ساحات وادي العلي

ساحات وادي العلي (http://www.sahat-wadialali.com/vb/index.php)
-   الساحة الإسلامية (http://www.sahat-wadialali.com/vb/forumdisplay.php?f=91)
-   -   خطب الجمعة من المسجد الحرام (http://www.sahat-wadialali.com/vb/showthread.php?t=14234)

ابوحاتم 09-18-2011 12:31 AM

معنى قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 18/10/1432هـ بعنوان: "معنى قوله تعالى: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً"، والتي تحدَّث فيها عن الدين الإسلامي ومعناه ومزاياه، وأهمية الإيمان بالله وأسمائه وصفاته واليوم الآخر ومدى تأثير ذلك على القلوب، ثم حذَّر من سلوك سبيل الأمة المغضوب عليها لئلا يحدث ما حدث لهم.

الخطبة الأولى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابه والتابعين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون:
فأُوصيكم ونفسي بتقوى الله في السرِّ والعلانية؛ فهي العُدَّة، وهي مهبَطُ الفضائل ومُتنزَّلُ المحامد، وهي مبعثُ القوة ومِعراجُ السمُوّ، والرابطُ الوثيقُ على القلوب عند الفتن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
عباد الله:
في لفحِ هجير الحياة وعند متاهات الدروب وفقد الاتجاه، فإن الساري بحاجةٍ إلى ضوءٍ يُؤوِيه، وماءٍ يسقيه، ومنارٍ يُرشِدُه ويهديه، ذلكم - أيها المسلمون -: هو الوحيُ الخالد، والنورُ التالِد، والذي قال فيه ربُّنا: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ[الإسراء: 9]؛ أي: للتي هي أحسنُ وأكملُ وأجملُ وأفضلُ؛ فمن أراد الهُدى فليلزَم كتابَ الله، وليتدبَّر عِظاته، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ[ص: 29].
أيها المسلمون:
ومن جميل الهدايات، وعظيم الآيات: ما خاطَبَكم به ربُّكم في كتابه العزيز بقوله - سبحانه -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[البقرة: 208].
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله - في "تفسيره": "أمرَ اللهُ عبادَه المؤمنين المُصدِّقين برسوله أن يأخذوا بجميع عُرى الإسلام وشرائعِه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجِره. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله: ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ: يعني: الإسلام، وقوله: كَافَّةً: أي: اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البرِّ".
هذا هو التفسيرُ الذي نقلَه ابن كثيرٍ والقرطبيُّ وغيرُهما - رحمهما الله - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
عباد الله:
هذه الدعوةُ الكريمةُ من الله تعالى للمؤمنين تُشِيرُ إلى حاجة النفوس إلى التذكير والتأكيد أن تلتزِمَ بجميع شرائع الإسلام، ومع وجود أصل الإيمان في المجتمع المسلم إلا أنه قد يوجد من يحتاجُ لهذه الدعوة ليتجرَّد ويستسلِم لله، وتتوافقَ خطَرَاتُهم واتجاهاتُهم، مع ما يُريدُه الله منهم وما يقودُهم إليه نبيُّهم من غير تردُّدٍ ولا تفلُّت، وهذا هو معنى الإسلام؛ الاستسلام لله والانقيادُ له بالطاعة.
وحين يستجيبُ المسلمُ لهذا النداء فإنه يدخلُ عالمَ السعادة، والسلمِ والسلام، والثقةِ والاطمئنان، والرِّضا والاستقرار، فلا حيرةَ ولا قلق، ولا نزاعَ ولا ضلال.


أيها المسلمون:
وأولُ ما يُفيضُ السلامُ على القلب من صحةِ توحيده لله وإيمانه به ويقينه عليه وإفراده بالعبادة ومعرفة أسمائه وصفاته، يعلمُ أن اللهَ إلهٌ واحدٌ يتَّجِهُ إليه بكلِّيَّته، وجهةٌ واحدةٌ يستقرُّ عليها قلبُه، فلا تتفرَّقُ به السُّبُل، وتلتبِسُ به الأهواء، وتتكاثرُ عليه الآلهة، فيعبُدُ ربًّا ونبيًّا، أو يدعو كلَّ يومٍ وليًّا، فكأنَّ كلَّ مشهدٍ كعبة، وكل ضريحٍ ربٌّ يُدعَى. فهل هذا من الإسلام؟!
إن المؤمنَ بإسلامه لله وحده يعيشُ عقيدةً صافية، وفكرًا نقيًّا، وحياةً مُستقرَّة، ويعلم من صفات الله ما تطمئنُّ به نفسُه، ويسكُنُ به قلبُه، فالله تعالى هو القويُّ القادر، والعزيزُ القاهِر، والوليُّ الناصِر.
فإذا التجأَ إليه المؤمنُ فقد التجأَ إلى القوة الحقيقية في هذا العالَم، وقد أمِنَ من كل خوفٍ واطمأنَّ بالله واستراحَ، ويعلمُ أن الله يُجيبُ المُضطرَّ إذا دعاه، ويكشِفُ السوءَ، ويُفرِّجُ الكُرُبات، ويشفِي الأسقام، ويُذهِبُ الآلامَ والأحزان؛ فالمؤمنُ في كنَفِ الله آمنٌ وادِع، يتقلَّبُ في الطمأنينة والرضا، يُفيضُ الإيمانُ بالأسماء والصفات على قلبه بردًا وسلامًا.
والإيمانُ باليوم الآخر يجلِبُ الطمأنينةَ والسلام، وينفِي القلقَ والإحباطَ، أو الإحساسَ باليأس، إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ[يوسف: 87]، ذلك أن لجميع العالمين يومًا يجتمعون فيه، كلُّ العالمين، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم: 93 - 95]، وهنالك الحساب، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[الزلزلة: 7، 8].
ومن كمال عدل الله أن يُثيبَ المُحسنين، ويُحاسِبَ المُسيئين، ويقتصَّ للمظلوم، وإذا علِمَ المسلمُ أن الدنيا ليست النهاية، وأن لا شيء يضيعُ، فعند ذلك يصبِرُ ويحتسِب، ويعملُ ويجتهِد، حتى ولو لم يلقَ من الناس شُكرًا، فإن الله لا يُضيعُ أجرَ من أحسنَ عملاً.
أيها المسلمون:
والإيمانُ بالآخرة أيضًا حاجزٌ دون الصراع المحموم بين البشر على حُطام الدنيا ومتاعها، هذا التنافُس الذي تُنسَى فيه القِيَم، وتُنتهَكُ الحُرمات، في لهاثٍ خلف الشهوات والرغَبات، إن الإيمان بالحساب والجزاء يُلبِسُ المؤمنَ رداءَ التجمُّل في هذا السِّباق، ويُوقِفُه عند الأدب والحياء، والحدود والحقوق. فما أجملَ الطمأنينةَ والسلمَ في هذا الإسلام!
عباد الله:
ودخول المؤمن في السلمِ كافة دخوله في كل شرائع الإسلام، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -، والتزامُه بها، ويربِطُه بالحقيقة التي من أجلها خُلِق الناس، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56].
والعبادةُ ليست مجرد فرضٍ يُؤدَّى في المسجد فحسب؛ بل إنها منهجُ حياة، قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ[الأنعام: 162، 163]، عبادةٌ بأداء الواجبات، واجتناب المنهيات، عبادةٌ في كسبك وإنفاقك، وفي عملك ونشاطك؛ فاتق اللهَ في كل تصرُّفاتك وتعامُلاتك، لا تُقصِّر في واجبٍ، ولا تتقحَّم في مُحرَّم.
أيها المسلمون:
والتكاليفُ التي يفرِضُها الإسلام كلها من الفِطرة، ولا تتجاوزُ طاقةَ الإنسان، ولا تتجاهلُ طبيعتَه، وهي يُسرٌ وسماحة، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ[الحج: 78]، إن أحكام الله تعالى وشريعتَه وحدوده ومحارمَه جاءت منظومةً مُتكاملة لتحفَظَ الضرورات الخمس، ولتُحيطَ الإنسان بضماناتٍ تُورِثُه الطمأنينةَ والسلام، لقد جاء الإسلامُ بكل ما يحفظُ الدين والنفسَ والعقلَ والعِرضَ والمالَ.
وأيضًا ما يحفظُ ترابُط المجتمع وتماسُكه، وشرعَ ما يُؤدِّي إلى التكافُل والتعاوُن، ودعا لإطعام الطعام، وإفشاء السلام، وأذابَ الحواجز الأرضية ليجمعَ الناسَ على آصِرة العقيدة وأُخُوَّة الإيمان، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات: 10].
وفي آداب هذا المجتمع: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ[الحجرات: 11].
وفي "الصحيحين" يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «كلُّ المسلمِ على المسلمِ حرامٌ، دمُه ومالُه وعِرضُه».
أرأيتُم كيف يكون الدخولُ في شرائع الإسلام كافَّة؟!
أيها المسلمون:
إن هذا النداء بالدخول في شرائع الإسلام كافَّة يصنَعُ مجتمعًا طاهرًا عفيفًا لا تشيعُ فيه الفاحشةُ، ولا تروجُ فيه الفتنة، ولا تتلفَّتُ فيه الأعينُ على العورات، ولا تطغَى فيه الشهوات، تحكمُه توجيهاتٌ ربانية، يسمعُ قولَ الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[النور: 19]، ويسمعُ التشديد والوعيدَ الشديد لمن يرمِي المؤمنات، ويقذِفُ العفيفات المُحصنات، إن بابَ الأعراض بابٌ مُحترم لا يجوزُ التهاوُن فيه ولا الترفُّق بلصوصه، وفي حكم القرآن على الزانِيَيْن: وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[النور: 2].
ولحماية هذا الباب وسدِّ مداخل الشيطان يقول الله - عزَّ وجل -: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ[النور: 30، 31].
ففي ظلِّ هذه التوجيهات يأمنُ الناسُ على حُرماتهم وأعراضهم، وتسلَمُ قلوبُهم، فلا تقعُ الأبصارُ على المفاتِن، ولا تقودُ العيونُ القلوبَ إلى المحارم، فإما خيانةٌ وفواحِش، وإما رغباتٌ مكبوتة، وأمراضُ نفوس، وفسادُ قلوب، بينما المجتمعُ المسلمُ العفيفُ آمِنٌ ساكِن، ترِفُّ عليه أهدابُ السِّلم والطُّهْر والأمان، وفي التوجيه الكريم أمرَ اللهُ بتزويج الشباب والفتيات، والأمرُ للوجوب.
عباد الله:
وهذا المجتمعُ المُستسلِمُ لله تُكفَلُ فيه الحرياتُ والكرامات، والأموالُ والحقوقُ والحُرمات بحكم التشريع بعد كفالتها بالتوجيه الربَّاني المُطاع؛ فلا يُراقُ دمٌ والقِصاصُ حاضر، ولا يضيعُ حقٌّ أو مالٌ والحُدودُ قائمة، ومن لم تزجُرهُ المواعِظ زجَرَته الحُدود.
هذه بعضُ معالم المجتمع المُطمئن المُستسلِم لله، وبعضُ معاني السلم الذي دعَت الآيةُ إلى الدخول فيه كافة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ[البقرة: 208].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.



