به يقرُبُ البعيد، ويتَّسِعُ المضيق.
بالصُّلح تُهزَمُ الأنانية، وينتصِرُ الإيثار، والصُّلحُ برُمَّته قال عنه - سبحانه -: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ[النساء: 128]، وقال عنه: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ[الأنفال: 1]، وقال عنه: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ[النساء: 114]، وقال عنه - سبحانه -: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا[الحجرات: 9]، وقال عنه - جل وعلا -: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ[الحجرات: 10].
وإنه لا يُعرفُ في الوجودِ البشريِ مُصلِحٌ عزيزٌ عليه ما عنِتنا حريصٌ علينا بالمؤمنين رؤوفٌ رحيمٌ مثلُ النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فهو المُصلِحُ بين القبائل والطوائِف، وهو المُصلِحُ بين الأفراد والمُجتمعات، وهو المُصلِحُ بين الزوجين، والمُصلِحُ بين المُتداينَيْن، والمُصلِحُ في الأموال والدماء والأعراض؛ كيف لا وهو الذي يقول: «ألا أُخبِركم بأفضلِ من درجةِ الصيامِ والصلاة والصدقة؟». قالوا: بلى، قال: «صلاحُ ذات البَيْن؛ فإن فساد ذات البَيْن هي الحَالِقة»؛ رواه أبو داود، والترمذي.
وعن سهل بن سعدٍ - رضي الله عنه - أن أهل قُباء اقتَتلوا حتى ترامَوا بالحجارة، فأخبرَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، فقال: «اذهبُوا بنا نُصلِح بينهم»؛ رواه البخاري.
وبئسَ الخَصمان اللذان يستكبِران أن يُصلِح بينهما رسولُ الهدى - صلوات الله وسلامه عليه -، والله - جل وعلا - يقول: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء: 65].
وبعدُ، يا رعاكم الله:
فإن الصُّلح سببُ المودة ومحوٌ للقطيعة، والصُّلحُ قد يكون خيرًا من فضِّ الخُصومة قضائيًّا؛ لِما يُورِثُه من الشحناء من خلال ثُبوت الحُكم لأحد المُتخاصِمَين دون الآخر.
وقد كتبَ عمرُ بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - إلى أبي موسى الأشعري يقول له: "رُدَّ الخُصوم حتى يصطلِحوا؛ فإن فصلَ القضاء يُورِثُ بينهم الضَّغانة".
في الصُّلح - عباد الله - إذكاءٌ لخصلة العفو والتسامُح، وهو علامةُ التماسُك الاجتماعيِّ المحمود.
بالصُّلح تقِلُّ المُحاكَمات، ويُقضَى على الأزمات.
بالصُّلح يُرفعُ الفهمُ الخاطِئ بإحلالِ الفهمِ الصحيحِ.
وبالصُّلح يعظُمُ الأجرُ، ويُمحَى الوِزر.
بالصُّلح بين المُتخاصِمَين يصلُح حالُ الأسرة التي يصلُح بسببها المُجتمع، ثم الأمةُ بأسرِها.
ولن يتأتَّى ذلك كلُّه إلا إذا وُجِد العزمُ الصادقُ، والنيةُ الخالصةُ في الإصلاح من قِبَل المُصلِح والمُتخاصِمَيْن جميعًا؛ لأن الله - جل وعلا - علَّق تمام التوفيق في الإصلاح بحُسن الإرادة، كما قال - سبحانه -: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا[النساء: 35]، ومفهومُ المُخالفة في ذلك: أنه إذا لم تكن إرادةُ الإصلاح حاضرةً لدى المُصلِح والمُتخاصِمين فشتَّان ما بينهم وبين التوفيق.
وقد تقدَّم للحسن البصري - رحمه الله - خصمان من ثقيفٍ، فقال الحسن: "وأنتما أيضًا في أسنانكما وقرابتكما تختصِمان؟!". فقالا: يا أبا سعيد! إنما أردنا الصُّلح. قال: "نعم إذًا، فتكلَّما"، فوثَبَ كلُّ واحدٍ منهما على صاحبه بالتكذيب، فقال الحسن: "كذبتُما وربِّ الكعبة، ما الصُّلح أردتُما؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا[النساء: 35]".
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وكفى خُصوماتٍ وتدابُرًا، لا سيَّما فيما هو من تفاهات الأمور وسفسَافها، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[الشورى: 40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.



ابوحاتم 01-09-2012 11:39 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
أما بعد:
فإن الأسرة المُسلِمة أصلُ المُجتمع المُسلِم، وصورة المُجتمع الكلية إنما هي ترجمان لواقعِ الأُسرة، فإذا دبَّ في الأسرة روحُ الخِلافِ والتنازُع والخُصومة؛ فإن التشتُّت لها وللمُجتمع ما منه بُدٌّ، ويتأكَّد الأمرُ في حق الزوجين؛ لأنهما أُسُّ الأسرة.
ثم إن المُترقِّب لواقعِ مُجتمعه ليرى بعين قلبه ورأسه ما تُعانيه الحياةُ الزوجية من تفكُّك لدى كثيرٍ من الأزواج، كلُّ ذلك لأتفه الأسباب؛ فقد تُطلَّقُ المرأةُ في نُقصان مِلحٍ أو قفل بابٍ، فتُطلَّقُ حينها عدد نجوم السماء؛ حيث أعمِلَت السلطة، وأُهمِلَت الحكمةُ والعاطفة، والعكسُ صحيحٌ أيضًا.
وربما كان لتدخُّل الأهل والأقارب إذكاءٌ لروح الخلاف والخِصام، فتُؤتَى البيوتُ من ظهورها، ويُنزَع سِتارُها، ويهتَكُ حجابُها.
ومن المعلوم بداهةٍ: أن الله - سبحانه وتعالى - لم يخلُق الزوجين بطباعٍ واحدةٍ، ومن يظنُّ ذلك فهو يعيشُ في أوهام؛ لأنه لا يمكن البتَّة أن يُفكِّر أحدُهما بعقلِ الآخر أو يُحِسَّ بقلبِ الآخر، فكلٌّ له عقلٌ يُفكِّرُ به، وقلبٌ يُحِسُّ به.
ثم إن ارتِقاب الراحة التامة المُطلَقة بين الزوجين إنما هو نوعُ وهمٍ إلا من رحمَ الله، لذا كان من العقلِ توطينُ النفسِ على بعضِ المُضايقات، فالكمالُ لله وحده، وكان لِزامًا على المُجتمعات المُسلمة أيضًا أن ترعَى جانبَ الأسرة، وأن تُدرِك أن الوضعَ الأسريّ مرتعٌ خصبٌ للخلافِ والخُصومة؛ كيف لا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن إبليس يضعُ عرشَه على الماء، ثم يبعَثُ سراياه، فأدناهم منه منزلةً أعظمُهم فتنةً، يجيءُ أحدُهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقول: ما صنعتَ شيئًا، ثم يجيءُ أحدُهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأته، فيُدنِيه منه ويقول: نعمَ أنت، فيلتزمُه»؛ رواه مسلم.
وقد حثَّنا دينُنا الحنيفُ على الإصلاحِ بين الأزواج ورأب صدعِ البيتِ المُسلِم حتى لا ينهار فيهتزَّ كيانُ المُجتمع برُمَّته، ولذا قال الله - سبحانه -: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا[النساء: 35]، وقال - سبحانه -: وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ[النساء: 128].
ولقد كان من حرصِ الشارعِ الحكيمِ على الصُّلح ونزع فَتيلِ الخُصومة أن أباحَ شيئًا من الكذبِ في سبيلِ الإصلاح وجمعِ الكلمة؛ فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «ليس الكذَّاب الذي يُصلِحُ بين الناس، ويقول خيرًا أو ينمِي خيرًا»؛ متفق عليه.
والمقصودُ بالكذبِ هنا: ذكرُ ما يكونُ سببًا للاجتماع وتأليفًا للقلوب، فلله! ما أجملَ الكذبِ في الإصلاح، ولله! ما أقبحَ الصدقَ في الإفساد، ولله! ما أقبحَ الرجل حلو اللسان خرابَ الجَنان قلبُه أمرُّ من الصَّبِر، قال الله عنه وعن أمثاله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ[البقرة: 204- 206].
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله بن عبد المُطلب، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد صاحبِ الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمُشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين. اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألُك من خيرِ ما سألَكَ منه عبدُك ورسولُك محمد - صلى الله عليه وسلم -، ونعوذُ بك من شر ما استعاذك منه عبدُك ورسولُك محمد - صلى الله عليه وسلم -، اللهم إنا نسألك من الخير كلِّه، عاجلِه وآجلِه، ما علِمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كلِّه، عاجلِه وآجلِه، ما علِمنا منه وما لم نعلم.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجعل ما أنزلتَه علينا بلاغًا لنا ومتاعًا إلى حين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-23-2012 11:14 PM

نعمة الأمن وخطورة فقده

ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 19/2/1433هـ بعنوان: "نعمة الأمن وخطورة فقده"، والتي تحدَّث فيها عن نعم الله لا تُحصَى، ومن أعظمها: نعمة الأمن والاستقرار، وذكر أسباب تحقيق الأمن، والنتائج المُترتِّبة على ذلك، وأسباب فُقدانه في كثيرٍ من بُلدان المُسلمين، ووجَّه النصائحَ القيِّمة لشباب الأمة، وذوي المسؤوليات، والتجار وغيرهم، بوجوب الحفاظِ على الأمن وعدم التسبُّب في زعزعته أو الإخلال به.


الخطبة الأولى

الحمد لله الذي أنعمَ علينا بنعمٍ لا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ الأعلى، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه النبيُّ المُصطفى والرسولُ المُجتبَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ أهلِ البرِّ والتقوى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أُوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -؛ فمن اتقاه وقاه وأسعدَه ولا أشقاه.
معاشر المسلمين:
الأمنُ من أهمِّ مطالبِ الحياة، بها تتحقَّقُ الحياةُ السعيدةُ، وبه يحصُل الاطمئنانُ والاستِقرار، به تتحقَّقُ السلامةُ من الفتن والشُّرور، لذا فهو نعمةٌ كُبرى ومنَّةٌ عظيمةٌ لا يعرِفُ كبيرَ مقدارِها وعظيمَ أهميتها إلا من اكتوَى بنار فقدِ الأمن، فوقعَ في الخوف والقلق والذُّعر والاضطراب ليلاً ونهارًا، سفرًا وحضرًا.
أيها المسلمون:
نعم، إن الأمن نعمةٌ عظيمةٌ امتنَّ الله بها على أقوام، فيقول - جل وعلا -: سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ[سبأ: 18].
ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من أصبحَ آمنًا في سِربه، مُعافًى في جسده، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزَت له الدنيا»؛ رواه الترمذي، والبخاري في "الأدب المفرد".
معاشر المسلمين:
إذا اختلَّ نظامُ الأمن وتزَعزَعت أركانُه وقعَ المُجتمع في الفتن العريضة والشرور المُستطيرة، وكثُرت حينئذٍ الجرائمُ الشنعاء، والأعمال النَّكراء، لذا حرَّم الإسلامُ كلَّ فعلٍ يعبَثُ بالأمن والاطمئنان والاستِقرار، وحذَّر من أيِّ عملٍ يبُثُّ الخوفَ والرعبَ والاضطراب.
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحلُّ لمُسلمٍ أن يُروِّع مُسلمًا»؛ رواه أحمد، وأبو داود.
بل ولقد بلغَت عنايةُ الإسلام بالحِفاظ على الأمن بأن حرَّم كلَّ ما يُؤذِي المُسلمين في طُرقهم وأسواقِهم ومواضع حاجاتهم.
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إذا مرَّ أحدُكم في مساجِدنا أو أسواقنا ومعه نَبلٌ فليُمسِك بنَصلها أن يُصيبَ أحدًا من المُسلمين منها بشيءٍ»؛ متفق عليه.


إخوة الإسلام:
إن من أسباب توفُّر الأمن: السمع والطاعة لوليِّ الأمر في المعروف وفيما لا معصيةَ فيه لله - جل وعلا -، فذلكم أصلٌ من أصول الدين، وبهذا الأصل تنتظِمُ مصالحُ الدارَين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ[النساء: 59].
وفي الشأن ذاتِه من أسباب توفُّر الأمن: أن يحرِصَ وليُّ الأمر على أداء مهمَّته التي كلَّفه الله - جل وعلا - بها من تحقيق العدل في رعيَّته، ومُحاربة الفساد بشتَّى مجالاته، والأخذ على أيدي السُّفهاء، ورَدع المُجرمين والمُفسدين.
ومن أسباب تحقيق الأمن: التناصُح والتراحُم فيما بين الراعي والرعيَّة، والتعاوُن على وفق المنهَج النبويِّ المُؤصَّل على الإخلاص لله - جل وعلا -، والتعاوُن على الحق الذي لا يحدُوه إلا خوفُ الله - جل وعلا -، مع مراعاة مبادئ الرِّفق والحكمة واللُّطف بما يجمَعُ الكلمةَ، ويُوحِّدُ الصفَّ، ويُؤلِّفُ القلوبَ.
إنه التناصُح الذي يجلِبُ المصالحَ، ويدرأُ المفاسِد بكلامٍ طيبٍ وأسلوبٍ حسنٍ وتوجيهٍ سديدٍ، يقودُ الجميعَ إلى الخير والصلاح والازدهار، وينأَى بالناس عن التفرُّق والتشتُّت والعبَث والفوضَى، ومن أخلصَ وكان مع الله جعله الله مفتاحًا لكل خيرٍ، مِغلاقًا لكلِّ شرٍّ، والأعمالُ بالنيَّات.
أيها المسلمون:
من نعمة الله - جل وعلا - علينا في هذه البلاد ما منَّ به من نعمٍ كثيرةٍ؛ منها: نعمةُ الأمن الوافِر، وذلك بسبب قيام هذه الدولة في أطوارها المُختلفة الثلاثة على نُصرة عقيدة التوحيد، وعلى قيامها على الدعوة السلفية، وإلا فالناسُ قبلُ كانوا في خوفٍ ورعبٍ وتشتُّتٍ لا يُنكِرُه إلا مُكابِر.
نعم، إنها الدعوةُ السلفيةُ التي رسمَها محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، دعوةٌ تنتهِجُ القرآنَ الكريمَ والسنةَ النبويةَ منهجًا ودستورًا، حتى صارَت هذه الدولةُ بسبب هذا الأمر تتصدَّرُ المكانةَ العُليا والمنزلةَ الأسمَى.
فما واجبُنا نحو تلك النِّعَم؟ خاصَّةً نعمة الدين، نعمة تحكيم القرآن والسنة في القضاء، نعمة إقامة عقيدة التوحيد.
واجبُ كل مواطِن: أن يشكُر نعمةَ الله - جل وعلا -، وأن يكون حريصًا أشدَّ الحرصِ على حفظِ الأمن وصونِ الاستِقرار، فذلكم واجبٌ مُعظَّم وفرضٌ مُحتَّم.
أيها الشباب:
إن الأعداءَ يتربَّصون بكم وببلادكم بأنواع المكر المُتعدِّدة؛ من نشر حرب المُخدِّرات المُهلِكة، ومن غزو الأفكار والعُقول، وبثِّ الفتن وأسباب الشرِّ والفساد.
فالحذرَ الحذرَ شبابَنا الكريم، كونوا درعًا متينًا في الحِفاظ على دينكم، والدفاع عن بلادكم الذي نشأتُم على أرضه، ونعِمتُم بخيره.
احذَروا من الدعوات التي تُهدِّدُ الأمن، وتُزعزِعُ الاستِقرارَ؛ فإن الواقعَ الذي عاشَته وتعيشُه بُلدان ممن حولنا يُذكِّرُنا بأن انفِلات الأمن أعظمُ الشرور، وأن المِحن والكُروب نتائِجُ الإخلال بالأمن، فيعودُ العمارُ خرابًا، والأمنُ سرابًا.
نسأل الله - جل وعلا - السلامة والعافية.


أيها الشباب الفاضل:
أبشِروا بالخيرات، وأمِّلوا في بلادكم وولاة أموركم تنالوا العاقبةَ الحميدة والعائِدة السعيدة، فأنتُم أولُ من يجبُ أن يكون عونًا في تحقيق الخير، وسندًا في تحصيل الرفاهية والرخاء والأمن والاطمئنان.
يا أيها الوزراء في هذه البلاد، يا أيها المسؤولون!
اتقوا الله - جل وعلا - في أنفسكم، اتقوا الله - جل وعلا - في وليِّ أمركم، قوموا بواجبِكم أمام الله - جل وعلا - وأمام وليِّ أمركم ومُجتمعكم في تنفيذ السياسة التي انتهَجها ولاةُ الأمر من أجل إسعاد المواطِن وتحقيق مصالحه.
لا تُعقِّدوا الأمور، يسِّروا ولا تُعسِّروا، بشِّروا ولا تُنفِّروا، اتقوا الله - جل وعلا -، واحرِصوا أشدَّ الحرصِ على مصالح المُجتمع ومُقدَّراته وخيراته؛ فهي أمانةٌ في أعناقكم، والله - جل وعلا - سائِلُكم عن ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ[الأنفال: 27].
أيها التجار:
كونوا عونًا على وحدة الصفِّ وتحقيق الاستِقرار والأمن؛ فلقد منَّ الله - جل وعلا - عليكم بنعمة التجارة في هذه البلاد، فاشكُروا الله - جل وعلا -، ثم اشكُروا لبلادكم التي رغبتُم بخيراتها، واعلَموا أن الجشعَ واستِغلال الفُرص برفع أثمان السِّلَع على إخوانكم المُسلمين، إخوانكم في الدين، إخوانِكم في الوطنية، إخوانكم في المُجتمع أن ذلك عواقِبُه وخيمة.
أنتم أولُ من تجنُون عاقبتها السيئة، بادِروا إلى تحقيق الأمن الاجتماعي بالمُبادَرة إلى أداء الزكاة التي فرَّط فيها بعضٌ، فلو أُعطِيت كما شرعَ الله - جل وعلا - لما بقِيَ في البلد فقرٌ ولا عَوَز.
عليكم بالإكثار من الصدقات، والمُساهمة في المشاريع التي تنفعُ المُجتمع، بادِروا إلى توظيف الشبابِ وبذلِ العطاء الجَزيل إزاءَ الوظائف التي يقومون بها، فذلكم واجبٌ اجتماعيٌّ، ومطلَبٌ وطنيٌّ، وفي الحديثِ: «من لا يشكُر الناسَ لا يشكُر الله».
وربُّنا - جل وعلا - يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ[المائدة: 2].
أيها الشباب:
اعلموا أن الجميعَ - من حاكمٍ وعُلماء ومُثقَّفين ومُفكِرين - معكم في تحقيق الحياة الطيبة السعيدة لكم، وبلادُكم ماضيةٌ - بإذن الله - جل وعلا - تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين في تحقيق حياةٍ تكونُ أكثرَ رخاءً وأوسعَ عطاءً، فمن وجدَ من مسؤولٍ ما تقصيرًا في تنفيذ ما توجَّه إليه وليُّ أمرنا خادمُ الحرمين الشريفين ووليُّ عهده، فليحرِص على الاتصال بوُلاة الأمر ونوَّابه في سائر المناطِق؛ من أُمراء ومُحافِظين.
ناهِيك عما جعله وليُّ الأمر بابًا لتحقيق العدل ونُصرة المظلوم؛ كالمحاكمِ الإدارية، وهو ما يُسمَّى بـ "ديوان المظالم" سابقًا.
أسأل الله - جل وعلا - أن يُحقِّقَ لنا الأمنَ والأمان والاستِقرار والاطمئنان.
أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.




الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه أفضلُ الأنبياء والمُرسلين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ أجمعين.
أيها المسلمون:
الأمنُ نعمةٌ عُظمى، وفقدانُه إنما سببُه الإعراضُ عن طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، الإعراضُ عن المنهج الإسلامي الذي رسمَه لحياة الناس في دنياهم وفي أخراهم.
وإن من أعظم أسباب فقدِ الأمن: فُشُوُّ المعاصي والسيئات والمُوبِقات، يقول - سبحانه -: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[النحل: 112].
وإن من أعظم أنواع الإعراض التي بسببه دبَّت الفتنُ والقلاقِل وفُقِد الأمنُ والأمان في بعض بُلدان المُسلمين: التولِّي عن تحكيم شريعة الله - جل وعلا - التي كان يُنادي بها علماءُ المسلمين في كل مُؤتمر.
إن استِبدال شريعة الله بالقوانين الوضعية والدساتير البشرية إنما هو أعظمُ الأسباب التي بسببها دبَّ الظلمُ والقهرُ والعُدوان في بعض بلاد المسلمين، فكانت النتائجُ مُخزِية، والعواقِبُ وخيمة، فنبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «وما لم تعمل أئمتُهم بما أنزل الله في كتابه إلا جعل الله بأسَهم بينهم»؛ رواه الببهقي، وابن ماجه.
إن هذا الحديثَ علَمٌ من أعلام النبوَّة، وإنما علينا في المُستقبل أن نعمل جاهدين على تحقيق شريعة الله - جل وعلا - في حياتنا، فبذلك تطيبُ الحياةُ، وتسعَدُ القلوبُ، وتطمئنُّ الأفئِدة، ويعيشُ الناسُ في رخاءٍ وأمنٍ وأمانٍ.

أيها المسلمون:
إن أعظمَ الأعمالِ: الصلاةُ والسلامُ على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا وحبيبِنا وقُرَّة عيوننا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم ارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم احفَظ علينا أمنَنا، اللهم احفَظ على المسلمين جميعًا أمنَهم واستِقرارَهم، اللهم احفَظ على المسلمين جميعًا أمنَهم واستِقرارَهم، اللهم احفَظ عليهم أمنَهم وأمانَهم يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم اجعلهم في رخاءٍ وسخاءٍ، اللهم اجعلهم في رخاءٍ وسخاءٍ، اللهم اجعلهم في رخاءٍ وسخاءٍ، اللهم آمِن روعاتهم، اللهم استُر عوراتهم.
اللهم احفَظ كل مسلمٍ من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ونعوذُ بعظمتك أن يُغتال من تحته.
اللهم أسعِد المُسلمين، اللهم أسعِد المُسلمين، اللهم أصلِح أحوالَهم، اللهم أصلِح أحوالَهم، اللهم أصلِح أحوالَهم، اللهم اغفِر لنا ولهم، اللهم اغفِر لنا ولهم، اللهم ارحمنا وإياهم رحمةً تُغنينا بها عمَّن سِواك يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّ وترضى، اللهم وفّقه ونائبَه لما تُحبُّ وترضى، اللهم وفِّقهما لكلِّ خيرٍ، اللهم وفِّقهما لكلِّ خيرٍ يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم وفِّق جميعَ ولاة أمور المُسلمين، اللهم ولِّ عليهم خيارَهم، اللهم ولِّ عليهم خيارَهم، اللهم واكفِهم شِرارَهم يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم يا غنيُّ يا حميد، يا غنيُّ يا حميد، يا غنيُّ يا حميد، مسَّنا الضرُّ وأنت أرحمُ الراحمين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم اسقِنا يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم اسقِنا يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم لا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم لا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم لا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك.
اللهم إنا بحاجةٍ إلى المطر، اللهم إن بهائِمنا بحاجةٍ إلى المطر، اللهم ارحمنا ببهائِمنا، اللهم ارحمنا ببهائِمنا، اللهم ارحمنا ببهائِمنا.
اللهم أنت القويُّ المتين، أنت الغنيُّ الحميد، أنت الغنيُّ الحميد، أنت اللطيفُ بعبادك، اللهم الطُف بنا وبالمُسلمين، اللهم الطُف بنا وبالمُسلمين، اللهم الطُف بنا وبالمُسلمين يا حيُّ يا قيُّوم.
عباد الله:
اذكُروا اللهَ ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلاً.
وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-23-2012 11:22 PM

اهتمام الإسلام بطهارة القلب والبدن

ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 26/2/143هـ بعنوان: "اهتمام الإسلام بطهارة القلب والبدن"، والتي تحدَّث فيها عن الإسلام وعظمته ومدى اهتمامه بطهارة القلبِ والبدَن، وذكرَ الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الطهارة للقلبِ والبدَن، والوعد بعظيمِ الأجرِ للمُتطهِّرين.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فالتقوى أكرمُ ما أسررتُم، وأبهَى ما أظهرتُم.
أيها المسلمون:
دينُ الإسلام دينُ الجمال والكمال، أمرَ بطهارة القلب والبدَن، مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[المائدة: 6]، وأمر بتطهيرِ أماكن العبادة من الشرك والدَّنَس: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[الحج: 26].
ووصفَ الله الرسلُ بنقاء القلوبِ؛ فقال عن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام -: إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[الصافات: 84].
وحفِظَ نبيَّنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وهو في صِغره من أدواء الصدور؛ قال أنسٌ - رضي الله عنه -: "أتَى جبريلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يلعبُ مع الغِلمان، فأخذَه فصرَعَه فشقَّ عن قلبه فاستخرجَ القلبَ منه علَقَةً، فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثم غسلَه في طستٍ من ذهبٍ بماءِ زمزم، ثم لأَمه ثم أعادَه في مكانه"؛ رواه مسلم.
ولما أُرسِل أمرَه الله بالحِفاظ على سلامةِ قلبه؛ فقال له: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ[المدثر: 4]. قال سعيدُ بن جُبيرٍ - رحمه الله -: "وقلبكَ ونيَّتك فطهِّر"، فكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم نقِّني من الخطايا كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدَّنَس، اللهم اغسِل خطايايَ بالماء والثلجِ والبَرَد»؛ متفق عليه.
ولما أراد الله أن يُكرِمه بالإسراء والمِعراج غسلَ قلبَه مرةً أخرى؛ إذ لا يدنُو منه - سبحانه - إلا سليمَ الصدر؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «نزلَ جبريلُ ففرَجَ صدري - أي: شقَّه -، ثم غسلَه بماء زمزَم، ثم جاء بطستٍ من ذهبٍ مُمتلئٍ حكمةٍ وإيمانًا فأفرغَها في صدري ثم أطبقَه، ثم أخذَ بيدي فعرَجَ بي إلى السماء»؛ متفق عليه.
وأثنَى على أهل القُباء بتقواهم ومُلازمتهم كمال الطهارة؛ قال - سبحانه -: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا[التوبة: 108].
والطُّهور شطرُ الإيمان، ومن تطهَّر أحبَّه الله؛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ[البقرة: 222].
ومِفتاحُ الصلاة الطُّهور، فلا يدخلُ المُصلِّي في صلاته حتى يتطهَّر.

وجعل - سبحانه - الدخول إلى الجنةِ موقوفًا على الطِّيب والطهارة، فلا يدخلُها إلا طيبٌ طاهرٌ؛ قال تعالى: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ[الزمر: 73]، فمن تطهَّر في الدنيا ولقِيَ اللهَ طاهِرًا دخلَ الجنة، ومن لم يتطهَّر في الدنيا فإن كانت طهارتُه معدومةً كالكافرِ لم يدخُلها بحالٍ، وإن كانت نجاستُه كسبيَّةً عارِضةً وشاء اللهُ عذابَه دخلَها بعدما يتطهَّر في النار من تلك النجاسةِ ثم يخرُج منها.
وأهلُ الإيمان إذا جازوا الصراطَ حُبِسُوا على قنطرةٍ بين الجنةِ والنار، فيُهذَّبون ويُنقَّون من بقايا بقِيَت عليهم قصُرَت بهم عن الجنة ولم تُوجِب لهم دخولَ النار.
وطهارةُ القلبِ شرطٌ لدخول الجنة؛ قال - سبحانه -: يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[الشعراء: 88، 89].
قال ابن القيم - رحمه الله -: "لا يُجاوِرُ الرحمنَ قلبٌ دُنِّس بأوساخِ الشهوات والرياء أبدًا".
وللباطنِ زينةٌ كما للظاهر زينةٌ، ومن دعاء النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم زيِّنَّا بزينةِ الإيمان»؛ رواه النسائي.
والقلوبُ كالأبدان؛ منها الصحيحُ ومنها السقيم، ومنها الحيُّ ومنها الميِّت، وإذا نُقِّيَ القلبُ من الأدران امتلأ بالرحمة والخير، فاهتمَّ الإسلامُ بكلِّ ما يُصلِحُ القلبَ، ونهَى عن جميع ما يُفسِدُه، وأعظمُ صلاحٍ له هو التوحيدُ بإخلاص الأعمال لله وحده، وفسادُ القلبِ وموتُه بالشرك بالله؛ قال - عز وجل -: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ[التوبة: 28].
وتوعَّدَهم بالخِزيِ والنَّكال؛ فقال: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ[المائدة: 41].
والمُنافِقون وصفَهم الله بقوله: إِنَّهُمْ رِجْسٌ[التوبة: 95]. قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "أي: خُبثاء نجِسٌ بواطِنُهم وظواهِرهم".
والحِقدُ والحسدُ داءٌ في القلوبِ، إن لم يُتدارَك بالدعاء وسلامةِ الصدرِ أظلمَ به؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا تباغَضوا ولا تحاسَدوا ولا تدابَروا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا».
وقدِمَ رجلٌ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال لأصحابه: «يطلُعُ عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة». ولما سُئِل عن عمله قال: إني لا أجِدُ في نفسي لأحدٍ من المُسلمين غشًّا، ولا أحسِدُ أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إياه؛ رواه أحمد.
ومن دعاء المُؤمنين: وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا[الحشر: 10].
قال ابن القيم - رحمه الله -: "ما رأيتُ أحدًا أجمعَ لخِصال الصفحِ والعفوِ وسلامةِ الصدر من ابن تيمية".
والقلبُ شديدُ الصفاءِ، سريعُ التأثُّر، أدنى معصيةٍ تُؤثِّرُ فيه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن العبدَ إذا أخطأ خطيئةً نُكِتَت في قلبه نُكتةٌ سوداء، فإذا هو نزَعَ واستغفرَ وتابَ صُقِل قلبُه، وإن عادَ زِيدَ فيها حتى تعلُوَ قلبَه، وهو الرانُ الذي ذكرَ اللهُ: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[المطففين: 14]»؛ رواه الترمذي.
وواجبٌ على العبدِ أن يغسِل قلبَه في كل يومٍ وليلة، ومما يُنقِّيه: الصلواتُ المفروضة؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «أرأيتُم لو أن نهرًا ببابِ أحدِكم يغتسِلُ منه كلَّ يومٍ خمسَ مراتٍ؛ هل يبقَى من درَنه شيء؟». قالوا: لا يبقَى من درَنه شيءٌ. قال: «فذلك مثَلُ الصلوات الخمسِ، يمحُو اللهُ بهنَّ الخطايا»؛ متفق عليه.
ومن صلَّى بعد تطهُّره كان سببًا في دخول الجنة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ما من مُسلمٍ يتوضَّأ فيُحسِنُ وُضوءَه ثم يقوم فيُصلِّي ركعتين يُقبِلُ عليهما بقلبِه ووجهِه إلا وجَبَت له الجنة»؛ متفق عليه.
والوضوءُ دواءٌ للقلوبِ والجوارِح؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا توضَّأ العبدُ المُسلمُ أو المؤمنُ فغسلَ وجههُ، خرجَ من وجهه كلُّ خطيئةٍ نظرَ إليها بعينِه مع الماءِ أو مع آخر قطرِ الماء، فإذا غسلَ يديه خرجَ من يديه كلُّ خطيئةٍ كان بطَشَتها يداه مع الماءِ أو مع آخر قطرِ الماءِ، فإذا غسلَ رجلَيْه خرجَت كلُّ خطيئةٍ مشَتها رِجلاه مع الماءِ أو مع آخر قطرِ الماءِ، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب»؛ متفق عليه.
ومن أضافَ إلى طُهوره كلمةَ التوحيد فُتِّحَت له أبوابُ الجنةِ الثمانية؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ما منكم من أحدٍ يتوضَّأُ فيُسبِغُ الوضوءَ، ثم يقول: أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، إلا فُتِّحَت له أبوابُ الجنةِ الثمانية يدخلُ من أيِّها شاءَ»؛ رواه أحمد.
والزكاةُ تُطهِّرُ القلبَ وتُنيرُه؛ قال - سبحانه -: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا[التوبة: 103].
وكلامُ ربِّ العالمين شفاءٌ للأبدان والصدور؛ قال - عز وجل -: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[الإسراء: 82].
ولزومُ جماعةِ المُسلمين والنصيحةُ مما يُصلِحُ القلوبَ؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ثلاثٌ لا يُغلُّ عليهنَّ قلبُ مُسلمٍ: إخلاصُ العملِ لله، ومُناصَحة الأئمة المُسلمين، ولُزوم جماعتهم»؛ رواه الترمذي.
والحِجابُ طهرٌ وعفافٌ؛ قال - سبحانه -: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ[الأحزاب: 53].
ومُجالَسةُ الصالحين وحِفظُ اللسانِ نقاءٌ للقلبِ، والبُعدُ عن الفتن طهارةٌ له؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «تُعرضُ الفتنُ على القلوبِ كالحَصير عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَت فيه نُكتةٌ سوداء، وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَت فيه نُكتةٌ بيضاء»؛ رواه مسلم.
وطهارةُ الظاهر مُتمِّمةٌ لطهارة الباطِن، فاهتمَّ الإسلامُ بطهارة بدَن الإنسان منذ ولادته إلى وفاته؛ فإذا وُلِد خُتِن وحُلِق رأسُه، وإذا ماتَ غُسِّلَ وأُحسِن كفنُه وتطييبُه.
وكان - عليه الصلاة والسلام - يُحبُّ الطِّيبَ ويُرَى وَبيصُ طِيبِ المِسك يسيلُ من مِفرَقِ رأسه، وكان يتسوَّك عند كل وُضوءٍ وصلاةٍ وعند دخول المنزل وإذا استيقظَ من النوم.
وأمرَ بما جاءت به الفِطرةُ من قصِّ الشاربِ، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاقِ الماء، وقصِّ الأظافِر، وغسلِ البراجِم، ونتفِ الإبِط، وحلقِ العانة، وانتقاصِ الماء - أي: الاستِنجاء -، والخِتان، ووقَّت في قصِّ الشارِبِ وتقليمِ الأظافِر ونتفِ الإبِط وحلقِ العانَةِ ألا تُتركَ أكثر من أربعين ليلة.
وأمرَ كلَّ مُسلمٍ أن يغتسلَ كلَّ أسبوعٍ؛ فقال - عليه الصلاة والسلام -: «حقٌّ على كل مُسلمٍ أن يغتسلَ في كلِّ سبعةِ أيامٍ يومًا يغسِلُ فيه رأسَه وجسدَه»؛ متفق عليه.
وكان إذا عطسَ - عليه الصلاة والسلام - وضعَ يدَه أو ثوبَه على فِيهِ وخفضَ بالعُطاسِ صوتَه؛ رواه أبو داود.
وأمرَ بإماطةِ الأذى عن طُرقات المُسلمين، وقال: «عُرِضَت عليَّ أعهمالُ أمتي حسنُها وسيِّئُها، فوجدتُ في محاسِن أعمالها: الأذى يُماطُ عن الطريقِ ..»؛ رواه مُسلمٌ.
ووصفَ كيفيةَ التطهُّر بعد قضاء الحاجةِ وبمَ يستنجِي وعددَ الأحجار؛ فنهَى عن الاستِنجاءِ باليَمين، ونهَى عن الاستِجمار بالرَّوث والعِظام، وألا يُستجمَر بأقلَّ من ثلاثة أحجار.
ونهَى عن كل ما فيه مُجانَبة التنزُّه أو تمامُه؛ فنهَى عن التنفُّس في الإناء حال الشُّرب، ونهَى عن نفخِ الطعامِ، وعن الشُّربِ من فمِ القِربةِ أو السِّقاءِ؛ لأنه يُنتِنُه.
وإذا استيقظَ النائمُ لا يغمِسُ يدَه في الإناء حتى يغسِلَها ثلاثًا، وإذا ولغَ الكلبُ في الإناءِ أمرَ بغسلِهِ سبعًا أُولاهنَّ بالتُّرابِ، ووقَّت في مسحِ الخُفَّين يومًا للمُقيم وثلاثةً للمُسافِر لئلا يتأخَّر غسلُ القدَمِ بالماء؛
بل توعَّد من لم يغسِل كاملَ قدمِهِ بالنار؛ فقال: «ويلٌ للأعقابِ من النارِ»؛ متفق عليه.
وزجرَ عما فيه رائحةٌ تُؤذِي؛ فقال: «من أكلَ ثومًا أو بصلاً فليعتزِلنا، أو ليعتزِل مسجِدنا وليقعُد في بيته»؛ متفق عليه.
ولنجاسَة الخمرِ وإسكارِها توعَّد من شرِبَها ألا تُقبَلَ منه صلاةٌ أربعين يومًا.
ونهَى عن التخلِّي في طريق الناسِ أو ظلِّهم، وعن البُصاق في المساجِد، ورغَّبَ في تطهيرِها وعظَّمَ من يقوم بذلك؛ فكانت امرأةٌ سوداءُ أو رجلٌ يقُمُّ المسجِد، ففقدَه - عليه الصلاة والسلام - فسألَ عنه، فقيلَ: مات، فقال: «ألا آذنتُموني به؟». فكأنَّهم صغَّروا أمرَها أو أمرَه، قال: «دُلُّوني على قبره»، فدلُّوه، فصلَّى عليه؛ رواه أبو داود.
وبين الثيابِ والقُلوبِ مناسبةٌ ظاهرةٌ وباطِنة، كلٌّ منهما يُؤثِّرُ في الآخر؛ فنهَى عن لباسِ الحرير والذهبِ وجلود السِّباعِ، وعن الإسبالِ؛ لما تُؤثِّرُ في القلبِ من الهيئةِ المُنافِيَة للعبوديةِ والخُشوع.
وبعدُ، أيها المُسلمون:
فدينُ الإسلام لا أكملَ ولا أعظمَ منه، ولا أزكَى للعبدِ وأطهرَ له سِواه منه، والسعيدُ من طهَّرَ قلبَه وجوارِحَه ولسانَه وظاهِرَه مما يُغضِبُ ربَّه، واستعملَها فيما يُحبُّه اللهُ ويرضاه، وشكرَ نِعَمَ الله عليه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ[الأعراف: 26].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
فدينُ الإسلام دينٌ عظيمٌ، يأمرُ بمسحِ الأُذن داخلَها وخارِجها في اليوم مراتٍ، والنقطةُ الواحِدة من البول تُنقِضُ الوُضوء، والكلمةُ الواحِدةُ من الكُفر أو عملٌ يُناقِضُ الإسلام يخرُج به المرءُ من الدين.
ولا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لسانُه، والقلبُ السليمُ هو الذي سلِمَ من الشركِ والغلِّ والحِقدِ والحسَد والشُّحِّ والكِبرِ وحُبِّ الدنيا، وسلِمَ من كلِّ شهوةٍ تُعارِضُ أمرَ الله، ومن كلِّ شُبهةٍ تُعارِضُ خبرَه، ومن أحقِّ ما يُطهِّرُ به العبدُ حياتَه: طهارةُ لسانِه وماله من المُحرَّمات والشُّبُهات.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اجعل أعمالَنا كلَّها صالِحة، واجعلها لوجهِك خالِصة، ولا تجعل لأحدٍ فيها شيئًا.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، وألِّف بين قلوبِهم، واجمع كلمتَهم على الحقِّ يا رب العالمين، وولِّ عليهم خيارَهم، واصرِف عنهم الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطَن.
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك، وتحكيمِ شرعك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 03-23-2012 11:26 PM

التحذير من ضياع الشباب
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التحذير من ضياع الشباب"، والتي تحدَّث فيها عن التحذير من ضياع الشباب؛ حيث وجَّه عددًا من النصائح لجميع فئات المُجتمع؛ آباءً وأمهات، ومُعلِّمين، وتجَّار، ومسؤولين، وغيرهم من فئات المُجتمع المُسلم.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الرحيم الغفور، الحميد الشكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تتضاعَفُ بها الأُجور، وتحصُلُ بها النجاةُ يوم البعثِ والنشور، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبدُه ورسوله، أسفرَ فجرُه الصادقُ فمحَا ظُلُمات أهلِ الزيغِ والشُّرور والفُسوق والسوء والفُجور، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي الذكرِ المنشور والفضلِ المشهور صلاةً وسلامًا دائمَيْن مُمتدَّين ممرَّ الليالي والدهور.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله حقَّ التقوى؛ فقد فازَ المُطيعُ المُتَّقِي، وخسِرَ المُذنِبُ الشقيُّ، وهلَكَ العاصِي المُعتدِي، يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم[الأنفال: 29].