ابوحاتم 09-18-2011 12:32 AM

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا[الكهف: 1، 2]، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن الله تعالى لما دعانا للدخول في السلمِ كافةً حذَّرَنا من اتباع خطوات الشيطان؛ إذ ليس إلا طريقان: إما الدخول في السلم، وإما اتباع الشيطان، إما هُدًى، وإما ضلال، ليس للمسلم أن يخلِطَ أو يتخيَّر، والشيطانُ عدوٌّ مبين، فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[البقرة: 209] له القوةُ والغلَبَة، والقدرة والقهر، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور: 63].
ثم قال تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[البقرة: 211]، إنه أسلوبٌ من أساليب البيان في القرآن، فقد ضربَ الله مثلاً بالأمة المغضوب عليهم مُحذِّرًا ما صنعوا، أو نسلكَ ما سلَكوا من التبديل والتغيير، والتحايُل على الشريعة، والمُجادَلة فيها، وردِّ بعض أحكامها، مع وضوح الآيات والبراهين، وقد كانوا في نعمة ما جاء به الأنبياء، وما بدَّلَت البشريةُ هذه النعمةَ إلا بدَّلَ الله حالَها سَقامًا، وعاجَلَها بشِقوة الدنيا قبل نَكالِ الآخرة، ولك أن تقرأ في هذا التبديل ما يُعانيه العالمُ اليوم من القلق والحيرة، والنزاعات والحُروب، والقهر والتظالُم، ولهم في كتاب الله أسبابُ السعادة لو كانوا يعلمون.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه تدميرًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم جازِه بالخيرات والحسنات على خدمة الحرمين الشريفين، وبارِك جُهدَه وعزمَه على توسِعة المَطاف وتهيِئته للطائفين، والتوسِعة والتيسير به على المسلمين، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه الخيرُ للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خُلَّتهم، وأطعِم جائعَهم.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
ربَّنا تقبَّل منا صيامَنا وقيامَنا ودعاءَنا وصالحَ أعمالنا، إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 09-28-2011 12:43 AM

حسن الظن بالله وآثاره
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة يوم 25/10/1432هـ بعنوان: "حسن الظن بالله وآثاره"، والتي تحدَّث فيها عن حُسن الظن بالله تعالى، وبعض آثاره وثمراته، مُنبِّهًا على خطر إساءة الظن بالله؛ لما في ذلك من الوعيد الشديد والعقاب الأليم يوم القيامة، مُستدلاًّ على ذلك بما جاء في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله الهادي لمن استهداه، الكافي من تولاَّه، أحمده - سبحانه - حمدًا نبتغي به وجهَه ورِضاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا ربَّ غيرُه ولا إله سِواه، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أفضلُ نبيٍّ هداه ربُّه واصطفاهُ واجتباه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه صلاةً وسلامًا تزكُو بهما النفوس وتسمُو وتطيبُ بهما الحياة.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وتوبوا إليه واستغفِروه يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا[نوح: 11، 12].
عباد الله:
ديدَنُ أُولي الألباب ونَهجُ المتقين وشأنُ عباد الرحمن: إحسانُ الظنِّ بربهم الأعلى لا حَيْدَة عنه، ولا مَيْل عن سبيله، ولا توقُّف فيه ولا نُكوص عنه، ولا عجبَ أن يكون لهم هذا النهج، وأن يُعرَف لهم هذا المسلَك وهذا التعامُل مع ربهم؛ فقد جاءهم منه - سبحانه - ما يبعَثُ على الاستمساك به والعضّ عليه بالنواجِذ، وذلك في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله: أنا عند ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرني ..» الحديث.
وفي الحديث الذي أخرجه مسلمٌ في "صحيحه" عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يمُوتنَّ أحدُكم إلا وهو يُحسِنُ الظنَّ بالله تعالى».
وهذا مُبايِنٌ أعظم المُبايَنة، ومُخالفٌ أشد المُخالَفة لطريق الظانِّين بالله ظنَّ السَّوْء، أولئك الذين نعى اللهُ عليهم هذا وشدَّد عليهم فيه النكير، فقال - سبحانه - فيما قصَّ علينا من أنباء غزوة أُحُد وما كان فيها من أحداثٍ وعِبَر: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[آل عمران: 154].
إنه حديثٌ عن فِئة أهل شكٍّ ورَيبٍ في الله - عزَّ وجل -، لم يغشَها النُّعاس الذي بعثَه الله يوم أُحُد بسبب ما كانت عليه - أي: هذه الفِئة - من قلقٍ وجزَعٍ وخوف، تظنُّ بالله غيرَ الظنِّ الحق الذي يجبُ أن يُظنَّ به - سبحانه -، كما قال - عزَّ اسمُه -: بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا[الفتح: 12].
وهكذا اعتقدَت هذه الفِئَة أن مُشركي قريش لما ظهَروا أن هذا الظهر هو الفَيصلُ، وأن اللهَ لا ينصُر رسولَه، وأن أمره سيضمَحِلّ، وأنه يُسلِمُه إلى القتل.
وفُسِّر - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: بأن ما أصابَهم لم يكن بقضائه وقدره ولا حكمة له فيه، ففُسِّر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يُتِمَّ أمر رسوله، ويُظهِره على الدين كله.
وهذا هو ظنُّ السوء الذي ظنَّه المُنافِقون والمُشركون به - سبحانه وتعالى - في سورة الفتح؛ حيث يقول: وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا[الفتح: 6].
وإنما كان هذا ظنَّ السوء وظنَّ الجاهلية الذي نُسِب إلى أهل الجهل وظنَّ غير الحق؛ لأنه ظنٌّ لا يليقُ بأسمائه الحُسنى وصفاته العُليا وذاته المُبرَّأة من كل سوء، بخلاف ما يليقُ بحكمته وحده وبتفرُّده بالربوبية والألوهية، وما يليقُ بوعده الصادق الذي لا يُخلِفُه، وبكلمته التي سبَقَت لرُسُله أن ينصُرَهم ولا يخذُلَهم، ولجُنده بأنهم هم الغالبون.
فمن ظنَّ بالله أنه لا ينصُر رسولَه ولا يُتِمُّ أمره ولا يُؤيِّده، ولا يُؤيِّد جُندَه، ولا يُعلِيهم ويُظفِرُهم بأعدائه ويُظهِرهم عليهم، وأنه لا ينصُر دينَه وكتابَه، وأنه يُديلُ الشركَ على التوحيد، والباطلَ على الحق إدالةً مُستقرَّةً يضمحِلُّ معها التوحيدُ والحقُّ اضمحلالاً لا يقومُ بعده أبدًا؛ فقد ظنَّ بالله ظنَّ السوء، ونسبَه إلى خلاف ما يليقُ بكماله وجلاله وصفاته ونُعوته، فإن عزَّته وحكمةَ إلهيته تأبَى ذلك، وتأبَى أن يُذِلَّ حِزبَه وجُنده، وأن تكون النُّصرةُ المُستقرَّة والظَّفَر الدائم لأعدائه المُشركين به العادِلين به.
فمن ظنَّ به ذلك فما عرَفَه ولا عرفَ أسماءه ولا عرَفَ صفات كماله، وكذلك من أنكر أن يكون ذلك بقضائه وقدره فما عرَفَه ولا عرَفَ ربوبيته ومُلكَه وعظمَتَه، وكذلك من أنكر أن يكون ما قدَّر اللهُ من ذلك وغيره لحكمةٍ بالغة وغايةٍ محمودة يستحقُّ الحمدَ عليها، وأن ذلك إنما صدَرَ عن مشيئةٍ مُجرَّدةٍ عن حكمةٍ وغايةٍ مطلوبةٍ هي أحبُّ إليه من فَوتها، وأن تلك الأسباب المكروهة المُفضِيَة إليها لا يخرج تقديرُها عن الحكمة؛ لإفضائها إلى ما يُحبُّ - وإن كانت مكروهةً له -، فما قدَّرها سُدًى، ولا أنشأها عبثًا، ولا خلقها باطلاً، ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ[ص: 27].
وأكثرُ الناس يظنُّون بالله غيرَ الحق ظنَّ السوء فيما يختصُّ بهم، وفيما يفعلُه - سبحانه - بغيرهم، ولا يسلمُ من ذلك إلا من عرفَ اللهَ وعرفَ أسماءَه وصفاتِه، وعرفَ مُوجِبَ حمده، وعلِمَ حكمته؛ فمن قنطَ من رحمته، وأيِسَ من روحه فقد ظنَّ به السوء.
ومن جوَّز عليه أن يُعذِّب أولياءَه مع إحسانهم وإخلاصهم، ويُسوِّي بينهم وبين أعدائه فقد ظنَّ به السوء.
ومن ظنَّ به أنه يترك خلقَه سُدًى مُعطَّلين من الأمر والنهي، ولا يُرسِلُ إليهم رُسلَه، ولا يُنزِّلُ عليهم كتبَه؛ بل يترُكهم هملاً كالأنعام؛ فقد ظنَّ به ظنَّ السوء.
ومن ظنَّ أنه لن يجمَع عبيدَه بعد موتهم للثواب والعِقاب في دارٍ يُجازَى فيها المُحسِن بإحسانه والمُسيءُ بإساءته، وليُبيَّن لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه، وليُظهِر للعالمين كلهم صدقَه وصدقَ رُسله، وأن أعداءه كانوا هم الكاذبين؛ فقد ظنَّ به ظنَّ السوء.
ومن ظنَّ أنه يُضيعُ عليه عملَه الصالحَ الذي عمِلَه خالصًا لوجهه الكريم على امتثال أمره، ويُبطِله عليه بلا سببٍ من العبد، وأنه يُعاقِبُه بما لا صنيعَ فيه ولا اختيار ولا قُدرةَ ولا إرادةَ في حصوله؛ بل يُعاقِبُه على فعله هو - سبحانه - به، أو ظنَّ أنه يجوز عليه أن يُؤيِّدَ أعداءَه الكاذبين عليه بالمُعجِزات التي يُؤيِّدُ بها أنبياءَه ورُسُله، وأن يُجرِيَها على أيديهم يُضلُّون بها عبادَه، وأنه يحسُنُ منه كلُّ شيءٍ حتى أن يُعذِّبَ من أفنى عمرَه في طاعته فيُخلِّدَه في الجحيم أسفل سافلين، ويُنعِّمَ من استنفذَ عمرَه في عداوته وعداوة رُسله ودينه، فيرفعه إلى أعلى عليِّين، وأن كلا الأمرين في الحُسن سواءٌ عنده؛ فقد ظنَّ به ظنَّ السوء.
ومن ظنَّ به أنه أخبرَ عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهرُه باطلٌ وتشبيهٌ وتمثيل، وتركَ الحقَّ ولم يُخبِر به، وإنما رمزَ إليه رموزًا بعيدة، وأشارَ إليه إشاراتٍ بالألغاز، وأراد من خلقه أن يُتعِبوا أذهانَهم وقُواهَم وأفكارَهم في تحريف كلامه عن مواضِعه، وتأويله على غير تأويله، من ظنَّ به - سبحانه - ذلك فقد ظنَّ به ظنَّ السوء.
ومن ظنَّ به أنه إذا صدَقَه في الرغبةِ والرهبةِ، وتضرَّع إليه وسألَه، واستعانَ به، وتوكَّلَ عليه، أنه يُخيِّبُه ولا يُعطيه ما سألَه؛ فقد ظنَّ به ظنَّ السوء، وظنَّ به خلافًَ ما هو أهلُه.
فأكثرُ الخلق - بل كلُّهم - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أكثرُ الخلق - بل كلُّهم - إلا من شاء الله منهم - يظنُّون بالله غيرَ الحق ظنَّ السوء؛ فإن غالبَ بني آدم يعتقِدُ أنه مبخوسُ الحق، ناقِصُ الحظ، وأنه يستحقُّ فوق ما أعطاه الله، ولسانُ حالِه يقول: ظلمَني ربي، ومنعني حقي، ونفسُه تشهَدُ عليه بذلك، وهو بلسانه يُنكِرُه، ولا يتجاسَرُ على التصريح به، ومن فتَّشَ نفسَه وتغلغلَ في معرفة دفائنِها وطواياها رأى ذلك فيها كامِنًا كُمُونَ النار في الزناد، فمُستقِلٌّ ومُستكثِر".
ففتِّش نفسَك: هل أنت سالمٌ من ذلك؟!
فإن تنجُ منها تنجُو من ذي عظيمةٍ
وإلا فإني لا إِخالُكَ ناجيًا
فليعتنِ اللبيبُ الناصِحُ نفسَه بهذا الموضع، وليتُب إلى الله ويستغفِره كل وقتٍ من ظنِّه بربه ظنَّ السوء، وليظنَّ السوء بنفسه التي هي مادةُ كل سوء، ومنبَع كل شر؛ فهي أولَى بظنِّ السوء من أحكَم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين الغني الحميد، الذي له الغِنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه، هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ[الحشر: 24].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، أحمده - سبحانه - حمدَ شاكرٍ ذاكرٍ مُخبِتٍ لربه الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثَّرى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله وحبيبُه المُجتبى ونبيُّه المُصطفى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أئمة الهُدى ونُجوم الدُّجَى.
أما بعد، فيا عباد الله:
قال الله تعالى - حكايةً عن قول إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - لقومه: أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ[الصافات: 86، 87]؛ أي: ما ظنُّكم أن يفعل بكم إذا لقِيتموه وقد عبدتم غيرَه؟!
ومن تأمَّل هذا الموضع - كما قال أهل العلم - علِمَ أن حُسن الظن بالله هو نفس حُسن العمل؛ فإن العبدَ إنما يحمِلُه على حُسن العمل ظنُّه بربِّه أنه يُجازيه على أعماله، ويُثيبُه عليها، ويتقبَّلُها منه، فالذي حمَله على حُسن العمل حُسن الظن؛ فكلما حسُن ظنُّه حسُن عملُه، وإلا فحُسن الظنِّ مع اتباعِ الهوى عجزٌ.
وبالجُملة؛ فحُسن الظن إنما يكون مع انعقاد أسباب النجاة، وأما مع انعقاد أسباب الهلاك فلا يتأتَّى إحسانُ الظن.
فاتقوا الله - عباد الله -، وأحسِنوا الظنَّ بربكم، وأحسِنوا له العمل؛ تفوزوا بالرضا والرضوان من الرب الرحيم الرحمن، ونزول رفيع الجِنان.
وصلُّوا وسلِّموا على سيد ولد عدنان؛ فقد أمركم بذلك الملكُ الديَّان، فقال - سبحانه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، اللهم اجزِه أفضلَ الجزاء و أحسنَه وأكملَه على مواقفه الإسلامية الطيبة وغيرته المشكورة، وتصدِّيه لمن تجاوز حُدودَه فتعدَّى وأساءَ وظلَم.
اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمسلمين يا رب العالمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد، يا من إليه المرجِعُ يوم التناد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شر.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 10-01-2011 06:17 AM