أيها المسلمون:
حداثةُ السنِّ كنايةٌ عن الشبابِ وأولِ العُمُر، وحدثُ السنِّ قليلُ التجربة، ضعيفُ الإدراك، ناقصُ التدبير والتفكير، أسيرُ التأثُّر والإعجاب، سريعُ المُحاكاة والمُماثَلة والتشبُّه، لا ينساقُ غالبًا إلى ما ينفعُه إلا بإشارةِ مُشيرٍ، وتسديدِ كبيرٍ، ومُعاوَنةِ نصيرٍ.
ومتى أُعجِبَ الشابُّ الحَدَثُ، أو الفتاةُ الحَدَثَةُ بشخصٍ انحازَ إليه، واقتبسَ منه، واحتذَى مثالَه، ونحا فِعالَه، وأكثرَ من ذِكره، ونظرَ من محجَره، ونطقَ بنغمته، وحاكاه في هيئته وطريقته، وماثَلَه في صورته وحركته ولِبستِه.
وحين غابَ دورُ الرقيبِ، وتهدَّمَت قاعدةُ: الدفع أهونُ من الرفعِ؛ تسلَّلت إلى مُجتمعاتنا قُدواتٌ في مُنتهى السوءِ والسقوط، وأمثِلةٌ غايةٌ في الرذالة والانحِطاط والخِسَّةِ والدَّناءَة.
وحين توارَى دورُ الوليِّ الصالح، وضعُف تأثيرُ المُربِّي الناصِح؛ ظهرَت بين شبابنا وفتياتنا سُلوكياتٌ شاذَّة، ومظاهرُ مقيتة، وتصرُّفاتٌ غريبة لم تكن معهودةً ولا موجودةً، وظهرَت المُترجِّلاتُ من النساء، والمُستخنِثين من الرجال في أسواقِ المُسلمين وميادينهم.
شبابٌ أُصيبَ بداءِ التأنُّثِ والتخنُّثِ، والتحلِّي والتفنِّي، والتميُّعِ والتكسُّرِ والتعطُّفِ، والتسكُّعِ في الأسواقِ، والتمايُلِ في مجامعِ النساء.
تراه يضعُ الأقراطَ في أذنه، والمعاصِمَ في يده، والقلائِدَ في صدره، يُلمِّعُ شفَتَه، ويُلوِّنُ بشرَته، ويُحمِّرُ وجهَه، ويلبسُ الملابِسَ المُثيرةَ والشفَّافةَ والضيِّقةَ، ويرتدي سراويلَ أخذَت من الأسماء أخسَّها وأخبثَها، وأدلَّها عليها، تحسُرُ عن عورته، وتكشِفُ عن سوءته.
أفعالٌ غايةً في القُبحِ والشُّذوذِ والغرابَة، وكم هم ضحايا السهَرات الممقوتة، والتجمُّعات المشبوهة، ومقاهي الشيشة البَغيضة؟!
وكم رأينا صغيرًا حدَثَ السنِّ وقد تردَّى وتهاوَى في دُروبِ الدخانِ والشيشةِ والحَشيشَة والمُخدِّرات والمُسكِرات، والفواحِشِ والمُنكَرات.
وفَتياتٌ وبناتٌ، وآهٍ على حالِ فتياتٍ غابَ الرقيبُ عنهنَّ، وغفَلَ المُستحفَظُ عليهن، فتدرَّجنَ في مدارجِ الاختِلاطِ والبُروز والظهور، وتساقَطنَ في مدارجِ التبرُّج والتفلُّت والسفور، وصارت المرأةُ تُزاحِمُ الرجلَ وتُصافِحُه وتُمازِحُه، وتخضعُ له بالقولِ، وتُلايِنُه بالكلام.
يا لها من صورةٍ تنفطِرُ منها القلوبُ وتنصدِع!
فاتقوا الله - أيها المسلمون -، اتقوا الله - أيها الأولياء -، قوموا بما أوجبَ الله عليكم من رعايةِ أولادكم، وصونِهم وتربيتهم، وغرسِ الفضيلةِ في نُفوسهم.
واتقوا الله - أيها التجَّار -، وحاذِروا بيعَ كلِّ ما يُخِلُّ بالعقيدة، ويهدِمُ السلوك، ويُدمِّرُ الأخلاقَ، وحاذِروا بيعَ الملابسِ الفاضِحة، والملابسِ الغريبةِ الشاذَّة التي لا تمُتُّ إلى شرعنا ولا إلى أوطاننا ولا إلى تراثِ آبائنا بشيءٍ.
ويا رِجال التعليمِ! كيف يستفحِلُ هذا الداءُ في صفوفِ شبابِنا وفتياتِنا وأنتم الأساتِذةُ الفُضلاء، والمُعلِّمون الأوفياء، والمُربُّون، النُّبَلاء؟! اللهَ اللهَ في رعايةِ أجيالِنا، وصناعةِ نشئِنا، وحمايةِ مُجتمعنا.
أيها المسؤولون، كلٌّ في جهته، وكلٌّ على قدرِ مرتبته وصلاحيته! خُذوا بأيدي شبابنا وفتياتنا إلى الحِشمةِ والفضيلة والحياءِ والمكارِم، وامنَعوا ضياعَهم، وحاذِروا سُقوطَهم في أوهاقِ الفاحِشةِ والرذِيلةِ، والجريمةِ والبلاءِ العظيمِ، والشرِّ المُستطيرِ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، فقد فازَ المُستغفِرون، وسعِدَ المُتَّقون.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِهِ، والشكرُ له على توفيقهِ وامتِنانِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لِشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رِضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون[آل عمران: 102].
أيها الشبابُ والفَتيات، أيها الرجال والنساء! لا يستفِزَّنكم الشيطانُ بخُدعه، ولا يستزِلَّنكم بحِيَله، ولا يُوقِعَنَّكم في شَرَكه، ولا يغُرَّنكم بآماله الباطِلة، يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا[الأعراف: 27].
أظهِروا النَّكيرَ والرَّفضَ لتلك التصرُّفات المُرِية، والظواهِر المُخزِية التي لا تليقُ بأهل الإسلام، ولا يجوزُ أن يعُدُّوها واقِعًا مُسلَّمًا لا محيصَ عنه، وقد جاءت السنةُ بتحريمها ولعنِ فاعِلها.
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرجلَ يلبسُ لِبسةَ المرأة، والمرأةُ تلبسُ لِبسةَ الرجل"؛ أخرجه أبو داود.
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ثلاثةٌ لا ينظرُ اللهُ - عز وجل - إليهم يوم القيامة: العاقُّ لوالديه، والمرأةُ المُترجِّلة، والديُّوث»؛ أخرجه أحمد، والنسائي، والحاكم.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "لعنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المُخنَّثين من الرجال، والمُترجِّلاتِ من النساء"؛ أخرجه البخاري.
جعلني الله وإياكم من الهُداة المُهتدين، وحمانا من دُروب الشرِّ والفتنةِ ونزَغاتِ الشياطين.
وصلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
للخلقِ أُرسِل رحمةً ورحيمًا
صلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة أصحابِ السنَّة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ أجمعين، والتابعين لهم وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر الطغاةَ والظلمةَ والمُعتدين يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها وعِزَّها واستقرارَها يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهما للبرِّ والتقوى، وأصلِح لهما بِطانتَهما يا كريمُ يا رب العالمين.
اللهم كُن لأهلنا في الشام ناصرًا ومُعينًا، اللهم كُن لأهلنا في الشام ناصرًا ومُعينًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم انصُرهم على الطغاةِ الظلَمة المُعتدين، اللهم انصُرهم على الطغاة المُعتدين.
اللهم عليك بالقتَلَة المُجرمين، الذين سفَكوا الدماءَ، وقتَلوا الأبرياء، وعذَّبوا الشيوخَ والأطفالَ والنساء، أنزِل عليهم بأسَك، أنزِل عليهم بأسَك، أنزِل عليهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم بدِّد جمعَهم، وفرِّق شملَهم، وأذهِب قوَّتَهم، وخالِف كلمتَهم، وأرِنا فيهم قُدرتَك يا رب العالمين.
اللهم أرِنا فيهم قُدرتك وقُوَّتك وعظمَتَك، اللهم زلزِلهم يا قويُّ، زعزِعهم يا قادِر، دمِّرهم تدميرًا، ولا تجعل لهم في الأرضِ وليًّا ولا نصيرًا.
اللهم نجِّ إخواننا من قبضَتهم وظُلمهم يا رب العالمين.
اللهم مُنَّ على جميع بلاد المُسلمين بالأمن والاستِقرار والسعادة والرخاءِ يا رب العالمين.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم، نسألُك يا حيُّ يا قيُّوم، نسألُك أن تهدي شبابَنا وفتياتِنا، اللهم اهدِ شبابَنا وفتياتِنا، اللهم أرِهم الحقَّ حقًّا وارزُقهم اتباعَه، وأرِهم الباطِل باطلاً وارزُقهم اجتِنابَه يا رب العالمين.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرَق، أنزِل في أرضنا زينتَها، وأنزِل في أرضِنا سكَنَتها.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَك، اللهم اسقِنا واسقِ المُجدِبين، وفرِّج عنَّا وعن أمة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أجمعين.
اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحم موتانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على مَن عادانا برحمتك يا أرحم الراحمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


ابوحاتم 03-24-2012 12:14 AM

المخالفات في الوقف والوصية
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 11/3/1433هـ بعنوان: "المخالفات في الوقف والوصية"، والتي تحدَّث فيها عن مُخالفاتِ بعض الآباء في تركتهم وأنهم يقِفونها لحِرمان بعض الورثَة من الميراث، وبيَّن بالأدلة حُرمةَ هذا الفعلِ، وحذَّر أهل الأوقاف من الوقوع في مخالفة الكتاب والسنةِ في مثلِ هذه الأمور.

الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ أجمعين.
أما بعد، فيا أيها المؤمنون:
يقول ربُّنا - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
إنه الأمرُ للمؤمنين بأن يقولوا القولَ السديدَ، وأن ينهَجوا المنهجَ الرشيدَ.
ويا عباد الله:
إن من يتتبَّع بعضَ أحوالِ الناسِ في أروِقةِ المحاكم يجِدُ ما يأسَى له المُسلم من تصرُّفات بعض الآباء في إيجاد أسباب العداوة بين ورَثَتهم؛ فكم يحصُل بسبب هذه التصرُّفات بين الورَثَة من الخُصومة والتقاطُع والتشاتُم والمُرافَعات بسبب التصرُّفات المُخالِفة لشرع الله - جل وعلا - في وقفِ المال، وفي الوصيَّة.
فمن ذلك: أن بعضَ الناسِ يُريدُ منعَ أولاده من التصرُّف في ماله بعد انتِقاله إليهم من بعد موته، فيتَّجِهُ حينئذٍ إلى حِيلَةِ الوقفِ؛ قاصِدًا منعَ الورَثَة من التصرُّف في الموروثِ ببيعٍ أو هِبةٍ أو تصرُّفٍ ناقلٍ للمُلكِيَّة.
وهذا مذمومٌ شرعًا على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لما يقعُ بسببه من مفاسِد وإضرارٍ بالورَثَة، وقد ذكر شيخُ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - أن هذا الوقفَ وقفٌ غيرُ مشروعٍ، وذكرَ ذلك مثلَه شيخُ الإسلام حفيدُه المُجدِّد الإمام عبدُ الرحمن بن حسن.
ثم قال في إرادة مثلِ هذا الوقفِ، قال: "فالواقفُ في الحقيقةِ يُريدُ أمرَين: تحريمَ ما أحلَّ الله لهم - أي: للورثة - من بيعِه وهديَّته والتصرُّف فيه، والثاني: حِرمانَ زوجات الذكور، وأزواج الإناث، فيُشابِهُ ما ذكر َه الله في سورة الأنعام".
معاشِر المُسلمين:
ومن تلك التصرُّفات الخاطِئة: أن يُفضِّل المُوقِفَ بعضَ الأولاد على بعضٍ في الوقفِ، فذلك مما حرَّمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «اتقوا الله واعدِلوا بين أولادكم»، والأحاديثُ في هذا كثيرةٌ.
ولكن لو أوقفَ على المُحتاجِ من ذرِّيَّته لوصفِه لا لشخصِه فلا بأسَ؛ لما ذكرَه البخاريُّ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه وقَّفَ نصيبَه من دارِ عُمر سُكنًى لذوي الحاجةِ من آل عبدِ الله، وقد وردَ أن الزُّبيرَ خصَّ المردودةَ من بناتِه دون المُستغنِيَة.
وكذا لو ذكرَ في وقفه تحضيضَ الأولاد على طلبِ العلمِ فخصَّه بطلبِ العلمِ لا بالشخصِ.
معاشِر المسلمين:
إن بعضَ الناسِ يُوقِفُ على أولادِ الظهورِ دون أولاد البُطون؛ أي: أنه ينُصُّ على حِرمان أولاد البناتِ؛ فالذي ينظُرُ في هذا الوقفِ بتمعُّنٍ يجِدُ أنه أرادَ حِرمانَ أولاد البناتِ في عاقِبَة الأمر، إنما تستغِلُّ البنتُ الغَلَّة في حياتها، فإذا ماتت انقطعَ ما كان لها، وهذا مما حرَّمَه الله - جل وعلا -.
والمُحقِّقون من أهل العلم المُلتزِمون بكتابِ الله - جل وعلا - وبسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - دون تقليدٍ مذهبيٍّ قد نصُّوا على أن هذا الوقفَ من أوقافِ الجَنَفِ والإثمِ؛ فقد ألَّف شيخُ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب في ذلك رسالةً مُستقلَّةً في صدَدِ الردِّ على من أجازَ وقفَ الجَنَف والإثمِ الذي لا يرضاهُ أحدٌ لبناته، ولا يرضاه أحدٌ لنفسه، أن يكون قاصِدًا لتفضيلِ بعضٍ على بعضٍ.
قال - رحمه الله -: "وأما مسألتُنا هذه فهي إذا أراد الإنسانُ أن يقسِمَ مالَه على هواهُ، وفرَّ من قِسمةِ الله - جل وعلا -، وتمرَّد عن دين الله؛ مثلَ: أن يُريد أن امرأتَه لا ترِثُ من هذا النخلِ ولا تأكلُ منه إلا حياةَ عينها، أو يُريد أن يُفضِّل بعضَ أولاده على بعضٍ فِرارًا عن وصيةِ الله بالعدل، أو يُريد أن يحرِم نسلَ البناتِ، أو يُريد أن يُحرِّم على ورَثَته بيعَ هذا العقار لئلا يفتقِرُوا بعده".
ثم قال: "ويُفتي له بعضُ المُفتين أن هذه البدعةَ الملعونة - أي: مثل هذه الأوقاف - صدقةٌ تُقرِّبُ إلى الله، ويُوقِفُ على هذا الوجهِ قاصِدًا وجهَ الله. فتأمَّل هذا بشراشِر قلبِك، ثم تأمَّل ما ذُكِر من الأدلة".
ثم قال - رحمه الله -: "فنقولُ: من أعظمِ المُنكرات وأكبرِ الكبائر: تغييرُ شرعِ الله ودينه، والتحيُّل على ذلك بالتقرُّبِ إليه، وذلك مثلُ: إذا أراد أن يحرِم من أعطاه الله من امرأةٍ أو امرأةِ ابنٍ أو نسلِ بناتٍ وغير ذلك، أو أن يزيد أحدًا عما فرَضَ الله له، أو أن يُنقِصَه من ذلك ثم يُريد التقرُّب إلى الله بذلك مع كونِهِ مُبتعِدًا عن الله - جل وعلا -، فالأدلةُ على بُطلان هذا الوقفِ وعَودِه مُطلقًا وقَسمه على قسمِ الله ورسوله أكثرُ من أن تُحصَر". اهـ كلامُه المتينُ.
وقد ذكرَ مثلَ هذا الكلام بذاته: حفيدُه الشيخُ عبد الرحمن بن حسن، وغيرُهما من المُحقِّقين.
يقول الشيخُ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "لا يحِلُّ لأحدٍ أن يُوقِفَ وقفًا يتضمَّنُ المُحرَّم أو الظُّلمَ بأن يكون وقفُه مُشتملاً على تخصيصِ أحدِ الورَثَة دون الآخرين".
ثم قال: "فإن العبدَ ليس له أن يتصرَّفَ في ماله بمُقتضى شهواته النفسية وهواه؛ بل عليه ألا يُخالِف الشرعَ ولا يخرُج عن العدلِ".
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أنه لا يُنجيكم إلا شرعُ الله - جل وعلا -، فارتَضوا في قِسمةِ أموالكم بما ارتضاه الله - جل وعلا - لكم؛ تسعَدوا وتُفلِحوا في الدنيا وفي الآخرة.
أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
أحمدُ ربي وأشكرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
لقد تواتَر من كتاب الله - جل وعلا - وسنةِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - تعظيمُ شأن الأمانة، وتحريمُ الخيانةِ فيها أو الإهمال في واجباتها.
فيا نُظَّار الأوقاف! لقد ابتُليتم ببلوًى عظيمة، فاتقوا الله - جل وعلا - في هذه المسؤولية العظيمة، أدُّوها كما أمر الله - جل وعلا -.
احرِصوا على الأوقافِ وعلى الحِفاظِ عليها، وعلى تنميتها، وعلى صرفِها في مصارِفها بدون اجتِهادٍ، وبدون تفضيلٍ لأحدٍ على أحدٍ.
اتقوا الله - جل وعلا - في الأوقافِ، وإياكم وأن تنظُروا إلى مصالِحكم عن طريق الأوقافِ؛ فتلك جِنايةٌ عظيمةٌ تجِدون مغبَّتها يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[الشعراء: 88، 89].
ألا وإن من أفضلِ الأعمالِ: الصلاةَ والسلامَ على النبي الكريم.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم احفَظ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم احفَظ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم مُنَّ عليهم بالأمن والأمان، والاطمئنانِ والاستِقرار، اللهم هيِّئ لهم من أمرِهم رشَدًا، اللهم هيِّئ لهم من أمرِهم رشَدًا، اللهم ولِّ عليهم خيارَهم، اللهم ولِّ عليهم خيارَهم.
اللهم اغفِر للمُسلمين والمُسلمات، والمؤمنين والمُؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفِر لنا ولهم الذنوب، وكفِّر عنا وعنهم السيئات، وضاعِف لنا الدرجات.
اللهم إنا نسألُك أن تمُنَّ على المُسلمين بحياةٍ طيبةٍ في الدنيا وفي الآخرة، اللهم مُنَّ علينا وعلى المُسلمين بحياةٍ طيبةٍ في الدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا ممن يلتزِمُ أوامرَ الله - جل وعلا - وهديَ رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النار.
اللهم وفّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضاه، اللهم وفِّقه لما تُحبُّه وترضاه، اللهم وفّقه ونائبَه لما تُحبُّه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ، اللهم أنزِل علينا الغيثَ، اللهم أنزِل علينا الغيثَ، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنك تعلمُ حاجَتنا للمطر، اللهم فاسقِنا، اللهم مسَّنا الضرُّ وأنت أرحمُ الراحمين، اللهم مسَّنا الضرُّ وأنت أرحمُ الراحمين، اللهم مسَّنا الضرُّ وأنت أرحمُ الراحمين.
اللهم إنا عبادُك فُقراءُ إليك، فأغنِنا بالمطر، اللهم أغنِنا بالمطر، اللهم ارحَمنا ببهائمِنا وضُعفائنا، ولا تُؤاخِذنا يا ربِّي بما فعل السُّفهاءُ منَّا، اللهم لا تُؤاخِذنا بما فعلَ السُّفهاءُ منَّا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
اللهم اسقِنا واسقِ ديارَ المُسلمين، اللهم اسقِ ديارَنا وديارَ المُسلمين يا وليُّ يا غنيُّ يا حميدُ.
عباد الله:
اذكُروا اللهَ ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلاً.

ابوحاتم 03-24-2012 12:19 AM

لا يرفعُ البلاءَ إلا الدعاء
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 18/3/1433هـ بعنوان: "لا يرفعُ البلاءَ إلا الدعاء"، والتي تحدَّث فيها عن الواجب على كل مسلمٍ تجاه الفتن والمِحن التي تدور ببلدان المسلمين، وبيَّن أن أعظمَ مخرجٍ منها هو الدعاء وصدقُ الالتِجاء إلى الله تعالى.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله العظيم في قدره، العزيز في قهرِه، العليم بحال العبد في سرِّه وجهره، يسمعُ أنينَ المظلوم عند ضعف صبره، ويجُودُ عليه بإعانته ونصره، أحمدُه على القدر خيرِه وشرِّه، وأشكره على القضاء حُلوه ومُرِّه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الآيات الباهرة، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ[الروم: 25]، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما جادَ السَّحابُ بقطره، وطلَّ الربيعُ بزهره، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أقوى ظهيرٍ، وأوفَى نصيرٍ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون[آل عمران: 102].


أيها المسلمون:
الزمانُ صُروفٌ تجُول، ومصائِبُ تصُول، ومن نابَته نوبةٌ، وعرَته نكبَةٌ، وغشِيَته بلِيَّةٌ، وحلَّت بساحته مِحنةٌ أو فِتنة، أو تسلَّط عليه ظالمٌ، أو نالَه عدوٌّ مُناوِئ، فليلُذْ بالله تعالى، وليتوكَّل عليه، وليثق بمولاه، وليتحلَّ بعِصمة الصبر، وصريمة الجلَد، وعزيمةِ الاحتِساب، وليتضرَّع بالفألِ الحسَن، والتوبةِ والإنابة، والرجوع إلى الله تعالى.
ومن لاذَ بالله تعالى هدأَ توجُّعه، وسكَنَ تفجُّعُه، والهلَعُ والجَزعُ لا ينشُران مطويًّا، ولا يرُدَّان حتمًا مقضيًّا، ولا عزاءَ إلا التسليمُ والرِّضا، والصبرُ على ما قدَّر الله وقضَى وكتبَ وأوجبَ وأمضَى.
أيها المسلمون:
أحسنُ الكلام في الشكوَى سُؤال المولَى زوالَ البَلوى، فاستدفِعوا أمواجَ البلاء بالتضرُّع والدعاء، فليس شيءٌ أكرمُ على الله - عز وجل - من الدعاء، وأعجزُ الناسِ من عجِزَ عن الدعاء، ولا يرُدُّ القدَرَ إلا الدعاءُ، فأكثِروا من الدعاء والمُناجاة؛ فإن الله يسمعُ دعاءَ من دعاه، ويُبصِرُ تضرُّع من تضرَّع إليه وناداه، ومن سألَ اللهَ بصدقٍ وضراعةٍ كشفَ عنه بَلواه، وحماه ووقاه وكفاه، وحقَّقَ له سُؤلَه ومُناه.
وما على الأرضِ مُسلمٌ يدعُو اللهَ بدعوةٍ إلا آتاه الله إياها، أو صرفَ عنه من السوءِ مثلَها، أو ادَّخَر له من الأجرِ مثلَها ما لم يدعُ بإثمٍ أو قطيعةِ رحِمٍ.
أيها المسلمون:
وأنتم ترَون ما حلَّ ببعضِ بلادنا العربية والإسلامية من الأحداث والاضطرابات، والصِّداماتِ والنِّزاعات والمواجهات، والفتن والحُروب، والبلاء العظيمِ والشرِّ المُستطير، لا تغفُلُوا عن التوجُّه إلى الله بصدقٍ وإنابة، والدعاء لإخوانكم بالحفظِ والرعايةِ والصيانة والسلامة من تك الفتن والشُّرور.
وليس لنا إذا أحاطَت الحُتوف، ونزلَ الأمرُ المَخوفُ، واشتدَّ الكَربُ، وعظُمَ الخَطبُ إلا اللهُ - جل في عُلاه -، وقد كان سيدُ الخلقِ نبيُّنا وسيدُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يدعُو عند الكَربِ بهذه الدعوات: «لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ الأرض وربُّ العرش الكريم».
وحسبُنا الله ونِعمَ الوكيل، قالَها إبراهيمُ - عليه السلام - حين أُلقِيَ في النار، وقال نبيُّنا وسيدُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل[آل عمران: 173].
فارفَعوا أكُفَّ الضراعة، وتوسَّلوا إلى الله بلوان الطاعة أن يرَمَ إخوانكم المُستضعفين والمُضطهَدين والمَنكوبين في كل مكان، ادعُوا دعاءَ الغريقِ في الدُّجَى، ادعُوا وأنتم صادقون في الرَّجَا أن يجعل الله للمُسلمين من كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا.
اللهم اجعل للمُسلمين من كل همٍّ فرَجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا.
أيها المسلمون:
لا مخرجَ من أزماتنا إلا صِدقُ اللجَأِ إلى الله تعالى؛ فهو العظيمُ الذي لا أعظمَ منه، والكبيرُ الذي لا أكبرَ منه، والقادِرُ الذي لا أقدرَ منه، والقويُّ الذي لا أقوى منه، العظيمُ أبدًا، حقًّا وصِدقًا، لا يُعصَى كرهًا، ولا يُخالَفُ أمرُه قهرًا، ومن كان الله معه فمعه الجُند الذي لا يُغلَب، والقوةُ التي لا تُرهَب، والعزيمةُ التي لا تذهَب، والعِزُّ الذي لا يُسلَب.
ومن كان مع الله في السرَّاء والضرَّاء، والشدَّة والرخاء، والعلانية والخفاء كان مُؤيَّدًا منصورًا، وعادَ عدوُّه مُهانًا مدحورًا، صاغِرًا مقهورًا، مُصفَّدًا مأسورًا، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج: 40].
بارك الله ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من البيِّنات والآيات والعِظات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله بارئ النَّسَم، ومُحيِي الرِّمَم، ومُجزِل القِسَم، مُبدِع البدائع، وشارعِ الشرائع، دينًا رضيًّا، ونورًا مُضيًّا، أحمده وقد أسبغَ البرَّ الجزيل، وأسبلَ السترَ الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ آمنَ بربه، ورجا العفو والغفران لذنبه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وأتباعِه وحِزبه صلاةً وسلامًا دائمَيْن ممتدَّيْن إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ[الأنفال: 29].
أيها المسلمون:
يا من تعيشُون في أمنٍ وافِرٍ، ورخاءٍ ظاهِر، وعافيةٍ ضافِية، ونعمةٍ صافِية، يا من دفعَ الله عنكم فتنًا وشُرورًا، وأمرًا كان محذورًا، لا تكونوا ممن عمَّه فضلُ ربِّه فارتدَّ، وأدركَه وابِلُ النِّعَم فاعوَجَّ، لا تكونوا أغفالاً من حُسن الادِّكار، وجليل الاعتِبار، وأحسِنوا مُجاوَرة النِّعمَة؛ فمن غمِطَ النِّعمة استنزَلَ النِّقمة.
وتعوَّذُوا باللهِ تعالى من زوا نعمته، وتحوُّل عافيته، وحُلول نقمته، واحمَدوا الله مولاكم على ما أولاكم من نعمةِ الأمن والرخاء والاستقرار، وحافِظوا عليها.
وانظُروا في أحوالكم الدينية؛ كيف فرَّط الكثيرُ منا في الأوامر، ووقعَ في المعاصِي والمخازِي والمناكِر؟!
وانظُروا في أمرِ الصلاة؛ كيف هجَرَها كثيرٌ من شبابِنا وفتياتِنا،وأهمَلَها كثيرٌ من أبنائِنا وبناتِنا؟!
وانظُروا إلى المساجِد في صلاة الفجر؛ كيف نامَ أكثرُ الناس عنها، وتساهَلوا فيها، وتسامَحوا فيها، حتى صار ذلك لا يُعدُّ بينهم قدحًا ولا عيبا.
وقِيسوا على ذلك عظيمَ ما نحن عليه من الغفلةِ والصُّدود لتعلَموا كم نحن على خطرٍ من عقوبةٍ تحِلّ، وعافيةٍ تزِلّ!
فاتقوا الله - أيها المسلمون-، وتدارَكوا ما أنتم فيه بالتوبة والإنابة، والتناصُح بينكم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراقبة أولادكم في أمر الصلاة والدين والسلوك والأخلاق.
عباد الله:
إن الله أمرَكم بأمرٍ بدأَ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحَةِ بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون - من جنِّه وإنسِه، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على النبي المُصطفى المُختار، اللهم وارضَ عن خلفائه الأربعة أصحابِ السنَّة المُتَّبَعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر آلِه وأصحابهِ أجمعين، والتابعين لهم وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءَ الدين، ودمِّر أعداءَ الدين، ودمِّر أعداءَ الدين يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها وعِزَّها واستقرارَها.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجسِ يهود، اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجسِ يهود، اللهم عليك باليهود الغاصبين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجِزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجِزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجِزونك.
اللهم احفَظ أهلَنا في سورية، اللهم احفَظ أهلَنا في سورية ومصر واليمن وليبيا، اللهم احفَظهم من كل سوءٍ وشرٍّ وفتنةٍ يا رب العالمين، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، وصُن أعراضَهم، واحفَظ أموالَهم، وادفَع عنهم الشُّرورَ والفتنَ، اللهم ادفَع عنهم الشُّرورَ والفتنَ والمِحَن، اللهم ادفَع عنهم الشُّرورَ والفتنَ والمِحَن يا أرحم الراحمين.
اللهم من أرادَنا أو أراد بلادَنا أو أرادَ بلاد السلام والمُسلمين بسوءٍ، اللهم فأشغِله في نفسه، واحبِسه في بدنه، وعذِّبه في جسده، اللهم اكشِف سِرَّه، واهتِك سِترَه، وأبطِل مكرَه، واكفِنا شرَّه، واجعلهُ عِبرَة يا رالعالمين.
اللهم عليك بالطُّغاة المُجرمين، اللهم عليك بالطُّغاة المُجرمين، اللهم عليك بالطُّغاة المُجرمين الذين قتَلوا الأبرياء، وسفَكوا الدماءَ، وعذَّبوا الشيوخَ والأطفالَ والنساء، يا سميعَ الدعاء.
اللهم يا عظيمَ العفوِ، يا واسِعَ المغفرة، يا قريبَ الرحمة، هَبْ لنا من لدُنك مغفرةً ورحمةً، وأسعِدنا بتقواك، واجعلنا نخشاك كأننا نراك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم موتانا، وعافِ مُبتلانا، واشفِ مرضانا، وانصُرنا على مَن عادانا يا ربَّ العالمين.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرَقٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَك، اللهم اسقِنا واسقِ المُجدِبين، وفرِّج عنَّا وعن أمة نبيِّنا وسيدِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أجمعين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 03-24-2012 12:24 AM