مفهوم الحرية في الإسلام

ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 2/11/1432هـ بعنوان: "مفهوم الحرية في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن الحرية في الإسلام، وبيَّن مفهومها الصحيح مُحذِّرًا من المفاهيم المغلوطة لهذه الكلمة، وقد بيَّن أن الإسلام كفلَ للمسلم الحريةَ بالالتزام بأوامر الله وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم -.


الخطبة الأولى

الحمد لله الواحد الأحد الصمد الذي لم يلِد ولم يُولَد، ولم يكن له كُفوًا أحد، شرعَ لنا من الدين ما وصَّى به نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدًا - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين -، فأقيموا الدين ولا تتفرَّقوا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله وصفيُّه وخليلُه، وخيرتُه من خلقه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وراقِبوه في السرِّ والعلَن، والخَلوة والجَلوة؛ فإن الله يعلمُ خائنةَ الأعيُن وما تُخفِي الصدور.
واعلموا أن ما بكم من نعمةٍ فمن الله، وأنه لا نعمةَ أعظم ولا أبلغ في النفوس من نعمة الإسلام والدين والانقياد لأمر الله وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والتماسِ مظانِّ رضا الله، واجتناب مظانِّ سخَطه - جل وعلا -.

عباد الله:
كل إنسانٍ على هذه البسيطة له أمنيةٌ لا تُفارقُ خيالَه، ولا تنفكُّ عن أن تكون في مُقدِّمة تطلُّعاته في هذه الحياة، وهي: أن يعيش حرًّا كريمًا عزيزًا، يُتاحُ له مساحةً واسعةً من الحرية والاستقلال؛ ليُشارِك ويُحاوِر ويأخذ ويُعطي.
وإلى هذا الحدِّ نجِدُ أن شريعتَنا الغرَّاء قد كفَلَت لكل مسلمٍ هذه الأمنية ورعَتها حق رعايتها، فجعلَته حرًّا عزيزًا كريمًا لا سلطان لأحدٍ عليه غير سلطان الشريعة؛ فهو حرٌّ صبيًّا وشابًّا وكهلاً وشيخًا، في حريةٍ مُطلقة ما لم يُخِلَّ بواجباته تجاه ربِّه ودينه وبني ملَّته، وما لم ينتهِك من الموانع والمحاذير ما يُوقِفُ عنه هذه الخِصِّيصة التي يتطلَّعُ إليها.
فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا تَحاسَدوا، ولا تَناجَشوا، ولا تَباغَضوا، ولا تَدابَروا، ولا يبِعْ بعضُكم على بيع بعضٍ، وكونوا عبادَ الله إخوانًا، المسلمُ أخو المسلم، لا يظلِمُه، ولا يخذُلُه، ولا يحقِرُه، التقوى ها هنا - ويُشير إلى صدره، ثلاث مرات -، بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلم، كل المسلمِ على المسلمِ حرام؛ دمُه ومالُه وعِرضُه»؛ رواه مسلم.
إن الشريعة - عباد الله - هي سرُّ الأمان لضمان الصالح العام، وهي مبنيةٌ على الرحمة والعدل والخير الذي يأمر اللهُ به عبادَه، تعودُ غايتُه لإسعاد الناس في آجِلهم وعاجلِهم، وأن الشر الذي نهاهُم عنه ليس إلا وقاية لهم من أذًى قريبٍ أو بعيد.
ولذا فقد سما الإسلام بالمسلم روحًا وجسدًا، عقلاً وقلبًا؛ فلم يضَع في عُنقه غُلاًّ، ولا في رِجله قيدًا، ولم يُحرِّم عليه طيبَة، وفي الوقت نفسِه لم يدَعه كالكرة تتخطَّفُها مضارِبُ اللاعبين، فتهوِي به في كل اتجاه حتى تُقنِعَه بأن الإنسان إنما يعيشُ لنفسه ومتاع الدنيا، فإذا كان الأحمقُ منهم يعيشُ ليأكل؛ فإن العاقل منهم - بهذا التصوُّر الرخيص - إنما يأكل ليعيش.
وأما المؤمنُ الصادق الموصول بربِّه وحبِّه وخشيتِه فإنه يستحضِرُ قولَه تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ[المؤمنون: 115].
يقول الشاطبي - رحمه الله -: "اتفقَت الأمةُ على أن الشريعةَ وُضِعَت للمحافظةِ على الضرورات الخمس، وهي: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وعلمُها عند الأمة كالضروري".
أيها الناس:
لقد تواطأَ الناسُ على البحث عن الحرية والكرامة وأعياهُم طِلابُها، غيرَ أن كثيرًا منهم سارَ في غير مسارِها، والتمسُوها في غير مظانِّها؛ فحسِبَها بعضُهم في اللَّهَث وراء الدنيا بزينتِها وزُخرُفها والعبِّ منها كما الهِيْم، بل ذهبَ بعضُهم إلى أبعدَ من ذلكم؛ ليصرَ مفهوم الحرية عنده: إن لم تكن ذِئبًا أكلَتْك الذئاب، وإن لم تَجهَل يُجهَل عليك، وإن لم تتغدَّ بزيدٍ تعشَّى بك!
وأن الحريةَ عندهم: أن تقول ما تشاء، وتفعل ما تشاء، وتكتبَ ما تشاء، وتتكلَّم فيمن تشاء، دون زمامٍ ولا خِطام، حتى ولو كان في أمور الدين والعقيدة وحقِّ الله وحقِّ رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن الحريةَ الحقَّة - عباد الله - دينٌ يتبَعُهُ عملٌ ويصحَبُه حملُ النفس على المكارِه، وجَبلُها على تحمُّلِ المشاقِّ، وتوطينُها لمُلاقاة البلاء بالصبر والشدائد بالجلَد، وحفظ الحُدود، والتسليم للشريعة والتمسُّك بها؛ فالحرُّ من آثَر الباقي على الفاني، والحريةُ رضًا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - رسولاً، وقناعةٌ بالمقسوم، وثقةٌ بالخالق، واستمدادُ العَون منه، ومن ذاقَ طعمَ الإيمان ذاقَ طعمَ الحرية.
فمن حقَّق العبوديةَ لله - سبحانه - فلن يكون عبدًا لهواه، ولا أسيرًا لأحدٍ من الناس؛ حيث لا تحكمُه الشهوةُ ولا المُصانَعة، ولا يُوجِّهُه مبدأُ: كم تملِك؟ وما مركزُك ومنصبُك؟ لأنه يحمِلُ في نفسه معنى الناس لا معنى ذاته؛ ليُصبِحَ حرًّا بهذا التصوُّر الإيجابي.
فإن من أساسات الحريةِ - عباد الله -: أن يُؤدِّي المرءَ حقَّ الله على ما أراد - سبحانه -، وأن يُؤدِّي حقَّ العباد وفقَ ما شرعَه الله له، فلا حريةَ في التحليل والتحريم؛ لأن الله - جل وعلا - يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3]، ويقول - جل وعلا -: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ[النحل: 116].
وليس لمخلوقٍ الحرية فيما يخُصُّ أعراضَ الناس؛ فقد يترتَّبُ على ذلك جَلْدٌ في القذف، أو رجمٌ في الزِّنا، ولا فيما يخُصُّ العقل؛ فقد يترتَّبُ على ذلك جلدٌ في المُسكِر، أو قتلٌ في المُخدِّرات، أو تعزيرٌ في إفساد الفِكر، ولا حرية مُطلقة في المال؛ فقد تُقطَع اليدُ في سرقة، أو يُعزَّرُ امرؤٌ في غصبِ مال، ولا حرية مُطلقة في النفس؛ فقد يُقتَلُ قِصاصًا، أو يُصلَبُ حِرابةً، ولا حرية مُطلقة في الدين؛ فإن الله - جل وعلا - يقول: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[آل عمران: 85].
ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ: الثيِّبُ الزاني، والنفسُ بالنفسِ، والتاركُ لدينه المُفارِقُ للجماعة»؛ رواه مسلم.
فمن أراد الحريةَ الحقَّة - عباد الله - فلينظُر مدى توافُقها مع شِرعَة الله وصِبغَته، ومن أراد أن يُحسِن سِياجَ الحرية فليستمِع إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى فرضَ فرائِضَ فلا تُضيِّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدُوها، وحرَّم أشياءَ فلا تنتهِكوها، وسكتَ عن أشياء رحمةً غيرَ نسيان فلا تبحَثوا عنها»؛ حديثٌ حسنٌ، رواه الدارقطني وغيرُه.
وحاصلُ الأمر - عباد الله -: أن الحريةَ ترابُطٌ وثيقٌ بين أفراد المجتمع وأُسَرِه وبُيُوتاتِه، يشترِكون في الواجبات والحقوق، لا يعتدي بعضُهم على بعضٍ، ولا يظلمُ بعضُهم بعضًا، ولا يبغِي بعضُهم على بعض، أمامَهم فُسحةٌ واسعةٌ من المُباحات هي عفوٌ قد سكتَ عنها الشارِعُ الحكيم.
فإن أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا مُنحرفين ولا مُتماوتين، وكانوا يُنشِدون الأشعارَ في مجالسهم، ويذكرُون أمرَ جاهليَّتهم، فإذا أُريدَ أحدُهم على شيءٍ من دينه دارَت حماليقُ عينيه؛ رواه البخاري في "الأدب المفرد".
بمثلِ هذا كلِّه - عباد الله - يتَّصِلُ ما بين العظيمِ والسُّوقَة، والشريفِ والوَضيع، والغنيِّ والفقير، بعيدًا عن معاني الدينار والدرهَم وحِمامِهما؛ ليُرفَع بذلك الشيءُ النفيس ويُخفَضَ الشيءُ الخَسيس، لا أن يطفُوَ الخَشاشُ والحَشاش ويسفُلَ الدرُّ والجوهَر.
وليتَّقِ الجميعُ حدودَ الله؛ فإن الله - جل وعلا - يقول: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا[البقرة: 229]، ويقول - سبحانه -: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ[الطلاق: 1]، وقال - جل وعلا -: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ[النساء: 13، 14].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.




الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعلموا أن حفظَ بُنيان المسلم من أعظم المصالِح التي دلَّ عليها الشارِعُ الحكيم، وأن انتهاكَه من أعظم المفاسِد التي حذَّرَ منها، وقتلُ النفس المُحرَّمة جزءٌ من ذلكم، وفي هذا من الظلمِ والنِّكايةِ ما لا يخفَى على بشر.
وقد قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وإعدامُ البِنيةِ الإنسانية غايةٌ في ذلك".
وقتلُ النفس المعصومة كبيرةٌ من كبائر الذنوب؛ فقد قال - جل وعلا -: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء: 93]، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لَزوالُ الدنيا أهونُ على الله من قتلِ رجلٍ مسلمٍ»؛ رواه الترمذي.
وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «لو أن أهلَ السماء وأهلَ الأرض اشترَكوا في دمِ مؤمنٍ لأكبَّهم الله في النار».
وقد قال - صلوات الله وسلامُه عليه -: «يجِيءُ المقتولُ يوم القيامة آخِذا رأسَه بيمينِه تشخُبُ أوداجُه في قِبَلِ عرش الرحمن يقول: سَلْ هذا: فيمَ قتلَني؟!»؛ رواه أحمد.
ألا فليتَّقِ اللهَ أولئك الظالمون المُتهوِّرون الذين يُصوِّبون فُوَّهات بنادقهم وأسلحتِهم إلى صُدور إخوانهم وبني مجتمعهم؛ فيقتُلون ويُسرِفون في القتل، ويرتكِبون أبشعَ الجرائِم والمجازِر، فلا يرعَون حُرمةَ دمٍ ولا مالٍ ولا ولد، كل ذلك لأجلِ عَرَضٍ من الدنيا زائِل، قدَّموا مصالِحَهم على حُرمات العباد، حتى لقد صارَ إهراقُ الدمِ عندهم أهونَ من قتل البَعوضة. وتاللهِ وباللهِ؛ فإن هذا لهُو البَوارُ والخُسران، وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ[العنكبوت: 13].
إن القاتل مسجونٌ ولو كان طليقًا، مهمومٌ ولو بدَتْ نواجِذُه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لن يَزالَ المؤمنُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يُصِب دمًا حرامًا»؛ رواه البخاري.
وقد قال ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: "إن من وَرطات الأمور التي لا مخرجَ لمن أوقعَ نفسَه فيها سفكَ الدم الحرام بغير حِلِّه".
وعند الله تجتمعُ الخُصوم.
ألا فليتَّقِ الله الذين يقتُلون إخوانَهم في بُلدانهم، ألا فليتَّقوا الله، ألا فليتَّقوا الله، ألا فليتَّقوا الله.
هذا؛ وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56]، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيِّك محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، وفُكَّ أسرَ المأسُورين، يا ذا الجلال والإكرام يا رب العالمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ إخواننا المسلمين في كل مكان؛ في مصر، وسُوريا، واليمن، وليبيا، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة : 201].
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 10-08-2011 01:42 AM