أعمال يسيرة بأجور كبيرة

ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 25/3/143هـ بعنوان: "أعمال يسيرة بأجور كبيرة"، والتي تحدَّث فيها عن نعمةِ الله على عباده، ومدَى حبه لهم؛ حيث ضاعفَ لهم الأجور والحسنات على أعمالٍ يسيرةٍ؛ فقد ذكرَ بعضَ الأعمال الصالحة؛ من طهارةٍ، وصلاةٍ، وصيامٍ، وعُمرةٍ، وأذكارٍ، وغير ذلك قليلةٌ في فعلِها ويسيرة ولكنها عند الله عظيمةٌ وجليلة.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فمن اتقَى ربَّه ارتَقَى درجات، وطابَ مآلُه بعد الممات.
أيها المسلمون:
إذا أراد الله أن يُكرِم عبدَه بمعرفته وجمعِ قلبه على محبَّته؛ شرَحَ صدرَه لقَبول صفاته، ومن صفاته - سبحانه -: الكرم بكثرة الخير وجَزيلِ العطاء، ومن نُعوته: الشُّكر يشكُر القليلَ من العمل بمُضاعَفَة الثواب أضعافًا كثيرة، إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ[فاطر: 34].
وأقلُّ ما يُضاعِفُ به الحسنةَ عشرُ حسنات، وشكرَ المؤمنين بجنَّاتِ النعيم، والمُسلمُ لا يحتقِرُ أيَّ عملٍ صالحٍ، فلا يدري ما الذي يُدخِلُه الجنةَ منه، ومن وصايا النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «لا تحقِرنَّ من المعروف شيئًا»؛ رواه مسلم.
قال ابن حجر - رحمه الله -: "ينبغي للمرءِ ألا يزهَدَ في قليلٍ من الخيرِ أن يأتيَه، ولا في قليلٍ من الشرِّ أن يجتنِبَه؛ فإنه لا يعلَم الحسنةَ التي يرحمُه الله بها، ولا السيئةَ التي سخَطُ عليه بها".
وخصَّ - سبحانه - أعمالاً يسيرةً بثوابٍ جزيلٍ مُضاعَفٍ عنده؛ فالتوحيدُ دينُ الفِطرة، وجزاءُ أهله الجنة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخلَ الجنةَ»؛ رواه مسلم. ومن كان آخرَ كلامِهِ من الدنيا: لا إله إلا الله دخلَ الجنةَ.
وأثابَ - سبحانه - على فروعٍ في العباداتِ يتكرَّرُ عملُها في اليوم والليلة بتكفيرِ الخطايا وفتحِ أبوابِ الجِنان؛ فجعلَ الطُّهورَ شطرَ الإيمان، والسِّواكَ مرضاةً له - سبحانه -، ومن توضَّأَ فأحسنَ الوضوءَ خرجَت خطاياهُ من جسدِهِ حتى تخرُج من تحت أظفاره، ومن فرَغَ من الوضوءِ وقال: «أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبدُ الله ورسوله؛ إلا فُتِحَت له أبوابُ الجنةِ الثمانية يدخُلُ من أيِّها شاء»؛ رواه مسلم. و«من توضَّأَ فأحسَنَ الوضوءَ، ثم صلَّى ركعتين يُقبِلُ عليهما بقلبِهِ ووجهِهِ وجبَتْ له الجَنَّة»؛ رواه النسائي.
وجعلَ خُطوات الماشِي إلى الصلاة إحداهما تحُطُّ خطيئةً، والأخرى ترفَعُ درجةً، والمُنادِي بالأذان يُغفَرُ له مدُّ صوته ويشهدُ له كلُّ رَطبٍ ويابِسٍ، ومن سمِعَ المُؤذِّنَ وقال مِثلَ قوله كان له كأجرِه، «وإذا قال المُؤذِّن: أشهدُ أن محمدًا رسول الله، فقال من سمِعَه: وأنا أشهدُ، رضِيتُ بالله ربًّا، وبمُحمَّدٍ رسولاً، وبالإسلام دينًا؛ غُفِرَ له ذنبُه»؛ رواه مسلم.
ولفضلِ الصلاةِ وعُلُوِّ منزلتها كان ثوابُ الأعمال فيها عظيمًا؛ فمن غدَا إلى المسجدِ أو راحَ أعدَّ الله له في الجنةِ نُزُلاً كلما غدَا أو راحَ، وصلاةُ الجماعةِ أفضلُ من صلاةِ الفَذِّ بسبعٍ وعشرين درجة، ومن صلَّى الصُّبحَ فهو في ذِمَّةِ الله وحِفظِهِ حتى يُمسِي.
ومن حافَظَ على صلاةِ العصر ضُوعِفَ له أجرُه مرتين؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن هذه الصلاةَ عُرِضَت على من كان قبلَكم فضيَّعُوها، فمن حافَظَ عليها كان له أجرُه مرتين»؛ رواه مسلم.
ومن صلَّى العشاءَ في جماعةٍ فكأنَّما قامَ نصفَ الليل، ومن صلَّى الصبحَ في جماعةٍ فكأنَّما صلَّى الليلَ كلَّه.
وركعتان قبل الفجرِ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ومن صلَّى اثنتَيْ عشرة ركعة في يومٍ وليلةٍ بنَى الله له بيتًا في الجنة، وركعتان في الضُّحَى تُؤدِّي شُكرَ نعمةِ جميع مفاصِلِ الإنسان.
وشرَعَ - سبحانه - أذكارًا في الصلاةِ جامِعة أُجُورُها مُضاعَفة؛ صلَّى رجلٌ خلفَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما رفعَ رأسَه من الركوعِ قال: ربَّنا ولك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مُبارَكًا فيه، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «رأيتُ بِضعةً وثلاثين مَلَكًا يبتدِرُونها أيُّهم يكتُبُها أول»؛ رواه البخاري.
والتأمينُ مع الإمام آخر الفاتِحة يُغفَرُ لصاحبِهِ إن وافقَ تأمينَ الملائكة.
«ومن قرأَ آيةَ الكُرسي عقِبَ كل صلاةٍ لم يمنَعه دخول الجنةِ إلا أن يموت»؛ رواه النسائي.
ومن قال حين ينصرِفُ من المغرب: اللهم أجِرني من النار. سبعَ مراتٍ؛ نجَّاه الله منها إن ماتَ من ليلته، وإن قالَها بعد الصُّبحِ ومات من يومه؛ نجَّاه الله منها.
وكتابُه - سبحانه - مُبارَكٌ، من دنا منه ارتفَع، ومن قرأَ حرفًا منه فله بكلِّ حرفٍ حسنة، والحسنةُ بعشرِ أمثالها، وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ[الإخلاص: 1] تعدِلُ ثُلُثَ القرآن، ومن أحبَّها دلَ الجنة؛ قال رجلٌ من الأنصار: يا رسول الله! إني أُحِبُّها. فقال: «حُبُّك إياها أدخَلَك الجنةَ»؛ رواه البخاري.
و«يُقال يوم القيامة لقارئِ القرآن: اقرأ وارتَقِ ورتِّل كما كنتَ تُرتِّلُ في الدنيا؛ فإن منزِلَك عند آخر آيةٍ تقرؤُها»؛ رواه أبو داود.
والإسلامُ عظَّمَ أواصِرَ الأُخُوَّة والمودَّة بين المُسلمين، ورتَّبَ الأُجورَ الوَفيرةَ لمن قوَّاها؛ فما من مُسلِمَين يلتقِيَان فيتصافَحَان إلا غُفِر لهما.
و«إذا عادَ المُسلمُ أخاه المُسلمَ لم يزَل في خُرْفَة الجنة». قيل: يا رسول الله! وما خُرْفَة الجنة؟ قال: «جَنَاها»؛ رواه مسلم.
والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ، ومن شهِدَ جنازةً حتى يُصلَّى عليها فله قِيراطٌ. والقِيراطُ مِثلُ جبل أُحُد، ومن شهِدَها حتى تُدفَنَ فله قِيراطان.
ومن أحسنَ إلى المُسلمين ونصرَ دينَ الله نجَا وارتَقَى؛ فمن بنَى لله مسجِدًا بنى الله له بيتًا في الجنة، ومن كفَلَ يتيمًا كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، «والساعِي على الأرملَة والمِسكين كالقائمِ الذي لا يفتُر، وكالصائمِ الذي لا يُفطِرُ»؛ متفق عليه.
والمُتصدِّقُ تعظُمُ صدقتُه عند الله؛ فالتمرةُ يأخُذُها - سبحانه - ويُربِّيها حتى تكونَ مِثلَ الجبل، ومن أخفَى صدقتَه ولو قلَّت أظلَّه الله تحت ظِلِّ عرشِه.
ومن قال لصانِعِ المعروفِ: جزاكَ اللهُ خيرًا؛ فقد أبلَغَ في الثناءِ.
وإصلاحُ ذاتِ البَيْن من الرحِمِ وغيرها أفضلُ من درجةِ الصيامِ والصلاةِ والصدقة.
ولعظيمِ حُرمة المُسلم عند الله مَنْ أبعدَ عنه ما يُؤذِيه أدخلَه الله الجنةَ؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «لقد رأيتُ رجلاً يتقلَّبُ في الجنةِ في شجرةٍ قطَعَها من ظهر الطريقِ كانت تُؤذِي الناسَ»؛ رواه مسلم.
بل من أحسَنَ إلى البهائمِ فإن اللهَ يشكُرُه؛ «رأى رجلٌ كلبًا يلهَثُ من العَطَشِ فسقاهُ ماءً، فشكرَ اللهُ له فغفَرَ له»؛ رواه البخاري.
وتكرَّم - سبحانه - باصطِفاءِ كلماتٍ معدودةٍ من الأذكارِ جعلَ ثوابَها عظيمًا؛ فالحمدُ لله تملأُ المِيزان، ومن قالَ: سبحان الله العظيمِ وبحمده؛ غُرِسَت له نخلةٌ في الجنةِ.
وسُبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، خفيفتان على اللسان، خفيفتان في المِيزان، حبيبتان إلى الرحمن.
ومن قال: سبحان الله وبحمده في يومٍ مائةَ مرَّةٍ؛ حُطَّت خطاياه وإن كانت مِثلَ زَبَد البحرِ.
و«من قال: سبحان الله مائةَ مرَّة؛ كُتِبَت له ألفُ حسنة، أو حُطَّت عنه ألفُ خطيئةٍ»؛ رواه مسلم.
ولا حول ولا قوة إلا بالله كنزٌ من كنوز الجنة، وسُبحان الله، والحمدُ لله، ولا إله إلا الله، والل أكبرُ أحبُّ الكلام إلى الله؛ قال عنها - عليه الصلاة والسلام -: «أحبُّ إليَّ مما طلَعَت عليه الشمسُ»؛متفق عليه.
وقال لجُويرية - رضي الله عنها - وكانت تذكُرُ اللهَ من بعد الفجرِ إلى ارتِفاعِ الضُّحَى: «لقد قلتُ بعدَكِ أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مرَّاتٍ لو وزِنَت بما قُلتِي مُنذُ اليوم لوَزَنتهُنَّ: سُبحان الله وبحمده عددَ خلقِه، ورِضا نفسِه، وزِنةَ عرشِهِ، ومِدادَ كلماته»؛ رواه مسلم.
ومن صلَّى على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
ونِعمُ الله علينا تَتْرَى، نِعَمٌ نازِلة، وأخرى عند الخلقِ باقِية، ومن قال حين يُصبِحُ: «اللهم ما أصبحَ بي من نعمةٍ فمنك وحدكَ لا شريك لك، فلك الحمدُ ولك الشكر؛ فقد أدَّى شُكرَ يومه، ومن قال مِثلَ ذلك حين يُمسِي فقد أدَّى شُكرَ ليلته»؛ رواه أبو داود.
والله - سبحانه - يُحبُّ المُسلِمَ ويُكرِمَه ويُدافِعَ عنه، وشَرَعَ أسبابًا لحِفظِه من أعدائِه؛ فأنزلَ آياتٍ قصيرةٍ تحفَظُ المرءَ في ليله ونهارِهِ ومنزلِهِ ومنامِه؛ فالمُعوِّذتان ما تحصَّنَ مُتحصِّنٌ بمثلِهِما في صباحِهِ ومسائه، ومن قرأَ الآيتين من أواخر سورة البقرة كفَتَاه من كل شرٍّ، ومن قرأَ آيةَ الكُرسي قبل نومِهِ؛ لم يزَلْ عليه من الله حافِظٌ حتى يُصبِح.
وشرعَ - سبحانه - أدعيةً من دعا بها ولو ماشِيًا حفِظَه الله من كل مكروهٍ؛ «فمن نزلَ منزلاً وقال: أعوذُ بكلمات الله التامَّات من شرِّ ما خلَق لم يضُرَّه شيءٌ حتى يرتحِلَ من منزلهِ ذلك»؛ رواه مسلم.
و«من خرجَ من داره فقال: بسم الله، توكَّلتُ على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله؛ قالت له الملائِكةُ: كُفِيتَ وُوفِيتَ، وتنحَّى عنه الشيطانُ»؛ رواه الترمذي.
وبِدعاءٍ مع عملٍ صالحٍ من قالَه أدخلَه الله الجنةَ، وأعاذَه الله من النار؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من سألَ اللهَ الجنةَ ثلاثَ مرَّاتٍ قالت الجنةُ: اللهم أدخِله الجنةَ، ومن استَجَارَ من النار ثلاثَ مرَّاتٍ، قالت النارُ: اللهم أجِره من النار»؛ رواه الترمذي.
واللهُ - سبحانه - يُنعِمُ على العبد بنِعَمه السابِغة، وإذا تمتَّعَ بها وشكَرَ اللهَ عليها غفَرَ له ذنبَه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من أكلَ طعامًا فقال: الحمدُ لله الذي أطعمَني هذا ورَزَقنيه من غير حولٍ مني ولا قوةٍ؛ غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِهِ»؛ رواه الترمذي.
وبسَطَ - سبحانه - نفَحَاتِه في مجالسِ الناسِ بعد لغَطِهم فيها لتكون صحائِفُهم بيضاء نقيَّة؛ «فمن جلَسَ في مجلسٍ كثُرَ فيه لغَطُه، فقال قبل أن يقوم من مجلسِهِ ذلك: سبحانك الله وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفِرُك وأتوبُ إليك؛ إلا غُفِرَ له ما كان في مجلِسِه ذلك»؛ رواه الترمذي.
واللهُ بمنِّهِ جعلَ أزمانًا فاضِلَةً، منها ما لا تُردُّ فيه دعوةٌ؛ ففي كل ليلةٍ يتفضَّلُ - سبحانه - على عبادِهِ بإعطائِهم ما سَأَلُوه؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن في الليلِ لسَاعةً لا يُوافِقُها رجلٌ مُسلمٌ يسألُ اللهَ خيرًا من أمر الدنيا والآخِرة إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة»؛ رواه مسلم.
و«في آخرِ كلِّ ليلةٍ ينزِلُ ربُّنا إلى السماءِ الدنيا، فيقول: من يدعُوني فأستجيبَ له، ومن يسألُني فأُعطِيَه، من يستغفِرني فأغفِرَ له»؛ متفق عليه.
وتكرَّم في آخر ساعةٍ من الجُمُعة بإجابةِ دعواتِ عباده.
وفي كل عامٍ خصَّ ليلةَ القدرِ العملُ فيها خيرٌ من ألفِ شهر، ومن قامَها إيمانًا واحتِسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه.
وصومُ يوم عرفة يُكفِّرُ سنتين، وصيامُ عاشوراء يُكفِّرُ السنةَ الماضِية، وصيامُ ثلاثةِ أيامٍ من كل شهرٍ كصِيامِ سنةٍ، وعُمرةٌ في رمضان تعدِلُ حجَّةً.
وفضَّلَ - جل وعلا - أماكنَ خصَّها بمزيدِ مُضاعفَةِ الحسنات؛ فصلاةُ المسجد الحرام خيرٌ من مائةِ ألفِ صلاةٍ، وصلاةٌ في مسجدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خيرٌ من ألفِ صلاةٍ، وصلاةٌ في المسجدِ الأقصى عن خمسمائةِ صلاةٍ، ومن تطهَّرَ في بيته ثم أتَى مسجدَ قُباء فصلَّى ركعتين كان له كأجرِ عُمرة.
وفي زمنِ الفِتَنِ وتلاطُمِ المِحَن يُضاعِفُ - عز وجل - ثوابَ الأعمال؛ فالقابِضُ على دينه في آخر الزمانِ له أجرُ خمسين من الصحابة، «وعبادةٌ في الهَرْجِ - أي: الفتنِ - كهِجرةٍ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -»؛ رواه مسلم.
ومن عجَزَ عن عملٍ أو قولٍ لعُذرٍ وهو صادقُ النيَّةِ في ذلك أعطاه الله بكرمِهِ أجرَ العاملين وإن لم يعمَلْه؛ «فمن سألَ اللهَ الشهادةَ بصدقٍ بلَّغَه الله منازِلَ الشُّهَداء وإن ماتَ على فِراشِه»؛ رواه مسلم.
ومن تمنَّى أن عندَه مالاً ليتصدَّقَ به نالَهُ أجرُ المُتصدِّقين، ومن أحبَّ أحدًا حُشِرَ معه وإن لم يكُن مِثلَه؛ قال أنسٌ - رضي الله عنه -: "ما فرِحْنا بعد الإسلام فرَحًا أشدَّ من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إنك مع من أحببتَ»". قال أنس: "فأنا أُحِبُّ اللهَ ورسولَه وأبا بكرٍ وعُمر، وأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم".
وإذا سافرَ العبدُ أو مرِضَ كتبَ اللهُ بفضلهِ أجرَه صحيحًا مُقيمًا.
والهمُّ والحُزنُ يحُطُّ الخطايا والأوزار؛ بل لعظيمِ فضلِ اللهِ من همَّ بحسنةٍ ولم يعمَلها كُتِبَت له حسنةٌ كامِلة، ومن همَّ بسيئةٍ فلم يعمَلْها كتبَها اللهُ عندَه حسنةً كامِلة.
وبعدُ، أيها المسلمون:
فالمُوفَّقُ من فَقِهَ كرمَ اللهِ وشُكرَه، وعمِلَ بمُقتضَى صفاتِه، وسابَقَ إلى الصالحات ليكونَ من السابقين إلى دخول الجنات، ومن نوَّعَ أعمالَه الصالِحة تنوَّعَت لذَّاتُهُ في الآخرة، والعملُ يتضاعَفُ بالإخلاصِ، ومن علامةِ قَبُولِ الحسنةِ الحسنةُ بعدها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا[النساء: 40].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
من رحمةِ الله بعباده أن بعثَ إليهم رُسُلاً مُبشِّرين ومُنذِرين، ولم يشُقَّ - سبحانه - على خلقِهِ بالابتِداعِ في الدين؛ بل بيَّن لهم ما يُحبُّه ويرتضِيه، وعلَّقَ القَبولَ بإخلاصِ العمل وطاعةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في مُتابَعتِه، ومن ابتدَعَ فقد كلَّفَ نفسَه ما لم يأذَن به الله، وعملُه مردودٌ ولا يجنِي منه سِوَى العَناءِ والإثمِ؛ قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "اتَّبِعوا ولا تبتدِعُوا؛ فقد كُفِيتُم".
وكان عُمرُ - رضي الله عنه - يهُمُّ بالأمر ويعزِمُ عليه، فإذا قِيلَ له: لم يفعلهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ انتَهَى.
والمؤمنُ يجمعُ بين الإخلاصِ والاتباعِ، ويُكثِرُ من العملِ الصالحِ ما استطاعَ.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّهِ، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودِك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اجعل أعمالَنا كلَّها صالِحة، واجعلها لوجهِك خالِصة، ولا تجعل لأحدٍ فيها شيئًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم يا قويُّ يا عزيزُ يا عظيمُ يا ملِكُ يا قديرُ، اللهم انصُر المُستضعَفين من المُسلمين في الشام، اللهم كُن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظَهيرًا، اللهم أيِّدهم بجنودٍ من عندك يا ربَّ العالمين، اللهم اربِط على قلوبِهم، وسدِّد رميَهم، وكُن معهم بملائكتِك يا رب العالمين.
واللهم أدِر دائرةَ السَّوءِ على عدُوِّك وعدوِّهم، اللهم اجعل كيدَهم في نُحورهم، وألقِ الرُّعبَ في قلوبهم، واجعل بأسَهم بينهم، وجُندَهم وعتادَهم عليهم، وشتِّت شملَهم، واجعلهم عِبرةً للمُعتبِرين يا عظيمُ يا قويُّ يا عزيزُ.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقَراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين لِما فيه رِضاكَ يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 03-24-2012 12:32 AM

المصائب الدنيوية .. الداء والدواء
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 2/4/1433هـ بعنوان: "المصائب الدنيوية .. الداء والدواء"، والتي تحدَّث فيها عن المصائب التي تُصيبُ المُسلمين في هذه الأزمان المتأخرة، وبيَّن بعضَ أسبابها، ثم أتبَعَها بكيفية الوقايةِ منها، وقد استندَ في تقرير ذلك إلى بعضِ الآياتِ والأحاديثِ.

الخطبة الأولى
الحمد لله حمدًا يليقُ بجلال وجهه وعظيمِ سُلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه خليلُ الله ومُصطفاهُ من خلقه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ.
أما بعد، فيا أيها المُسلمون:
خيرُ ما نتواصَى به جميعًا: تقوى الله - جل وعلا - وطاعتُه وطاعةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فبذلك وحده الفلاحُ والخيرُ والصلاحُ والنجاحُ دُنيًا وأُخرى.
أيها المسلمون:
يتساءَلُ الكثيرُ منَّا عن أحوالنا ماذا أصابَنا؟ كيف ذهبَت تلك البرَكاتُ في الأرزاق؟ وأين المواسِمُ التي كانت فيها الأرضُ تُنبِتُ من جميع الخيرات؟
يتساءَلُ الكثيرُ منا عن سبب تغيُّر النفوس، ولماذا كثُرت الأحقاد، وأين ما كان معهودًا بين الناس من المحبة والصفَا والتعاوُن والوفا؟
نتساءَلُ جميعًا بلسان الحالِ وبلِسان المقال: ما سببُ قِلَّة الأمطار، وجفافِ الآبار؟
نتعجَّبُ مما يُصيبُ الآفاقَ من الغُبار الذي لا ينقطِعُ أمَدُه، والذي لم يكن معروفًا عند أسلافِنا، نستغرِبُ مما أصابَ المُسلمين من جشعِ بعض التجار وتعامُل الفُجَّار.
ناهِيك عن التساؤُلِ عن تسلُّط الأعداء ومكرهم بالمُسلمين، فالأمرُ حينئذٍ أعجبُ وأعجبُ؛ فلقد تلوَّن عِداؤُهم، وكثُر ضرَرُهم، وعمَّ شرُّهم حتى أصبحَ المُسلِمون لُقمةً سائِغةً للأعداء، يُوجِّهونهم كيف شاؤوا، ويتصرَّفون بأمورِهم ودُنياهم كيف أرادوا.
وإن تتحدَّث عن أشياء غريبة فتحدَّث عن وقوع أوبِئةٍ عجيبةٍ لم تكن معروفةً من قبلُ تُصيبُ الإنسانَ في هذا الزمان، وتَجتاحُ الحيوانَ.
تلك بعضُ المصائب التي أصابَت دُنيا الناسِ، فيا تُرى ما سببُ وقوعِها؟ وما الوقايةُ منها ومن أمراضِها؟
معاشر المسلمين:
إننا أمةٌ مرتبطةٌ برسالةٍ عظيمةٍ؛ فالجوابُ عن ماهيَّةِ الأسبابِ وكيفية الخلاصِ من الشُّرور والمفاسِدِ والأضرارِ لا يكونُ إلا ممن هو أعلمُ بالبشر وبما يُصلِحُهم ويُقوِّمُ حياتَهم، أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك: 14].
إن تلك المصائِبُ بمُختلف أشكالها، وإن المِحَن بمُختلَف صُورها إنما تقعُ بالمُسلمين بسبب فُشُوِّ الذنوبِ والمُجاهَرةِ بالمعاصِي والفُجور.
فآيةٌ من كتابِ الله - وما أكثرُها من آياتٍ - تصِفُ لنا الداءَ والدواءَ، وتكشِفُ لنا المخلَصَ من هذه المصائبِ، إنها قولُه - جل وعلا -: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[الروم: 41]، فهذه الآيةُ تكشِفُ للبشرِ عن ارتِباطِ أحوال الحياة وأوضاعها بأعمالهم، فيقعُ في الأرض الفسادُ والضررُ، ويملأُها برًّا وبحرًا وجوّا جزاءً ما اكتَسَبوا من المعاصِي الظاهرة، والإعلانِ بها.
فحينما يكتوُون بنار هذا الفساد، ويتألَّمون لما أصابَهم منه في حياتهم، فعلَّهم حينئذٍ يعزِمون على مُقاوَمَة هذا الفساد، ويرجِعون إلى لله - جل وعلا - وإلى الأعمالِ الصالِحةِ، والمناهجِ القويمةِ، والتوبةِ الصادقة.
نعم، أيها المسلمون:
إن الفُجورَ والإعلانَ به يُوقِعُ بالبلاد والعباد الهلاكَ والبَوارَ، وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ[الأنعام: 42].
فالمخاوِفُ بأنواعِها، والمصائبُ بشتَّى أشكالِها نتائجُ الإعلانِ بالمعاصِي والسيئات، والفحشاءِ والمُنكرات، يقول ربُّنا - جل وعلا -: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[النحل: 112].
وفي "صحيح البخاري" عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الفاجِرَ إذا ماتَ تستريحُ منه العبادُ والبلادُ والشجرُ والدوابُّ».
فالواجبُ على المُسلمين مُحاربةُ المعاصِي والمُنكرات، والأخذُ على أيدي السُّفهاء الذين يُريدون أن يُغرِقوا سفينةَ الحياة الطيبة الطاهرة، ألم يقل الله - جل وعلا -: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[المائدة: 78].
ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - في حديثِ حُذيفة يقول: «لتأمُرُنَّ بالمعروف، ولتنهُوُنَّ عن المُنكَر، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يعُمَّكم بعذابٍ من عنده ثم تدعُونه فلا يُستجَابُ لكم»؛ رواه الترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ، وله شواهِد.
وفي الحديثِ الآخر الذي رواه أبو داود، والنسائي، والترمذي بأسانيد جيِّدة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخُذوا على يديه أوشكَ اللهُ أن يعُمَّهم بعقابٍ من عنده».
فاتقوا الله - عباد الله -، وأعلِنوها حربًا على كل فسادٍ وفاحِشةٍ ومُنكرٍ في بلاد المُسلمين.
أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
إنه فرضٌ علينا جميعًا مُحاربةُ كل وسيلةٍ إعلامية تنشُرُ الإلحادَ والفسادَ في أرض المُسلمين، والواجبُ علينا جميعًا التواصِي بطاعة الله - جل وعلا -، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر؛ فربُّنا - جل وعلا - علَّقَ الرحمةَ بنا بقوله: وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ[التوبة: 71].
أيها المسلمون:
إننا ندعُو اللهَ - جل وعلا - فلا نرى الاستِجابةَ في بعضِ أحوالنا، وإنما ذلك بسببِ فُشُوِّ الذنوبِ والمعاصِي.
مرَّ إبراهيمُ بنُ أدهم في سُوقِ البصرة على أقوامٍ، فقالوا له: يا أبا إسحاق! إن الله - جل وعلا - أمرَنا بالدعاء، ونحنُ ندعُو فلا يُستجابُ لنا. قال: "لأن قلوبَكم ماتت بأشياء: عرفتُم اللهَ - جل وعلا - فلم تُؤدُّوا حقَّه، وقرأتُم القرآنَ فلم تعملُوا به، وادَّعَيتُم محبَّةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم تقتَدوا بسُنَّته وقلتُم: إنكم مُشتاقون للجنَّة فلم تعمَلوا لها، وقتُم: إنكم تخافون من النار فلم تهرَبوا منها، وأيقنتُم بالموتِ وأنه حقٌّ فلم تستعِدُّوا له، واشتغلتُم بعيوبِ الناسِ وتركتُم عيوبَكم، أكلتُم نِعَمَ الله - جل وعلا - فلم تشكُروا له، ودفنتُم موتاكم فلم تعتبِروا؛ فأنَّى يُستجابُ لكم؟!".
فيا أيها المُسلِمون:
لنتواصَى جميعًا بكل سببٍ يُصلِحُ أحوالَنا الفاسِدة، ويُقوِّمُ مناهِجنا المُعوَجَّة، وذلك إنما هو بالارتِباط بالله - جل وعلا - وجعلِ منهجِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُسيطِرًا علينا، لا نَزيغُ عنه يَمنةً ولا يُسرةً.
ثم إن اللهَ - جل وعلا - أمرَنا بأمرٍ عظيمٍ، ألا وهو: الصلاةُ والسلامُ على النبي الكريم.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا وسيدِنا وحبيبِنا وقُرَّة عيوننا: نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن جميعِ آل رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وعن جميعِ الصحابةِ والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أصلِح أحوالَنا بتقواَك، اللهم أصلِح أحوالَنا بتقواَك، اللهم أصلِح أحوالَنا بتقواَك، اللهم قوِّم حياتَنا بسُنَّةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، اللهم قوِّم حياتَنا بسُنَّةِ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
اللهم احفَظ المُسلمين في سُوريا وفي كل مكانٍ، اللهم فرِّج هُمومَهم، اللهم فرِّج هُمومَنا وهُمومَهم، واكشِف غُمومَنا جميعًا، اللهم يسِّر لهم كلَّ خيرٍ، اللهم ارفَع عنهم كلَّ ضررٍ، اللهم ارفَع عنهم كلَّ ضررٍ، اللهم ارفَع عنهم كلَّ ضررٍ يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم أقِرَّ عيوننا بتحكيم هذا الدين في كلِّ مكانٍ.
اللهم عليك بأعداء المُسلمين فإنهم قد طغَوا وبغَوا، اللهم عليك بأعداء المُسلمين، اللهم من أرادَ بلادَ المُسلمين بسوءٍ فأشغِله في نفسه، اللهم من أرادَنا وأرادَ المُسلمين بسُوءٍ فعليكَ به، اللهم من أرادَ ديننا أو أخلاقَنا أو بلادَنا أو نُفوسَنا بضرٍّ اللهم فانتقِم منه، اللهم فانتقِم منه، اللهم فانتقِم منه.
اللهم عليك بكلِّ مُعتدٍ ينشُرُ الإلحاد والفساد، اللهم عليك بكلِّ مُعتدٍ ينشُرُ الإلحاد والفساد.
اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، اللهم حكِّم فيهم شرعَك، اللهم أقِم فيهم بالأمر بالمعروف والنهيِ عن المُنكَر، اللهم اجعله ظاهِرًا منصورًا، اللهم اجعل هذه الشعيرةَ ظاهِرةً منصورةً يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم من أرادَها بسُوءٍ فأشغِله في نفسه، واكفِ المُسلمين شرَّهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين لما تُحبُّه وترضاه، اللهم اجعله شَوكةً في حُلُوقِ أعداءِ الإسلام والمُسلمين، اللهم انصُر به دينَك، اللهم أعلِ به كلمتَكَ، اللهم انصُر به وبوليِّ عهده هذا الدين، وانصُر بهم شعيرةَ الأمر بالمعروف والنهيِ عن المُنكَر يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم اغفِر لكل مُسلمٍ ومُسلِمة، اللهم يسِّر لهم أمورَهم، اللهم واكفِهم شرَّهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم واكفِهم كلَّ شرٍّ يا حيُّ يا قيُّوم، وارزُقهم حياةً طيبةً سعيدةً في الدارَين.
اللهم أنزِل علينا المطرَ، اللهم أنزِل علينا المطرَ، اللهم أنزِل علينا المطرَ يا حيُّ يا قيُّوم، يا ذا الجلال والإكرام.
يا غنيُّ يا حميدُ جفَّت أراضينا، وضعُفَت أبدانُنا، وماتَت بعضُ بهائِمنا؛ فارحَمنا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارحَمنا برحمةٍ تُغنينا بها عن رحمةِ مَن سِواكَ، اللهم ارحمنا بها رحمةً تُغنينا بها عمَّن سِواك، اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا يا حيُّ يا قيُّوم.
نسألُك أن ترحَمَنا بضُعفائِنا، نسألُك أن ترحَمَنا ببهائِمِنا، نسألُك ألا تُؤاخِذنا بما فعلَ السُّفَهاءُ منَّا يا حيُّ يا قيُّوم، يا غنيُّ يا حميدُ يا كريمُ.
عباد الله:
اذكُروا اللهَ ذكرًا كثيرًا، وسبِّحُوه بُكرةً وأصيلاً.

ابوحاتم 03-24-2012 12:38 AM

ذنوبٌ يسيرة إثمُها كبير
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 9/4/1433هـ بعنوان: "ذنوبٌ يسيرة إثمُها كبير"، والتي تحدَّث فيها عن بعضِ الذنوبِ التي زمنُ فعلِها يسير لكنَّ إثمَها كبيرٌ؛ وذكرَ من أعظمها: الشركَ بالله تعالى، وادِّعاء علم الغيب، أو تصديق الكهَّان والسحرة، وارتكاب الفواحِش والمنكرات، وترك الطاعات الواجبات، إلى غير ذلك من المعاصِي المُستصغرة عند كثيرٍ من الناسِ.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فالتقوى في مُخالفة الهوى، والشقاءُ في مُجانبة الهُدى.
أيها المسلمون:
تفضَّل الله على عباده بدينٍ كاملٍ شاملٍ لأمور الدنيا والدين، من تمسَّك به أنارَ الله قلبَه وقرَّبَه إليه، ومن فرَّط فيه جُوزِيَ على عصيانه، والله - سبحانه - يُحبُّ الطاعةَ وأهلَها ويأمرُ بها، ويُبغِضُ المعصيةَ وأهلها وينهَى عنها؛ بل ويغارُ - سبحانه - إن ارتُكِبَت مناهيه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله يغارُ، وغيرةُ الله أن يأتي المؤمنُ ما حرَّم اللهُ»؛ رواه البخاري.
وضررُ الذنوبِ كضرر السموم في الأبدان؛ منها ما تُخرِجُ المرءَ من مرتبة الإيمان إلى مرتبة الإسلام، ومنها ما تُخرِجُه من الإسلام، وكما أن الله تكرَّم على عباده بأعمالٍ يسيرةٍ ثوابُها عظيم، حذَّرَهم من ذنوبٍ زمنُ فِعلِها يسيرٌ وإثمُها كبير؛ فناسٌ يُكبُّون في النار على وجوههم من حصائد ألسنتهم.
وأقبحُ ما تحرَّك به اللسانُ: دعوةُ غيره معه، ورفعُ الحوائجِ إلى غيره - سبحانه - من الأموات والأوثان؛ إذ هو يُحبِطُ الأعمالَ، ويُخلِّدُ صاحبَه في النار، ولا يُحصِّلُ الداعي ما أراد، قال - سبحانه -: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ[الأحقاف: 5].
والطعنُ في الله أو دينه أو رسوله نقصٌ في العقلِ، وفقدٌ للدين؛ قال - سبحانه -: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ[التوبة: 65، 66].
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن - رحمه الله -: "الإنسانُ قد يكفُرُ بكلمةٍ يتكلَّم بها، أو عملٍ يعملُ به، وأشدُّها خطرًا إراداتُ القلوبِ؛ فهي كالبحر الذي لا ساحلَ له، ومن هذا البابِ: الاستهزاءُ بالعلمِ وأهله، وعدمُ احترامهم لأجله".
والله وحده هو المُعظَّمُ في القلوب، ومن زاحمَ غيرَ الربِّ في قلبه، أو أظهرَ تعظيمَ غير الله على لسانه بالحلِف به؛ كمن يحلِفُ بالنبي - عليه الصلاة والسلام -، أو بالنعمةِ، أو بالولدِ فقد أشركَ؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من حلفَ بغير الله فقد كفرَ أو أشركَ»؛ رواه الترمذي.
ومن بدرَ منه فعلٌ من أفعال الشرك ولو يسيرًا؛ طوافٍ على الأضرحة، أو ذبحٍ لها، أو نذرٍ لم يرَح رائحةَ الجنة.
ولعظيمِ قُبحِهِ لهضمِهِ لربوبية الله وتنقُّصه لألوهيته لا يغفِرُه الله بحالٍ؛ قال - جلَّ شأنُه -: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ[النساء: 48].
والساحرُ مُفسِدٌ للدين والدنيا، يُنازِعُ الربَّ في ربوبيته فيما يدَّعيه من نفعٍ أو ضرٍّ، فكا حدُّه ضربَه بالسيف، ومن أتى إليه طالبًا إليه السحرَ فقد كفرَ؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ليس منا من سحَرَ أو سُحِرَ له»؛ رواه البزار.
وتعليقُ التمائمِ شركٌ بالله، ولا تزيدُ العبدَ إلا وهنًا، ولن يُتِمَّ الله له ما أراد.
وعلمُ الغيبِ أخفاه الله حتى عن ملائكته؛ قال - عز وجل -: قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ[النمل: 65]، ومن صدَّق من يدَّعِي علمَ الغيب من الكُهَّان ممن ينظرُ في الأبراج أو يقرأُ في الكفِّ أو نحو ذلك فقد كفرَ؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من أتى كاهنًا فصدَّقَه بما يقولُ فقد كفَرَ بما أُنزِلَ على مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -»؛ رواه و داود.
وإن سلِمَ العبدُ من الكُفر قولاً أو عملاً فإن الشيطان يؤُزُّه لما دُونَه من الكبائر، فيدعُوه إلى إطلاق لسانه إلى ما حرَّم الله، وأعظمُها الوقيعةُ في عِرضِ المُسلِم؛ فحذَّر الله من غِيبتِه، وشبَّه غِيبتَه بأكل لحمه وهو ميت، ويوم القيامة تكونُ للمُغتابِ أظفارٌ من نحاسٍ يخمِشُ بها وجهَه وصدرَه جزاءَ ما خمشَ أجسادَ المُسلمين.
وقولُ المُغتابِ لو خُلِطَ بماء البحر لأنتنَه؛ قالت عائشةُ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبُك من صفيةَ أنها كذا - تعني: أنها قصيرة -، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لقد قلتِ كلمةً لو مُزِجَت بماء البحر لمَزَجَته»؛ رواه أبو داود.
وقد صانَ السلفُ - رحمهم الله - ألسنتَهم عن هذه المعصيةِ؛ قال البخاري - رحمه الله -: "أرجو أن ألقَى اللهَ ولا يُحاسِبُني أني اغتبتُ أحدًا".
والنمَّامُ قريبُ المُغتابِ، وعقوبتُه تُعجَّلُ عليه في قبره، وفي الآخرة توعَّده الله بحِرمانه من الجنة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «لا يدخلُ الجنةَ قتَّات»- أي: نمَّام -؛ متفق عليه.
وكما حرَّم الإسلامُ الحديثَ في غيبة المُسلمِ بما يكرَه نهى أيضًا عن التطاوُلِ عليه باللسان في حُضوره؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: «سِبابُ المُسلم فُسوقٌ»؛ متفق عليه. وقال: «ولعنُه كقتلِه»؛ متفق عليه.
«ومن قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باءَ بها أحدُهما، إن كان كما قال وإلا رجعَت عليه»؛ رواه البخاري ومسلم.
ومن قذفَ عفيفًا في عِرضِه لعنَه الله في الدنيا والآخرة، وله عذابٌ عظيمٌ، ومن اقتطعَ حقَّ امرئٍ مُسلمٍ بيمينه أوجبَ الله له النارَ وحرَّم عليه الجنةَ، فقال رجلٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسول الله. قال: «وإن قضيبًا من أراك» - يعني: وإن كان قدرَ المِسواك -؛ رواه مسلم.
ومن أطلقَ لسانَه باللعنِ حُرِم الشفاعة والشهادة لأحدٍ يوم القيامة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن اللعَّانين لا يكونون شُهداء ولا شُفعاء يوم القيامة»؛ رواه مسلم.
ولكونِ الكذبِ من علاماتِ النفاقِ نهى الإسلامُ عنه ولو على سبيلِ الهَزلِ؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ويلٌ للذي يُحدِّثُ بالحديثِ ليُضحِكَ به القومَ فيكذِب، ويلٌ له ويلٌ له»؛ رواه الترمذي.
ومن ادَّعى أنه رأى رُؤيا في منامه وهو كاذِبٌ كُلِّف يوم القيامة بعملٍ يعجِزُ عنه تنكيلاً به؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من تحلَّم بحلمٍ لم يرَه كُلِّف أن يعقِد بين شعيرتين، ولن يفعَل»؛ رواه البخاري.
ومن سألَ ما عند الناسِ من أموالٍ وعنده ما يُغنيه فإنما يستكثِرُ من النار، ومن استمعَ إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهون صُبَّ في أُذنيه الآنُك يوم القيامة –وهو الرصاص المُذابُ -.
وإن صانَ المُسلمُ لسانَه فليصُن جوارِحَه، فهناك أفعالٌ دون الشركِ وقتُ فعلِها قليلٌ ولكن ذنبَها عند الله كبيرٌ، وأعظمُها قتلُ المُسلِم، والله توعَّدَ قاتلَه بعقوباتٍ مُترادِفة؛ قال - سبحانه -: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء: 93]، وقال - عليه الصلاة والسلام -: «لو أن أهلَ السماء والأرض اشتركوا في دمِ مُؤمنٍ لأكبَّهم الله في النار»؛ رواه الترمذي.
والمُسلمُ أكرمُ عند الله من الدنيا؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتلِ رجلٍ مُسلمٍ»؛ رواه الترمذي.
بل نهى أن يقتلَ المرءُ نفسَه؛ لأن الله خلقَه لعبادته؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «من قتلَ نفسَه بشيءٍ في الدنيا عُذِّبَ به يوم القيامة»؛ متفق عليه.
ولِيأمنَ المُسلمُ في حياته فكلُّ وسيلةٍ إلى القتلِ سدَّ في الإسلامُ ذريعتَها؛ «فمن أشارَ إلى أخيه بحديدةٍ فإن الملائكةَ تلعنُه حتى وإن كان أخاه لأبيه وأمِّه»؛ رواه مسلم.
ومن عادَى وليًّا من أولياء الله فقد آذنَه الله بالحربِ.
والزنا سبيلُه سيِّئٌ، ما وقعَ فيه امرؤٌ إلا ساءَ حالُه؛ قال - سبحانه -: إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا[الإسراء: 32]، والله قرَنَه مع الشرك والقتل.
قال الإمام أحمد - رحمه الله -: "أعظمُ الذنوبِ عند اللهِ: الشركُ، ثم القتلُ، ثم الزنا". والجزاءُ من جنسِ العمل؛ فمن عفَّ عفَّت نساؤُه، ولبشاعته كانت عقوبةُ المُحصَن الرجمَ حتى الموت.
وقليلُ الربا يُدنِّسُ المالَ الكثيرَ وينزِعُ بركتَه ويَحُلُّ بصاحبه الفقرُ؛ قال - سبحانه -: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا[البقرة: 276]، والله لعنَ آكِلَه وأذِن بحربه، ومن حاربَه الله فقد هلكَ.
والسارقُ لعنَه الله لأخذِه حقوقَ الآخرين، وآكلُ مال اليتيم يأكلُ في بطنه نارًا، ومن أخذَ أموالَ الناس يُريدُ إتلافَها أتلفَه الله، ومن اقتطعَ شِبرًا من الأرض ظلمًا خُسِفَ به إلى سبع أراضين.
ومن آوَى مُبتدعًا في الدينِ أو جانِيًا فقد لعنَه الله.
ومن دفعَ مالاً ليتوصَّل به إلى ما لا يحِلّ كان راشِيًا، والراشي والمُرتشِي لعنَهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
و«ثلاثةٌ ربُّ العالمين خصمُهم يوم القيامة: رجلٌ أعطى به - سبحانه - ثم غدَرَ، ورجلٌ باعَ حُرًّا فأكلَ ثمنَه، ورجلٌ استأجرَ أجيرًا فاستوفَى منه ولم يُعطِه أجرَه»؛ رواه البخاري.
ومن شرِبَ الخمرَ لم تُقبَل منه صلاةُ أربعين يومًا، ولم يشرَبها في الجنة؛ بل ويُسقِيه الله من طينةِ الخَبالِ يوم القيامة. وهي: عرقُ أهل النار أو عُصارة أهل النار.
واللباسُ من نعم الله، وإذا عصَى الرجلُ ربَّه في ملبسه بالإسبال تعرَّضَ لعذابِ الله؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم الله يوم القيامةِ ولا ينظُرُ إليهم ولا يُزكِّيهم ولهم عذابٌ أليم: المُسبِلُ، والمَنَّانُ، والمُنفِّقُ سلعتَه بالحلِفِ الكاذِبِ»؛ رواه مسلم.
والمرأةُ إن تزيَّنَت بغير ما أذِنَ الله فيه؛ بأن وصلَت شعرَها أو وصلَت لغيرها، أو نمصَت أو نُمِصَ لها فقد تعرَّضَت للعنةِ الله.
والله أوجبَ على الزوجةِ طاعةَ زوجها، وإذا دعا الرجلُ امرأتَه إلى فِراشه فأبَت أن تجِيءَ لعنَتها الملائكةُ حتى تُصبِح، والعدلُ أساسُ المودَّة والرأفة، «ومن كانت له امرأتان فمالَ إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشِقُّه مائلٌ»؛ رواه أبو داود.
وما خلا رجلٌ بامرأةٍ إلا كان الشيطانُ ثالِثَهما، ومن قطعَ رحِمَه قطعَه الله.
وأفعالٌ في العبادات من فرَّط فيها توعَّده الله بعقابٍ؛ فـ «المارُّ بين يدي المُصلِّي لو يعلمُ ماذا عليه لكان أن يقِفَ أربعين خيرًا له من أن يمُرَّ بين يديه»؛ متفق عليه.
و«الذي يُسابِقُ الإمامَ يُخشَى أن يُحوِّلَ الله رأسَه رأسَ حمارٍ أو صورتَه صورةَ حمارٍ»؛ متفق عليه.
ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن رفع البصر في الصلاة، وقال: «لينتهُنَّ عن ذلك أو لتُخطفَنَّ أبصارُهم»؛ رواه البخاري.
والمُسلمُ مُعظَّمٌ حيًّا وميتًا، وكسرُ عظمه وهو ميتٌ ككسرِه وهو حيٌّ، والجلوسُ على قبره من إهانته؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «لأن يجلِس أحدُكم على جمرةٍ فتُحرِقَ ثيابَه فتخلُصَ إلى جلدِه خيرٌ له من أن يجلِسَ على قبرٍ»؛ رواه مسلم.
وإذا عمِلَ العبدُ عملاً صالحًا سعى الشيطانُ في إفساده بالرياء أو السُّمعة أو إرادة الدنيا، ومن وقعَ في ذلك كان عملُه هباءً.
والعبدُ يُعاقَبُ باعتقادِ قلبِه وإن لم يعمل أيذَ عملٍ؛ فمن اعتقدَ أن غيرَ الله ينفعُ أو يضُر، أو عطَّل أسماءَه وصفاته فقد كفرَ، وآيةُ النفاقِ: بُغضُ الأنصار، وحبُّهم من الإيمانِ.
ومن قنطَ من رحمةِ الله الواسِعة فقد ضلَّ؛ قال - سبحانه -: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ[الحجر: 56].
والعُجبُ بالنفس أو المالِ أو اللباسِ مُوجِبٌ للعقوبة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «بينما رجلٌ يمشي في حُلَّةٍ تُعجِبُه نفسُه مُرجِّلٌ جُمَّتَه؛ إذ خسَفَ الله به، فهو يتجلجلُ إلى يوم القيامة»؛ متفق عليه.
والحسدُ مُظلمُ للقلبِ، مُفسِدٌ للحسناتِ، والكبرياءُ من خصائصِ صفاتِ الله من نازعَه فيها عذَّبَه، ومن تكبَّر على الله أهانَه؛ قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[النازعات: 24]، فأغرقَه الله بالماءِ.
ومن استكبرَ على خلقه أهلكَه؛ فرِحَ قومُ عادٍ بقوتهم وقالوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً[فصلت: 15]، فأهلكَهم الله بريحٍ.
وبعدُ، أيها المسلمون:
فالدينُ أغلى ما يملِكُه المُسلم، وهو أصلُ الضرورات التي جاءَ الإسلامُ بحِفظِها، فيجبُ على المُسلمِ أن يحفظَ لِسانَه وجوارِحَه، وما يعتقدُ بقلبِهِ مما يُضادُّه أو يُنقِصُه، والإسلامُ دينُ الفِطرة، الدخولُ فيه بكلمةٍ مع علمٍ بمعناها وعملٍ بمُقتضاها، وهو أيضًا أرقُّ شيءٍ وألطفُه، من ارتكبَ شيئًا من نواقضِه ولو بكلمةٍ زالَ عنه، والسعيدُ من تمسَّكَ به وأحبَّه ومدحَه، ودعا غيرَه إليه، ومن ثبَّته الله على ذلك سعِد في دنياه وأخراه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا[النساء: 123].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