اقتضاءُ القولِ العمل
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة2/11/132هـ بعنوان: "اقتضاءُ القولِ العمل"، والتي تحدَّث فيها عن وجوب موافقة القول للعمل وعدم مخالفة ذلك؛ لما ورد في الكتاب والسنة من العقاب والمقت الشديد لمن فعل ما يُخالِفُ قولَه.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه سبحانه وبحمده لم يزَلْ للثناءِ والحمدِ مُستحِقًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خصَّنا بشريعةٍ غرَّاء هي المَعينُ السَّلسالُ الأبقَى، من اعتصمَ بها ظاهرًا وباطنًا توقَّى وفازَ وترقَّى، وأشهد أن نبيَّنا وحبيبَنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أزكى البريَّةِ سرًّا وعلانيةً وأتقى، صلَّى الله وبارَكَ عليه، وعلى آله الحائزين المكارِمَ أصلاً وسبقًا، وصحبِه البالغين من ذُرَى الدين المقامَ الأرقى، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو في الجِنانِ أهنَا ملقَى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا ما أعقَبَ ودقٌ برقًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله حقَّ التقوى، اتقوه - جلَّ جلاله - مخبرًا ومظهرًا تُحقِّقوا عزًّا ترى ما أبرهًا، وتحُوزوا مجدًا أظهرًا، وتستعيدوا سُؤددًا غابرًا أزهرًا، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا[الطلاق: 5].
فما أروعَ الأيام إن زانَها التُّقَى
وأضحَت مساعِي الجمعِ محمودةَ العُقبَى
ففي تقوى الإلهِ السنيَّةِ حلَّقَت
نفوسٌ إلى عليَائِها تنشُدُ القُربَى
أيها المسلمون:
في عصر الماديات واعتسافِها، وذُبُولِ الروحِ وجفافِها، واجتِثاثِ كثيرٍ من القِيَم وانتِسافِها، وشُرُودِ النفوس دون صحيحِ التديُّنِ وانصِرافِها؛ تغلغَلَت في الأمةِ آفةٌ قَحِلَة، جَرذَاءُ محِلَة، برَّحَت بالأمةِ وأوهَتها، وطوَّحَت بها وأضنَتها، كيف وإنها لتبُكُّ الفيالِقَ المُجنَّدَة والقواضِبَ المُهنَّدة؛ لذلك حذَّر منها الباري وندَّد، أكبَرَ في أمرها المقتَ وشدَّد، تلكم هي - حماكم الله -: الانفِصامُ بين العمل والقول، وما أشنَعه من هَوْل، وتبايُنُ الخُبُر عن الخَبَر في انحرافٍ عن سَوِيِّ الفِطَر، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[الصف: 2، 3].
الله أكبر! فكم هم الذين يجمَعون في ذواتِهم الصفات المُتناقِضات دون تأثُّمٍ وحرجٍ، سائرين إلى ربِّهم في ضلَعٍ وعِوَج، فكان ذلكم الانفِصامُ الوَبِيء بين العقيدةِ والقِيَم، والعبادات والأخلاق، والشعائرِ والمشاعِر سببًا في تقهقُرِ أمتنا وعجزِها عن بلاغِ رسالتِها في العالمين.
إخوة الإيمان:
ولتحقيق معالمِ الكمال الربانية للشخصيةِ المُسلِمة السويَّة جاء الإسلامُ بجمهرةٍ من الضوابطِ الخُلُقية والفكرية والآداب النفسية والاجتماعية لاستبقاءِ التديُّن حقًّا شفيفًا مُزهِرًا في الجَنان، حقيقةً مُثمِرةً في الأركان، حقيقةً مُؤتلِقَةً في العِيان، يقول - سبحانه - عن نبيِّه شُعيب - عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام -: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ[هود: 88]، وهؤلاء رُسُل الملك العلاَّم هم قُدوةُ الأنام فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ[الأنعام: 90].


في الأثر عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: "إن الناسَ قد أحسَنوا القولَ؛ فمن وافقَ قولُه فعلَه فذاكَ الذي أصابَ حظَّه، ومنن خالَفَ قولُه فعلَه فذاكَ إنما يُوبِّخُ نفسَه".
إذا نصَبوا للقول قالوا فأحسَنوا
ولكنَّ حُسنَ القولِ خالَفَهُ الفعلُ
نعم - يا رعاكم الله -؛ كم تستبيكَ الأقوالُ المُخرفَةُ المُبهرَجة، وما هي في الحقيقةِ - إذا عجَنتَ صاحبَها - إلا الهباءُ تذرُوهُ الرياح، وتأسِرُكَ النظرياتُ المُطرَّزة، وما هي - إذا بلوتَ تالِيَها - إلا النُّكرُ والجُناح، فالقائلُ بليغٌ مُفوَّه، والحديثٌ آسِرٌ مُموَّه، والفعلُ - من أسفٍ - خِداجٌ مُشوَّه، يُظهِرُ باللسان الأُخُوَّةَ المَديحة، ويُبطِنُ بالفِعال العداوةَ الصريحَة، وقد كشفَهم الحقُّ في قوله - جلَّ جلاله -: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ[البقرة: 204].
أما دَرَى هؤلاء أن امتثالَ الأحكام بالأركان أجلُّ من الحديثِ عنها بصَوغِ اللسان؟! شتَّان بينهما شتَّان!
والقولُ ما لم يكن بالفعلِ مُقترِنًا
فإنه عَرَضٌ في حيِّزِ العَدَمِ
وفي مأثورِ الحِكَم: "القولُ خُلَّب، والفعلُ قُلَّب، وأصدقُ المقال ما نطَقَت به صورُ الفِعال".
أمة الإسلام:
الحديثُ عن آفةِ الانفِصالِ في الأقوال والأفعال والتبايُنِ بينهما دون استِحكام مُرُّ المذاق، مُجرٍ لعَبَراتِ الأحداق، فكم هم الذين ظاهِرُهم الديانة انحرَفوا في مسائل الاعتقاد، فاستغاثُوا بالرُّفاتِ يرجُونَهم قضاء الحاجات وتفريجَ الكُرُبات، وهذا الاعتقادُ الفاسِدُ خالَفَ الظاهِرَ الكاسِد.
وآخرُون يُعدُّون في الأفاضِلِ الأخيار، إذا لاحَ لهم عَرَضٌ من الدنيا مشبُوه أجلَبوا عليه بخيلِ التأويل، واستحَلُّوه بكل دليلٍ وتعليل، ونبَذُوا اتِّقاءَ الشُّبُهات ظِهرِيًّا، وغَدَا ما يدعُون إليه من الورَع نسيًّا منسيًّا، وعلى سَنَنهم: من يتأوَّلُ النصوصَ مُترخِّصًا، ويفتَئِتُ على الله مُتخرِّصًا.
وآخرُون ظاهرُهم الخيرُ والصلاح، والرَّصانةُ والسماح، إذا انفَتَلَ أحدُهم إلى بيتِه أمسَى شرُّه مُستطيرًا، ومُحيَّاه عَبوسًا قمطريرًا، واستغلَّ قِوامَته في حقٍّ غير مشروع؛ فأرهَقَ أهلَه واستولَى على حقوقِهم غيرَ عابِئٍ بنَصَبِهم وكَلالِهم.
وذلك هو اللُّؤمُ المرذُول، والتديُّنُ الآثِمُ المدخُول، وقد يُبادَلُ بالنُّشوزِ والإهمال، وتضييعِ الواجباتِ والإغفال، في انفِصامٍ زَمِل بين العبادات والقِيَم، وما يكون في المسجد وكما يحدُثُ في البيوت والأسواق وصور التعامُل وغير ذلك من مظاهر تخفَى وراءها غُرَرٌ تقشعِرُّ لها الأبدان، وعِلَلٌ تثلِمُ الأديان.
ربَّاه ربَّاه؛ أيُّ أقوالٍ مُتعاكِسة وأفعالٍ مُتشاكِسة طوَّحَت بفِئامٍ في دَيجُورِ الهَوالِك الحَوالِكِ.
إذا فعل الفتَى ما عنه يُنهَى
فمن جهتَين لا جهةٍ أساءَا
وفي أمثال هؤلاء يقول الإمام العلامة ابن القيم - رحمه الله -: "ومن العجب أن ترى الرجلَ يُشارُ إليه بالدين والزُّهدِ والعبادة وهو يتكلَّمُ بالكلمات من سخَطِ الله لا يُلقِي لها بالاً، يذِلُّ بالواحِدة منها أبعدَ ما بين المشرقِ والمغربِ". اهـ كلامُه - رحمه الله -.
فهل يعِي ذلك الزاعِمون التحقُّق بالدين وهم طعَّانون في فُضلاءِ الأمةِ وأخيارِها، مُتنقِّصون لسلَفِها ورُمُوزها، مُتنحِّلين لهم المَثالِب مع إشهارِها، يُذكُونَ الفتنَ دونهم، والعامةُ بالتبجِيلِ والحُبِّ يرمُقُونَهم؛ بل حازُوا الفضلَ برُمَّته، والنُّبلَ بأزِمَّته.
أليس المؤمنُ الصدُوقُ مظهرًا ومَخبرًا يُبصِرُ الحقَّ فيرتَقِيه، ويلحَظُ الباطلَ فيتَّقيه؟! بلى وربَّي.
والغريبُ: ظنُّهم أن أعمالَهم على سَنَنِ السَّدادِ والصواب، وقَبُولُها أدنَى من القَاب، وهي - لفَرَطاتِهم وانفِصامهم - أنأَى عن الحقِّ من العُقاب، في خلطٍ عجيبٍ ازدَوَجت فيه المعايير بين الأُصولِ والفروع، والقطعيَّات والظَّنِّيات، والمُسلَّماتِ المُحكَمات والمُتشابِهات، والكُلِّيات والجُزئيَّات، والعبادات والعادات، والثوابِت والمُتغيِّرات.