ابوحاتم 03-24-2012 12:44 AM

الجُرح النازِف: الشام
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الجُرح النازِف: الشام"، والتي تحدَّث فيها عن جراحات المُسلمين في العديد من البُلدان، لا سيَّما بلاد الشام؛ حيث ذكرَ ما يُكاد للمُسلمين هناك من مكائد، وخططٍ تُحاكُ ضدَّهم.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله النافِذِ أمرُه، العزيز نصرُه، يقضِي ما يشاءُ ويحكُمُ ما يُريد، الأمرُ له والخلقُ بيديه، والاستعانةُ به، والتفويضُ إليه، ولا اعتمادَ إلا عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كاشِفُ البلاء، وقامِعُ أهل الظلمِ والجَور والاعتِداء، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله سيدُ الأولياء، وخاتمُ الأنبياء، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه معادن التقوى وينبوع الصفا، صلاةً تبقَى وسلامًا يترَى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
في أوضحِ صُور المُكاشَفة والمُجاهَرة قضايا أمتِنا بين المُؤامرة والمُتاجَرة، وأهلُ السَّمسرة لا يُصغُون إلى مآسِي أهلِ الإسلام إلا بمسمَعٍ أصمّ، والذين يُروِّجون أسلحَةَ القتلِ والدمار، ويُتاجِرون بدم الأبرياء، ويتلاعَبون بمصيرِ الشعوب لا شيءَ يعنيهم سوى المصالحِ والمطامِع والعقود والصفقاتِ.
أما مشاهِدُ القتلِ والتمثيلِ، والتشويه والتعذيب، ورائحةُ الدم التي تخرُجُ من أروِقةِ الموت فلا تُحرِّكُ منهم المشاعِر، ولا تُؤرِّقُ منهم الضمائر.
وصرخاتُ الأبرياء، وصيحاتُ النساء، وشلالاتُ الدماء، وقِطعُ الأشلاء لا ترقَى عندهم لخسارةِ عقدٍ أو صفقةٍ أو غنيمةٍ أو استثمارٍ، حتى صار الظالمُ يُشايِعُ الظالمَ، والقتلُ يُوالِي القاتِلَ، والمُستبِدُّ يُطابِقُ رأيَ المُستبِدّ، ولم يعُد لحكوماتٍ تقودُ المحافِلَ الدولية ضميرٌ حيٌّ يحمِلُ على إحقاقِ العدلِ، ورفعِ الظلم، وإرساء السلام، ونزعِ فتيلِ الحُروبِ والنزاعات والصراعات.
وها هي بلادٌ تُعاني من ويلاتِ الحروب منذ عشراتِ السنين، وبلادٌ تُعاني من ويلات الفقر والجهل والمرض ردحًا من الزمن، وبلادٌ تُعاني فتنةَ الانقسامات والشِّقاقات عقودًا من الدهر؛ فماذا قدَّمَت تلك الدول التي تدَّعي قيادةَ العالَم، وحفظَ الأمن، ورعايةَ السِّلم؟! ماذا قدَّمت لتلك الدول وقضاياها؟!
ولو كانت هناك إرادةٌ صادقةٌ، وعدلٌ إنصافٌ لما أعجزَ حلُّها، ولا أعوَزَ أمرُها.
ويُشعَل فتيلُ الحروب في بلادٍ متى كانت مصالحُ تلك الدول تقتضِي إشعالَها، وتُفرضُ خياراتُ التقسيمِ عليها متى كانت مصلحةُ تلك الدول تقتضِي تقسيمَها.
وتُطلَقُ يدُ زعماء ورُؤساء يسُوسون شعوبَهم بالسيفِ والحَيف، والظلم والجَور، والتجويعِ والترويعِ، والإرهابِ والإرعاب، والنار والحِصار، والبَطشِ والقتلِ ما دام ذلك الزعيمُ يضمَنُ لتلك الدول مصالِحَها، ويُقتلُ آلافُ البشر من شعوبِ العالَم، ويذهبُون ضحايا صِراع طُغاةٍ جبابِرةٍ على السُّلطة والحُكم والثروةِ والمال.
والحروبُ في العالَم تزداد، والصراعات تتضاعَف، والسِّلمُ يتضاءَلُ؛ لأن قِيَم العدل والحقِّ والإنصاف لم تكن يومًا حاكِمةً في قضايا عالَم اليوم، والعالمُ لم يفشَل يومًا في حلِّ قضاياه ولم يعجِز إلا لأن من يقُودُه لا يُريد لتلك القضايا أن تنقضِي، ولا لتلك الحروب أن تنتهي.
وإننا نُناشِدُ القادةَ والساسةَ، وأنصارَ العدل، ومُحبِّي السلام في العالَم أن يأخُذوا بعالَمنا من مُستنقعَات الحروب والصراعاتِ، والبُؤس والفقر، والجهل والدمار والخرابِ إلى ساحةِ السِّلم والأمن، والعدلِ والرحمةِ والإنصافِ، وأن يرحَموا الشعوبَ من ويلات الحُروب، وإلا فلا بُدَّ أن يأتي يومٌ يصطَلِي فيه بالنار من أشعلَها، وبالحروب من أوقدَها، ويقعَ في الألغام من زرعَها.
ولا يحيقُ المكرُ إلا بمن مكَرَ، ولا يقعُ في حُفرته إلا من حفَر، سُنَّةٌ ماضِية، وحقيقةٌ قاضِية، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21].
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه؛ فقد فاز المُستغفِرون، وسعِد الآيِبون.

الخطبة الثانية
الحمد لله العظيمِ في قدره، العزيز في قهرِه، يسمعُ أنينَ المظلوم عند ضعف صبره، ويجُودُ عليه بإعانته ونصره، أحمدُه على القدر خيرِه وشرِّه، حُلوِهِ ومُرِّهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا رافِعَ لما وضعَ، ولا واضِعَ لما رفع، ولا مانِعَ لما أعطَى، ولا مُعطِيَ لما منَع، وما شاءَ ربُّنا صنَع، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله إمامُ المُجاهِدين، وقُدوةُ الصابرين، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه خلفاء الدين وحُلفاء اليقين صلاةً وسلامًا دائمَيْن ممتدَّيْن مُتلازِمَيْن إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فقد نجَا من اتَّقى، وضلَّ من قادَه الهوَى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون:
إن العينَ لتدمَع، وإن القلبَ ليحزَن، وإنا على مُصابِك يا شامُ لمحزُونون.
عظُمَ البلاءُ ولا مُغيثَ لشامِنا
ربِّي أنت المُرتجَى لبلائِنا
كلُّ جُرحٍ سوف يبرَا
فامتطِي يا شامُ صبرًا
أهلَنا في الشام صبرًا
إن بعد العُسر يُسرًا
أهلَنا في الشام صبرًا
إن بعد الصبر نصرًا
أيها الطُّغاةُ الظلَمَة! بحَيفِكم تورَّطتُم، ولحَتفِكم تأبَّطتم، وبدماء الأبرياء تلطَّختُم، فثيابُ الذلِّ تلفُّكم، وأكفانُ الهزيمةِ تحفُّكم.
يا قاتِلُ لا مهربَ ولا مناصَ، ستُقادُ إلى ساحةِ القِصاص، يا ظالِمُ يا مُبير، أبشِر بسُوءِ المصير، يا غادِرُ ستُغادِر، فصولتُك آفِلة، وجولتُك خاسِرة، يلُفُّك الخُذلان، ويحُوطُك الخُسران، أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ[الحج: 39]، وإن الله ليُملِي للظالِم حتى إذا أخذَه لم يُفلِته، ونصرُ الله قريبٌ، وآمالُ الظالِم تخيبُ، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج: 40].
اللهم احفَظ أهلَنا في سورية من الفتن والشرور والمِحَن يا رب العالمين، اللهم احفَظ أهلَنا في الشام من الفتن والمِحَن والشرور يا رب العالمين، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، اللهم صُن أعراضَهم، واحفَظ أموالَهم، وادفَع عنهم مكرَ الماكرين، وعُدوانَ الظالمين يا رب العالمين، اللهم اشفِ مرضاهم، وداوِ جرحاهم، وتقبَّل موتاهم في الشُّهداء يا سميعَ الدعاء.
اللهم عليك بالطُّغاة المُجرمين، اللهم عليك بالطُّغاة المُجرمين الذين قتَلوا الأبرياء، وسفَكوا الدماءَ، وعذَّبوا الشيوخَ والأطفالَ والنساء، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اهزِمهم يا قوي، زلزِلهم يا قادِر، أنزِل عليهم عذابَك ورِجزَك وبأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين يا سميعَ الدعاء.
يا سميعَ الدعاء، يا سميعَ الدعاء نجِّ إخواننا المُستضعفين في الشام عاجلاً غير آجلٍ يا رب العالمين، اللهم عجِّل بالفَرَجِ والنصر لهم يا رب العالمين.
اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجسِ يهود، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجِزونك.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها واستِقرارَها، اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين يا رب العالمين، اللهم واجزِ خادمَ الحرمين الشريفين خيرَ الجزاء وأوفاه على نُصرته لأهلنا المُستضعفين في الشام.
اللهم يا عظيمَ العفوِ، يا واسِعَ المغفرة، يا قريبَ الرحمة، هَبْ لنا من لدُنك مغفرةً ورحمةً، وأسعِدنا بتقواك، واجعلنا نخشاك كأننا نراك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم موتانا، وعافِ مُبتلانا، واشفِ مرضانا، وانصُرنا على مَن عادانا يا ربَّ العالمين.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرَقٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَك، اللهم اسقِنا واسقِ المُجدِبين، وفرِّج عنَّا وعن أمة نبيِّنا وسيدِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أجمعين.
عباد الله:
إن اللهَ أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون من جنِّه وإنسِه -، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على النبي المُصطفى المُختار، وآله الأطهار، وصحابته الأبرار، اللهم وارضَ عن خُلفائه الأربعة، أصحاب السُّنَّة المُتَّبعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.

ابوحاتم 03-24-2012 12:49 AM

قصص عن عواقب الظلم
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "قصص عن عواقب الظلم"، والتي تحدَّث فيها عن الظلمِ وعواقبه الوخيمةِ في الدنيا والآخرة، وذكر العديدَ من القصص والعِبَر التي تُبيِّن عواقِبَ الظلَمَة في الدنيا.

الخطبة الأولى
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ.
أما بعد، فيا أيها المُسلمون:
إن الحياة الطيبةَ لا تكونُ إلا بتقوى الله - جل وعلا -، وإن السعادةَ في الدارَين لا تحصُلُ إلا بالتمسُّك بتلك التقوى، فاستمسِكوا بتقوى الله - جل وعلا - ليلاً ونهاراً، سرًّا وجهرًا.
إخوة الإسلام:
من أصول الإسلام: مُحاربةُ الظلمِ بشتَّى صوره ومُختلَف أشكاله، وإن المُتتبِّع لأحوال الناس مع ظهور حبِّ الدنيا وتمكُّنها في النفوس يجِدُ مُمارساتٍ تحمِلُ الظلمَ لآخرين في نفوسهم وأعراضهم وأموالهم، وإن أعظمَ ما يحمي الإنسانَ من الظلمِ ويدرأُ عنه شُرورَ الوقوع فيه: تذكُّر عاقبتَه الوخيمة في الدنيا، ومآلَه الشنيعَ في الآخرة.


إخوة الإسلام:
يجبُ أن نعلمَ أن التسلُّط على الخلقِ وظُلمَهم مسلكٌ يُؤدِّي بصاحبه إلى أشنعِ حالٍ وأسوأِ مآلٍ، سنةٌ لا تتبدَّلُ ولا تتحوَّلُ، وإن مصارعَ الظلمَة في القديمِ والحديثِ لأصدقُ برهانٍ، وأعظمُ بيانٍ لمن كان له قلبٌ أو ألقَى السمعَ وهو شهيدٌ.
معاشر المسلمين:
إن دعوةَ المظلوم سهامٌ لا تُخطِئ، وسلاحٌ على الظالمِ لا يُبقِي وإن طالَ الدهرُ، قال - صلى الله عليه وسلم - لمُعاذ بن جبلٍ - رضي الله عنه - حين بعثَه إلى اليمن: «.. واتَّقِ دعوةَ المظلومِ؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ»؛ متفق عليه.
وفي "السنن" بسندٍ حسنٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «دعوةُ المظلومِ تُحمَلُ على الغَمام، وتُفتحُ لها أبوابُ السماوات، ويقول الربُّ - جل وعلا -: وعزَّتي! لأنصُرنَّكِ ولو بعد حينٍ».
وإن من سُوء عاقبةِ الظلمِ أن دعوةَ المظلومِ مُستجابةٌ حتى ولو من الفاجرِ أو الكافرِ؛ روى أحمد في "مسنده" بسندٍ حسنٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا تُردُّ دعوةُ المظلومِ ولو كان فاجِرًا ففُجورُه على نفسه».
وفي حديثٍ آخر عنده - رحمه الله - بسندٍ حسنٍ: «اتَّقوا دعوةَ المظلوم وإن كان كافرًا؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ».
وصدقَ القائلُ حينما قال:
لا تظلِمنَّ إذا ما كنتَ مُقتدرًا
فالظلمُ ترجِعُ عُقباهُ إلى النَّدَمِ
تنامُ عيناك والمظلومُ مُنتبِهٌ
يدعُو عليكَ وعينُ الله لم تنَمِ
فاتَّقِ الله يا مَن لا تُقيمُ لدماءِ المُسلمين حُرمة، ولا لأعراضهم صيانة، ولا لأموالهم وزنًا وحماية.
من أزجَرِ ما نُقِل في التاريخ: قصةٌ عن خالد بن عبد الله البَرمَكيِّ وولده في حوارٍ بينهما وهُما في السجنِ، فيقول له: يا أبَتَاه! لقد كُنَّا بعد العِزِّ والمُلكِ صِرنا في القَيْدِ والحبس. فقال له: يا بُنيّ! دعوةُ مظلومٍ سَرَت بليلٍ غفَلنَا عنها والله لم يغفَل عنها.
وذكرَ العلماءُ - رحمهم الله - أن مالكَ بن دينارٍ الزاهدَ العابِدَ حُمَّ أيامًا - أي: وجَدَ حرارةً في بدنه -، ثم وجدَ خِفَّةً فخرجَ لبعضِ حاجته، فمرَّ بعضُ أصحاب الشُّرط بين يديه قومٌ، قال: فأعجَلوني فاعترضتُ في الطريقِ، فلحِقَني إنسانٌ من أعوانه فقنَّعَني أسواطًا - أي: ضرَبَني أسواطًا - كانت أشدَّ عليَّ من تلك الحُمَّى. فقلتُ: قطَعَ اللهُ يدَكَ، فلما كان من الغدِ غدوتُ إلى الجسرِ في حاجةٍ لي فتلقَّاني ذلك الرجلُ مقطوعةً يدُهُ يحمِلُها في عُنقِهِ.
فيا مَن تظلِمُ وتبطِشُ! تذكَّر موقِفَك بين يدَي الله - جل وعلا -، واخشَ على نفسِكَ من دعوةِ صالحٍ تسري بليلٍ والناسُ نِيامٌ، إن لم تكن خائفًا من موقفِكَ من الله - جل وعلا -.
فإن بعضَ الناس إنما يخافُ على نفسه في الدنيا، ولهذا جعل الله له زاجِرًا في دنياه قبل أُخراه؛ روى الطبراني بسندٍ رِجالُهُ رجالُ الصحيح: أن رجلاً نالَ من عليٍّ - رضي الله عنه -، فنهاهُ سعدُ بن أبي وقَّاصٍ، فلم ينتَهِ عن ذلك، فقال سعدٌ: أدعُو الله - جل وعلا - عليك. فدعَا عليه، فما برِحَ حتى جاءَ بعيرٌ نادٌّ فخبَطَه حتى ماتَ.
وأوردَ أبو نُعيمٍ في "الحلية"، وابنُ الجوزي في بعضِ كُتبه: أن سُليمان التيميَّ العابِدَ الحافظَ كان بينه وبين رجلٍ شيءٌ، فنازعَه فتناولَ الرجلُ سُليمان فغمَزَ بطنَه، فدعا عليه سُليمانُ فجفَّت يدُ الرجلِ.
أخي المُسلم:
اسمَع هذه العِبرةَ فاتَّعِظ وازدَجِر؛ حكى ابنُ أبي الدنيا أن رجلاً من مُناوِي عُثمان - رضي الله عنه - آلَى على نفسه أن يلطِمَ وجهَ عُثمان الشريف. وفي القصَّة قال: فدخلتُ مع صاحبي وإذا رأسُ عثمان في حجر امرأته، فقال لها صاحبي: اكشِفي وجهَه. فقالت: لِمَ؟ قال: ألطُمُ حُرَّ وجهِهِ. قالت: أمَا تذكُرُ ما قال فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟! قال فيه كذا وكذا - ثم عدَّدَت مزاياه العظيمة -، قال: فاستحيَى صاحبي بعد ذلك فرجعَ، فقلتُ لها أنا: اكشِفي عن وجههِ. قال: فذهَبَت - أي: امرأةُ عُثمان - تدعُو عليَّ، ومع ذلك قال: فلطَمتُ وجهَهُ. فقالت: ما لكَ يبَّسَ الله يدَكَ، وأعمَى بصرَك، ولا غفرَ لك ذنبَكَ. قال: فواللهِ ما خرجتُ من البابِ حتى يبَسَت يدِي، وعمِيَ بصري، وما أرى اللهَ أن يغفِرَ لي ذنبِي. ثم رُؤِيَ يطوفُ في الكعبة ويتألَّى على الله عقوبةً له، فيقول وهو أعمَى: اللهم اغفِر لي، وما أراكَ تفعلُ!
ومن القصص التي فيها زجرٌ عن الظلمِ: ما أخرجه البخاري عن جابر بن سمُرة قال: شكا أهلُ الكوفةِ سعدًا إلى عُمر حتى قالوا: إنه لا يُحسِنُ يُصلِّي. فقال سعدٌ: أما أنا فإني كنتُ أُصلِّي بهم صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا أخرِمُ عنها، أركُدُ في الأَوليَيْن وأحذِفُ في الأُخرَيَيْن. قال عُمر: واللهِ ذاك الظنُّ بك يا أبا إسحاق.
ثم بعثَ عُمر - وهو الخليفةُ العادلُ الذي لا تأخُذُه عاطفةٌ عن الحق والتتبُّع -، أرسلَ عُمر رجالاً يسألون عنه في مجالسِ الكوفة، فكانوا لا يأتون مجلِسًا إلا أثنَوا عليه خيرًا، وقالوا معروفًا، حتى أتَوا مسجدًا من مساجِدِهم فقال رجلٌ - يُقال له: أبو سَعدة -، فقال: اللهم إذ سألتُمُونا فإنه كان لا يعدِلُ في القضية، ولا يقسِمُ بالسَّوِيَّة، ولا يسيرُ بالسرِيَّة!
وهكذا الظالمُ إذا تبِعَ هواه انطلَقَ لسانُهُ بما يهوَى، وانطلَقَت جوارِحُه بما تهوَى نفسُه الأمَّارة. فقال سعدٌ: اللهم إن كان كاذِبًا فأعمِ بصرَه، وأطِل فقرَه، وعرِّضْه للفتن. قال عبدُ الملك - راوي الحديث -: فأنا رأيتُه يتعرَّضُ للإماءِ في السِّكَكِ، فإذا قيل له: انتَهِ يا أبا سَعدة! قال: كبيرٌ فقيرٌ مفتونٌ أصابَتني دعوةُ سعدٍ.
يا مَن ينسَى دعوةَ المظلوم! لتكُن مثلُ هذه الأمثِلَة زاجِرًا لك ورادِعًا لنفسك عن ظُلم الخلق في أنفسهم أو أموالهم أو أعراضهم.
حُكِي أن رجلاً من قتَلَة الحُسين بن عليٍّ - رضي الله عنه، وعن أبيه، وعن أمِّه، وعن آل البيت جميعًا - رمَى الحُسين بسهمٍ. فقال الحُسين: يا هذا! إيتنِي بماءٍ أشربُه، فلما رماهُ هذا الرجلُ حالَ بينَه وبين الماءِ، فقال الحُسينُ: اللهم أظمِئْهُ.
فرُؤِيَ هذا الرامي وهو عند موته في الاحتِضار وهو يصيحُ من الحرِّ في بطنِهِ، ويصيحُ من البردِ في ظهره، فبين يدَيْه المراوِحُ والثلجُ وخلفَه المُصطَلَى، وهو يقول: أسْقُوني أهلَكَني العطشُ، فيُؤتَى بإناءٍ عظيمٍ فيه السَّوِيْقُ - وهو الماءُ واللبنُ، لو شرِبَه خمسةٌ لكفاهم -، فيشربَه جميعًا، ثم يعودُ فيقول: أسْقُوني أهلكَني العطشُ، ثم انقدَّ بطنُهُ كانقِداد البَعير.
فيا مَن تظلِمُ الناسَ! اللهُ أكبرُ عليك، إن الظالمَ تدورُ عليه الدوائرُ، وتحُلُّ به المثُلاتُ وإن طالَ الدهرُ، وامتدَّ الزمانُ؛ يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ ليُملِي للظالمِ حتى إذا أخَذَه لم يُفلِتْهُ»، ثم قرأَ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ[هود: 102].
فكُن - أيها المُسلمُ - مُتباعِدًا عن ظُلم الخلقِ، مُحاذِرًا النَّيْلَ منهم بقولٍ أو فعلٍ أو إعانةٍ على ظُلمٍ.
أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
أحمدُ ربي وأشكُرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
وصيةُ الله لنا جميعًا هي وصيةُ الله لأولين والآخرين، وهي: تقواه - جل وعلا -، ولُزومُ طاعته، والبُعد عن معاصِيهِ.
يا مَن يظلِمُ الناسَ في أموالهم فيأخُذها قهرًا، أو يمنَعُ دَينًا، أو يحبِسُ حقًّا، يا مَن يُماطِلُ الناسَ في أموالهم! اسمَع هذه المواعِظ، وكُن لنفسِك خيرَ واعِظٍ قبل أن تحُلُّ بك دعوتُهم، وتُحيطَ ببدنِكَ أو مالِك أو ولدك عاقبةُ نجواهم لخالقهم؛ ففي الحديثِ القُدُسيِّ: «يا عبادي! إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُهُ بينكم مُحرَّمًا، فلا تظالَموا».
ثم إن اللهَ - جل وعلا - أمرَنا بما تزكُو به حياتُنا، وتسعَدُ به أُخرانا، ألا وهو: الإكثارُ من الصلاةِ والسلامِ على الحبيبِ النبيِّ.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدِنا ونبيِّنا وحبيبِنا وقُرَّةِ عيوننا: نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ الآلِ والصحابةِ أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام، نسألك أن تحفظَ المُسلمين في كل مكان، اللهم احفَظ المسلمين في كل مكان، اللهم أنزِل حفظَك وكلأتَك على المُسلمين، اللهم احفَظهم بحِفظِك، واكلأهم برعياتك.
اللهم انصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم انصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم انصُرهم على من بغَى عليهم يا قويُّ يا عزيزُ.
اللهم عليك بأعداءِ المُسلمين، اللهم أبطِل مكرَهم، اللهم اجعل الدائرةَ عليهم، اللهم اجعل الدائرةَ عليهم.
اللهم يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام، احفَظ المُسلمين في الشام، احفَظ المُسلمين في أفغانستان، احفَظ المُسلمين في العراقِ، احفَظ المُسلمين في فلسطين، احفَظ المُسلمين في ليبيا، احفَظ المُسلمين في مصر، احفَظ المُسلمين في تُونس، وفي كل مكانٍ يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ارفع كُرُباتهم، اللهم نفِّس غمَّهم، اللهم نفِّس غمَّهم، اللهم أدخِل عليهم الأمنَ، اللهم حقِّق لهم الأمنَ والأمان، اللهم حقِّق لهم الأمنَ والأمان، اللهم حقِّق لهم ما يصبُون من الأمنِ والأمان يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم احفَظ بلادَ المُسلمين من كل سُوءٍ ومكروهٍ، اللهم احفَظ المُسلمين في بلاد الحرمين من كل سُوءٍ ومكروهٍ، اللهم اجعل بلادَ المُسلمين قويةً عزيزةً منيعةً على الأعداءِ يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احفَظ خادمَ الحرمين، اللهم أيِّده بتأييدك، اللهم أطِل عُمره يا حيُّ يا قيُّوم على الطاعةِ والتقوى، اللهم انصُر به دينَكَ، وأعلِ به كلمتَك.
اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم، اللهم ولِّ على المُسلمين خِيارَهم يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
اللهم أسعِدنا بتقواك، اللهم أسعِدنا بتقواك، اللهم مُنَّ علينا بفضلِك، اللهم اغفِر لنا ذنوبَنا، اللهم كفِّر عنا سيئاتنا، اللهم كفِّر عنا سيئاتنا، اللهم كفِّر عنا سيئاتنا، وأدخِلنا الجنةَ مع الأبرار، يا عزيزُ يا غفَّار.
وأختِمُ قولي بصلاةٍ وسلامٍ على سيدِي ونبيِّ محمدٍ، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا ورسولِنا محمدٍ.

ابوحاتم 03-24-2012 12:55 AM

الظلم ظلمات يوم القيامة
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 30/4/1433هـ بعنوان: "الظلم ظلمات يوم القيامة"، والتي تحدَّث فيها عن الظلمِ وعواقبه الوخيمة؛ حيث دلَّل على سوء عاقبة كلِّ ظالمٍ وأن أنفاسهم في الظلم معدودة، ومُدَّتهم في الحياة محدودة، وأرشَدَ إلى ضرورة الاعتبار بمن سبَقُوا من الطُّغاة والظالمين؛ من أمثال: فرعون، وأبرهة، وقوم صالح، وغيرهم من الأقوام الظالمين السالفين، وذكر طرفًا من مُعاناة النبي - صلى الله عليه وسلم - من ظلم قومِه له، ومدى صبره - عليه الصلاة والسلام - على ذلك.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فتقوى الله طريقُ الهُدى، ومُخالفتُها سبيلُ الشقا.
أيها المسلمون:
فضَّل الله الإنسانَ وكرَّمَه وهيَّأ له أسبابَ الطمأنينة ليعبُدَه وحده - سبحانه - كما أمَر، ومعاشُ الناس لا يستقيمُ إلا بالدين، وبهِ سعادتُهم في الآخرة، ومن دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهمَّ أصلِح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري، وأصلِح لي دُنيايَ التي فيها معاشي، وأصلِح لي آخرتي التي فيها معادي»؛ رواه مسلم.
وأساسُ الدينِ: العدلُ فيما بين العباد وبين خالقهم بإفراد العبادةِ له، وبينهم وبين المخلوقين بعدم بغيِ بعضِهم على بعضٍ؛ إذ الظلمُ أصلُ كلِّ شرٍّ، وفسادٌ للدين والدنيا، والله نزَّهَ نفسَه عن الظلمِ وجعلَه بين العباد مُحرَّمًا؛ فقال: «يا عبادي! إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا؛ فلا تَظَالَموا»؛ رواه مسلم.
وكان أبو إدريس الخَولانيُّ - رحمه الله - راوي الحديثِ إذا حدَّثَ بهذا الحديثِ جَثَى على رُكبتَيْه.
واللهُ أخبرَ أنه لا يُحبُّ الظالِمَ، ونفى عنه الفلاح، ووعدَ بقطعِ دابرِه، ولا يدُومُ على نُصرته أحدٌ، قال - سبحانه -: وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[البقرة: 270].
بل يُسلِّطُ اللهُ عليه ظالمًا أقوى منه، كما قال - سبحانه -: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[الأنعام: 129].
قال ابن كثير - رحمه الله -: "أي: نُسلِّطُ بعضَهم على بعضٍ، ونُهلِكُ بعضَهم ببعضٍ، وننتقمُ من بعضِهم ببعضٍ؛ جزاءً على ظُلمهم وبغيِهم".
والله توعَّدَه بسُوء المُنقلَبِ، فقال: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ[الشعراء: 227].
قال شُريحٌ - رحمه الله -: "إن الظالمَ ينتظرُ العقابَ، والمظلومَ ينتظرُ النصرَ".
والظالمُ أيامُه في الدنيا معدودةٌ، ولكنَّ الله يُمهِلُه؛ قال - جلَّ شأنه -: فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا[مريم: 84].
ومن طالَ عُدوانُه زالَ سُلطانه؛ قال - جل وعلا -: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ[الأنبياء: 11].
قال ابن القيم - رحمه الله -: "إذا أراد اللهُ أن يُهلِكَ أعداءَه ويمحقَهم قيَّضَ لهم الأسبابَ التي يستوجِبُون بها هلاكَهم ومحقَهم، ومن أعظمها - بعد كُفرهم -: بغيُهم وطغيانُهم ومُبالغتُهم في أذى أوليائه، ومُحاربتهم وقتالهم والتسلُّط عليهم".
واللهُ ذكرَ في كتابه ظالمين وسُوءَ عاقبتِهم، وأخبرَ أنه جعلهم عبرةً لغيرهم؛ ففرعون طغَى وعاثَ في الأرض فسادًا؛ قال - سبحانه - عنه: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[القصص: 4].
بل تطاوَلَ على الربِّ وأنكرَه وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[النازعات: 24]، وافتخرَ بجرَيَان الماء من تحت قدمَيْه وكان يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي[الزخرف: 51].
والله له بالمِرصاد، يُمهِلُه ولم يُهمِله، فأجرَى الماءَ من فوقه وأغرقَه به، وقال له ساعةَ هلاكه: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً[يونس: 92].
وأخبرَ أن تلاطُمَ أمواج البحر من فوقه حين هلاكه كان أمرًا مهُولاً، فقال: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى[النازعات: 25، 26].
وشُعيبٌ - عليه السلام - دعا قومَه إلى الإسلام، ونهاهُم عن ظُلم الناس، وقال لهم: أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ[هود: 85]، فسخِروا به وقالوا له: أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ[هود: 87]، فأرسلَ الله عليهم نارًا أحرقَتهم وأحرقَت أموالَهم التي اكتسبُوها بالظُّلم، قال - سبحانه -: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ[الشعراء: 189]؛ أي: النار المُحرِقة النازلةِ عليهم من السماء إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
وثمودُ كان ذنبُهم مع الشركِ عقرَ بهيمةٍ جعلَها الله لهم آيةً، فأرسلَ عليهم صيحةً قطَّعَت قلوبَهم.
قال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: "فمن انتهَكَ محارِمَ الله واستخفَّ بأوامره ونواهيه، وعقرَ عبادَه وسفكَ دماءَهم كان أشدَّ عذابًا منهم".
وإذا وقعَ بالمؤمنين شدَّةٌ وبلاءٌ، وكربٌ وعناءٌ، فاللهُ لطيفٌ في قدَرِه، حكيمٌ في تدبيره، قادٌ على نُصره عباده، ولكن لحكمةٍ يبتليهم؛ قال - جل وعلا -: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد: 4].
وهو - سبحانه - قويٌّ في مُدافعته عن عباده المؤمنين؛ قال - جلَّ شأنُه -: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا[الحج: 38].
قال ابن كثير - رحمه الله -: "يدفعُ عن عباده الذين توكَّلُوا عليه وأنابُوا إليه شرَّ الأشرار وكيدَ الفُجَّار، ويحفظُهم ويكلؤُهم وينصُرهم".
وهذه المُدافَعةُ بحسبِ إيمان العبدِ بمولاه؛ فمن زادَ إيمانُه قوِيَت مُدافعةُ الله له. قال قتادةُ - رحمه الله -: "والله ما يُضيِّعُ اللهُ رجلاً قطُّ حفِظَ له دينَه".
والمسلمُ يأخذُ بأسبابِ النصر ودفعِ الظلمِ والقهرِ بحُسن الظنِّ بالله بأنَّ الله سينصُره، واعتقاد ما دلَّت عليه أسماؤه وصفاتُه - سبحانه -؛ من القوة والقُدرة، والعظمةِ والعِزَّة، وبالإيمان بما جاء في القرآنِ من وعدِ الله بنُصرة المؤمنين: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[الروم: 47]، وبالإكثار من التعبُّد والاستغفارِ والإنابةِ إلى الله؛ قال - سبحانه -: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ[محمد: 7]، والثقةِ بقرب ساعة الفَرَجِ؛ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ[البقرة: 214].
وأن يُوقِنَ أن التوكُّلَ على الله أساسُ النصرِ: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[آل عمران: 160].
وتوحيدُ الكلمةِ على الحق ونبذُ النزاع قوةٌ على الأعداء؛ قال تعالى: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[الأنفال: 46].
والصبرُ مفتاحُ الفَرَج، ويتأكَّد عند حُلول المِحَن والمصائب، والدعاءُ أقوى سلاحٍ ضدَّ العدو؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «واتَّقِ دعوةَ المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حِجابٌ»؛ متفق عليه.
قال ابن عقيلٍ - رحمه الله -: "يُستجابُ للمظلوم بسُرعةٍ".
والفَألُ هديُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد قُوتِلَ وحُوصِرَ، وجُرِح وأُوذِي، ومُكِرَ به وأُخرِجَ، وكِيدَ به وسُمَّ وسُحِر، ومات له ستةٌ من أولاده، وكان يقول مع كل ذلك: «يُعجِبُني الفَألُ». فسُئِلَ عنه، فقال: «كلمةٌ طيبةٌ»؛ متفق عليه.
والمُسلمُ مُوقِنٌ بنصر الله، ويحرُم عليه الرُّكون إلى الظالمين؛ قال - سبحانه -: وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ[هود: 113].
والله بقُدرته ينصُرُ الضعيفَ ولو تكالَبَت عليه الشدائدُ أو خُذِل؛ قال - عز وجل -: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21].
ونُصرة الله للمؤمنين إنما هي بالإيمان والتقوى، وهو - سبحانه - ناصرٌ عبادَه وإن قلَّ عددُهم وعَتادُهم، فالقوةُ لله جميعًا؛ قال - سبحانه -: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ[البقرة: 249].
وهو - سبحانه - قد ينصُرُ عبادَه بلا قتالٍ، كما في غزوة الأحزاب، قال - جل وعلا -: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا[الأحزاب: 25]، وقد ينصُرُهم بإلقاء الرُّعبِ في قلوبِ الأعداء، كما حصلَ ليهود بني النَّضِير، كما قال تعالى: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ[الحشر: 2].
وقد يُرسِلُ الله جنودًا من عنده لإهلاك المُعتدين؛ فأبرهةُ أتى بجيشٍ من اليمن لهدمِ الكعبةِ، مُصطحِبًا معه أقوى الحيوانات - الفيل -، فسلَّطَ اللهُ عليه أضعفَ الحيوانات - الطيورَ -، وجعلَ كيدَهم في تضليلٍ.

وإذا حصلَ قتلٌ وجراحٌ في المُسلمين - كما في أُحُدٍ - فالعاقبةُ لهم؛ قال - سبحانه -: فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ[هود: 49].
وبعد، أيها المسلمون:
فلَئِن خُذِل المُسلمون فهم المُنتصِرون، ولئن قُتِلوا فهم الغالِبون، ولئن شُرِّدوا فهم المُؤيَّدون، وما تعلَّقَ أحدٌ بالله فخُذِل، وما لجأَ إليه أحدٌ إلا نُصِر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ[القصص: 5، 6].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
التاريخُ مليءٌ بالعِظاتِ والعِبَر، زاخِرٌ بالحَوادِثِ والقصص، وفي معرفةِ أحوال الأُمم وعاقبة الظلم والظالمين عِبرةٌ لأُولي الألباب، والسعيدُ من وُعِظَ بغيره، وسِيَرُ المُسرفين، وعاقبةُ الظالمين، ومآلاتُ المُجرمين عِبرةٌ لمن عرفَ الله حقَّ المعرفة، وآمنَ بأنه على كل شيءٍ قديرٌ؛ قال - عز وجل -: فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[العنكبوت: 40].
ونهايةُ كل ظالمٍ وإن طالَتْ آتِيةٌ، والنصرُ مع الصبر، والفَرَجُ مع الكربِ، والعُسرُ يعقُبُه يُسرٌ؛ قال - سبحانه -: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[الشرح: 5، 6].
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ، وعنَّا معهم بكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصُر المُستضعفين من المُؤمنين في الشام، اللهم كن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، اللهم احقِن دماءَهم، واشفِ مرضاهم، وفُكَّ أسراهم، واستُر عوراتهم، وآمِن روعاتهم.
اللهم كن على من آذاهم، اللهم زلزِل الأرضَ من تحت أقدامهم، واجعلهم عِبرةً للمُعتبرين، وعِظةً للمُتَّعِظين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم رُدَّهم إليك ردًّا جميلاً.
اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النار.
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك، وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 03-31-2012 09:55 PM

فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 7/5/1433هـ بعنوان: "فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -"، والتي تحدَّث فيها عن فضائل الصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبيان ما وردَ بشأنِها من آياتٍ وأحاديث، وذكر أن دليلَ محبَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - كثرةُ ذِكره والصلاة عليه.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي شرحَ صُدورَ أهل الإسلام بالهُدى، ونكَتَ في قلوب أهل الطُّغيان فلا تعِي الحكمةَ أبدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادةَ من آمنَ به ولم يُشرِك به أحدًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه حبلِ الهُدى وينبوع التُّقَى، صلاةً تبقَى وسلامًا يترَى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحديد: 28].
أيها المسلمون:
لقد اصطفَى الله نبيَّنا وسيدَنا محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لتحمُّل أعباء الرسالة وتبليغ الشريعة؛ فهو النبيُّ المُعظَّم، والرسولُ المُكرَّم، سيدُ ولد آدم بالاتفاق، وخيرُ أهل الأرض على الإطلاق، الجوهرةُ الباهِرة، والدُّرَّةُ الزاهِرة، وواسِطةُ العِقدِ الفاخِرة.
عبدُ الله ورسولُه ونبيُّه، وصفِيُّه ونجِيُّه، ووليُّه ورَضِيُّه، وأمينُه على وحيِه وخِيرتُه من خلقِه، الذي لا يصِحُّ إيمانُ عبدٍ حتى يُؤمنَ برسالته ويشهَدَ بنبوَّته.
سيدُ المُرسلين والمُقدَّم لإمامتهم، وخاتَمُ النبيين وصاحِبُ شفاعتِهم، أولُ من تنشقُّ عنه الأرضُ يوم القيامة، وأولُ شافعٍ يوم القيامة، وأولُ من يجُوزُ الصراطَ من الرُّسُل بأمته يوم القيامة، وأكثرُ الأنبياء تابِعًا يوم القيامة، صاحبُ اللواء المعقود، والمقام المحمود، والحوض المورود، عبدُ الله المُصطفى، ونبيُّه المُجتبَى، ورسولُه المُرتَضَى.
يقول عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: "ما خلقَ الله وما ذرأَ وما بَرَأَ نفسًا أكرمَ عليه من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وما سمِعتُ اللهَ أقسمَ بحياةِ أحدٍ غيره".
قال ابنُ كثيرٍ - رحمه الله تعالى -: "وأقسمَ بحياته، وفي هذا تشريفٌ عظيمٌ، ومقامٌ رفيعٌ، وجاهٌ عريضٌ".
أيها المسلمون:
وإظهارًا لفضله - صلى الله عليه وسلم - وعظيمِ شرفه، وعلوِّ منزلته ومكانته، وإرادةً لتكريمه ورفعِ ذِكرِه، وتنويهًا بمِنَّة رسالته ونعمَةِ بعثتِه، وتذكيرًا بوجوبِ حُبِّه واتَّباعِه؛ شرعَ الله الصلاةَ على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، وجعلَها قُربةً جليلةً وعبادةً عظيمةً، قال - جلَّ في عُلاه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
للخلقِ أُرسِلَ رحمةً ورحيمًا
صلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا
أيها المسلمون:
وينالُ العبدَ من ثوابِ الله وكرامته، ومغفرته وصلاته بسببِ صلاته على أشرف الخلق - صلى الله عليه وسلم - ما يشاءُ اللهُ أن ينالَه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من صلَّى عليَّ واحدةً صلَّى الله عليه عشرًا»؛ أخرجه مسلم.
وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه عشرَ صلوات، وحطَّ عنه عشرَ خطيئات، ورُفِعَت له عشرُ درجَاتٍ»؛ أخرجه أحمد، والنسائي، وابن حبان.
وعن عبد الله بن عامر بن ربيعَة، عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما مِن مُسلمٍ يُصلِّي عليَّ إلا صلَّت عليه الملائِكةُ ما صلَّى عليَّ، فليُقِلَّ العبدُ من ذلك أو ليُكثِر»؛ أخرجه أحمد، وابن ماجه.
أيها المسلمون:
والإكثارُ من الصلاةِ على النبي - صلى الله عليه وسلم - سببٌ لغُفران الخَطايا وزَوال الهُموم والبَلايا؛ فعن أُبَيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسولَ الله! إني أُكثِرُ الصلاةَ عليك، فكم أجعلُ لك من صلاتي؟- أي: دُعائي -. قال: «ما شئتَ». قلتُ: الرُّبُعَ؟ قال: «ما شئتَ، فإن زِدتَ فهو خيرٌ لك». قلتُ: النَّصفَ؟ قال: «ما شئتَ، فإن زِدتَ فهو خيرٌ لك». قلتُ: فالثُّلُثَيْن؟ قال: «ما شئتَ، فإن زِدتَ فهو خيرٌ لك»، قال: أجعلُ لك صلاتي كلُّها؟ قال: «إذًا تُكفَى همَّك، ويُغفَرُ لك ذنبُك»؛ أخرجه أحمد، والترمذي.
أيها المسلمون:
وجاءت السنةُ بتأكيد الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الجُمعة؛ فعن أبي أُمامة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاةُ أمتي تُعرَضُ عليَّ في كل يومِ جُمعة؛ فمن كان أكثرَهم عليَّ صلاةً كان أقربَهم منِّي منزلةً»؛ أخرجه البيهقي. وقال الحافظ ابنُ حجر - رحمه الله تعالى -: "لا بأسَ بإسناده".
وعن أَوسِ بن أَوْسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن من أفضلِ أيامِكم يوم الجُمعة؛ فيه خُلِق آدم، وفيه قُبِض، وفيه النَّفخةُ، وفيه الصَّعقةُ، فأكثِروا عليَّ من الصلاة فيه؛
فإن صلاتَكم معروضةٌ عليَّ». قالوا: يا رسولَ الله! وكيف تُعرَضُ صلاتُنا عليك وقد أرِمتَ؟ - يعني: بلِيتَ -. فقالَ: «إن الله - عزَّ وجلَّ - حرَّم على الأرضِ أجسادَ الأنبياء»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود.

قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سيدُ الأنام، ويوم الجُمعة سيدُ الأيام؛ فللصلاةِ عليه في هذا اليوم مزِيَّةٌ، ومن شُكره وحمده وأداء القليلِ من حقِّه - صلى الله عليه وسلم -: أن نُكثِرَ الصلاةَ عليه في هذا اليوم وليلته". اهـ كلامُه - رحمه الله تعالى - بشيءٍ من التصرُّفِ.
أيها المُسلمون:
ويُستحبُّ استِفتاحُ الدعاءِ بحمد الله وتمجيدِه، والثناءِ عليه، ثم الصلاة على رسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وخَتمُه بهما؛ فعن فَضَالَة بن عُبَيْد قال: سمِعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدعُو في صلاتِه، لم يُمجِّدِ اللهَ، ولم يُصلِّ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عجِلتَ أيها المُصلِّي». وعلَّمَهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم سمِعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يُصلِّي، فمجَّدَ الله وحمِدَه، وصلَّى على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ادعُ تُجَب، وسَل تُعطَ»؛ أخرجه الترمذي.
أيها المسلمون:
والأذانُ من شعائرِ الإسلام ومعالمِه الظاهِرة، وعلاماته البارِزَة، فكان من تشريف الله لنبيِّه - صلى الله عليه وسلم - أن شُرِعَت الصلاةُ عليه عقِبَه؛ فعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سمِعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إذا سمِعتُم المُؤذِّنَ فقولوا مِثلَ ما يقول، ثم صلُّوا عليَّ؛ فإنه من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا، ثم سلُوا اللهَ لي الوسيلةَ، فإنها منزلةٌ في الجنة لا تنبغي إلا لعبدٍ من عباد الله، وأرجُو أن أكون أنا هُو؛ فمن سألَ ليَ الوسيلةَ حلَّت له الشفاعَة»؛ أخرجه مسلم.

أيها المسلمون:
وصلاةُ المؤمنين على النبي - صلى الله عليه وسلم - وسلامُهم عليه معروضةٌ عليه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تجعَلوا بُيوتَكم قُبورًا، ولا تجعَلوا قبري عيدًا، وصلُّوا عليَّ فإن صلاتَكم تبلُغُني حيثُ كُنتم».
وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن للهِ ملائكةً سيَّاحين في الأرض، يُبلِّغوني من أمتي السلامَ»؛ أخرجه أحمد، والنسائي.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من أحدٍ يُسلِّمُ عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ رُوحي حتى أرُدَّ إليه السلامَ»؛ أخرجه أحمدُ، وأبو داود.
ومن الخُرافات التي يعتقِدُها بعضُ العَوامِّ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يمُدُّ يدَه لمن يُسلِّمُ عليه عند قبره، وأن ذلك قد حصَلَ لبعض الأولياء! وكلُّ هذا باطِلٌ وخُرافةٌ لا أصلَ لها، وكلُّ ما قِيلَ من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مدَّ يدَه لبعض من سلَّم عليه. فغيرُ صحيحٍ؛ بل هو وهمٌ وخيالٌ لا أساسَ له من الصِّحَّةِ.
أيها المسلمون:
ومن لوازِمِ محبَّتِه - صلى الله عليه وسلم -: أن تتحرَّك الألسُنُ بالصلاة والسلام عليه كلما ذُكِر، وإن من الجَفَاءِ وقِلَّة الوفاء، ومن التقصير وقِلَّة التوقير: أن يُذكَرَ سيدُ البشَر - صلى الله عليه وسلم -، فتُحجِمَ الألسُنُ عن الصلاة والسلام عليه - صلى الله عليه وسلم -؛ فعن الحُسين بن عليٍّ - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «البخيلُ الذي ذُكِرتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ»؛ أخرجه أحمد، والترمذي.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «رغِمَ أنفُ رجلٍ ذُكِرتُ عنده فلم يُصلِّ عليَّ»؛ أخرجه الترمذي.
أيها المسلمون:
إن المجالِسَ اللاهية، والاجتماعات السَّاهِية، والنوادي اللاغية نقصٌ على أربابها، وحسرةٌ على أصحابها، وقد جاءَ في القوم يجلِسون ولا يذكُرون اللهَ، ولا يُصلُّون على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما جلَسَ قومٌ مجلِسًا لم يذكُرُوا اللهَ فيه، ولم يُصلُّوا على نبيِّه؛ إلا كان عليهم تِرَةٌ، فإن شاءَ عذَّبَهم وإن شاءَ غفرَ لهم»؛ أخرجه الترمذي.
ومعنى: «تِرَةٌ» أي: حسرةٌ ونَدامةٌ.
وعند ابن حبان: «ما قعَدَ قومٌ مقعدًا لا يذكُرون اللهَ فيه، ولا يُصلُّون على النبي؛ إلا كان عليهم حسرةً يوم القيامة، وإن أُدخِلوا الجنةَ للثوابِ».
فطيِّبوا مجالِسَكم بذكر الله - عزَّ وجل -، والتفقُّه في دينه، وتعلُّم سنةِ نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وسيرته وهديهِ وطريقته، وأخلاقه وشمائِلِه، واقتَدوا به واتَّبِعوه؛ تنالُوا عِزَّ الدنيا وشرفَها، وثوابَ الآخرة ونعيمَها.
واحذَروا مجالِسَ الغناءِ والطَّرَب، والشِّيشةِ والدُّخان والمُخدِّرات والمُسكرات، واحذَروا المقاهِي المليئةَ بالمُنكراتِ والمُوبِقات، وفاحِشِ الأفلام والقَنَوات.
أيها المسلمون:
وتُشرعُ الصلاةُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابةً، كلما كُتِبَ اسمُه الشريفُ، ويُكرِّرُ ذلك كلما تكرَّرَ اسمُه - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُسأمُ من تكريرِ ذلك عند تكرُّرِه، وليجتنِبِ المُسلمُ كتابةَ الصلاةِ على النبي - صلى الله عليه وسلم - منقوصة رامِزًا إليها بحرفٍ أو حرفين، كمن يكتُب: (ص)، أو (صلم)، أو (صلعم)؛ لأن ذلك غيرُ لائقٍ بحقِّه - صلى الله عليه وسلم -.

قال الحافظُ العراقيُّ - رحمه الله تعالى -:
واجتنِبِ الرَّمزَ لها والحَذْفَا
منها صلاةً أو سلامًا تُكفَى
فصلَّى الله وسلَّم على نبيِّ الرحمة صلاةً وسلامًا مُمتدَّيْن دائِمَيْن إلى يوم الدين.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه؛ فقد فاز المُستغفِرون.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله حقَّ تُقاته، وسارِعوا إلى مغفرته ورِضوانه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
الصلاةُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - من سُنن الإسلام وشعائرِ أهله، وللصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - صِفاتٌ كثيرةٌ وصِيَغٌ مُتنوِّعة جاءت على لسانه، وبواسِطة بيانِه - صلى الله عليه وسلم -، فالتزِموا بها كما جاءَت في السنة الصحيحة، واحذَروا الصِّيَغَ المُبتدَعَةَ، والصلوات المُخترَعَة التي لا تخلُو من عقيدةٍ فاسِدة، أو غُلُوٍّ مَقيت، واحذَروا ما يفعلُهُ بعضُ الغُلاة الذين رفَعوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فوقَ منزلته ورُتبتِه التي أنزلَه الله إياها.
ومن اعتقدَ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يعلمُ الغيبَ مُطلقًا، أو أن وُجودَه سابِقٌ لهذا العالَم، أو أن الله أولَ ما خلقَ مُحمَّدًا - صلى الله عليه وسلم -، أو أن الكونَ خُلِقَ من نوره، أو لأجله، أو أنه خُلِق من نور العرشِ؛ فقد اعتقَدَ كذِبًا وباطلاً، ومن دعا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - من دون الله أو نادَاه، أو استغاثَ به بعد موته في قضاء حاجته، أو كشفِ كُربَته؛ فقد أتَى شِركًا، وفعلَ غُلُوًّا.
والغُلُوُّ لا يصدُرُ إلا من جاهلٍ قصُرَ فهمُه عن مقاصِدِ الشريعةِ ومعرفةِ دلائلِ نُصُوصها، وجهِلَ حُدودَها التي يجبُ عليه الوقوفُ عندها، أو من صاحبِ هوى تعدَّى ما شُرِع إلى التشبُّه بأقوامٍ أُشرِبوا حبَّ البِدعةِ والاختراعِ في الدين، وتمسَّكوا بأحاديث موضوعةٍ ومكذوبةٍ وضعَها الزَّنادِقةُ كيدًا للإسلام وأهلِه.
فتمسَّكوا بالسُّنَن المرويَّة الصحيحة، واحذَروا البدعَ المُضِلَّة؛ تسعَدوا سعادةَ الدَّارَيْن.
ثم صلُّوا وسلِّموا على نبيِّ الرحمة، وبشير السَّطوةِ والعذاب، الشافعِ المُشفَّعِ يوم الحِسابِ.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خُلفائه الأربعة، أصحاب السُّنَّة المُتَّبعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وجُودِك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصُر عبادكَ الموحِّدين، وانصُر عبادكَ الموحِّدين، وانصُر عبادكَ الموحِّدين، يا رب العالمين.
اللهم أدِم على بلاد الحرمين الشريفين أمنَها ورخاءَها وعِزَّها واستِقرارَها يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيته للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين يا رب العالمين.
اللهم مُنَّ على جميع أوطان المُسلمين بالأمن والاستقرار والسلام يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا في سُورية ناصرًا ومُعينًا، اللهم كُن لإخواننا في سُورية ناصرًا ومُعينًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم، واحفَظ أموالَهم، وادفَع عنهم مكرَ الماكرين، وعُدوانَ الظالمين يا رب العالمين، اللهم اشفِ مرضاهم، اللهم اشفِ مرضاهم، وعافِ جرحاهم، وتقبَّل موتاهم في الشُّهداء، وتقبَّل موتاهم في الشُّهداء، وتقبَّل موتاهم في الشُّهداء يا سميعَ الدعاء.
اللهم عليك بالطُّغاة المُجرمين، اللهم عليك بالطُّغاة المُجرمين الذين قتَلوا الأبرياء، وسفَكوا الدماءَ، وعذَّبوا الشيوخَ والأطفالَ والنساء، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اهزِمهم يا قوي، اللهم زلزِلهم يا قادِر، اللهم أنزِل عليهم عذابَك ورِجزَك وبأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين.
اللهم عجِّل بالفَرَجِ والنصرِ لإخواننا يا رب العالمين.
اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجسِ يهود، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجِزونك يا رب العالمين.
اللهم يا عظيمَ العفوِ، يا عظيمَ العفوِ، يا عظيمَ العفوِ، يا واسِعَ المغفرة، يا واسِعَ المغفرة، يا قريبَ الرحمة، يا قريبَ الرحمة، يا قريبَ الرحمة، هَبْ لنا من لدُنك مغفرةً ورحمةً، وأسعِدنا بتقواك، واجعلنا نخشاك كأننا نراك يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم موتانا، وعافِ مُبتلانا، واشفِ مرضانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على مَن عادانا يا ربَّ العالمين.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرَقٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، اللهم إنا خلقٌ من خلقك، اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنَّا بذنوبِنا فضلَك، اللهم اسقِنا واسقِ المُجدِبين، وفرِّج عنَّا وعن أمة نبيِّنا وسيدِنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أجمعين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُروه على نِعَمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنَعون.

ابوحاتم 04-09-2012 01:05 AM

التوبة قبل فوات الأوان
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 14/5/ 1433هـ بعنوان: "التوبة قبل فوات الأوان"، والتي تحدَّث فيها عن التوبة وحضَّ الناسَ على المُسارعة إلى التوبةِ والعودة إلى الله تعالى قبل الندَم يوم لا ينفعُ حينَها ندَمٌ، ونصحَ من عليه مظلِمة، أو حقٌّ لله أو للعباد بوجوبِ ردِّه قبل أن يُقضَى على العبد بالموتِ.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي آوَى من إلى لُطفِهِ أَوَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له داوَى بإنعامِهِ من يئِسَ أسقامِهِ الدوا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله من اتَّبَعه كان على الهُدى، ومن عصاهُ كان في الغِوايةِ والرَّدَى، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه معالمِ التقوَى وينبوع الصَّفَا، صلاةً تبقَى وسلامًا يترَى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر: 18].
أيها المسلمون:
إنكم في دارٍ ليست للبَقَا، وإن تراخَى العُمرُ وامتدَّ المَدى، الدنيا قنطرةٌ لمن عبَرَ، وعبرةٌ لمن استبصَرَ واعتبَرَ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[آل عمران: 185]، حياةٌ تقودُ إلى المماتِ، لا يُرى في حُشودِها إلا الشتات، وما يُسمَعُ في رُبُوعِها إلا: فلانٌ مرِضَ، وفلانٌ مات.
الموتُ في كل حينٍ ينشُدُ الكَفَنَا
ونحنُ في غفلةٍ عما يُرادُ بنا
فيا مَن يُقصَدُ بالموتِ ويُنحَى
يا مَن أسرفَ في المعاصِي إجرامًا وقُبحًا
يا مَن أسمعَتْه المواعِظُ إرشادًا ونُصحًا! هلا انتهيتَ وارعوَيْتَ، وبذِلتَ وبكَيتَ، وفتحتَ للخير عينيك، وقمتَ للهُدى مشيًا على قدَمَيْك، لتحصُلَ على غايةِ المُراد، وتسعَدَ كلَّ الإسعاد؛ فإن عصيتَ وأذَيتَ، وأعرضتَ وتولَّيتَ، حتى فاجأَكَ الأجلُ وقيل: مَيْت، فستعلمُ يوم الحِسابِ من عصيتَ، وستبكِي دمًا على قُبحِ ما جنَيتَ، يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى[الفجر: 23].
يا هاتِكَ الحُرُماتِ لا تفعل، يا واقِعًا في الفواحِشِ أما تستحِي وتخجَل، يا مُبارِزًا مولاك بالخطايا تمهَّل، يا مُقلِقًا نفسَه فيما يشتهِي ويُريد، الملِكُ يرى والمَلَكُ شهيد، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ق: 18].
يا مشغولًا قلبُهُ بلُبنَى وسُعدَى، يا مُستلِذَّ الرُّقادِ وهذه الرَّكائِبُ تُحدَى، أعلَى قلبِكَ حجابٌ أم غشَا، أم في عينِك كمَهٌ أم عَشَى، يا مَن أقعَدَه الحِرمان، يا مَن أركسَه العِصيان، كم أغلقتَ بابًا على قبيحٍ، كم عارَضتَ عن قومٍ نصيح، كم صلاةٍ تركتَها، ونظرةٍ أصبتَها، وحقوقٍ أضعتَها، ومناهِي أتيتَها، وشُرورٍ نشرتَها، أنسيتَ ساعةَ الاحتِضار حين يثقُلُ منك اللسان، وترتخِي اليَدَان، وتشخَصُ العينان، ويبكِي عليك الأهلُ والجِيران؟!
أنسيتَ ما يحصُلُ للمُحتضَر حال نزعِ رُوحِه، حين يشتدُّ كربُهُ ويظهرُ أنينُه، ويتغيَّرُ لونُه ويعرَقُ جبينُه، وتضربُ شِمالُهُ ويمينُه؟! «لا إله إلا الله، إن للموتِ سكَرَات».
عباد الله:
أين من عاشَرناه كثيرًا وألِفنا، أين من مِلنَا إليه بالوِداد ولاطَفْنا، كم أغمَضْنا من أحبابِنا جَفْنا، كم عزيزٍ دفنَّاه وانصرَفنا، كم قريبٍ أضجعنَاه في اللَّحْدِ وما عطَفْنا؟! فهل رحِمَ الموتُ منا مريضًا لضعفِ حاله، هل تركَ كاسِبًا لأجل أطفاله، هل أمهلَ ذا عِيالٍ من أجل عِيالِهِ؟!
أين من كانوا معَنا في سالِفِ الأيامِ والأعوام؟! أتاهم هادِمُ اللذَّات، وقاطِعُ الشهوات، ومُفرِّقُ الجماعات، فأخلَى منهم المساجِدَ والمشاهِد.
تراهم في بُطونِ الألحادِ سَرعَى، لا يجِدون لما هم فيه دفعًا، ولا يملِكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، ينتظِرون يومًا الأُممُ فيه إلى ربها تُدعَى، والخلائقُ تُحشَرُ إلى الموقفِ وتسعَى، والفرائِصُ ترعُدُ من هولِ ذلك اليومِ والعيونُ تذرِفُ دمعًا، والقلوبُ تتصدَّعُ من الحسابِ صَدعًا.
فيا عبدَ الله:
استدرِك من العُمرِ ذاهِبًا، ودعِ اللهوَ جانِبًا، وقُم في الدُّجَى نادِبًا، وقِف على البابِ تائِبًا؛ فالتوبُ مقبولٌ، وعفوُ الله مأمولٌ، وفضلُهُ مبذولٌ، يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا[الانشقاق: 6- 15].
بارَكَ الله ولكم في القُرآن والسنة، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآيات والبيِّنات والعِظاتِ والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله، فاستغفروه؛ إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيه وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رِضوانه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
الأيام تُطوَى، والأعمارُ تفنَى، والأبدانُ تَبلَى، والسعيدُ من طالَ عُمرهُ وحسُنَ عملُه، والشقيُّ من طالَ عُمرهُ وساءَ عملُه، فاتقوا اللهَ حقَّ تُقاتِه، وسارِعوا إلى مغفرته ومرضاتِه، وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ[الزمر: 54].
ومن كانت عليه فريضةٌ فليقضِها، ومن كانت عليه كفَّارةٌ فليُؤدِّها، ومن كانت له مظلِمةٌ لأخيه من عِرضٍ أو شيءٍ فليتحلَّلْه منه اليوم قبل ألا يكون دينارٌ ولا دِرهَم، إن كان له عملٌ صالحٌ أُخِذَ منه بقدرِ مظلِمَته، وإن لم يكن له حسنات أُخِذَ من سيئات صاحبِهِ فحُمِل عليه.
و«ما حقُّ امرئٍ مُسلمٍ له شيءٌ يُوصِي به يَبيتُ ليلتين إلا ووصيَّتُه مكتوبةٌ عنده»، و«من أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويُدخَل الجنة، فلتأتِهِ منِيَّتُهُ وهو يُؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناسِ الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه».
ثم اعلموا أن الله أمرَكم بأمرٍ بدأَ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِهِ، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون - من جنِّه وإنسِهِ، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن آله الأطهار، وصحابته الأخيار، المهاجرين منهم والأنصار، وعنَّا معهم بمنِّك ورحمتك يا رحيم يا غفَّار.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المُسلمين.
اللهم مُنَّ على جميع أوطان المُسلمين بالأمن والاستقرار، اللهم مُنَّ على جميع أوطان المُسلمين بالأمن والاستقرار، اللهم مُنَّ على جميع أوطان المُسلمين بالأمن والاستقرار، اللهم ادفع عن المُسلمين الفتنَ والمِحَنَ والشرورَ والحروبَ يا رب العالمين، اللهم ادفع عن المُسلمين الفتنَ والمِحَنَ والشرورَ والحروبَ يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا في سُورية ناصرًا ومُعينًا، اللهم كُن لإخواننا في سُورية ناصرًا ومُعينًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا يا رب العالمين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، القتَلَة المُجرمين، اللهم زلزِلِ الأرضَ من تحت أقدامهم، اللهم زلزِلِ الأرضَ من تحت أقدامهم، اللهم دُكَّ عروشَهم، اللهم دُكَّ عروشَهم، وفُلَّ جيوشَهم، وزلزِلِ الأرض من تحت أقدامهم، وألقِ الرُّعبَ في قلوبهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم قاتلِ الكفَرَة الذين يصُدُّون عن سبيلك، ويُعادُون أولياءَك، واجعل عليهم عذابَك ورِجزَك إلهَ الحق يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجِزونك. اللهم مُنَّ على المُسلمين جميعًا بتطهير المسجد الأقصَى، اللهم مُنَّ على المُسلمين جميعًا بتطهير المسجد الأقصَى من رِجسِ يهود يا رب العالمين.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسُوءَ الفتن ما ظهر منها وما بطَنَ عن بلدنا هذا خاصَّةً، وعن سائرِ بلاد المُسلمين عامَّةً يا رب العالمين. اللهم اجعل رِزقنَا رغدًا، اللهم اجعل رِزقنَا رغدًا، ولا تُشمِت بنا أحدًا، ولا تجعل لكافرٍ علينا يدًا. اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على مَن عادانا.
اللهم قِنا شرَّ أهل الفساد، اللهم قِنا شرَّ أهل الفساد، اللهم قِنا شرَّ الحُسّاد، اللهم قِنا شرَّ أهل الضغائنِ والأحقاد، اللهم ادفَع عنا أذاهم وكيدَهم يا رب العِباد.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُروه على نِعَمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنَعون.

ابوحاتم 04-16-2012 10:43 PM

العقوبات الإلهية سنةٌ ماضِية
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 21/5/1433هـ بعنوان: "العقوبات الإلهية سنةٌ ماضِية"، والتي تحدَّث فيها عن العقوبات الإلهية التي أصابَت الأقوام السابقين، مُبيِّنًا أنه لا يسلَمُ من هذه العقوباتِ إلا من تمسَّك بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فبتقوى الله تُستجلَبُ النِّعَم، وبالبُعد عنها تحِلُّ النِّقَم.
أيها المسلمون:
خلقَ الله العبادَ لعبادته وبيَّن لهم طريقَ الهداية من طريق الضلالة، قمن أطاعَه نالَ السعادة، ومن عصاه أعدَّ له عذابًا شديدًا؛ قال - عز وجل -: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ[الحجر: 49، 50].
والله - سبحانه - قويٌّ قديرٌ إذا نزلَ عذابُه لم يرُدَّه أحدٌ، ولهذا حذَّرَ العبادَ من نفسِهِ وغضبِهِ وعذابِهِ فقال: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ[آل عمران: 28].
والعقوبةُ الإلهية سنةٌ من سنن الله التي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل؛ قال - عز وجل -: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ[آل عمران: 137].
وكانت الأممُ السالفةُ تُعذَّبُ باستِئصالِها جميعًا؛ كقومِ نوحٍ وعادٍ وثمود، قال - جلَّ شأنه -: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 45].
ولما بعثَ الله موسى - عليه السلام - رفعَ الله برحمته عذابَ إهلاك الأمةِ جميعًا؛ قال - جلَّ شأنه -: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى[القصص: 43].
قال شيخُ الإسلام - رحمه الله -: "وكان قبل نزول التوراة يُهلِكُ اللهُ المُكذِّبين للرسل بعذابِ الاستِئصال عذابًا عاجِلًا، يُهلِكُ اللهُ به جميعَ المُكذِّبين".
ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - سألَ ربَّه ألا يُهلِكَ أمَّتَه جميعًا؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «سألتُ ربي ألا يُهلِكَ أمَّتي بالسَّنَةِ - أي: بالجُوعِ –، فأعطانيها، وسألتُه ألا يُهلِكَ أمَّتي بالغرق، فأعطانيها، وسألتُه ألا يجعلَ بأسَهم بينهم، فمنعنيها»؛ رواه مسلم.
وعذابُ كلِّ أمةٍ يتفاوتُ بتفاوُت ذنوبهم، وأولُ عذابٍ أنزلَه الله في الأرض هو الغرقُ؛ قال - جلَّ شأنه - عن قومِ نوحٍ: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا[نوح: 25]، وأغرقَ فرعونَ وجنودَه به، فقال: فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ[الأعراف: 136]، ومملكة سبأٍ أهلكَها الله بالماءِ، فقال تعالى: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ[سبأ: 16]، وهدَّدَ الآمنين من مكره بالغرق، فقال: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ[الإسراء: 69].
وأرسلَ على قوم عادٍ ريحًا عاتِيةً، وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ[الحاقة: 6]، وكان - عليه الصلاة والسلام - إذا رأى غَيْمًا أو رِيحًا خشِيَ منها، قالت عائشة - رضي الله عنها -: يا رسول الله! الناسُ إذا رأوا الغَيْمَ فرِحوا رجاءَ أن يكونَ فيه المطرُ، وأراك إذا رأيتَه عُرِفَت في وجهِك الكراهية؟ فقال: «يا عائشة! ما يُؤمِّنُني أن يكونَ فيه عذابٌ، قد عُذِّبَ قومٌ بالريح، وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا[الأحقاف: 24]»؛ متفق عليه.
وأخذَت قومَ صالحٍ صيحةٌ قطَّعَت قلوبَهم: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ[القمر: 31].
وتوعَّد اللهُ المُشركين بمثلِ هذا العذابِ، فقال: وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ[ص: 15].
ولما كفرَ قومُ لُوطٍ وارتكَبُوا المُوبِقَاتِ أرسلَ الله عليهم حِجارةً وقلبَ دِيارَهم، فقال - سبحانه -: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ[هود: 82].
وهمَّ أصحابُ الفيل بهدمِ الكعبة ونقضِ حجارتِهِ فنزلَت عليهم حجارةٌ من السماء: وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ[الفيل: 3، 4].
وقارون علَا وظَلَم فأهانَه في سافلِ الأرض، قال - سبحانه -: فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ[القصص: 81]، وحذَّر العُصاة من هذا العذابِ، فقال: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ[النحل: 45]، «وبينما رجلٌ يمشِي في حُلَّةٍ تُعجِبُه نفسُه مُرجِّلٌ جُمَّتُه؛ إذ خسَفَ الله به فهو يتجلجلُ به إلى يوم القيامة»؛ متفق عليه.
ومن لم يشكُر نعمةَ الأمن والرخاء سلَبَه إياهما: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[النحل: 112].
وعذَّبَ بني إسرائيل بتسليطِ الأعداء عليهم إلى يوم الدين، قال - سبحانه -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ[الأعراف: 167]، وأصابهم الذلُّ والهوان بما اقترفُوا من خَطايا، قال - سبحانه -: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا[آل عمران: 112].
وعذَّبَ الله أقوامًا بمَسْخِ صُورهم إلى غير صُورة البشرة؛ فأصحابُ السبتِ احتالُوا على ما حرَّمَ الله فمسَخَهم قِردةً، قال - سبحانه -: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ[البقرة: 65]، ومسخَ من بني إسرائيل قِرَدةً وخنازيرَ، كما قال - سبحانه -: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ[المائدة: 60].
وسيقعُ في هذه الأمةِ مِثلُ ذلك، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ليَكُونَنَّ من أمَّتِي أقوامٌ يستحِلُّونَ الحِرَ - أي: الزنا -، والحريرَ، والخمرَ، والمعازِفَ، ولينزِلَنَّ أقوامٌ إلى جنبِ علَمٍ - أي: جبَلٍ - يرُوحُ عليهم بسارحَةٍ لهم - أي: لهم غنَمٌ يأتيهم؛ يعني: الفقيرُ لحاجةٍ - فيقولون: ارجِع إلينا غدًا، فيُبيِّتُهم الله ويضعُ العلَمَ - أي: يدُكُّ الجبلَ - ويمسَخُ آخرين قِردةً وخنازيرَ إلى يوم القيامة»؛ رواه البخاري.
و«غضِبَ الله على سِبطٍ من أسباطِ بني إسرائيل فمسخَهم دوابَّ يدُبُّون في الأرض»؛ رواه مسلم.
وأرسلَ على بني إسرائيل الطوفان والجرادَ والقُمَّلَ والضفادِعَ والدمَ، وأحلَّ العداوةَ والبغضاءَ بين اليهود، فلا تجتمِعُ قلوبُهم أبدًا، قال - سبحانه -: وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[المائدة: 64].
والطاعونُ من عذابِ الله، قال - عليه الصلاة والسلام -: «الطاعُون رِجسٌ أُرسِلَ على طائفةٍ من بني إسرائيل، أو على من كان قبلَكم»؛ رواه البخاري.
ورأى النبي - صلى الله عليه وسلم - من قُريشٍ إدبارًا في أول دعوته وآذَوه، فدعَا عليهم وقال: «اللهم سبعٌ كسبعِ يُوسُف - أي: دعا عليهم بالجُوع -، فأخَذَتهم سنةٌ حصَّت كلَّ شيءٍ، حتى أكَلوا الجُلُودَ والميتةَ والجِيَف»؛ رواه البخاري.
وأرسل اللهم ملَكَ الجبال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: «إن شئتَ أن أُطبِقَ عليهم - أي: على قُريشٍ - الأخشبَيْن، وهما جبَلَان عظيمان في مكة»؛ متفق عليه.
ولحِقَ سُراقةُ بنُ مالكٍ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ - رضي الله عنه - وهما في طريقِ الهِجرة ليُعلِمَ قُريشًا عنهما، فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم اصْرَعه». فصرَعَه الفرسُ، ثم قامَت تُحَمحِمُ - أي: قامَت الفرسُ تُخرِجُ صوتًا -؛ رواه البخاري.
وعصَى رجلٌ أمرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فشُلَّت يدُه من ساعته، كان الرجلُ يأكلُ بشِماله، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كُل بيمِينك». قال: لا أستطيعُ. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا استَطَعْتَ، ما منعَه إلا الكِبْرُ». قال الراوي: فما رفعها إلى فيه؛ رواه مسلم.
ودخلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - على أعرابيٍّ مريضٍ، فقال له: «لا بأسَ؛ طهورٌ إن شاءَ الله» - أي: أن المرضَ يُكفِّرُ الخَطَايا -. فقال الأعرابيُّ - مُتسخِّطًا على قدرِ الله -: قلتَ: طهورٌ، كلا بل هي حُمَّى تفُور أو تثُور، على شيخٍ كبيرٍ، تُزيرُه القبور. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فنَعم إذًا»؛ أي: سيكونُ كما ظننتَ أنها ستُميتُك؛ رواه البخاري. وعند الطبراني: فأصبحَ الرجلُ ميِّتًا.
وأسلمَ رجلٌ نصرانيٌّ فكان يكتبُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - كُتبَه، فارتدَّ فأماتَه الله، فدفنُوه فلفَظَته الأرضُ، فحفَروا له ثانيةً فأعمَقُوا فلفَظَته الأرض، فعلوا ذلك ثلاث مراتٍ والأرض تلفظُه فترَكوه؛ رواه البخاري.
ولما قرأَ كِسرى كتابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - مزَّقَه فمزَّقَ الله مُلكَه. قال الزهريُّ - رحمه الله -: "فحسِبتُ أن ابن المُسيَّب قال: فدعا عليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُمزَّقَ كلَّ مُمزَّق"؛ رواه البخاري.
وما أبغضَ أحدٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وتطاوَلَ عليه إلا بترَهُ الله بقَطْعِ ذِكرِه ونَسْلِه: إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ[الكوثر: 3].
ومن نالَ من الصحابةِ - رضي الله عنهم - شيئًا فإن الله ينتقِمُ منه؛ قال القاضي أبو الطيبِ - رحمه الله -: "كنا في مجلسِ النظرِ بجامعِ المنصورِ، فقال شابٌّ: أبو هريرة غيرُ مقبول الحديثِ، فما استتمَّ كلامَه حتى سقَطَت عليه حيَّةٌ عظيمةٌ من سقفِ الجامعِ، فوفدَ الناسُ من أجلها - أي: جلَسُوا فزِعين -، وهربَ الشابُّ منها وهي تتبَعُه، فقيل له: تُب. فقال: تُبتُ، فغابَت الحيَّةُ فلم يُرَ لها أثرٌ".
وقد يُعاقَبُ المرءُ بقطعِ رِزقِه: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا[النساء: 160].
وأعظمُ عقوبةٍ في الدنيا: العقوبةُ في الدين؛ فمن صدَّ عن دين الله أعرضَ الله عنه، قال - سبحانه -: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ[الصف: 5]، ومن نقضَ ميثاقَ ربِّه وأشركَ مع الله غيرَه عُوقِبَ بقَسوَةِ القلبِ، قال - سبحانه -:فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً[المائدة: 13]، ومن دعا غيرَ الله نُزِعَت من قلبه محبةُ الله وأحبَّ ما سِواه، قال - سبحانه -: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ[البقرة: 93].
ومن تعلَّق تميمةً تخلَّى الله عنه ووكلَهُ إلى ما علَّق، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من تعلَّقَ شيئًا وُكِلَ إليه»؛ رواه الترمذي.
وقد يُعاقَبُ المرءُ في دينه بحُبُوطِ عمله؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «قال رجلٌ: واللهِ لا يغفرُ الله لفُلان، فقال الله - عز وجل -: من الذي يتألَّى عليَّ ألا أغفِرَ لفُلان، فإني قد غفرتُ له وأحبطتُ عملَكَ»؛ رواه مسلم.
وبعد، أيها المسلمون:
فعذابُ الله شديدٌ، وعِقابُه سريعٌ، وأخذُهُ أليم، ووعدُه حقٌّ، وبيده مقاليدُ السماوات والأرض، ولا يُعجِزُه شيءٌ، وما يعلمُ جنودَه إلا هو، وأمرُه كلمحِ البصرِ، وإذا عصَى العبدُ ربَّه هانَ عليه، ويستدرِجُه من حيث لا يعلمُ، وهو - سبحانه - لا يخفَى عليه شيءٌ من أعمال خلقِه؛ فمن عمِلَ صالحًا شُكِر، ومن أساءَ عُوقِبَ، والعاقلُ لا يستهينُ بمعاصِي الله فلا يعلمُ أيُّها تُهلِكُه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور: 63].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
قصَّ الله علينا قصصَ من قبلَنا للعِظَة والعِبرَة، وهو بحكمتِهِ وعدله يُظهِرُ للناسِ أعمالَهم في قوالِب وصُورٍ تُناسِبُها؛ فتارةً بقحطٍ وجَدبٍ، وتارةً بعدوٍّ، وتارةً بأمراضٍ عامَّة، وتارةً بهُمومٍ وآلامٍ وغمومٍ، وتارةً بمنعِ بركاتٍ من السماء والأرض وقطع الرِّزق، ومن تابَ رفعَ عنه عذابَه، ومن أنابَ إليه أعلى درجَتَه.
والعقوباتُ سببُها العبدُ نفسُه، قال - سبحانه -: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ[الشورى: 30].
وإذا تأخَّرَ العذابُ قد يكونُ استِدراجًا أو إمهالًا؛ قال - جلَّ شأنه -: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ[الأعراف: 182].
قال القرطبي - رحمه الله -: "تأخيرُ العذابِ ليس للرِّضا بأفعالهم؛ بل سُنَّةُ الله إمهالُ العُصاة مُدَّة".
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُود وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا أو أرادَ المُسلمين بسُوءٍ فأشغله في نفسه، واجعل كيدَه في نحره.
اللهم انصُر المُستضعفين من المُسلمين في الشام، اللهم كن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا.
اللهم عليك بمن آذاهم، اللهم زلزِل الأرضَ من تحت أقدامهم، واجعل كيدَهم في نُحورهم، وألقِ الرُّعبَ في قلوبِهم.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم رُدَّهم إليك ردًّا جميلاً، ووحِّد كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحنُ الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 04-23-2012 06:58 PM

أهمية الإحسان
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 28|5|1433هـ بعنوان: "أهمية الإحسان"، والتي تحدَّث فيها عن الإحسان، وذكرَ العديد من صُوره؛ مثل: الإحسان إلى الله بعبادته ومُراقبته، وإلى الخلق بإعطائهم حقوقهم وعدم ظُلمِهم، وعرَّج على ذكرِ الحُكَّام والولاة وضرورةِ عدلِهم وإحسانِهم إلى رعيَّتهم، وحلَّى خُطبتَه بذكرِ نفائسِ الآثار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته والتابعين.