معاشِرَ الأحِبَّة:
ومما ينسلِكُ في ازدِواجِ الأقوالِ مع الفِعال: المُزايَدةُ على قضايا المرأة، وإثارةُ النَّقْع حولها من قِبَلِ فضائيَّاتٍ مأجورة، وأقلامٍ مسعُورة، تُظهِرُ القولَ النفيس، وتُبطِنُ الزَّيفَ والتدليس.
وهيهَاتَ هيهَات! فشريعتُنا الغرَّاءُ - بحمد الله - كفَلَت للمرأةِ مكانتَها الاجتماعية المُؤثِّرةَ الأثِيلَة، الفاعِلَةَ الجليلة عُنصرًا في الأمة نهَّاضًا بالعِبئِ بما يُلائِمُ طبيعتَها وأُنوثَتَها على هديِ المقاصِد الكُليَّة والضوابطِ الشرعيَّة، ولكن لله دَرُّ القائل:
وعُذرُهم حَتمٌ عليَّ، فالزَّمَن
فيه السليمُ، والمُلِيمُ، والزَّمِن
فعلى رِسْلِكم أيها المُزايِدون على رسالة المرأة، المُتبَاكُون على قضاياها، ويا مَن يرسُفُون في رِبقَةِ الازدِواجيَّةِ أكْتَع: ليكُن مِلئَ عيونكم وهتْفَ أرواحِكم قولُ المولى - عزَّ وجل -، لتُحقِّقوا من زَكاءِ النفس أعظمَ أمل، يقول - سبحانه -: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ[البقرة: 235].
أمة الإسلام:
ومما أجرى شَآبيبَ المَدمَع وأغمَّ وزَعزَع: تديُّنٌ مغشوشٌ من بُغاةٍ وطُغاةٍ أحالُوا شُعوبَهم إلى البَوَار، واعتَسَفوهم بالحديد والنار دون وَجَلٍ من المُنتقِمِ الجبَّار، أو خَفقَةٍ إنسانيَّة تُخفِّفُ ذيَّاكم التسلُّطَ الكُبَّار، مُتشدِّقين بحفظِ النظام وبَسطِ الاستقرار.
فسبحان الله - عباد الله -؛ أما لهذا الطغيان من حدٍّ، أم لهذا الظلم لإخوانكم من ردٍّ؟!
أيُّ عدوانٍ صلِفٍ مَهول، بل أيُّ عُتاةٍ أشبَهوا بَأْوَ التتار والمَغول؟!
فإلى الله المُشتَكى، إلى الله المُشتكى، ولا حول ولا قوةَ إلا بالله تفجُّعًا واستفظَاعًا، وارتِياعًا واستِرجاعًا.
هذا؛ وإن العالمَ ليَحدُوه الأملُ في استئنافِ وتفعيلِ تنفيذِ مُبادَرة قيادةِ هذه البلاد المُبارَكة الكريمة الحكيمة في حقنِ دماءِ المُسلمين، ونَزعِ فتيلِ القمعِ والتقتيل للأبرياء المُضطهَدين والعُزَّلِ المقهورِين، لِما لهَا - بفضل الله - من الثِّقَلِ السياسيِّ والتقديرِ العالمِيِّ الدوليّ، وكذا في الأقطار التي امتَطَت للتفاوُض البارُودَ والنار.
دُمتُم للأمة رُوَّاد تراحُمٍ وسلام، وقادةَ عِزٍّ للمؤمنين ووِئام.
أما دُعاة الفِتنة، ومُثيرُو الشَّغَب ومن يقِفُ وراءَهم، والمُخِلُّون بالأمنِ والاستِقرار، والسَّاعُون بالفسادِ والفوضَى المُشهِرون للسلاح، المُقوِّضون لوحدَة البلاد الشرعية والوطنية، المُفتَاتون على ولاةِ الأمر، المُفارِقون للجماعة، فلا مكان لهم في بلاد الحرمين - حرسَها الله -، بلاد التوحيد والوَحدة، ومهدِ السنةِ والجماعة، ولن يُؤثِّروا - بفضل الله ومَنِّه - على منظُومةِ لُحمَةِ بلادنا المُتألِّقة ونسيجِها الأمنِيِّ المُتميِّز، وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[الأنفال: 30].
وبعدُ، أحبَّتنا الأكارم:
فهُنا استِصراخٌ للأفراد والجماعات، والأُمَم والمُجتمعات، أن لا بُدَّ من الأَوبَةِ إلى الشفافيَةِ والسَّدادِ، وامتِثالِ طرائقِ الواقعيَّةِ والرَّشاد، فلطالَما غرِقَ أقوامٌ في لُجَجِ المُداجاةِ والخِداع، ولشَدَّ ما استحكَمَت فيهم آفةُ الاستئذابِ في الطَّباعِ، فتردَّوا في بئيسِ الضياع.
وأن لا بُدَّ أيضًا أن يكون منكم بحُسبان كونُ عظمةِ المُسلمِ في إشراقِ رُوحه، ونقاوَةِ جوهره، ومِصداقيَّةِ قولِه، ونَصاعَة مظهَرِه، وتألُّقِ وسطيَّتِه واعتِدالِه، قد تأرَّجَت بالصَّفاءِ جَداوِلُ وُرودِه، وتفتَّحَت على التُّقَى أكمامُ وُرودِه.
فتبارَك ربُّنا الذي يمُدُّ عبادَه المُخلصين بالهُدى والتوفيق، والاستقامة الهاديةِ إلى أبلَجِ طريق، بذلك تسترِدُّ أمتُنا شرفَها التالِدَ المجيد، وتستنقِذُ عِزَّها الشامِخَ الفريد، وما ذلك على المولَى القديرِ بعزيز.
وفَّق الله الجميعَ لما يُحبُّه ويرضاه، ووقَانا ما يُسخِطُه - سبحانه - ويأباه، إنه جوادٌ كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافةِ المسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


ابوحاتم 10-08-2011 01:45 AM

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مبارَكا فيه يُبلِّغُنا من الرحمن رِضًا وقُربًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً محمودةَ العُقبَى، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أزكَى البريَّة رُوحًا وقلبًا، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ الأُلَى فعِمَت قلوبُهم صفاءً وحُبًّا، وصحابتِه الأبرار السادةِ النُّجَبا القائدين للحق والحقيقة جَحفَلاً لجْبًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، اتقوه في السرِّ والعلَن، واحذَروا مُخالفَةَ الفعل الذميمِ لقولِكم الحَسَن؛ تبلُغوا مرَاضِيَ الرحمن وأعظمَ المِنَن.
إخوة الإيمان:
ولانتِشالِ أمتنا الإسلامية من أوهاقِ الازدِواجيَّة والانفِصام إلى إحكامِ التوازُنِ والانسِجام بين الفِعالِ والأقوال؛ لزِمَ بناءُ الشخصيةِ القُدوةِ الحانِيَة والأُسوَة المُتجرّدة البانِيَة، ذات المعدِن الزكِيِّ العريق، المُتجذِّرِ الوَثيق بين الحالِ والمَقالِ والمآلِ، قُدوةٌ أمرُها كنهيِها، سِرُّها كجهرِها، معًا نبني أجيالاً رِجالاً في الاعتقاد والتصديق، أبطالاً في ميدانِ التحقُّقِ والتطبيق، يُترجِمون التديُّن الصحيحَ المتين الراسِخَ الرَّصين غلى جلائلِ الأعمال، ونوابِغِ الأقوال، ومعالِي الكمال، يُناهِضون الادِّعاءَ والرياءَ والنفاقَ، ويجعلونَ الطُّهرَ والألَق ميدانَ تنافُسٍ واستِباقٍ، لا ترى في خُبْرِهم وخبَرَهم إلا الشفافيَة الصدَّاحَة، وفي مواقِفِهم ومبادئِهم غيرَ المِصداقيَّةِ الفوَّاحَة التي لا تنبجِسُ إلا عن حقيقةِ الاقتِداء بالحبيبِ المُصطفَى - صلى الله عليه وسلم -، وَفقَ هديِهِ القَويمِ، على نورٍ من الله الحكيم.
وتلك - وايمُ الحق - من الإسلام دُرَرُه وخلائِقُه، وبدائِعُه وحقائِقُه، وعلى ضوءِ تلك المعايير الدقيقة، والمضامِين الثمينةِ الَريقَة ستتبوَّأ أمتُنا - بإذن الله - قِمَمَ العِزِّ والإشراق، والشُّمُوال في معارِجِ الحق والتُّقَى والائتلاق، عملاً واتِّصافًا وابتِدارًا، ودعوةً واعتِزازًا وانتِصارًا، وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ[الصف: 8].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على الحبيب المُصطفَى والرسولِ المُقتَفَى خيرِ من دعا للحقِّ فشَفَا، في الجهرِ والخَفا، كما أمركم ربُّكم - جل وعلا -، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
وصلِّ إلهِي وسلِّم سلامًا
على أفضلِ الخلقِ ماحِي البِدَع
وآلٍ وصحبٍ وأهلِ صلاحٍ
ومن سارَ في دربِهم واتَّبَع
وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأدِم الأمنَ والاستقرارَ في رُبُوعِنا، اللهم احفَظ على بلادنا عقيدَتَها وقيادَتَها وأمنَها واستقرارَها ورخاءَها، اللهم من أرادَنا وأرادَ عقيدَتَنا وقيادتَنا وأمنَنا بسُوءٍ فأشغِله بنفسه، ورُدَّ كيدَه في نحرِه، واجعل تدبيرَه تدميرَه يا سميعَ الدعاء.
اللهم أدِم على هذه البلاد الخيراتِ والبَركات، حارِسةً للعقيدة والشريعة والفضيلة، وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفَين لما تحبُّ وترضى، اللهم خُذ بناصيَته للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحة التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانَه وأعوانَه لما فيه صلاحُ البلاد والعباد، يا من له الدنيا والآخرةُ وإليه المعاد.
اللهم احفَظنا في أنفسنا وديننا وأموالِنا وأعراضِنا وعقولنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من الغاصِبين المُحتلِّين المُعتدين، اللهم أرِنا بالصهايِنة المُعتدين والطُّغاة الظالمين عجائبَ قُدرتك، يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم احقِن دماءَ المسلمين، اللهم احقِن دماءَ المسلمين، اللهم احقِن دماءَ المسلمين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم احفَظ الأمنَ في العراق وفي سوريا وفي ليبيا وفي اليمن وفي كل مكان، اللهم أدِم الأمنَ والاستِقرارَ في يمَنِنا وشامِنا وكل مكانٍ يا حيُّ يا قيُّوم.
اللهم احفَظ رِجالَ أمنِنا، ودُروعَ وطنِنا، وليُوثَ عرينِنا، اللهم احفَظنا وإياهم من بين أيدينا ومن خلفنا، وعن أيماننا وشمائِلنا، ونعوذُ بعظَمتك أن نُغتالَ من تحتنا، اللهم اغفر لشهدائهم، اللهم ارحَم شُهداءَهم، اللهم عافِ جرحاهم، واشفِ مرضاهم، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمُسلِمات، والمؤمنين والمؤمِنات، وألِّف بين قلوبِهم، وأصلِح ذاتَ بينهم، واهدِهم سُبُل السلام، وجنِّبهم الفواحِشَ والفِتن ما ظهرَ منها وما بطَن.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23].
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر: 10].
سبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 10-15-2011 01:04 AM

فضائل وأحكام البلد الحرام
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 16/11/1432هـ بعنوان: "فضائل وأحكام البلد الحرام"، والتي تحدَّث فيها عن بعض فضائل وأحكام البلد الحرام وبيت الله الحرام، وما ميَّزه على غيره من الأماكن، وما فضَّله بزمنٍ فاضلٍ وهو الأشهُر الحُرم، وعذكر عِظَم حُرمة الدماء المعصومة، وأشارَ إلى الفتن التي وقعت مُؤخرًا في المملكة، ووجَّه النداءات إلى العُقلاء إلى ضرورة الانتباه على العواقِب الوخيمة لهذه الفتن، ووجوب الضرب على أيدي المُدبِّرين لها والمُنفِّذين.

الخطبة الأولى
الحمد لله جعل بيتَه الحرامَ مثابةً للناس وأمنًا، هدانا لأقوم السُّبُل وشرعَ لنا أفضلَ الشرائِعَ فضلاً منه ومنًّا، أحمده تعالى وأشكرُه، وأُثنِي عليه وأستغفرُه حرَّم الحُرُمات أنفسًا وأشهرًا وبقاعًا، وتابعَ مواسمَ الخيرات علينا تِباعًا، وجعلَ خيرَ الناسِ أخلَصَهم لله وأشدَّهم لنبيِّه تأسيًّا واتباعًا، وجعل أبعدَهم عنه أجفاهم لهديِه وأكثرُهم ابتداعًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمدُ كل الحمدِ ربٌّ علا ذاتًا وقهرًا وقدرًا، وله الشكرُ إعلانًا وإسرارًا وجهرًا، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه علَّم أمَّتَه العبادات وأوضحَ لهم المناسِك، ودلَّهم على طُرق الخير وأبانَ لهم المسالِك، له حُجَّةٌ لا يزيغُ عنها إلا هالِك، بشَّر به الأنبياءُ قبلَه، وهداه ربُّه لخير قِبلة، فقال - سبحانه -: {قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره}، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ تقواه، وسارِعوا إلى مرضاته واستعِدُّوا ليوم لِقاه؛ فإن اليومَ عملٌ ومُهلة، وغدًا حسابٌ وجزاء، وسيلقَى كلُ عاملٍ ما عمِلَ، {يا أيها الناس اتقوا .. ولا يغرنكم بالله الغرور}.
أيها المؤمنون:
تستقبِلُ الأمةُ موسمًا عظيمًا من أيام الله تعالى، وركنًا من أركان الإسلام العِظام، موسمٌ تُغفَرُ فيه الذنوبُ والخطايا، وتُقالُ فيه العثَرات وتُقبَلُ الدعوات، موسمُ الحجِّ إلى بيت الله العتيق، شِعارُ الوحدة والتوحيد، وموسمُ إعلان العهود والمواثيق وحفظِ الحقوق والكرامات، وحقنِ الدماء وعصمةِ النفوسِ والأموال، وما فاضَت به الوصايا في خُطبة الوداع.
وها هي طلائعُ الحُجَّاج تُضيءُ مُحيَّاهم أباريقُ الحرم، وينتظِمُ عِقدُهم في رِحابِه الطاهرة، آمِّين البيتَ الحرام يبتغون فضلاً من ربهم ورِضوانًا، يحطُّون رِحالَهم عند بيت الله العتيق، {إن أول بيت .. آمنا}.
مُلبِّين النداءَ القديمَ المُتجدِّد: {وأذن في .. منافع لهم}، ويُؤدُّون ركنَ الإسلام الخامسَ، {ولله على الناس .. سبيلا}، ويُلبُّون بالتوحيد: لبَّيكَ اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلك، لا شريكَ لك، يأمَلون من الله القَبول، ويرجُون رحمتَه ويخافُون عذابَه.
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (العُمرة إلى العمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة)؛ متفق عليه.
وفي "الصحيحين" أيضًا يقول الصادقُ المصدوق - صلى الله عليه وسلم -: (من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق جعَ كيوم ولدَتْ أمُّه) - أي: نقيًّا من الذنوب والخطايا -.
وأخرج ابن حبان في "صحيحه" عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الغازي في سبيل الله، والحاجُّ إلى بيت الله، والمُعتمِر وفدُ الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم).
وفي رحلة الإيمان الخالدة مُضاعفةُ الصلوات، وتكثير الحسنات، وإجابةُ الدعوات، ومواقفُ الرحامات في مِنَى ومُزدلِفة وعرفات.
وإذا ذكرتَ تلك الصعُودات فاذكُر حين يُباهِي اللهُ بحُجَاج بيته ملائكةَ السماوات، ويقول - سبحانه -: (هؤلاء عبادي جاءوني شُعثًا غُبرا، أُشهِدكم أني قد غفرتُ لهم) فيُعتِقُهم من النار، ويكتبُ لهم السعادةَ الأبديَّة.
أيها المسلمون:
الحديثُ عن الحجِّ وفضله يحدُو الأرواحَ، ويبعثُ الأشواقَ لإجابة نداء الرحمن لحجِّ بيت الله الحرام، فيا خسارةَ من قعدَت به همَّتُه واستولَى عليه كسلُه، فلم يلحَق بركبِ الإيمان، قال - عليه الصلاة والسلام -: (تعجَّلوا إلى الحجِّ؛ فإن أحدَكم لا يدري ما يعرِضُ له)؛ أخرجه