الخطبة الأولى
الحمد لله عظيم الشان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المُتفضِّل بالعطاء والإحسان، وأشهد أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه سيدُ ولد عدنان، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ أهل التقوى والإيمان.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أيها المُسلمون:
من القواعد الكُبرى لدين الإسلام: الأمرُ بالإحسان بشتَّى صُوره ومُختلَف أشكاله، في جميع الحالات، وكافَّة التصرُّفات، يقول - جل وعلا -: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى[النحل: 90].
فأهلُ الإحسانِ همُ الفائِزون بمحبَّة الله - جل وعلا -، وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[البقرة: 195].
أصحابُ الإحسان هم السُّعداءُ بمعيَّة الله ورعايتِه ولُطفِهِ ورحمته، قال - جل وعلا -: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ[النحل: 128].
وبالجُملة فهم في الدَّارَين مُتنعِّمون، وبرِضا ربِّهم فائِزون، إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ[الذاريات: 15، 16].
إخوة الإسلام:
للإحسانِ مفهومٌ خاصٌّ يشملُ الإحسانَ الذي هو أفضلُ منازلِ العبودية بتنقيةِ المقاصِدِ من شوائبِ الحُظوظ، وذلك بالإخلاصِ الكاملِ لله - جل وعلا -، توجُّهًا وإرادةً ومقصِدًا، ويكونُ بالعمل الصالحِ المبنيِّ على السُّنَّةِ المُحمَّديَّة اعتقادًا وعملًا.
في الحديث الصحيح: «الإحسان: أن تعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكن تراهُ فإنه يراكَ».
معاشِرَ المُسلمين:
والإحسانُ له مفهومٌ عامٌّ يعني الإنعامَ على الغير، والإحسانَ في الأفعال كلِّها بالإتقانِ والإكمال من أعمال الدين أو الدنيا. الإحسان: مُعاملةُ الخلق بالحُسنى في جميع الأقوال والأفعال إلا ما حُرِّم الإحسانُ إليه بحُكم الشرع.
إخوة الإسلام:الإحسانُ في نُصوص الوحيَيْن يُشكِّلُ جوهرَ العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان، فدائرتُه تشملُ النفسَ والرعيَّةَ والأُسرةَ والأقارِبَ، ثم المُجتمعَ والإنسانيَّةَ عامَّةً.
في "الصحيحين": «أن امرأةً بغِيًّا - أي: زانِية - رأَت كلبًا يلهَثُ من العَطَشِ يأكلُ الثَّرَى، فنزَعَت خُفَّها وأدلَتْه في بئرٍ فنزَعَت من الماء ثم سقَت ذلك الكلبَ، فغفَرَ اللهُ لها».
ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيءٍ، فإذا قتلتُم بأحسِنوا القِتلَة، وإذا ذبَحتُم فأحسِنوا الذِّبحَة»؛ رواه مسلم.
بل إن الإحسانَ في دائرته الواسِعة الرَّحْبَة يشملُ المُخالفين في العقيدة، وذلك بالعفو والصفحِ عمَّا يصدُرُ منهم؛ قال - جل وعلا -: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[المائدة: 13].
معاشر المسلمين:
الإحسانُ في الإسلام يشملُ دائرةَ الحياة كلها، وما فيها من نباتٍ أو حيوانٍ أو جمادٍ، وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[الأعراف: 56].
روى المُنذريُّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من قتَلَ عُصفورًا عبَثًا عجَّ إلى الله يوم القيامة يقول: يا ربِّ! إن هذا قتَلَني عبَثًا ولم يقتُلني منفعةً».
أيها المسلمون:
من الإحسان الواجِبِ: مُعاشَرةُ المُسلمين بالحُسنى، ومُعاملتُهم المُعاملةَ الفُضلَى، خاصَّةً الوالدَيْن والأولادَ والزوجَيْن والأقارِب، يقول - جل وعلا -: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[البقرة: 83].
وفي الحديثِ: عن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُخبِرُك بأكرمِ أخلاقِ الدُّنْيا والآخرة: أن تصِل من قطَعَك، وتُعطِي من حرَمَك». وذلك هو الإحسانُ.
من الإحسانِ - أيها المسلم -: العفو عن الحقوق الواجبةِ للإنسان عند غيره، والتنازُل عنها لوجهِ الله - جل وعلا -؛ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[آل عمران: 134].
ومن أعظم الإحسان: بَذلُ المعروفِ بشتَّى صُوره للخلقِ؛ قال - صلى الله عليه وسلم - مُعلِّمُ البشريَّةِ الإحسانَ والرحمةَ -: «كلُّ معروفٍ صدَقَةٌ»؛ متفق عليه.

معاشِرَ المُسلمين:
الإحسانُ معنًى جميلٌ، مطلوبٌ حتى في مجالات اللقاءات والمُحاورات، ويتأكَّدُ ذلك حالَ الخُصومات والمُنازَعات؛ الله - جل وعلا - يقول: وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ[الإسراء: 53]، ويقول - جل وعلا -: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[فصلت: 34].
الإحسانُ مطلوبٌ في التحاوُر بين المُسلِم وأهلِ الكتابِ لتَصِلَ المُجادَلَةُ إلى الثَّمرةِ اليانِعَة والمقاصِد المُبتغَاة؛ وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[العنكبوت: 46].
إخوة الإسلام:
والتجَّار ما أحوَجَهم إلى أن يأخُذوا أنفُسهم بمسْلَكِ الإحسان والرحمة؛ بأن يتَّقوا اللهَ - جل وعلا - في المُسلمين، فلا يُقدِموا على الاستِغلال الذي انتشرَ في هذه الأزمان، ولا على الاحتِكار والمُبالَغَة في الأسعار؛ بل الواجِبُ أن يتذكَّروا أن ربًّا عظيمًا يُراقِبُ نيَّاتهم وأقوالَهم وأفعالَهم؛ فعليهم أن يتذكَّروا أن المُسلمين إخوةٌ، وأن المؤمنَ يحبُّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، فعليهم أن يُحسِنوا إلى الناسِ، فيربَحوا رِبحًا معقولًا يُبارَك لهم فيه، ويحمَدوا العاقبةَ دُنيا وأُخرى؛ قال - جل وعلا -: وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ[القصص: 77].
إن ما حصلَ في بعض بُلدان المُسلمين من أسبابِه العُظمَى: انتشارُ الفقر بسببِ استِغلال التجَّار لحاجة الضُّعفَاء، وحينئذٍ خسِرَ الجميعُ الأمنَ والأمانَ.
نسألُ اللهَ - جل وعلا - أن يمُنَّ على المسلمين بالأمن والأمان.


أيها الفُضلاء:
من الإحسان الواجِبِ أن كلَّ راعٍ - من حاكمٍ، أو وزيرٍ، أو غيرِه - يجبُ عليه أن يقُودَ الرَّعِيَّةَ وَفقَ قاعدة العدلِ والإحسانِ، فيكونُ بهم رحيمًا رفيقًا، للصغير أبًا، وللكبير ابنًا، وللمِثلِ أخًا، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[الشعراء: 215].
قال عُثمان - رضي الله عنه - في وثيقةٍ يجبُ على كل مسؤولٍ أن يجعلَها نُصبَ عينَيْه، قال: "صحِبنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في السَّفَر والحَضَر، كان يعودُ مرضانا، ويتَّبِعُ جنائِزَنا، ويغزُو معنا، ويُواسِينا بالقليل والكثير"؛ رواه أحمد بإسنادٍ صحيحٍ.
بل إنه - عليه الصلاة والسلام - كان يُؤثِرُهم على نفسِه.
إنه الإحسانُ - أيها الراعي - الذي قال عنه عمرُ الفاروقُ - رضي الله عنه - وهو مضرِبُ المثَل الأعلى في العدل والإحسان بالرَّعِيَّة -: "لئن سلَّمَنِيَ اللهُ لأدَعَنَّ أرامِلَ أهلِ العراقِ لا يحتَجْنَ إلى رجُلٍ بعدي أبدًا"؛ رواه البخاري.
وصدَقَ، فهو الذي يدخلُ على عجوزٍ من عجائزِ المدينة، يحمِلُ عنها الكلَّ، ويُوصِلُ إليها الماءَ، وهي لا تعرِفُ من هذا الرجل.
إنه الإحسانُ الذي يحدُوهُ إلى الشَّفَقَة بالرَّعِيَّةِ، ومُراعاة مصالِحِهم، ودفعِ كل ما يشُقُّ عليهم.
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في بيتِي - وكأنه - عليه الصلاة والسلام - وهو الذي يُوحَى إليه علِمَ بعلمِ الله له ما سيحصُلُ في زمانِنا هذا -، فقال: «اللهم من ولِيَ من أمر أُمَّتي شيئًا فشقَّ عليهم فاشقُق عليه، ومن ولِيَ من أمر أمَّتي شيئًا فرَفَقَ بهم فارفُق به»؛ رواه مسلم.
فأين أنتم يا دُعاة الديمقراطية، وأين أنتم يا دُعاة حقوق الإنسان من هذا المثَلِ العظيمِ الذي ضرَبَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لكل والٍ ولكل راعٍ؟!
إنه الإحسانُ الذي يجعلُ المسؤولَ من حاكمٍ ووزيرٍ ومن دونَهم يجتهِدُ وينصَحُ لمن تحت رِعايتِهِ وولايتِهِ؛ يقول معقِلُ بن يسارٍ قال: قال سمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «ما من عبدٍ يسترعِيه اللهُ رعِيَّةً يموتُ يوم يموتُ وهو غاشٌّ لرعِيَّته إلا حرَّمَ الله عليه الجنةَ»؛ متفق عليه. وفي روايةٍ: «فلم يُحِطها بنُصحِهِ لم يجِد رائِحَةَ الجنةِ».
أوَتظنُّ - أيها المسؤول - أن ما تعيشُ فيه من غَمرة الشهوةِ - شهوةِ المسؤولية، وشهوةِ المنصِبِ - أن اللهَ - جل وعلا - تارِكُك؟! بل سيُحاسِبُك حسابًا دقيقًا؛ فأعِدَّ للسؤال جوابًا صوابًا.
إن الإحسانَ المطلوبَ من الراعي: أن يسلَمَ من العُنفِ على الرَّعِيَّةِ، وأن يسلَمَ من القسوة بهم؛ عن عائذِ بن عمروٍ - رضي الله عنه - أنه دخلَ على عُبيد الله بن زِياد، فقال: أيْ بُنيَّ! إني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن شرَّ الرِّعاءِ الحُطَمة»، فإيَّاك أن تكون منهم؛ متفق عليه.
والحُطَمة: العُنفُ في رِعايةِ الإبِلِ.
مثَلٌ ضربَه - صلى الله عليه وسلم - لوالي السُّوءِ القاسِي الذي يظلِمُ رعِيَّتَه ولا يرَقُّ لهم ولا يرحَمُهم، فكيف إذا قسَى بهم بل أدَّى فعلُهُ إلى إزهاقِ أنفُسهم وأموالهم وهَتك أعراضِهم؟!
فالويلُ ثم الويلُ لمن توعَّدَه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.
إنه الإحسانُ - أيُّها الراعي - الذي يجعلُ كلَّ راعٍ يحرِصُ على حاجةِ المُحتاجين، وعلى تحقيق منافعِ المُسلمين؛ عن أبي مريم الأَزديِّ - رضي الله عنه - قال لمُعاوية - وهو الوالي ذلك الوقت -: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من ولَّاه اللهُ شيئًا من أمور المُسلمين فاحتَجَبَ دونَ حاجتهم وخلَّتهم وفقرِهم احتَجَبَ اللهُ دونَ حاجتِهِ وخلَّتِهِ وفقرِهِ يوم القيامة». فاستجابَ مُعاويةُ - وهو من هو في الفضلِ والخيرِ -، استجَابَ لهذا القول على حوائجِ المُسلمين يسمعُ لهم ويقومُ بحاجتهم.
فاتَّقِ الله - أيها المسلم -، التزِم بأوامر الله، وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ[إبراهيم: 42].
أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

ابوحاتم 04-23-2012 06:59 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه ما تعاقبَ ليلٌ ونهارٌ.
أيها المسلمون:
إن من الإحسانِ الواجبِ: الإحسانُ في طاعةِ وليِّ الأمر بالمعروف، ومن ذلك: النصيحةُ الصادقةُ له التي مُبتغاها رِضا الله - جل وعلا -، والتعاوُن معه على الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، والحِرص على وحدة الصفِّ وَفق قاعدة الإسلام على تحقيق التقوى والإيمان.
فنسألُ اللهَ - جل وعلا - أن يجعلَنا وإياكم من أهل الإحسان في كل شيءٍ.
من خيرِ الأعمال وأزكاها عند ربِّنا: الإكثارُ من الصلاةِ والسلامِ على النبيِّ الكريمِ خاصَّةً في مثلِ هذا اليوم.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدِنا ونبيِّنا وحبيبِنا وقُرَّةِ عيوننا: نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِه وأصحابهِ، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أحسِن إلينا في الدنيا والآخرة، اللهم أحسِن إلينا في الدنيا والآخرة، اللهم أحسِن إلينا في الدنيا والآخرة، واجعَلنا مع المُحسنين، اللهم اجعلنا من المُحسنين، اللهم اجعلنا من المُحسنين.
اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ المُسلمين، اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ المُسلمين، اللهم إنك تعلمُ أوضاعَنا، اللهم إنك تعلمُ تسلُّط الأشرار على المُسلمين، اللهم إنه لا يخفَى عليك خافيةٌ، اللهم عليك بأهل الشرِّ والفساد، اللهم عليك بأهل الشرِّ والفساد، اللهم عليك بأهل الفُجورِ والإلحادِ، اللهم عليك بأهل الفُجورِ والإلحادِ، اللهم عليك بمن مكَرَ بالمُسلمين، اللهم عليك بمن مكَرَ بالمُسلمين، اللهم عليك بمن مكَرَ بالمُسلمين.
اللهم إنا أمةَ نبيِّك محمدٍ أفضلِ خلقِك، اللهم مُنَّ علينا بالأمنِ والأمانِ، اللهم مُنَّ علينا بالأمنِ والأمانِ، اللهم ولِّ علينا خِيارَنا، اللهم ولِّ على المُسلمين خيارَهم، اللهم ولِّ عليهم أهلَ التقوى، اللهم ولِّ عليهم أصحابَ التقوى، اللهم ولِّ عليهم أهلَ التقوى، اللهم جنِّبهُم المُفسِدين وأهلَ الشرِّ يا ذا الجلال والإكرامِ.
اللهم اقمَع واكبِت أهل الشر والفساد، اللهم اقمَع واكبِت أهل الشر والفساد، اللهم لا تُقِم لهم قائمةً، اللهم لا تُقِم لهم قائمةً، اللهم واجعلهم في الأذَلِّين، اللهم واجعلهم في الأذَلِّين، اللهم واجعلهم في الأذَلِّين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لما تحبُّه وترضاه، اللهم ارزُقه البِطانةَ الناصِحةَ الصالِحة، اللهم ارزُقه البِطانةَ الناصِحةَ الصالِحة يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم مُنَّ على المُسلمين بالأمن والأمانِ، اللهم مُنَّ عليهم بالأمنِ والأمان في سُوريا، وفي مصر، وفي اليَمن، وفي ليبيا، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم حقِّق للمُسلمين ما يصبُون إليه، اللهم حقِّق لهم ما يصبُون إليه، اللهم حقِّق لهم ما يصبُون إليه، اللهم احبِط مكرَ أعدائهم، اللهم احبِط مكرَ أعدائهم، اللهم احبِط مكرَ أعدائهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم يا غنيُّ يا حميدُ أغِثنا، اللهم إنا بحاجةٍ إلى المَطَرِ، اللهم إنا بحاجةٍ إلى المَطَرِ، اللهم إنا بحاجةٍ إلى المَطَرِ، اللهم فاسقِنا، اللهم فاسقِنا، اللهم فاسقِنا، لا تُؤاخِذنا بأعمالِنا، لا تُؤاخِذنا بجرائِرِنا، اللهم امنُن علينا فأنت أهلُ المنِّ والعطاءِ، اللهم امنُن علينا فأنت أهلُ المنِّ والعطاءِ.
اللهم صلِّ وسلِّم على سيِّدنا ورسولِنا محمدٍ.

ابوحاتم 04-29-2012 11:31 PM

خطورة التكالُب على الدنيا
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 6/6/1433هـ بعنوان: "خطورة التكالُب على الدنيا"، والتي تحدَّث فيها عن الدنيا وفتنتها، وأن التكالُب عليها سببُ كل محنةٍ وفتنةٍ وبليَّةٍ، وعاقبةَ ذلك وخيمةٌ في الآخرة، وذكرَ العديدَ من الآيات والأحاديث المُحذِّرة من الانشغالِ بها والسعي خلفَها.

الخطبة الأولى
الحمد لله المُتفرِّد بالكبرياء والبقاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له صاحبُ العِزَّة والبقاء، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه سيدُ الأنبياء، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ أهل الخيرِ والتُّقَى، اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا ورسولِنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه أهلِ الخير والتُّقَى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله - جل وعلا -؛ فالتقوى سبيلُ الفلاح، وطاعةُ الرحمن أساسُ كل فوزٍ ونجاحٍ.
أيها المُسلمون:
أخطرُ شيءٍ اليوم على المُسلمين: تكالبُهم على الدنيا، والتنافُس فيها تنافُس السِّباع على الفريسة، كل ذلك لِذاتِ الدنيا بدون إيثار الآخرة الباقية، ودون أن يكون هذا الحبُّ لهذه الدنيا الفانِية محكومًا بضوابِط الشرعِ وتوجيهاتِه وتعليماتِه.
ولقد حذَّرَنا ربُّنا - جل وعلا - من هذا المسلَكِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ[فاطر: 5].
المؤمنونُ أصحابُ رسالةٍ سامِيةٍ ينظُرون لهذه الدنيا على أنها مزرعةٌ للآخرة، فيتزوَّدون منها، ويطلبون فضلَ الله - جل وعلا - وفقَ أوامره - عزَّ شأنه -، قلوبُهم مُتعلِّقةٌ بالآخرة والعملِ لها، مع أخذِهم بنصِيبهم من الدنيا بالعمل النافعِ المُثمِر، والتجارةِ المحكومةِ بتقوى الله - جل وعلا -، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الجمعة: 10]، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ[القصص: 77].
إن المُتابِعَ لأحوال الأمة اليوم على مُستوى أفرادها ومُجتمعاتها، وحُكَّامها ومحكوميها يجِدُ أن سببَ الشقاء وأصلَ المصائبِ والعَنَاء عند كثيرٍ من الناس، وأن أساسَ المِحَن والفِتَن: تغليبُ حُبِّ الدنيا، والافتِتانُ بها، وجعلُها محكومةً للتوجُّهاتِ والإراداتِ والمقاصِد، ومُسيطرةً على الأفعالِ والأقوالِ والتصرُّفات، فأصبحَ كثيرٌ يُوالِي على الدُّنيا، ومن أجلها يُعادُون، ولِذاتِها يُقاتِلون، فحينئذٍ وقعَ لهم الشقاءُ بأنواعه، وفقَدوا السعادةَ والفلاحَ، والعِزَّ والنجاحَ.
ومن أجل هذا حذَّرَت نُصوصُ الإسلام من هذا المسلَكِ الوَخيم والمنهجِ الأثيم، قال - جل وعلا -: وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت: 64].
ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يقول في قصةٍ مع الصحابة - رضي الله عنهم -: «فواللهِ ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن أخشَى عليكم أن تُبسَطَ الدنيا عليكم كما بُسِطَت على من كان قبلَكم، فتتنافَسُوها كما تنافَسُوها، فتُهلِكَكم كما أهلكَتهم»؛ متفق عليه.
وفي حديثٍ آخر: أنه - صلى الله عليه وسلم - جلسَ على المنبَر، قال أبو سعيد: وجلسنا حولَه، ثم قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن مما أخافُ عليكم من بعدي: ما يُفتَحُ عليكم من زهرةِ الدنيا وزِينتِها»؛ متفق عليه.
إن الفلاحَ الدنيوي والأخروي إنما يكونُ في تحقيقِ تقوى الله - جل وعلا - وطاعتِه، والحَذَر من مزالِقِ حبِّ الدنيا، أو أن تُؤثِّرَ على تقوى الله - جل وعلا - بنقصٍ أو تفريطٍ يُؤثِّرُ على هذه الحُقوق اللازِمة، إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ[يونس: 7، 8].
وحبيبُنا ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الدنيا حلوةٌ خضِرةٌ، وإن اللهَ مُستخلِفَكم فيها فينظُر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساءَ»؛ رواه مسلم.
وفي حديثٍ آخر: يُخبِرُ - صلى الله عليه وسلم - عن فتنةِ هذه الأمة، فيقول: «إن لكل أمةٍ فتنةٌ، وفتنةُ أمتي: المال».
أي: أنهم يُمتَحَنون بهذه الدنيا؛ هل يجعلونها في طاعة الله - جل وعلا -؟ هل يقومون بواجبِ الله وحقوق رب العالمين، أم يُؤثِرون الدنيا وتُفضِي بهم - والعياذُ بالله - إلى المُحرَّمِ والمذموم؟
أمة الإسلام:
أشدُّ الأمور خطرًا على العبدِ: أن يُزهِقَ أرواحًا بريئةً، أو أن يهتِكَ أعراضًا نقِيَّةً، أو أن يسلبَ حقوقًا مرعِيَّةً، أو أن يقعَ في ظلمٍ للخلقِ بأيِّ وجهٍ من الوجوه من أجلِ دُنيًا فانِية، ومتاعٍ زائلٍ.
من أقبَحِ الأفعالِ: فعلٌ يُبعِدُك عن رِضا ربِّ العالمين من أجلِ دُنيا حقيرةٍ وعَرَضٍ زائلٍ.
من أشنعِ المسالِكِ: مسلَكٌ يُلقِي بأوامرِ الله - جل وعلا - ظِهريًّا من أجل منصِبٍ زائفٍ أو كرسيٍّ لا يبقَى.
قال - صلى الله عليه وسلم - قولًا ينبغي أن يكون نُصبَ أعيُننا: «ما ذِئبان جائِعانِ أُرسِلا في غنَمٍ بأفسَدِ لها من حِرصِ المرء على المالِ والشرفِ لدينه».
فحبُّ المال وحبُّ الشرف إذا لم يكن محكومًا بطاعة الله - جل وعلا - فإنه يكونُ من مُفسِدات الدين - والعياذ بالله -.
إن من يُقدِمُ على إفساد دينه لأجل دُنياه؛ من جمعِ مالٍ، أو حِرصٍ على منصبٍ أو وظيفةٍ، فهو ساعٍ في هلاكِ نفسِهِ عاجِلًا أم آجِلًا، سنَّةٌ إلهيَّةٌ ماضِيةٌ، لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّرُ؛ فقد دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على من كان هذا شأنُه: «تعِسَ عبدُ الدينار، تعِسَ عبدُ الدرهم، تعِسَ عبدُ القَطيفَة والخَميصَة، إن أُعطِيَ رضِي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ»؛ رواه البخاري.
إن حبَّ الدنيا، إن حبَّ الزعامة، إن السعيَ إلى المناصبِ والقيادَة مذمومٌ لذاته، لاسيَّما حينما يُساوِمُ المرءُ فيها على أمرٍ من أمور دينه، أو يتنازَل عن واجبٍ من واجباتِ خالِقِه؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «إنكم ستحرِصون على الإمارة، وستكونُ نَدامةً يوم القيامة»؛ رواه البخاري.
وحينما قال له أبو ذرٍّ: ألا تستعمِلني يا رسول الله؟ قال: «يا أبا ذرٍّ! إنك ضعيفٌ، وإنها أمانةٌ، وإنها يوم القيامة خِزيٌ ونَدامةٌ إلا من أخذَها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها».
اللهم اجعلنا ممن يستمِعُ القولَ فيتَّبِعُ أحسنَه، وممن إذا أذنبَ استغفَر، وإذا أُعطِي شكَر، وإذا ابتُلِي صبَر.
أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
إن الواجبَ على المُسلمين اليوم وهم يُعانون من هذه المِحَن ومن هذه الفِتَن التي لا يعلمُ عاقِبَتها إلا اللهُ - جل وعلا - أن يستدرِكوا أمرَهم، وإن على أهل الحلِّ والعقدِ من حُكَّامٍ وعلماء وأُمراء ووُجهاء في دِيار المُسلمين أن يسعَوا إلى لمِّ الشمل وجمعِ الكلمة بإصلاحِ الوَضعِ وفقَ منهج الإسلام الذي لا تصلُحُ الأمةُ إلا بهِ، وعلى من تحمَّلَ مسؤوليَّةً في بلادِ المُسلمين أن يقودَهم بالإسلام، أن يسيرَ بهم وفقَ الوحيِ المُطهَّر والسيرةِ النبويَّة العظيمةِ، وسيرةِ الخُلفاء الراشدين.
فيجبُ علينا أن نقرأَ هذه السِّيَر، وأن نقتدِيَ بها، وأن نجعلَها حاكِمةً لنا في تصرُّفاتنا وفي مسالِكِنا.
إن الأمورَ لا تصلُح ولن تعيشَ المُجتمعات الإسلامية في رغَدٍ ورفاهِيَةٍ وخيرٍ وصلاحٍ إلا بهذا المنهَجِ، وبتقريبِ أهل الخير والصلاحِ وأصحابِ الإخلاص والصدقِ والنزاهة، قال - صلى الله عليه وسلم -: «ما بعَثَ الله من نبيٍّ ولا استخلَفَ من خليفةٍ إلا كانت له بِطانَتان: بِطانةٌ تأمرُه بالمعروف وتحُضُّه عليه، وبِطانةٌ تأمرُه بالشرِّ وتحضُّه عليه، والمعصومُ من عصمَ اللهُ».
وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا أرادَ الله بالأميرِ خيرًا جعلَ له وزيرَ صدقٍ؛ إن نسِيَ ذكَّرَه، وإن ذكَرَ أعانَه، وإذا أرادَ به غيرَ ذلك جعل له وزيرَ سُوءٍ؛ إن نسِيَ لم يُذكِّره، وإن ذكَرَ لم يُعِنهُ»؛ رواه أبو داود بإسنادٍ جيِّدٍ.
فإن ما أصابَنا في بلاد المُسلمين إنما هو بالبُعد عن المنهجِ الذي خطَّه نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، وسطَّرَه أبو بكرٍ وعمرُ وعُثمانُ وعليٌّ، وغيرُهم من الصحابة ممن تولَّى للمُسلمين ولايةً أو مسؤوليَّةً، ولا يهلَكُ على الله - جل وعلا - إلا هذا، وقال قائلُهم:
نصحتُ قومي بمُنعَرَج اللِّوَى
فما استبَانُوا النُّصحَ إلا في ضُحَى الغَدِ



ويقول الآخرُ:
أمرتُك أمرًا جازِمًا فعصيتَني
فأصبحتَ مسلُوبَ الإمارةِ نادِمًا
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا ورسولِنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الآل والصحابةِ أجمعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أصلِح أحوالنا وأحوال المسلمين.
اللهم اجمع كلمةَ المُسلمين على حبِّ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى تغليبِ سنَّتِه في حياتهم، اللهم وفِّقهم للعمل بالقرآن والسنة، اللهم وفِّقهم للعمل بالقرآن والسنة، اللهم اخذُل من خذَلَ هذا الدينَ، اللهم اخذُل من خذَلَ هذا الدينَ.
اللهم من أراد بمُجتمعاتنا تغريبًا فعليك به، اللهم من أراد بمُجتمعاتنا غيرَ الإسلامِ فعليك به، اللهم من أراد بمُجتمعاتنا سوءً أو معصيةً فعليك به فإنه لا يُعجِزُك.
اللهم وفِّق المُسلمين لكل خيرٍ، اللهم احفَظهم في كل مكانٍ، اللهم احفَظهم في كل مكانٍ، اللهم احفَظهم في كل مكانٍ.
اللهم ارفَع السوءَ والضرَّاء عن إخواننا في سُوريا، وفي فلسطين يا حي يا قيُّوم، اللهم ارفع عنهم هذه السوء، اللهم ارفع عنهم الضُّرَّ، اللهم ارفع عنهم الضُّرَّ، اللهم ارفع عنهم الضُّرَّ، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم عُمَّ بالرخاءِ بلادَ المُسلمين، اللهم اجعلهم في رخاءٍ وسخاءٍ، وفي أمنٍ وإيمانٍ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه ونائِبَه لكل خير، اللهم وفِّقهما لكل خيرٍ، اللهم ارزُقهما البِطانةَ الصالِحة الناصِحةَ يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم احفَظ بلادَ الحرمين، اللهم احفَظها بالإسلام، اللهم احفَظها بالتوحيد والعقيدة الصافِية، اللهم احفَظها بالتوحيد والعقيدة الصافِية يا حيُّ يا قيُّوم، وجميعَ بلاد المُسلمين.
اللهم اغفر للمُسلمين والمُسلِمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النار.
اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا، اللهم اسقِنا، اللهم أغِثنا وأغِثِ المُسلمين، اللهم أغِثنا وأغِثِ المُسلمين، اللهم أغِثنا وأغِث دِيارَ المُسلمين، يا حيُّ يا قيُّوم يا غنيُّ يا حميدُ.
سبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله رب العالمين.

ابوحاتم 05-26-2012 09:52 PM

وجوب شكر النعم
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 13/6/1433هـ بعنوان: "وجوب شكر النعم"، والتي تحدَّث فيها عن النعم الكثيرة التي أنعمَ الله بها على عباده، وأنه أوجبَ عليهم شُكرَها، وإلا زالَت عنهم، أو انقلَبَت عليهم عذابًا، أو مُحقَت بركتُها، أو كانت استِدراجًا.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى.
أيها المسلمون:
معرفةُ الله بأسمائه وصفاته وأفعاله تُوجِبُ محبَّتَه وتعظيمَه وإفرادَه، ومن أسمائِه: الوهَّاب، ومن صفاته: الكرَم، ومن كرمِه: ما امتنَّ به على عباده من النِّعَم، فأسبغَ عليهم منها ما لم يسألُوه إياها، ومنَحَ لهم منها ما سألُوه، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ[إبراهيم: 34].
وفتحَ عليهم نِعَمًا من السماءِ والأرض؛ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا[إبراهيم: 34].
وتذكُّرُ نعَمِ الله داعِيةٌ لشُكرِه وتوحيده وكثرةِ عبادته، وهي من أسبابِ الفَلَاح؛ قال - جل وعلا -: فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[الأعراف: 69].
واللهُ أمرَ رُسُلَه بتذكُّر نعَمِه عليهم، فقال لعيسى بن مريم - عليه السلام -: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ[المائدة: 110].
وقال لنبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم -: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى[الضحى: 6- 8].
وأمر الرُّسُلُ أقوامَهم بتذكُّر أفضالِ الله عليهم؛ فقال هودٌ لقومه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً[الأعراف: 69]، وقال صالحٌ لقومه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا[الأعراف: 74]، وقال شعيبٌ لقومه: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ[الأعراف: 86]، وقال موسى لقومه: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ[إبراهيم: 6].
وقال - سبحانه - مُمتنًّا على الأوسِ والخَزرَج: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا[آل عمران: 103]، وقال لعباده المؤمنين: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ[الأنفال: 26].
ولما نقضَت غزوةُ الأحزابِ قال: اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا[الأحزاب: 9].
وقال نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: «ألم أجِدكم ضُلَّالًا فهداكم الله بي، وكُنتم مُتفرِّقين فألَّفَكم الله بي، وعالةً فأغناكم الله بي»؛ متفق عليه.
وكان الصحابة - رضي الله عنهم - يتذاكَرون نعَمَ الله عليهم، فخرجَ عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسألَهم فقالوا: جلَسنا نذكُر الله ونحمدُه على ما هدانا للإسلام ومنَّ به علينا؛ رواه مسلم.
وجلسَ الفُضيلُ وابنُ عُيينة - رحمهما الله - يتَذَاكران النِّعَمَ إلى الصباح.
والله - سبحانه - بفضله نوَّعَ النِّعَمَ لعباده؛ منها ما هو نازلٌ من السماء، ومنها ما هو خارجٌ من الأرض، ومنها ما هو في جوفِها، والبحارُ المُتلاطِمةُ الأمواجِ مُذلَّلةٌ للإنسان، الفُلكُ تمخُرُ في أعلاها، وما في بطنِها من الصيدِ والطعام بما فيه مَيتَتُه حلالٌ لهم، وجواهِرُها من اللؤلؤ والمَرجان ونفائِسَ أُخَر حِليَةٌ لهم ومال.
والنجومُ والكواكبُ من فوقِهم منها الجواري ومنها الكُنَّس، وفيها الوهَّاج وفيها ما هو زينة، منها ما يُبصَر ومنها ما لا يُبصَر، وما بين السماء والأرض رياحٌ بُشرى بين يدَي رحمته.
والزمانُ خُلِق ودُبِّر؛ فلا نهار سرمَدٌ ولا ليل بَهِيم؛ بل هذا وذاك.
والأرض مدَّها فلا تضيقُ بالخلق، وبالجبال أرساها وأنبتَ فيها من كل زوجٍ بهيجٍ.
والإنسان خلقَه وركَّبَه وفي أحسن صُورةٍ صوَّرَه، وأمرَه بالتفكُّر بما في جسدِه من الآيات، وقال لعباده: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ[لقمان: 11].
بل كل ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما فهي هبةٌ من الله للإنسان يستعينُ بها على طاعته، قال - سبحانه -: وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ[الجاثية: 13].
ولا تتمُّ على العبد النِّعَمُ إلا بالدين: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3].
ومن المِنَّة على هذه الأمة أن بعَثَ فيها أفضلَ رُسُله، قال - سبحانه -: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ[آل عمران: 164].
وأمرَ الله بالفرح بنعمة نُزول القرآن: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِقال ابن عبَّاس: "أي: بالقرآن" وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا[يونس: 58].
ولعظيم منَّة الهداية أمرَ الله عبادَه أن يسألُوه الثباتَ عليها والزيادة في كل ركعةٍ من صلاتهم، فكان من دُعائِهم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ[الفاتحة: 6].
ومن رأى أن الله هداه وأدخَلَه الجنةَ، وأضلَّ غيرَه وأدخلَه النار عظُمَت نعمةُ الله عليه في قلبه؛ قال تعالى إخبارًا عن المؤمن الذي رأى قرينَه في النار: تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ[الصافات: 56، 57].
والعافيةُ أعظمُ نعمةٍ دُنيوية؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «سلُوا اللهَ العافِيَة» - أي: السلامةَ من الآفات والمصائب والشرور - «فإنه لم يُعطَ عبدٌ شيئًا أفضلُ من العافِية»؛ رواه أحمد.
والفراغُ كالصحةِ في قدر النعمة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «نِعمتان غبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصحةُ والفراغُ»؛ رواه البخاري.
وكرمُ الله وافِرٌ وعطاؤُه جَزيل، ونِعمُه تزيدُ بالشُّكر، ومن شُكرِها الإقرارُ بأنها منَ الله؛ وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ[النحل: 53].
وكان - عليه الصلاة والسلام - يقول في صباحه ومسائه: «اللهم ما أصبحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك فمنك وحدَكَ لا شريكَ لك، فلك الحمدُ ولك الشُّكرُ»؛ رواه أبو داود.
ومن شُكرِها: حمدُ الله عليها؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن اللهَ ليرضَى عن العبد أن يأكلَ الأكلَةَ فيحمَده عليها، أو يشربَ الشربةَ فيحمدَه عليها»؛ رواه مسلم.
والتحدُّثُ بها من شُكرها؛ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ[الضحى: 11]، فمن شُكر نعمة الهداية: الفرحُ بأن الله هداه وثبَّتَه، ومن شُكر نعمة المال: التحدُّثُ بفضل الله عليك به، والتواضُع لعباده والإنفاق مما أعطاك الله ابتغاءَ وجهه، والمُعافَى يتحدَّثُ بعافيةِ الله له، ويُعمِلُ جوارِحَه في طاعته.
وتذكُّر المحرومين من النِّعَم يزيدُ من قدرها، وكان - عليه الصلاة والسلام - إذا أوَى إلى فراشه يحمدُ ربَّه على النِّعَم، ويتذكَّرُ من حُرِمَها؛ قالت عائشة - رضي الله عنها -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوَى إلى فراشِه قال: «الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافِيَ له ولا مُؤوِي»؛ رواه مسلم.
والنظرُ إلى من هو دونَه في الدنيا يفتَحُ بابَ القناعة؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «انظُروا إلى من هو أسفلَ منكم، ولا تنظُروا إلى من هو فوقَكم؛ فهو أجدرُ ألا تزدَروا نعمةَ الله عليكم»؛ متفق عليه.
والطاعةُ تحفظُ النعمةَ وتزيدُها، ومن أسباب دوامِها: دعاء الله ليُبقِيَها، ومن دُعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم إني أعوذُ بك من زوال نعمَتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتِك، وجميع سخَطك»؛ رواه مسلم.
وبقاءُ النعمةِ مقرونٌ بالشُّكر، فإن لم تُشكَر زالَت؛ قال - سبحانه -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم: 7].
والمعاصِي تدفَعُ حُلولَ نعمةٍ نازِلَة، أو ترفَعُ نعمةً حادِثة، وقد لا ترفَعُها ولكن تُنزَعُ البركةُ منها، أو تكون عذابًا لصاحبها، وما أذنبَ عبدٌ ذنبًا إلا زالَت عنه نعمةٌ بحسب ذلك الذنبِ؛ قال ابنُ القيم - رحمه الله -: "المعاصِي نارُ النعَم تأكلُها كما تأكُلُ النارُ الحَطَبَ".
وإذا رأيتَ نعَمَه سابِغةً عليك وأنت تعصِيه، فاحذَره فقد يكون استِدراجًا لك؛ قال - سبحانه -: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ[الأعراف: 182، 183]. قال - عليه الصلاة والسلام -: «إذا رأيتَ اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا على معاصِيه ما يُحبُّ فإنما هو استِدراجٌ»، ثم تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ[الأنعام: 44]؛ رواه أحمد.
وإذا حلَّت بك نعمةٌ وإن قلَّت فكن حذِرًا منها فقد تكونُ سببَ هلاكِك إذا لم تُشكَر؛ في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلَت قطَرَاتٌ من السماء قال - عليه الصلاة والسلام -: «قال الله تعالى: أصبحَ من عبادي مُؤمنٌ بي وكافِر»؛ متفق عليه.
وكل نعمةٍ وإن كانت يسيرةً سيُسألُ عنها العبدُ هل شكرَها أم جحَدَها؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن أولَ ما يُسألُ عنه العبدُ يوم القيامةِ - أي: من النِّعَم -: أن يُقال له: ألم نُصِحَّ لك جسمَك ونرويكَ من الماء البارِد؟»؛ رواه الترمذي.
والنِّعَمُ بذاتِها لا تُقرِّبُ من الله، وإنما يُستعانُ بها على طاعته؛ قال - سبحانه -: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ[سبأ: 37].
وقد يُعذَّبُ المرءُ بالنعمةِ إذا لم يتَّقِ اللهَ فيها؛ قال - سبحانه -: فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ[التوبة: 55].
قال الحسن - رحمه الله -: "إن الله ليُمتِّعُ العبدَ بالنعمةِ ما شاءَ، فإذا لم يشكُر ربَّه عليها قلَبَها عذابًا".
وبعدُ، أيها المسلمون:
فاللهُ وهَّابٌ كريمٌ يدُه ملأى سحَّاءُ الليل والنهار، وهو عليمٌ حكيمٌ يُعطِي كلَّ عبدٍ ما يُلائِمُه من النِّعَم؛ قال - سبحانه -: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ[الشورى: 27].
وهو - سبحانه - لطيفٌ رحيمٌ يحرمُ العبدَ نعمةً يتمنَّاها، أو يُنزِلُ عليه نعمةً في لباسِ مُصيبةٍ ليرفَعَ درجتَه، والمؤمنُ يتقلَّبُ في حياته بين الشُّكرِ والرضا، والصبر والاستغفار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ[لقمان: 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
جُبِلَت القلوب على حبِّ من أحسنَ إليها، ولا أحدَ أعظمُ إحسانًا من الله؛ فالمخلوقُ يتقلَّبُ في جميع أحواله في نعَمِ الله، ومن استعانَ بها على معصية الله فقد جحدَها، ومع كثرة النِّعَم وتوارُدِها على العبادِ قلَّ من يشكُرُها؛ قال - سبحانه -: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ[سبأ: 13].
والمُفلِحُ من تذكَّر نعَمَ الله عليه في القليل والكثير وشكرَها.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم رُدَّهم إليك ردًّا جميلاً، واصرِف عنهم الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطَن.
اللهم من أرادنا أو أرادَ المُسلمين بسُوءٍ فأشغله في نفسه، واجعل كيدَه في نحره.
اللهم أنْجِ المُستضعفين من المُسلمين في الشام، اللهم كن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا.
اللهم عليك بمن آذاهم، اللهم زلزِل الأرضَ من تحت أقدامهم، وأنزِل عليهم رِجسَك وغضبَك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك وتحكيم شرعك يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألُك الإخلاصَ في القول والعمل.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحنُ الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].


عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 05-26-2012 09:58 PM

أثر الشيطان في إذكاء الشحناء والبغضاء
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 20/6/1433هـ بعنوان: "أثر الشيطان في إذكاء الشحناء والبغضاء"، والتي تحدَّث فيها عن وساوس الشيطان للمؤمنين وإيقاعه بينهم، وأن ذلك دأبَه لا يفتُر عنه ليل نهار، وذكَّر بضرورة توخِّي الحذر من تلك الوساوس التي مصدرُها شياطين الإنس والجن؛ من إعلامٍ مقروءٍ ومسموعٍ ومرئيٍّ يُوغِرُ الصدور، وينشر العداء بين الأحِبَّة، ولم ينسَ تعامل دولتي الإسلام العظيمتين مع الأحداث الراهِنة بحكمةٍ وروِيَّةٍ.

الخطبة الأولى
الحمد لله أمرَنا بالتعاوُن والتناصُر، ونهانا عن التنازُع والتدابُر، والتقاطُع والتناحُر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يعلمُ الخفِيَّات والسرائر، ولا يخفَى عليه مكنُون الضمائر، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله من اعتصَمَ بسنَّته نجا من المخاطِرِ والمعاثِر، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا دائِمَين مُمتدَّيْن إلى يوم الدين. أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وأطيعُوه؛ فطاعتُه أجلُّ نعمة، وتقواهُ أعظمُ عِصمة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
تجمعُ أهلَ الإسلام أواخٍ وكِيدة، وعلائِقُ مُتَّصلة، وذِمامٌ وقُربةٌ، والشيطانُ يبغِي التحريشَ والوقيعة، ويُذكِي نارَ الفُرقة والقَطيعة، ويُثيرُ نقعَ الفتنة والحُروب، ويبُثُّ أحقادَ الأعداء وإحَن البُعَداء بين القرابة والأحِبَّة.
فعن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الشيطانَ قد أيِسَ أن يعبُدَه المُصلُّون في جزيرةِ العربِ، ولكن في التحريشِ بينهم»؛ أخرجه مسلم.
وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن إبليسَ يضعُ عرشَه على الماء، ثم يبعثُ سراياه، فأدناهُم منه منزلةً أعظمُهم فتنةً، يجِيءُ أحدُهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا، فيقولُ: ما صنعتَ شيئًا، ثم يجِيءُ أحدُهم فيقول: ما تركتُه حتى فرَّقتُ بينه وبين امرأته، فيُدنيه منه ويقول: نِعمَ أنت»؛ أخرجه مسلم.
ولا يُفرِّقُ بين الأحِبَّة إلا مردَةُ الفساد الأشرارُ الفُجَّار؛ فعن أسماء بنت يزيد الأنصارية - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُخبِركم بخِيارِكم؟». قالوا: بلى. قال: «فخِيَارُكم: الذين إذا رُاُوا ذُكِر الله تعالى. ألا أُخبِرُكم بشِرارِكم؟». قالوا: بلى. قال: «فشِرارُكم: المُفسِدون بين الأحِبَّة، المشَّاءون بالنميمة، الباغُون البُرَآء العَنَت»؛ أخرجه أحمد.
وعدوُّ الأمة يرُومُ المكيدة، وينصِبُ الشَّرَك، ويسعَى إلى نشر الضغائِنِ والإحَن والعداوات بين البلاد المُسلِمة والشعوبِ المؤمنة، حتى تكون عَجاجَةً لا تسكُن، وغَياغةً لا تنقشِعُ، وثائرةً لا تهدَأ، وفوضًى لا تزول، وصِدامًا لا يحُول، وليكون اختلافُ الأمة وافتراقُها مساغًا إلى ما يرُوم من توسيعِ نُفوذِه، وبلاغًا إلى ما يُحاوِلُه من فرضِ سيطرته ووجُوده.
أيها المسلمون:
ولن تكون أوطانُنا آمِنةً، نواحِينا محروسةً، وأحوالُنا مُنتظمةً إلا باجتماعنا وتحادنا وائتلافِنا، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 103]، وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[الأنفال: 46].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تَقاطَعوا، ولا تَدابَروا، ولا تَباغَضوا، ولا تَحاسَدوا، وكونوا عبادَ الله إخوانًا كما أمرَكم الله»؛ أخرجه مسلم.
أيها المسلمون:
كم رأينا من لقاءاتٍ وحواراتٍ عبر وسائل الإعلام مِلؤُها السِّباب والشتمُ والقذفُ والطعنُ والتحريضُ والتخوينُ والتشويه، والافتراءُ والازدِراءُ والاعتِداءُ، وكم قرأنا من مقالاتٍ وكتاباتٍ ورُدودٍ تستطيلُ في أعراض المُسلمين، وتُعمِّقُ الفُرقَة، وتُبدِّدُ الشملَ، وتُفرِّقُ الجمعَ، وتُمزِّقُ الأُلفَة، وتُباعِدُ بين القلوبِ، ولا تُحقِّقُ مصلحةً ولا إصلاحًا.
وكم شاهَدنا في المجالس والمُنتديات والقنوات من مُواجهاتٍ وصِراعاتٍ وسِجالاتٍ وإثارةٍ للعصبيَّاتِ المذهبيَّة والعِرقيَّة والقبليَّة والحِزبيَّة ما يُمِضُّ ويُمرِض. مصالحُ شخصية، وتحزُّبات مَقيتة، وأصواتٌ تُشترى، وذِممٌ تُباع، وقنواتٌ مأجورة لا تكُفُّ عن أساليب الإثارة والتهييج، وإلهابِ مشاعرِ البُسطاء، واللعب بعواطِف الدَّهماء والغَوغاء.
فاتقوا الله - أيها المسلمون -، وكفُّوا عن تلك المُمارسات المقبوحة، والأساليب المفضُوحة، والولاءات الشخصية المَقيتة التي جاء في الشرع ذمُّها، وبانَ في العقلِ سُخفُها، وتقرَّرَ في الطبعِ طَيشُها، وثبَتَ في الواقع خطرُها وضررُها.
واعلموا أن دينَكم وأوطانَكم وأمنَكم واستقرارَكم ووحدَتَكم أمانةٌ في أعناقكم، فارعَوها حقَّ رعايتها، وكونوا دعاةَ أمنٍ وسلامٍ، وأُلفةٍ ومحبَّةٍ ووِئام، كونوا شُرفاء أوفياء، وشُهداء أُمناء، ودُعاةَ إخاءٍ وصفاءٍ.
وإننا لنحمَدُ الله تعالى كثيرًا، ونُثنِي عليه كثيرًا، وقد خابَ العدوُّ في مُراده، وأخفقَ في مغزاه، وحُرِم نَيل مُبتغاه يوم سعَى للوقيعة والقَطيعة بين البلَدَين العظيمين: المملكة العربية السعودية دولةِ الإسلام والسلام ودوحةِ الأمنِ والأمانِ والإيمانِ، ومصر أرضِ العُروبة والشُّموخِ والإباء والسلام والإسلام، فخيَّبَ الله سعيَه، وردَّ عليه كيدَه، بفضله ومنَّته - سبحانه وتعالى -، ثم بحكمةِ خادمِ الحرمين الشريفين ووليِّ عهده وحكمةِ أهلِنا في مصر العزيزة.
وشعبُ المملكة العربية السعودية وشعبُ مصر الحبيبة شعبٌ واحدٌ، ولن يُفرِّقَهما عبَثُ حاسِد، أو خُبثُ حاقِد، أو إنكارُ جاحِد.
وإن رغِمَت أنوفٌ من أُناسٍ
فقل: يا ربِّ! لا تُرغِمْ سِواها
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه؛ إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله حرَّم البغيَ والغدرَ والاعتِداء، أحمدُه في السرَّاء والضرَّاء، والشدَّة والرَّخاء، والنعمةِ والبلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا يخفَى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله خاتمُ الأنبياء وسيدُ الأولياء، وإمامُ الأتقياء والأصفياء، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم على ذلك السبيل وسائر المُنتمين إلى ذلك القَبِيل، وسلَّم تسليمًا مزيدًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
بالتقوى تستنيرُ الدُّروب، وبالصبرِ تنفرِجُ الكُرُوب، فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ[هود: 49].
أيها المسلمون:
من أعظم الجِنايةِ والإجرام: انتِهاكُ حُرمة المُسلِم، وإن من الأفعال المُستنكَرة المُستقبَحة الخارجةِ عن تعاليم الإسلام وأعرافِ العُرَب الأُصَلاء: ما قام به التنظيمُ الإرهابيُّ الهمَجيُّ المُتخبِّطُ في أفكاره وأفعاله من احتجاز الدبلوماسي السعودي عبد الله الخالدي ومُصادرة حريَّته وترويعه، وجعله وسيلةً لابتِزاز بلاد الحرمين الشريفين، والتي وقفت موقفًا أمنيًّا صارِمًا ضدَّ هذه الأفعال العابِثة، والتي لا يقومُ بها إلا غادِرٌ خائنٌ لدينه وأمَّته وعُروبته.
وإننا من منبر سيد الخلقِ رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - نبيِّ الرحمة القائلِ: «لا يحِلُّ لمُسلمٍ أن يُروِّعَ مُسلِمًا»، والقائلِ: «كل المُسلمِ على المُسلم حرامٌ: دمُه ومالُه وعِرضُه».
نُناشِدُ الخاطِفين أن يثُوبوا إلى رُشدِهم، ويُطلِقُوا سراحَ المُختطَفِ البريء، ويُفرِجوا عنه بلا مُساوَمةٍ ولا شُروطٍ، ويكُفُّوا عن تلك المُمارَسَات الشاذَّة التي شوَّهَت جمالَ الإسلام ونقاءَه، وبهاءَه وسناءَه.
واللهَ نسأل أن يُفرِّجَ كُربَتَه، ويفُكَّ أسرَه، ويرُدَّه إلى أهلِه ووطنِه، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21].
ثم اعلموا أن الله أمرَ بأمرٍ بدأَ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِهِ، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون - من جنِّه وإنسِهِ، فقال قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ بشير الرحمة والثواب، ونذير السَّطوةِ والعقابِ، الشافعِ المُشفَّعِ يوم الحِساب، اللهم وارضَ عن خلفائه الأربعة أصحاب السنة المُتَّبَعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة أجمعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وفضلِك وجُودِك وإحسانِك يا أرحمَ الراحِمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتَنا وُولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين ووليَّ عهده يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا في سُورية ناصرًا ومُعينًا، اللهم كُن لإخواننا في سُورية ناصرًا ومُعينًا، اللهم كُن لإخواننا في سُورية ناصرًا ومُعينًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا.
اللهم عليك بالقتَلَة المُجرمين، اللهم عليك بالقتَلَة المُجرمين، ألفافِ البدعةِ والضلالةِ، ألفافِ البدعةِ والضلالةِ، وأعلامِ الخُرافةِ والدَّجَل والخِيانة، اللهم فُلَّ جيوشَهم، اللهم فُلَّ جيوشَهم، اللهم فُلَّ جيوشَهم، ودُكَّ عروشَهم، ودمِّرهم تدميرًا، ولا تجعل لهم في الأرض وليًّا ولا نصيرًا.
اللهم عجِّل بالفرَج والنصر لإخواننا المُستضعفين في سُورية يا رب العالمين، اللهم طالَ ظُلمُهم، اللهم طالَ ظُلمُهم، اللهم طالَ ظُلمُهم، وعظُم قتلُهم، واشتدَّ قتلُهم وحِصارُهم، وانقطَعَ من الخلقِ أملُهم، فانتصِر لهم يا رب العالمين، انتصر لهم يا الله، انتصر لهم يا سميع الدعاء، وأهلِك عدوَّهم عاجِلًا غيرَ آجِلٍ يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضاهم، وعافِ جرحاهم، وتقبَّل موتاهم في الشهداء يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين، الصهاينة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجِزونك.
اللهم طهِّر المسجد الأقصَى من رِجسِ يهود، اللهم انصر إخواننا في فلسطين على اليهود الغاصِبين يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحَم موتانا، وفُكَّ أسرانا، وأصلِح أولادَنا وشبابَنا وفتياتِنا، وانصُرنا على مَن عادانا يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُروه على نِعَمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنَعون.

ابوحاتم 05-26-2012 10:03 PM

آفة القول ترك العدل
ألقى فضيلة الشيخ د. صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 27/6/1433هـ بعنوان: "آفة القول ترك العدل"، والتي تحدَّث فيها عن العدلِ والإنصاف، وعدم التخوين والسبِّ والقذفِ بين المُسلمين، ووجوب العفو والصفح والتِماس الأعذار، وذكرَ بعضَ الآثار على ذلك من أقوال السلفِ الصالح - رحمهم الله تعالى -.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله بارئ النَّسَم، ومُحيِي الرِّمَم، ومُجزِل القِسَم، أحمده حمدًا يُوافِي ما تزايَد من النعم، وأشكره على ما أولَى من الفضل والكرم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تعصِمُ من الفتنِ وتدفعُ النقَم، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمةً للعالمين من عُربٍ وعجَم، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تبقى وسلامًا يترَى إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فقد نجا من اتَّقَى، وضلَّ من قادَه الهوَى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
كلامُ المرء يُترجِمُ عن مجهولِه، ويُبرهِنُ عن محصولِه، واللسانُ معيارٌ أطاشَه الجهلُ، وأرجحَه العقلُ، وآفةُ القولِ: تركُ العدلِ.
ولَلصَّمتُ خيرٌ من كلامٍ بمأثَمٍ
فكُن صامِتًا تسلَم وإن قلتَ فاعدِلِ
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى[الأنعام: 152]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المائدة: 8].
فاعدِل وإن أبغَضتَ، وأنصِف وإن سخِطتَ، ولا تكن ممن إذا غابَ عابَ، وإذا حضَرَ اغتابَ، وأكثرَ السِّبَابَ، واشتدَّ في العِتاب.
والجميلُ المُصانُ من أصلحَ من لسانه، وأقصرَ من عَنانه، وألزَمَ طريقَ الحقِّ مِقوَلَه، ولم يُعوِّدِ الخَطَلَ مِفصَلَه، ولم يحمِلْه البُغضُ على الكذبِ والافتِراء، ولم يدفَعه السُّخطُ على البُهتان والاعتِداء.
أيها المُسلمون:
والاستِطالةُ لسانُ الجهالة، والبُهتانُ ملاذُ السُّفهاء، والتشفِّي بالكذبِ دأْبُ الفَسَقة، والإساءةُ بالتُّهَم المُفتَعَلة والقوادِحِ المُخترَعَة سبيل أهلِ الفُجُورِ، ومن انقادَ للطبعِ اللئيمِ، وغلبَ عليه الخُلُقُ الذَّميم استطالَ في أعراضِ مُناوِئيهِ، واستباحَ الكذِبَ والزُّورَ لإقصاءِ مُنافِسِيهِ، وتصغيرِ أقرانِهِ ومُخالفِيه، ووسَمَ عدوُّهَ بقبائحَ يخترِعُها عليه، وفضائحَ ينسِبُها إليه، وربما سلَّطَ عليه من يُشهِرُ سيفَ القدحِ والقَذْعِ والنَّقدِ ضدَّه، لا يستشعِرُ إقساطًا، ولا يتَّقِي إشطاطًا.
أيها المسلمون:
ومن لاحَ غدرُه، وظهرَ مكرُه، أجزلَ المدحَ لمُقرِّبِه ومُعطِيه، وأسدلَ السَّترَ على مقابِحِه ومساوِيه، فإذا انقطَعَ العطاءُ انقطَعَ الوفاءُ؛ فانقَلَبَ المدحُ قدحًا، والسَّترُ فضحًا، والثناءُ طعنًا، والدعاءُ لعنًا، فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ[التوبة: 58].

أيها المسلمون:
ويكثُرُ القدحُ بين الأقرانِ والنُّظَراء الذين تجمعُهم وظيفةٌ، أو مهنةٌ، أو صنعةٌ، أو دائرةٌ، فيتغايَرون، ويتحاسَدون، ويستطيلُ بعضُهم في عِرضِ بعضٍ بالذمِّ والسبِّ والتشويهِ والتحقيرِ والتصغيرِ لأدني خلافٍ أو نزاعٍ، ولا يسلَمُ من ذلك إلا من حجَبَتْه التقوى، ومنعَه العقلُ.
وكلامُ الأقرانِ بعضُهم في بعضٍ يُطوَى ولا يُروَى، ويُدفَنُ ولا يُنشَر؛ لأنه يصدُرُ في حال الغضبِ والحسَدِ، وتحمِلُ عليه العداوةُ والمُنافَسةُ، وتُذكِيه الوحشةُ والغَيرةُ، وتدخُلُه المُبالغةُ والزيادة، والكذبُ والافتراءُ والكَيد.
قال ابن عبد البر - رحمه الله تعالى -: "واللهِ لقد تجاوَزَ الناسُ الحدَّ في الغِيبةِ والذمِّ، فلم يقنَعوا بذمِّ العامَّة دون الخاصَّة، ولا بذمِّ الجُهَّال دون العُلماء، وهذا كلُّه يحمِلُ عليه الجهلُ والحسَدُ".
وقال الإمام الذهبيُّ - رحمه الله تعالى -: "كلامُ الأقرانِ بعضُهم في بعضٍ لا يُؤبَاهُ به، لاسيَّما إذا لاحَ لك أنه لعداوةٍ أو لمذهبٍ أو لحسدٍ، وما ينجُو منه إلا من عصَمَه الله".
وقال - رحمه الله تعالى -: "فلا يُعتدُّ غالبًا بكلامِ الأقرانِ لاسيَّما إذا كانت بينهما مُنافَسَة".
فالحَذَرَ الحَذَرَ من مسلَكٍ وخيمٍ يُذِلُّ القدَم، ويُورِثُ النَّدَم، والحَذَرَ الحَذَرَ - يا عباد الله - من الانشغالِ بنشرِ المعايِبِ، وإظهارِ المثالِبِ، وتتبُّع العَثَراتِ والسَّقَطات، والكذبِ على الناسِ وذمِّهم، وتشويهِ سُمعتِهم لأجل حُظوظ النفسِ الأمَّارةِ بالسُّوءِ.
وترفَّعُوا عن إساءةِ الظنِّ، والتمِسُوا المعاذِيرَ، واعفُوا عن الإساءة والتقصير، ولا يُضِلَّنَّكم الشيطانُ؛ إنه عدوٌّ مُضِلٌّ مُبينٌ.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه؛ إنه كان للأوابين غفورًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله بارئ البريَّات، عالمِ الخفيَّات، أحمده حمدًا بالغًا أمد التمام ومُنتهاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معبود بحقٍّ سواه، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله وصفيُّه ونجِيُّه ومُرتضاه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه خلفاء الدين وحُلفاء اليقين صلاةً وسلامًا دائمَيْن ممتدَّيْن إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون:
لا يردَعُ السَّفيهَ إلا الحِلْمُ، ولا يرُدُّ الجاهِلَ إلا السكوتُ، وإذا سكتَّ عن الجاهلِ فقد أوسعتَه جوابًا، وأوجعتَه عِقابًا، ولا راحةَ إلا في العفوِ والإغضاءِ، وقد قيل: "في إغضائِك راحةُ أعضائِك".
ويقول الأحنفُ بن قيسٍ: "ما عاداني أحدٌ قطُّ إلا أخذتُ في أمره بإحدى ثلاثِ خِصالٍ: إن كان أعلى منِّي عرفتُ له قدرَه، وإن كان دُوني رفعتُ قدرِي عنه، وإن كان نظيرِي تفضَّلتُ عليه".
فاعفُوا واصفَحوا، وتذكَّروا ثوابَ العفو، وجزاءَ الصفحِ، وعاقبةَ الحِلْمِ، وحاذِروا ما يُبدِّدُ شملَكم، أو يُفرِّقُ جماعتَكم.
وصلُّوا وسلِّموا على الهادي شفيعِ الورَى طُرًّا؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
للخلقِ أُرسِل رحمةً ورحيمًا
صلُّوا عليه وسلِّموا تسليمًا
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة أصحاب السنَّة المُتَّبَعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآل والصحابة أجمعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وفضلِك وجُودِك وإحسانِك يا أرحمَ الراحِمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتَنا وُولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين ووليَّ عهده يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا في سُورية ناصرًا ومُعينًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا.
اللهم عليك بالقتَلَة المُجرمين، اللهم عليك بالقتَلَة المُجرمين، اللهم عليك بالقتَلَة المُجرمين، ألفافِ البدعةِ والضلالةِ، وأعلامِ الخُرافةِ والدَّجَل والخِيانة، اللهم فُلَّ جيوشَهم، ودُكَّ عروشَهم، ودمِّرهم تدميرًا، ولا تجعل لهم في الأرض وليًّا ولا نصيرًا.
اللهم عجِّل بالفرَج، اللهم عجِّل بالفرَج، اللهم عجِّل بالفرَج والنصر لإخواننا يا رب العالمين، اللهم طالَ ظُلمُهم، وعظُم قتلُهم، واشتدَّ كربُهم وحِصارُهم، وانقطَعَ من الخلقِ رجاؤُهم، اللهم لا رجاءَ إلا فيك يا ربَّ العالمين، فانتصِر لهم على عدوِّهم وعدوِّك يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين، الصهاينة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجِزونك.
اللهم طهِّر المسجد الأقصَى من رِجسِ يهود، اللهم طهِّر المسجد الأقصَى من رِجسِ يهود، اللهم انصر إخواننا في فلسطين عليهم يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وارحَم موتانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على مَن عادانا يا رب العالمين.
اللهم وفِّق أبناءَنا الطُلَّاب وبناتِنا الطالبات في حياتهم ودِراستِهم، اللهم ذلِّل لهم الصِّعابَ ووفِّقهم للصوابِ، وألهِمهم حُسنَ الجواب، واكتُب لهم النجاحَ والفلاحَ، واجعل الامتِحاناتِ بردًا وسلامًا عليهم يا رب العالمين.
اللهم وقِهِم شرَّ الأشرار، وكيدَ الفُجَّار، وشرَّ طوارِقِ الليل والنهار، يا عزيزُ يا غفَّار.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكُركم، واشكُروه على نِعَمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبرُ، والله يعلمُ ما تصنَعون.

ابوحاتم 05-26-2012 10:07 PM

الصبر على البلاء
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 4/7/1433هـ بعنوان: " الصبر على البلاء"، والتي تحدَّث فيها عن البلاء والكروب التي تحلُّ ببني آدم منذ أن أكلَ آدمُ أبو البشر - عليه السلام - من الشجرة، وأُهبِطَ إلى الأرض، وهم ينتقلون من بلاءٍ إلى بلاءٍ، وأن أعظمَ الناسِ بلاءً الأنبياءُ ثم الصالِحون، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، وبيَّن بالأدلة القرآنية والأحاديث النبوية عِظَمَ البلاء، ووجوب الصبر عليه؛ لينالَ العبدُ الأجرَ بذلك.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فالتقوى لا يقبلُ ربُّنا غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها.
أيها المسلمون:
خلق الله آدمَ وأسكنَه جنَّته وكان فيها من المُكرَّمين، لا يجوعُ فيها ولا يعرَى، ولا يظمأُ فيها ولا يضحَى، ونهاه الله أن يقرَبَ الشجرةَ، ولما رأى الشيطانُ أن آدم مُنعَّمٌ في الجنة وسوسَ إليه، وأقسمَ له بالله أنه إن أكلَ من الشجرة لم يخرُج من الجنةِ، ولحِكمةٍ عصى آدمُ ربَّه وأكلَ من الشجرة، وبمعصيته هذه أُهبِطَ هو وزوجتُه إلى الأرض بعد لذَّة الجنةِ وراحتها، فكابدَ هو وذريَّتُه المشاقَّ والهمومَ، قال - جلَّ شأنه -: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ[البلد: 4].
قال الحسن - رحمه الله -: "يُكابِدُ مضايِقَ الدنيا وشدائدَ الآخرة".
ولم تصْفُ الدُّنيا لأحدٍ؛ فهي دارُ بلاءٍ، ولذَّاتُها مشوبةٌ بالأكدار، وأمرُها لا يدومُ على حالٍ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ[آل عمران: 140]، ليسعدُ تارةً ويحزنُ أخرى، ويعتزُّ حينًا ويُذلُّ حينًا.
وأشدُّ الناسِ بلاءً وكربًا في الحياة هم الأنبياء؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن أشدَّ الناسِ بلاءً: الأنبياء، ثم الأمثلُ فالأمثلُ»؛ رواه النسائي.
فقد لبِثَ نوحٌ - عليه السلام - في قومه ألف سنةٍ إلا خمسين عامًا، لاقَى منهم فيها شدَّة ومكرًا واستِكبارًا.
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "وكانوا يقصِدون أذاه، ويتواصَون قرنًا بعد قرنٍ، وجيلًا بعد جيلٍ على مُخالفته".
فدعا على قومه فعمَّهم الطوفان، ونجَّاه الله منه ومن قومه؛ قال - سبحانه -: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ[الأنبياء: 76].
وإبراهيم - عليه السلام - ابتُلِيَ بذبحِ ابنه إسماعيل ففداهُ الله بذِبحٍ عظيمٍ، وأضرمَ قومُه نارًا لإحراقه فجعلَها الله عليه بردًا وسلامًا.
ويعقوبُ - عليه السلام - فقدَ أحبَّ أبنائِه إليه، ثم فقدَ آخر وبكى على فقدهما حتى جفَّ دمعُه وفقدَ بصرَه، قال - سبحانه -: وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ[يوسف: 84]، فبثَّ شكواه وحُزنَه إلى الله فجمعَ له ولدَيْه ورفعَه يوسف على عرشِه.
ويوسفُ - عليه السلام - أُلقِي في الجُبِّ وبِيعَ بثمنٍ بخسٍ ولبِثَ في السجنِ بِضعَ سنين، وفارقَ والدَيْه، فاصطفاه الله وجعلَه من المُرسَلين، وجمعَ له أبوَيه، وجعلَه على خزائنِ الأرض، وكان عند قومِه مكينًا أمينًا.
وفرعونُ آذى موسى وهارون ومن معهما من المؤمنين، فخرجوا فارِّين منه، فلحِقَهم فرعونُ بجنوده، فكان البحرُ أمامَهم وفرعونُ بجُنده خلفَهم، وقَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[الشعراء: 61]، فقال موسى - عليه السلام -: كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[الشعراء: 62]، فجعلَ الله لهم البحرَ طريقًا يبَسًا، فلما جاوَزوه أطبقَ الله البحرَ على فرعون وجُنودِه، فكانوا من الهالكين، قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ[الصافات: 114، 115].
وأيوبُ - عليه السلام - طالَ عليه كربُ المرض فما أيِسَ من الله، وكان يدعُوه: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[الأنبياء: 83]، فرفعَ الله ضُرَّه ووهبَ له أهلَه وضِعفَيْن معهم.
وزكريَّا - عليه السلام - وهَنَ عظمُه واشتعلَ رأسُه شيبًا وبلغَ من الكِبَر عِتيًّا، وحُرِم الولد، فدعا ربَّه نداءً خفيًّا أن يهبَه ولدًا، فرزَقَه الله يحيى وأقرَّ عينَه بصلاحه، وجعله الله نبيًّا رسولًا.
ومريمُ - عليها السلام - كُرِبَت بما رُمِيَت به من ولادتها بعيسى من غير زوجٍ، فأنطقَ الله مولودَها وهو في المهد: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا[مريم: 30].
ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - نشأَ يتيمًا، ومات جدُّه، ثم مات وجيهاه في الدعوة: أبو طالبٍ وخديجةُ في عامٍ واحدٍ، وأُسرِيَ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى بيت المقدسِ، وعُرِج به إلى السماء السابعة، ثم عادَ من ليلته إلى مكَّة، وأخبرَ قُريشًا الخبرَ وخشِيَ ألا يُصدَّقَ فلا يُؤمِنوا، ففرَّجَ الله عنه كربَه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «لقد رأيتُني في الحِجرِ وقُريشٌ تسألُني عن مسرايَ، فسألَتني عن أشياء من بيتِ المقدسِ لم أُثبِتها، فكُرِبتُ كربةً ما كُرِبتُ مثلَه قطُّ»، قال: «فرفعَ الله لي أنظُرُ إليه، ما يسألوني عن شيءٍ إلا أنبأتُهم به»؛ رواه مسلم.
والدينُ وصلَ إلينا بعد عناءٍ ومشقَّة؛ فقد لاقَى النبي - صلى الله عليه وسلم - من شدَّة الوحيِ ما لاقَى، فكان إذا نزلَ عليه الوحيُ يُنكِّسُ رأسَه، ويتفصَّدُ عرقُه من جبينِه في الليلة البارِدة، قال عُبادةُ بن الصامتِ - رضي الله عنه -: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أُنزِلَ عليه الوحيُ كُرِبَ لذلك وتربَّدَ وجهُه" - أي: تغيَّر؛ رواه مسلم.
واشتدَّت كُرُبات النبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته؛ من أذى قومه له، وسُمِّه، وسحره، والكيدِ به، وموتِ أبنائِه، وكُربةٌ لاقاها جميعُ الرُّسُل، وهي: التكذيبُ والسُّخريةُ، قال - سبحانه -: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ[فاطر: 4]، وقال - جلَّ شأنه -: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ[الذاريات: 52].
ولا تزالُ كُروبُ الدنيا بالإنسان حتى تُنزعَ رُوحُه؛ قال أنسٌ - رضي الله عنه -: "لما ثقُلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - جعلَ يتغشَّاه - أي: الموت -، فقالت فاطمة - رضي الله عنها -: واكربَ أباه. فقال لها: «ليس على أبيكِ كربٌ بعد اليوم» - أي: من كُروب الدنيا"؛ رواه البخاري.
ولئن انقضَت مِحنُ الدنيا بالموت، فسيُلاقِي الخلقُ كربًا قادمًا شديدًا عليهم؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «يجمعُ الله يوم القيامة الأولينَ والآخرينَ في صعيدٍ واحدٍ، فيُسمِعُهم الداعي، وينفُذُهم البصرُ، وتدنُو الشمسُ، فيبلُغُ الناسَ من الغمِّ والكربِ ما لا يُطيقُون وما لا يحتمِلون»؛ رواه مسلم.
وبعد، أيها المسلمون:
فالإنسانُ في بلاءٍ وشدَّةٍ حتى يضعَ قدمَه في الجنة، وبرحمة الله وفضلِه شرعَ - سبحانه - أسبابًا لزوالِ الخُطوبِ؛ فتوحيدُ الله هو أسرعُ مُخلِّصٍ للكُروب، وقد فزِعَ إلى ذلك يونسُ - عليه السلام - فنُجِّيَ من الغمِّ؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: «دعوةُ ذي النُّونِ: لا إله إلا أنت سُبحانك إني كنتُ من الظالمين، ما دعا بها مكروبٌ سبعَ مراتٍ إلا فرَّجَ الله كربَه»؛ رواه أبو داود.
قال ابن القيِّم - رحمه الله -: "لا يُلقِي في الكُرَبِ العِظام سِوى الشرك، ولا يُنجِّي منها إلا التوحيدُ، وقد علِمَ المُشرِكون أن التوحيدَ هو المُنجِّي من المهالِكِ؛ ففرعونُ نطقَ بكلمةِ التوحيد عند غرقه لينجُو ولكن بعد فواتِ الحين".
والتوكُّلُ على الله وتفويضُ الأمر إليه يكشِفُ ما نزلَ، قال - سبحانه -: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ[الأنعام: 64].
ولما لجأَ الرجلُ المؤمنُ من آل فرعون إلى الله كُفِي شرُّ قومه، قال - سبحانه - عنه: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ[غافر: 44، 45].
والتضرُّع إلى الله بالدعاء سببُ تغيُّر الحال، قال - سبحانه -: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ[النمل: 62].
والصلاةُ مُزيلةٌ للهموم كاشِفةٌ للغموم، والله - سبحانه - أمرَ بالاستعانةِ بها عند حُلولِ المصائبِ، قال - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ[البقرة: 153].
وذكرُ الله أنيسُ المكروبين، قال - جلَّ شأنه -: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ[الحجر: 97، 98].
وكان - عليه الصلاة والسلام - إذا نزلَ به كربٌ قال: «لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرش العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ العرشِ الكريم»؛ رواه البخاري.
والاستِرجاعُ عزاءٌ لكلِّ مُصاب، قال - جلَّ شأنه -: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ[البقرة: 155، 156]. وحسبُنا الله ونِعم الوكيلُ قالَها الخليلان عند الشدائد.
والاستغفارُ سببُ تفريجِ الخُطوبِ؛ لأن الذنوبَ هي مُوجِبُ الكُروب، قال - سبحانه -: وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ[الأنفال: 33].
والتوبةُ تحطُّ السيئات وتُفرِّجُ الكُرُبات، قال تعالى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[الأعراف: 168].
ومن عاملَ اللهَ بالتقوى والطاعة في حال رخائِه عاملَه الله باللُّطفِ والإعانةِ في حال شدَّته، قال - عليه الصلاة والسلام -: «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرِفكَ في الشدَّة»؛ رواه الحاكم.
قال أبو سُليمان الدارانيُّ - رحمه الله -: "من أحسنَ في ليله كُفِيَ في نهاره".
والتزوُّد من الطاعات تُفرِّجُ الهمومَ، قال - سبحانه -: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ[الطلاق: 2، 3].
والصدقةُ والبرُّ وصِلةُ الرَّحِم سببُ زوالِ المِحَن، قالت خديجةُ - رضي الله عنها - للنبي - صلى الله عليه وسلم - لما نزلَ عليه الوحيُ وخشِيَ على نفسه، قالت له: "كلا والله، لا يُخزِيكَ الله أبدًا؛ إنك لتصِلُ الرَّحِم، وتصدُقُ الحديثَ، وتحمِلُ الكلَّ، وتقرِي الضَّيفَ، وتُعينُ على نوائبِ الحقِّ"؛ رواه البخاري.
والله وعدَ عبادَه بالفرجِ بعد الشدَّة، وإذا اشتدَّ الكربُ لاحَ الفرَج، وحُسنُ الظنِّ بالله واجبٌ، والتفاؤُلُ بزوالِ ما نزلَ من المصائبِ من حُسن المُعتقَد، قال - سبحانه -: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[الشرح: 5، 6].
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "لو دخلَ العُسر في حجرٍ لجاء اليُسرُ حتى يدخُلَ عليه".
والصبرُ أجرُه بلا حسابٍ، واختيارُ الله لعبده أرحمُ من اختيارِ العبدِ لنفسه، والحياةُ الباقيةُ هي الدارُ الآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ[الأنبياء: 35].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
من ابتعدَ عن الدين زادَت كُروبه، قال - سبحانه -: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ[الأنعام: 125].
ومن فرَّج الله كربَه ولم يشكُر نعمةَ الله على زوال الكُربة فقد توعَّدَه الله بمكره وعقوبَته، قال - سبحانه -: وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا[يونس: 21].
والمؤمنُ إذا ابتُلِيَ صبَرَ، وإذا أذنبَ استغفر، وإذا أُنعِمَ عليه شكَرَ.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم رُدَّهم إليك ردًّا جميلاً.
اللهم انصر المُستضعفين من المؤمنين في الشام، اللهم كن لهم وليًّا ونصيرًا.
اللهم عليك بمن آذاهم، اللهم زلزِل الأرضَ من تحت أقدامهم.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحنُ الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك وتحكيم شرعك يا ذا الجلال والإكرام.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 06-15-2012 10:12 PM

الشباب والفراغ والإجازة
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 18/7/1433 هـ بعنوان: "الشباب والفراغ والإجازة"، والتي تحدَّث فيها عن الشباب وما يمنُّ الله عليهم من الفراغ المُتمثِّل في الإجازة الصيفية، وحذَّر الشبابَ والفتياتِ من الانسياقِ خلفَ جُلساء السوء، ومُروِّجي الفواحِش، ولم ينسَ تذكيرَ الآباء والأمهات بضرورة صِيانة ورعاية أبنائهم وبناتهم، والتحفُّظ عليهم، والتيقُّظ من انحرافِهم.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله آوَى إلى من إلى لُطفِه أوَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له داوَى بإنعامه من يَئِسَ من أسقامه الدَّوَا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله من اتَّبَعه كان على الخيرِ والهُدى، ومن عصاه كان في الغِوايةِ والرَّدَى، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً تبقَى وسلامًا يَتْرَى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فإن تقواه أفضلُ مُكتسَب، وطاعتَه أعلى نسَب، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أيها المسلمون:
الحذرُ والاحتِرازُ، وأخذُ الحَيطةِ قبل وقوعِ المكروه، واجتِنابُ التهاوُن صريحُ الفِطرة، ودليلُ الفِطنة، ومن غلبَ عليه الحَذَر، واستعمَلَ الحَزمَ، وتيقَّظَ وتحفَّظَ سلِمَ وأمِنَ، ولا أمانَ مع الإهمال، ولا سلامةَ مع الاستِرسال.
ومن الشبابِ والفَتَيات من يطيشُ لحظةَ الفراغ، ويستبِدُّ به الفرحُ بالإجازة، وتأخُذه الرغبةُ في الترويحِ والتنفيسِ فيقتحِمُ كلَّ مكان، ويضربُ كلَّ طريق، يُغريهِ كلُّ من يُلاقيه، ويستهوِيه كلُّ من يُوالِيه.
والعدُوُّ يلتمِسُ الغِرَّة، ويلمَحُ الغفلةَ، ويُذكِي العُيون، وينصِبُ الأبصار، ويرصُدُ ويُلاحِظ ليفترِسَ طُعمتَه، ويقتنِصَ نقُذَتَه.
وأكثرُ الفِتيان والفَتَيات صغراٌ أغرار يُخدَعون ويُستجَرُّون، فعلى الأولياء أن يأخُذوا لهذه الإجازاتِ مزيدًا من التحفُّظ والتيقُّظ، والرعايةِ والعِناية، والحَزمِ والحَذَر، ويحفَظوا أولادَهم من أهلِ الفُحشِ والطَّيش، والسوءِ والفُجُور، ويتكلَّفُوا لبناتِهم من الحِراسةِ والحِمايةِ والرَّقابة ما يصُونُهنَّ من المخاوِف والمكارِه، ويحميهِنَّ من الأعيُن الشَّرِهَة، والنَّظراتِ الوَقِحة، والأقوالِ المُهينة، والنفوسِ الدَّنيئة.
والصارِمُ الحَصيفُ لا يتقاعَسُ عن حِمايةِ شرَفِه، ولا يتوانَى عن صِيانةِ عِرضِه؛ فعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله سائلٌ كلَّ راعٍ عمَّا استرعاهُ حفِظَ أم ضيَّع، حتى يسألَ الرجُلَ عن أهلِ بيته»؛ أخرجه ابنُ حِبان.
وعلى الفتاةِ المُسلِمة ألا تخضعَ بقولِها، أو ترقَّقَ في لفظِها، أو تتميَّعَ في صوتِها، أو تتكسَّرَ في كلامِها مِشيَتها، حتى لا يطمَعَ فيها القَذَرَةُ الفجَرة، والفسَقَةُ المَكَرة.
والفتاةُ الواعِيةُ لا تُسلِمُ نفسَها للفضيحةِ والعارِ، فتُراسِلُ غريبًا عنها يلعبُ بعواطِفِها، أو تخلُو بأجنبيٍّ فيُلطِّخُ شرفَها، ويُدنِّسُ عِرضَها.
والفتَى الحازِمُ لا يُخالِطُ من فسَدَ من الصِّبيان، ولا يُجالِسُ من انحرفَ من الشَّبابِ والفِتيان، ومن استرسَلَ في صُحبَةِ الفسَقَة سقطَ في هُوَّة الرَّدَى، ووقعَ في حفائرِ العِدَى.
وكم تورَّطَ من فتًى وفتاة في شِراكِ أهلِ الفواحِشِ والرَّذِيلة ومُروِّجي المُخدِّرات بسبب الاستِرسالِ والإهمال، وقلَّة التيقُّظ والتحفُّظ.
قال إبراهيم الحربيُّ: "فسادُ الصِّبيان بعضُهم من بعضٍ".
وقال ابن القيم: "وأكثرُ الأولاد إنما جاء فسادُهم من قِبَل الآباء وإهمالُهم لهم".
وما أكثرُ العوائِدِ القبيحة التي سرَت وفشَت بين الفِتيان والفَتَيات بسبب المُخالَطة والمُجالَسَة والمُجانَسة، وترك الحَذَر، وضعفِ الحَزمِ، ولا ينجُو إلا من حَذَر. ومن تركَ الحَذَر وقعَ في الخَطَر.
حمانا الله وإياكم وذرياتِنا من شرِّ الأشرار، وكيدِ الفُجَّار، وشرِّ طوارِقِ الليلِ والنهار.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيمَ الحليمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ؛ فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله بارئِ النَّسَم، ومُحيِي الرَّمَم، ومُجزِلِ القِسَم، أحمدُه حمدًا يُوافِي ما تزايَدَ من النِّعَم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تعصِمُ من الفتنِ وتدفعُ النِّقَم، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبده ورسوله المبعوثُ رحمةً للعالمين من عُربٍ وعجَم، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا دائِمَيْن مُمتدَّيْن إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله؛ فقد نجَا من اتَّقى، وضلَّ من قادَه الهوى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة: 119].
أيها المسلمون:
صلاحُ الولد أعظمُ ذَخيرة، وأجلُّ غنيمة، والأدبُ وسيلةُ إلى كل فضيلة، فبادِروا إلى تأديبِ أطفالِكم، ورِعايةِ أولادِكم، وصونِهم عن القبائِحِ والرَّذائِل، وشَغلِهم بما ينفعُهم في دينِهم ودُنياهم، وائذَنوا لهم باللَّعِب المُباح، واللَّهوِ المشروع، وأحسِنوا مُصاحبَتَهم، وأدِيموا مُراقبَتَهم، واحذَروا التَّوانِيَ والتَّراخِي، وعامِلُوهم بالعطفِ واللُّطفِ، والرحمةِ والشَّفقَةِ والإحسانِ.
وحافِظوا على استقرارِ أُسرِكم، واحذَروا الطلاقَ والفِراقَ إلا ما اقتضَته الضرورةُ؛ فإن الطلاقَ بابٌ عريضٌ لانحرافِ الأولادِ وفسادِهم.
وصلُّوا وسلِّموا على خيرِ الورَى؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة أصحاب السنَّة المُتَّبَعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابة أجمعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمِك وجُودِك وإحسانِك يا أرحمَ الراحِمين.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصِيته للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَه وأعوانَه لما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المُسلمين يا رب العالمين.
اللهم مُنَّ على جميع أوطانِ المُسلمين بالأمنِ والاستِقرارِ والرخاءِ يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في سُورية ناصرًا ومُعينًا، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعينًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا، يا سميعُ يا مُجيبُ، يا سميعُ يا مُجيبُ، يا سميعُ يا مُجيبُ، نصرَك العاجلَ القريب.
اللهم عليك بعدُوِّك وعدُوِّهم يا قويُّ يا عزيز، اللهم اقصِم ظهرَه، اللهم اقصِم ظهرَه، اللهم اقصِم ظهرَه، واهتِك سِترَه، وادفَع شرَّه، واجعله عِبرةً يا رب العالمين.
اللهم انتصِر للأطفال المُجدَّلين، اللهم انتصِر للأطفال المُجدَّلين، والقتلَى المُكبَّلين، والمظلومين والمُضطَهدين والمُشرَّدين يا رب العالمين.
اللهم طهِّر المسجد الأقصَى من رِجسِ يهود يا رب العالمين، اللهم عليك باليهود الغاصبين، والصهاينة الغادِرين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجِزونك يا قويُّ يا عزيز يا رب العالمين.
اللهم ارحَم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مُبتلانا، وفُكَّ أسرانا، وانصُرنا على مَن عادانا يا رب العالمين.
يا عليمُ يا عظيمُ، يا عليمُ يا عظيمُ، يا رحيمُ يا كريمُ يا رب العالمين.

ابوحاتم 06-23-2012 08:45 AM

اغتنام لحظات العمر
ألقى فضيلة الشيخ عبد المحسن بن محمد القاسم - حفظه الله - خطبة الجمعة 25/7/1433هـ بعنوان: "اغتنام لحظات العمر"، والتي تحدَّث فيها عن الوقت وأهميته في حياة المُسلمين، ونبَّه إلى ضرورة اغتنامه بعبادة الله تعالى وذكرِه، ووجَّه النُّصحَ للشباب والفتيات بالمُنافسَة على اغتنام وقت الإجازة في الأعمال الصالحة؛ من حفظٍ لكتاب الله، وقراءة أحاديث المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وتعلُّم العلمِ النافع، ولم ينسَ توجيهَ النصح والإرشاد للآباء بالحِفاظ على أبنائِهم من ضياع أوقاتِهم وأعمارهم فيما لا يُرضِي الله، أو ما لا ينفعُهم في الدنيا والآخرة.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله - حقَّ التقوى؛ فتقوى الله طريقُ الهُدى، ومُخالفتُها سبيلُ الشقاء.
أيها المسلمون:
الحياةُ سببُ الرِّفعةِ في الدنيا والآخرة أو السُّفولِ فيهما، ولشرفِ ما حوَتْه من الزمانِ أقسمَ اللهُ بأجزائه؛ فأقسمَ بالفجر، والضُّحَى، والعصر، والشَّفَق؛ بل أقسمَ بالزمنِ كلِّه ليله ونهاره، قال - سبحانه -: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى[الليل: 1، 2].
والله يُقلِّبُ حالَ الزمانِ من ظُلمةٍ إلى إشراقٍ لإيقاظِ القلوبِ بعمارةِ الكونِ بعبادةِ الله، قال - جلَّ شأنُه -: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا[الفرقان: 62].
وأمرَ النبيُ - صلى الله عليه وسلم - باغتنامِ الزمانِ بالعملِ الصالحِ، فقال: «احرِص على ما ينفعُك»؛ رواه مسلم.
وأيامُ الحياةِ معدودةٌ إن ذهبَ يومٌ نقصَ عُمرُ ابنِ آدم، وإن ذهبَ بعضُه زالَ كلُّه، قال ابن القيم - رحمه الله -: "العبدُ من حينِ استقرَّت قدمُه في هذه الدار فهو مُسافرٌ فيها إلى ربِّه، ومُدَّةُ سفره هي عُمره الذي كُتِب له".
ومن مِنَن الله الجِسامِ على العبدِ طُولُ العُمر مع صلاحِ العمل، قال - عليه الصلاة والسلام -: «خيرُ الناسِ من طالَ عُمرهُ وحسُنَ عملُه»؛ رواه الترمذي.
وحياةُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلَها ونهارَها كانت كلُّها لله، قال الله له: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 162].
وأثنَى الله على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعلى صحابته لعِمارةِ أوقاتهم بالعبادة، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ[الفتح: 29].
ومن وصايا أبي بكر - رضي الله عنه - لعُمر - رضي الله عنه -: "إن لله عملًا بالنهار لا يقبَلُه بالليل، وعملًا بالليل لا يقبَلُه بالنهار".
وكان السلفُ - رحمهم الله - يغتنِمُون لحظاتِ أعمارِهم، فعمَروا زمانَهم بما يُرضِي ربَّهم، قال الحسنُ البصريُّ - رحمه الله -: "أدركتُ أقوامًا كانوا على أوقاتهم أشدَّ منك حرصًا على دراهِمِكم ودنانيرِكم".
وقد انقضَى عامٌ من تحصيلِ العلمِ أو المعرفةِ المُنتظِمِ في دورِ التعليم، وفي حالِ انقِضائه يبقَى في وقتِ المُتعلِّمين سَعَةٌ من الفراغ، والرابحُ منهم من اغتنَمَ زمنَه بما ينفعُه، والمغبونُ من فرَّطَ في لحظاته، قال - عليه الصلاة والسلام -: «نِعمتانِ مغبونٌ فيهما» أي: يُفرِّطُ فيهما «كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ»؛ رواه البخاري.
قال ابن بطَّال - رحمه الله -: "الذي يُوفَّقُ لذلك - أي: لاغتنامِ الصحةِ والفراغِ - قليلٌ".
ومن خيرِ ما يُعمرُ به زمنُ الإجازةِ ويُنتفَعُ به: حِفظُ كتابِ الله العظيمِ ومُراجعتُه؛ فهو كنزٌ ثمينٌ وتجارةٌ رابحةٌ، قال عُقبةُ بن عمارٍ - رضي الله عنه -: خرجَ علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «أيُّكم يُحبُّ أن يغدُوَ كلَّ يومٍ إلى بُطحانَ أو إلى العَقيقِ فيأتي منه بناقَتَين كومامَيْن» - أي: عظيمتَي السَّنامِ «في غيرِ إثمٍ ولا قطيعةِ رَحِمٍ؟». فقلنا: يا رسول الله! نحبُّ ذلك. فقال: «أفلا يغدُو أحدُكم إلى المسجدِ فيعلمُ أو يقرأُ آيتين من كتابِ الله - عز وجل - خيرٌ له من ناقتَيْن، وثلاثٌ خيرٌ له من ثلاث، وأربعٌ خيرٌ له من أربع، ومن أعدادهنَّ من الإبِل»؛ رواه مسلم.
ومن نالَ حِفظَ القُرآن شرُفَ، ومن تلاهُ عزَّ، ومن قرُبَ منه عظُم، ومنزلةُ العبدِ في الجنةِ عند آخر آيةٍ يُرتِّلُها منه، وفي زمنِ الفتنِ وانفتاحِ أبوابِ الشُّبُهات والشَّهوات يكونُ الاعتصامُ بكتابِ الله ألزَم، والقُربُ منه أوجب، قال - عليه الصلاة والسلام -: «تركتُ فيكم شيئين لن تضِلُّوا بعدَهما: كتابَ الله وسنَّتي»؛ رواه الحاكمُ.
والتزوُّدُ من العلمِ الشرعيِّ بحفظِ الأحاديث النبويةِ ومُتونِ أهلِ العلمِ المُصنَّفةِ في علومِ الشريعة تأصيلٌ للطلَب، ورُسوخٌ في العلم، ورفعةٌ للمُسلم، قال - سبحانه -: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[المجادلة: 11].
قال الإمام مالكٌ - رحمه الله -: "أفضلُ ما تُطوِّعَ به: العلمُ وتعليمُه".
وبرُّ الوالدَين طاعة، وصُحبتُهما سعادة، والقربُ منهما توفيق، قال - سبحانه - عن عيسى - عليه السلام -: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا[مريم: 32].
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "من برَّ بوالدَيه كان مُتواضِعًا سعيدًا".
والابنُ الفَطِنُ يسعَدُ بالإجازةِ لمزيدِ البرِّ بوالدَيْه إدخالِ السرورِ عليهما، ومما يُفرِحُهما استقامتُك على الدين، ومن برِّهِما: زيارةُ صديقِهما، وإكرامُهما من بعدِهما، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن البرَّ أن يصِلَ الرجلُ وُدَّ أبيه»؛ رواه مسلم.
وصِلةُ الرَّحِم تُرضِي الرحمنَ، وتُطيلُ العُمرَ، وتَزيدُ في المالِ، وتُبارِكُ في الوقت، وتُقرِّبُ ما بين النفوس، وتُظهِرُ مكارمَ الأخلاق، وتُبدِي جميلَ المُروءات، قال - عليه الصلاة والسلام -: «من أحبَّ أن يُبسَطَ له في رِزقِه، ويُنسأَ له في أثرِه فليصِلْ رحِمَه»؛ متفق عليه.
وزيارةُ أهل العلم والصالحين تُهذِّبُ النفوسَ، وتسمُو بالرُّوح، وتُذكِّرُ بالآخرة، وتُعلِي الهِمَم، وتُصلِحُ الحال، وينالُ بها الزائرُ معرفةً وعلمًا؛ فهم ورثةُ الأنبياء، ودُعاةُ الهُدى.
والتنافُسُ في الخير والتقوى من صفاتِ الصالحين، قال - سبحانه -: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ[المطففين: 26].
قال الحسن البصري - رحمه الله -: "إذا رأيتَ الناسَ في خيرٍ فنافِسْهم فيه".
والصُّحبةُ الصالحةُ خيرُ مُعينٍ على العملِ الصالحِ تدفعُ إلى البرِّ، وتُغلِقُ عنك أبوابَ الشُّرور، وتحُثُّ على الطاعةِ، ولا غِنَى لأحدٍ عن الصُّحبةِ الصالحةِ؛ فقد كان لنبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - صاحبٌ يُعينُه على طريقِ الدعوةِ وتبليغِ الرسالة، قال - سبحانه -: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا[التوبة: 40].
والمُتحابُّون بجلال الله على منابِرَ من نورٍ، يغبِطُهم النبيُّون والشُّهداءُ، ورفيقُ السوءِ يدعُوك إلى الشُّرور، ويصدُّ عنك أبوابَ الخير، وقد أخبرَ الله أن رُفقتَه ندامة، قال - سبحانه -: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا[الفرقان: 27، 28].
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "اعتبِرِ الرجلَ بمن يُصاحِب" أي: انظُروا إلى رُفقاء الرُّجُل "فإنما يُصاحِبُ الرَّجلَ من هو مِثلُه".
والتطلُّعُ إلى مواطنِ الفتنِ وأسبابِها من المرئيات في القنواتِ وغيرِها يعيشُ المرءُ معها وهمًا، وتُورِثُه نُكرانَ النِّعَم، وترفعُ القناعةَ من النفسِ، وتُورِدُ على القلبِ الظُّلَم.
والإجازةُ مغنَمٌ لقُرب الأبِ من أبنائِه، يملأُ فراغَ قلوبهم، ويُهذِّبُ سُلُوكَهم، ويُقوِّمُ عِوَجَهم، والأبناءُ يسعَدون بمُرافقَتهم لأبيهم وأُنسِهم به، وانتِفاعهم بأخلاقه، واكتِسابِهم الصفات الحميدة منه.
قال ابن عقيل - رحمه الله -: "العاقلُ يُعطِي للزوجةِ وللنفسِ حقَّهما، وإن خلا بأطفالِها خرجَ في صُورةِ طفلٍ، وهجَرَ الجِدَّ في بعضِ الوقت".
وتغافُلُ الأبِ عن أبنائِه وبُعدُه عنهم إهمالٌ لتنشِئَتهم، وتيسيرٌ لأهل السوءِ للوصولِ إليهم، ويجنِي من ذلك الأبُ الندامةَ والحسرةَ.
والسفرُ المُباحُ بهم يُقرِّبُ ما بين الوالدَين والأبناء، ويُوارِي هُوَّة الفجوةِ بينهم.
والعُمرةُ سفرُ عبادةٍ يحُطُّ الأوزار، ويرفعُ الدرجات، وصلاةٌ في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - خيرٌ من ألف صلاةٍ فيما سِواه.
والسفرُ المُحرَّمُ إهدارٌ للمال، وعُرضةٌ للفتن، وقد تقعُ بسببِه في قلوبِ الأولاد شُبُهاتٌ أو شهواتٌ لا يملِكُ الأبُ منعَها أو تحويلَها، وقد يعودُ المرءُ من السفرِ المُحرَّم أسوأَ من حاله قبل السفر.
وفي الإجازة تُبنَى أسرٌ في المُجتمع بالزواج، ومن شُكر تلك النِّعمة: ألا يصحَبَ وليمتَها مُحرَّمٌ؛ من إسرافٍ، أو عُريٍ، أو غناءٍ، أو تصويرٍ، وأن يكون زواجًا لا معصيةَ فيه.
والله جعل الليل سكَنًا، قال - سبحانه -: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا[النبأ: 10]، ومن هديِه - عليه الصلاة والسلام -: النومُ أولَ النهار، قال أبو بَرزةَ - رضي الله عنه -: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهُ النومَ قبل العشاء والحديثَ بعدها"؛ متفق عليه.
وإذا كان السهرُ وسيلةً إلى التخلُّف عن صلاة الفجرِ مع الجماعةِ كان مُحرَّمًا.
والمُسلمُ يُراقِبُ ربَّه في أحواله وأزمانه، ويُوقِنُ بأن الله يرى أفعالَه أيًّا كان زمانُها أو مكانُها، قال - سبحانه -: وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ[يونس: 61].
والثوابُ والعقابُ يُجازَى عليه العبدُ في كل موطنٍ حلَّ فيه، قال - عليه الصلاة والسلام -: «اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ»؛ رواه الترمذي.
والله يغارُ إذا انتُهِكَت حُدودُه في سفرٍ أو حضرٍ، قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله تعالى يغَار، وغيرةُ الله تعالى: أن يأتِيَ المرءُ ما حرَّم الله عليه»؛ متفق عليه.
فكُن مُبتعِدًا عن الخطيئات، وتزوَّد من الأعمال الصالحة، ولئن كان العملُ مجهدةً فإن الفراغَ مفسدةٌ، ونفسَك إن لم تشغَلها بالحق شغلَتْك بالباطل، والمرءُ مُمتحنٌ في رخائِه وسرَّائه، وعافيته وبلائه، في حلِّه وترحالِه، والمُوفَّقُ من جعلَ التقوى مطيَّتَه، وسارعَ إلى جنَّة ربِّه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[التوبة: 105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا مزيدًا.
أيها المسلمون:
واجبُ الأبِ نحو أبنائِه عظيمٌ؛ فهو مسؤولٌ عنهم يوم القيامة، والأمُّ عليها واجبٌ مُضاعَفٌ في الحِفاظِ على بناتِها، ومُلازمَتها لهُنَّ في الرِّعاية والنُّصحِ والتوجيه؛ بحثِّهنَّ على حفظِ كتابِ الله وسماعِ ما يُفيدُ من الذِّكرِ، والقيامِ بأمور البيت ولو مع توافُر من يخدِمُهنُّ، وأمرِهنَّ بالحجابِ والسِّترِ والعفافِ، ونبذِ ما يضُرُّهنَّ مما يُنافِي الدينَ والأخلاقَ.
والدُّنيا أمَدُها قصيرٌ، ومتاعُها زائلٌ، فلا تتعلَّق منها إلا بما يقضِي به الغريبُ حاجتَه في غير موطِنه، ولا تشتغِل فيها إلا بما يشتغلُ به الغريبُ الذي أعدَّ العُدَّة للرجوعِ إلى أهله.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: "ما ندِمتُ على شيءٍ ندَمي على يومٍ غرَبَت شمسُه نقصَ فيه أجلي ولم يزدَدْ فيه عملي".
والمؤمنُ بين مخافتَين: بين ذنبٍ قد مضَى لا يدرِي ما الله صانِعٌ فيه، وبين أجلٍ قد دنا لا يعلمُ ما هو صائرٌ إليه.
ثم اعلموا أن الله أمركم بالصلاةِ والسلامِ على نبيِّه، فقال في مُحكَم التنزيل: إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين الذين قضَوا بالحق وبه كانوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعنَّا معهم بجُودك وكرمِك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل اللهم هذا البلد آمِنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم إنا نسألُك الإخلاصَ في القول والعمل، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ولِّ عليهم خيارَهم، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ والتقوى يا رب العالمين.
اللهم انصر المُستضعفين من المؤمنين في الشام، اللهم كن لهم وليًّا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، اللهم احقِن دماءَهم، واحفَظ أعراضَهم وأموالَهم وأولادَهم.
اللهم عليك بمن طغَى عليهم، اللهم زلزِل الأرضَ من تحت أقدامهم.
اللهم وفِّق إمامنا لهُداك، واجعل عمله في رِضاك، ووفِّق جميع ولاة أمور المسلمين للعملِ بكتابك وتحكيم شرعك يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل: 90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه ونعمه يزِدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.


ابوحاتم 06-23-2012 08:49 AM

حقيقة الدنيا الفانية
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 2/8/1433هـ بعنوان: "حقيقة الدنيا الفانية"، والتي تحدَّث فيها عن الدنيا وحقيقتها التي ينبغي أن تكون راسخة في قلبِ كل مؤمنٍ، وهي أنها زائلةٌ فانيةٌ، وأن الآخرة هي الباقيةُ، مُذكِّرًا في ذلك بأكبر واعظٍ في تلك الحياة الدنيا، ألا هو الموتُ الذي هو حقٌّ على كل حيٍّ، وقد سردَ شيئًا من الأدلةِ الواردة في الوحيَيْن عن الموت والفناءِ والاستعداد للآخرة بالزهدِ في الدنيا، وفعلِ الطاعات، وترك المُنكرات.

الخطبة الأولى
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ[سبأ: 1]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليُّ القديرُ، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الهادي البشير، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ خيرِ من اتَّبعَ المُصطفَى النَّذيرَ.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
أيها المسلمون:
إن الدنيا مزرعةٌ للآخرة؛ فالسعيدُ من زهَدَ في هذه الدار، وأشغلَ جوارِحَه بمُراقبة العزيز الغفَّار، وألزَمَ نفسَه الاتِّعاظَ والادِّكارَ، ودأَبَ في طاعة الأوامر والاستجابةِ والمُحافظة على ذلك مع تغايُرِ الأحوال والأطوارِ.
المُوفَّقُ في هذه الدنيا من تأهَّبَ لدار القرار، وكان على حذَرٍ من سخَطِ الجبَّار: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
فيا أخي المُسلم:
سلْ نقسَك: هل أعددتَ للموت عملًا صالِحًا؟ أم الدنيا شغلَتك عن المَنِيَّة والإعداد للآخرة؟!
ويا مَن تُحبُّ نفسَك! تذكَّر وقوفَك بين يدَي الرحمن وأنت تُسألُ عن مظالِمِ فُلان وفُلان، وعن ماذا عمِلتَ في الاستجابةِ لأوامر العزيز المنَّان.
أيها المُسلمون:
إن هذه الدنيا دارُ ممرٍّ وليست بدار قرارٍ، قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا[النساء: 77].
المُوفَّقُ في هذه الحياة هو من يُسارِع إلى طاعة ربِّه - عز وجل -، وإلى الاستجابة لأوامر رسولِه - صلى الله عليه وسلم -، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ[الأنفال: 24].
إن الكَيِّسَ الذي تيقَّنَ تلك الحقيقةِ، فكان مُغلِّبًا لآخرته على دُنياه، مُحكِّمًا هواه بتقوَى مَولاه، يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ[فاطر: 5]، وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[العنكبوت: 64].
إن الفَطِنَ هو من حَظِيَ بتوفيق ربِّه، فبادرَ قبل العوارِضِ، وسارعَ قبل الشواغِلِ، واستعدَّ لدار القرارِ، ولم ينشغِل بدار البَوار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ[المنافقون: 9، 10]، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون: 99، 100].
ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يُحذِّرُ من الانشغالِ عن يوم الحِسابِ، فيقولُ - فيما رواهُ البخاري -: «نِعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناسِ: الصحةُ والفراغُ».
ورُوِيَ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «بادِروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا مُنسِيًا؟ أو غِنًى مُطغِيًا؟ أو مرضًا مُفسِدًا؟ أو هرَمًا مُفنِّدًا؟ أو موتًا مُجهِزًا؟ أو الدَّجالَ فشرُّ غائبٍ يُنتَظَر؟ أو الساعةَ فالساعةُ أدهَى وأمَرُّ؟»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ".
وفيما أوصَى به النبي - صلى الله عليه وسلم - أحدَ الصحابة - وهي وصيةٌ لجميع الأمة -، حينما وصَّى ابنَ عُمر - رضي الله عنهما -، قال ابنُ عمر: أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمنكِبَيَّ ثم قال: «كُن في الدنيا كأنَّك غريبٌ أو عابِرُ سبيلٍ». وكان ابنُ عُمر - رضي الله عنهما - يقول: "إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساءَ، وخُذ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتِك لموتِك"؛ رواه البخاري.
إخوة الإسلام:
الدنيا دارٌ يجبُ أن تُعمرَ بكل ما يُقرِّبُ إلى الله - جل وعلا -، ويجبُ على المُسلم فيها أن يكون فائزًا برضا الله - سبحانه -، فبذلك يحصُلُ الخيرُ المُطلقُ، وبفُقدان ذلك يحصُلُ الشرُّ المُحقَّق - والعياذ بالله -، وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ[العصر: 1- 3].
وفي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «خيرُ الناسِ من طالَ عُمره وحسُنَ عملُه، وشرُّ الناسِ من طالَ عُمرُه وساءَ عملُه»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ".



معاشر المسلمين:
إن الخسارةَ الكُبرى في تضييع الحياة في المُشتهيات والملذَّات، والإعراضِ عن العملِ للدار الباقيةِ والحياةِ التي هي السعادةُ الحقيقيةُ لمن أصلحَ وأخلَصَ، والشقاءُ الأكبرُ لمن أعرضَ وأدبَرَ، أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ[الشعراء: 205- 207].
فيا أيها المسلم! ما أسعدكَ بهذا الدين إن التزمتَ به؛ فبه الفوزُ العظيمُ والفلاحُ الأتمُّ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 71].
ونبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كل أمتي يدخلُ الجنةَ إلا من أبَى». قيل: يا رسول الله! ومن يأبَى؟! قال: «من أطاعني دخلَ الجنةَ، ومن عصاني فقد أبَى»؛ رواه البخاري.
أيها المسلمون:
اعلموا بأن الحركات والسَّكَنات محسوبةٌ مكتوبةٌ، وأن العبدَ مسؤولٌ في آخرته عن دُنياه، فالسعادةُ لمن أعدَّ للسؤال جوابًا، وللجوابِ صوابًا، فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ[الحجر: 92، 93].
ورسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تزولُ قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربعٍ: عن عُمُره فيم أفناه، وعن علمِه فيم فعلَ فيه، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَه، وعن جسمِه فيم أبلاه»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ".
فيا أيها المُسلم! لن تجنِيَ ثمرةً طيبةً في هذه الحياة، ولن تحذرَ من خزيٍ وخيبةٍ في الآخرة إلا بالالتزامِ الأوفَى بوصيةِ سيدنا ونبيِّنا محمدٍ - عليه أفضل الصلاة والتسليم -: «اتقِ اللهَ حيثُما كنتَ».
فعليك بالخوفِ من إلهكَ ومولاكَ، وراقِبه في علَنك ونجواك؛ تسعَد وتفُز وتغنَم، إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا[النبأ: 31]، رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من خافَ أدلجَ، ومن أدلَجَ بلغَ المنزلَ، ألا إن سلعةَ الله غاليةٌ، ألا إن سلعةَ الله الجنةُ»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ".
فيا مَن أشغلَته دُنياه عن آخرته، يا مَن هو ساعٍ في الغفلة، لاهٍ في الملذَّات والمُشتهَيَات، يا مَن بارزَ ربَّه بالعِصيان، ولم يقُم بأوامر الرحمن! اعلَم أنك على خطرٍ عظيمٍ؛ فبادِر بالتوبةِ والإنابةِ إلى الربِّ الرحيمِ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ[الزمر: 53، 54].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الآياتِ والهُدى والفُرقان، أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
أحمد ربي وأشكرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
إن المؤمنَ لا يركنُ إلى هذه الدنيا الفانيةِ، ولا يجعلُها شُغلَه الشاغلَ وهمَّه الأكبر؛ فقد وصفَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال ابن مسعودٍ: نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حصيرٍ فقام وقد أثَّر في جنبه، فقلنا: ألا نتخِذ لك وِقاءً؟ فقال: «مالي وللدنيا، إنما أنا كراكبٍ استظلَّ تحت دَوحةٍ ثم راحَ وتركَها».
فيا أيها المُسلم! هل من العقلِ الراجحِ أن تظلِمَ الخلقَ بسببِ هذه الدنيا؟! هل من الرأيِ الحصين أن تجمعَ المالَ من الحرام؟! هل يليقُ بالمُسلمِ وهو يعلمُ أن هذه الدارَ دارُ فناءٍ وأن هناك دارٌ هي دارُ البقاء، هل يليقُ بالمُسلم أن يغشَّ، أو أن يسرِقَ، أو أن يخونَ، أو أن يرتشِي؟! كلا ثم كلا.
في الحديث: عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «الدنيا ملعونةٌ ملعونٌ ما فيها إلا ذكرَ الله، وما والاه، وعالمًا ومُتعلِّمًا»؛ وهو حديثٌ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ"، وحسَّنه بعضُ المُحقِّقين من أهل العلم.
معاشر المُسلمين:
مُصابٌ جَللٌ فُجِع به الناسُ، وهو وفاةُ الأمير الجليلِ نايفِ بن عبد العزيز وليِّ عهد هذه البلاد، فلا نقول إلا ما يُرضِي ربَّنا، وإنا لله وإنا إليه راجِعون، نسأل اللهَ - جل وعلا - أن يجزِيَه على ما قدَّم لدينه ولوطنه خيرَ الجزاء، وأن يُدخِلَه جناتِ النعيم، ويرفعَ درجتَه في المهديين، وأن يجزِيَه خيرًا على ما قدَّم للحُجَّاج والمُعتمِرين.
ونسأل اللهَ - جل وعلا - أن يُبارِكَ في خلفِه نائبِ خادمِ الحرمين الشريفين: الأميرِ سلمان بن عبد العزيز، وأن يُعينَه ويُسدِّده ويُوفِّقَه لخدمة الإسلام والمُسلمين، وأن يُحقِّقَ به كلَّ خيرٍ ورغَدٍ ورخاءٍ لهذه البلاد ولسائر بلاد المُسلمين.
كما نسألُه - جل وعلا - أن يُعينَ وزيرَ الداخلية الأميرَ أحمد، وأن يُسدِّده ويُوفِّقه إلى ما فيه الخير، وأن يجعلَه خيرَ خلفٍ لخير سلَف، وأن يُبصِّرَه بما يُحقِّقُ الأمنَ والعدلَ والرخاءَ، وأن يرزُقَ الجميعَ الصحةَ والعافيةَ ورضا الخالقِ - جل وعلا -.
ثم إن الله - جل وعلا - أمرَنا بأمرٍ عظيمٍ، ألا وهو: الصلاةُ والسلامُ على النبي الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا وحبيبِنا وقُدوتِنا محمدٍ، اللهم ارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابةِ أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم اعفُ عنا بعفوِك، اللهم اعفُ عنا بعفوِك، اللهم اعفُ عنا بعفوِك، اللهم أصلِح أحوالَنا وأحوالَ المُسلمين، اللهم اكشِف همَّنا وهمَّ المُسلمين، اللهم نفِّس كُرُبات المُسلمين، اللهم احفظ المُسلمين في كل مكان، اللهم احفظ المُسلمين في كل مكان، اللهم اجعل لهم من كل كُربةٍ فرَجًا، اللهم اجعل لهم من كل همٍّ مخرجًا، اللهم اجعل لهم من كل همٍّ مخرجًا.
اللهم آمِنهم في أوطانهم، اللهم آمِنهم في أوطانهم، اللهم آمِنهم في أوطانهم يا أرحمَ الراحمين يا أكرمَ الأكرمين.
اللهم اجعل هذه البلادَ آمنةً مُطمئنَّةً رخاءً سخاءً وسائر بلاد المُسلمين.
اللهم عليك بأعداء المُسلمين، اللهم عليك بأعداء المُسلمين، اللهم شتِّت شملَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، اللهم فرِّق جمعَهم، اللهم زلزِلِ الأرضَ من تحت أقدامهم، اللهم أرِنا فيهم ما يسُرُّنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم آتِنا في الدنيا حسنةً، وفي الآخرة حسنةً، وقِنا عذابَ النار.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّ وترضى، اللهم ارزقه الصحةَ والعافيةَ والعُمرَ المَديدَ على طاعتك يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم بارِك لنا في شعبان وبلِّغنا رمضان، اللهم بارِك لنا في شعبان وبلِّغنا رمضان، اللهم بارِك لنا في شعبان وبلِّغنا رمضان يا أرحم الراحمين، اللهم بلِّغنا رمضان وقد عمَّ الأمنُ والأمانُ جميعَ بلاد المُسلمين، اللهم وقد عمَّت الوحدةُ والاتفاقُ بين المُسلمين يا حيُّ يا قيوم.
عباد الله:
اذكُروا اللهَ ذكرًا كثيرًا، وسبِّحوه بُكرةً وأصيلًا.

ابوحاتم 07-02-2012 09:30 PM

الحث على الرفق
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 9شعبان 1433هـ بعنوان: "الحث على الرفق"، والتي تحدَّث فيها عن الرِّفق وأهميته وفضله، ووجَّه النصحَ لعموم المسلمين بضرورة التعامُل فيما بينهم بالرفق، وحثَّ الولاة والحكام والأمراء والوزراء وكل من تحته رعيَّة يأتمرون بأمره أن يتحلَّوا به، وحذَّر من الفُحش والبذاءة وسوء الأخلاق.

الخطبة الأولى
الحمد لله الرؤوفِ الرحيمِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الإلهُ العظيمُ، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه خيرُ من اتَّصفَ بالخُلُق الكريم، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وأصحابِهِ إلى يوم الدين، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
إخوة الإسلام:
من السَّجايا الجميلة والخِصال النبيلة في منظومة مكارمِ الأخلاق في الإسلام: خُلُق الرِّفق بأشملِ معانيه وأوسع مضامينه، إنه الرِّفقُ الذي يعني: الاتِّصافَ باللِّين والسُّهولة في الأقوال والأفعال، والأخذ بالأسهل، والدفعَ بالأخفِّ، قال - جل وعلا -: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ[آل عمران: 159].
إنه الرِّفقُ الذي يتضمَّنُ الرحمةَ بالمؤمنين، ولُطفَ الرعاية لهم، والبَشاشةَ والسماحةَ في التعامُل، إنه الرِّفقَ الذي يجلِبُ البُعدَ عن العُنفِ بشتَّى أشكالِه ومُختلَف صُورِه، والتخلُّصَ من الغِلظَة في المقال، والفَظاظَة في الأفعال، والفُحشَ في جميع الأحوال، وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ[الحجر: 88].
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إن أحبَّكم إليَّ يوم القيامة: أحسنُكم أخلاقًا، المُوطِّئون أكنافًا، الذين يألَفون ويُؤلَفون».
المؤمنُ رفيقٌ في أقواله وأفعاله وفي جميع أحواله، هيِّنُ التعامُل، رقيقُ المعشَر، وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا[الفرقان: 63].
إنه الرِّفقُ الذي يمَسُّ بلُطفه القلوبَ القاسِية فيُحوِّلَها من قسوتها وجَفوتها إلى تعاطُفها وتجاذُبها، ومن شدَّتها وغِلظَتها إلى رقَّتها ولُطفها، لقد حثَّ - صلى الله عليه وسلم - على الرِّفق، وبيَّن أهمِّيَّتَه وعظيمَ شأنه، وأوضحَ ثمارَه الطيِّبة، وأنه سببٌ لمُضاعفَة الحسنات، ورفع الدرجات، فقال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفقَ، ويُعطِي على الرِّفق ما لا يُعطِي على ما سِواه».
الرِّفقُ ما صاحَبَ تصرُّفًا ولا مسلَكًا إلا زيَّنَه، ولا نُزِع من قولٍ ولا فعلٍ إلا شانَه وكدَّرَه، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرِّفق لا يكون في شيءٍ إلا زانَه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانَه»؛ رواه مسلم.
إخوة الإسلام:
الرِّفقُ سببٌ عظيمٌ في كسبِ محبَّة الله - جل وعلا -، فلقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله رفيقٌ يحبُّ الرِّفقَ في الأمر كلِّه»؛ متفق عليه.
وبدون الرِّفق في الأقوال أو الأفعال أو التصرُّفات يفوتُ خيرٌ كثيرٌ، ومغنَمٌ كبيرٌ، فلقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من يُحرَم الرِّفقَ يُحرَم الخيرَ كلَّه»؛ رواه مسلم.
فكن - أيها المسلم - رفيقًا رقيقًا مع الآخرين، هيِّنًا في تعامُلاتك، سهلًا ليِّنًا في أخذِك وعطائِك، تجنَّب الغِلظَةَ والخُشونة، والجَفوَة والرُعونَة، وانأَ بنفسك عن الفَظاظَة والشِّدَّة، ولو كان ذلك في الجوانب الخيِّرَة؛ كالدعوة إلى الله - جل وعلا -، والأمرِ بالمعروف والنهيِ عن المُنكرِ، فضلًا عن التصرُّفات الحياتيَّة، والتعامُلات الاجتماعية.
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أُخبِرُكم بمن يحرُم على النار أو بمن تحرُم عليه النار؟ تحرُمُ على كل قريبٍ هيِّنٍ سهلٍ ليِّنٍ»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ".
معاشِرَ المُسلمين:
الرِّفقُ بهذا المعنى الواسعِ الجميل والمفهوم الشامل لكل مجالات الحياة مطلوبٌ من كل أحدٍ، رِفقُ الوالي برعيَّته، رِفقُ القاضي في قضائِه، رِفقُ المسؤول لمن هو تحت مسؤوليَّته، رِفقُ الوالدِ بولدِه، رِفقُ الزوجِ بزوجته، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا[البقرة: 83].
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «عليك بالرِّفقِ، وإياك والعُنفَ والفُحشَ»؛ رواه البخاري.
ويقول - صلى الله عليه وسلم -: «ما من شيءٍ أثقلُ في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسن الخُلُق، وإن الله يُبغِضُ الفاحشَ البَذِيءَ»؛ رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ".
إخوة الإسلام:
من أوجبِ أنواع الرِّفق: رِفقُ ربِّ العمل بمن يعملُ لديه، وأن يتجنَّب الشِّدَّة والغِلظةَ مع العاملين معه، قال أنس - رضي الله عنه -: خدمتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سنين، فما قال لي قطٌّ: أُفّ، ولا قال لي لشيءٍ فعلتُه: لم فعلتَه، ولا لشيءٍ لم أفعله: افعل كذا. وصحَّ عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا أرادَ الله بأهل بيتٍ خيرًا أدخلَ عليهم الرِّفقَ».
فيا أيها المسلم: التزِم تلك الأخلاقَ الجميلة، والشمائل النبيلة تفُز بالجنات، ورضا رب الأرض والسماوات؛ ففي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عن أكثر ما يُدخِل الناسَ الجنة، فقال: «تقوى الله وحُسن الخُلُق»؛ والحديث رواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ".
أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الساعة الآن 03:44 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir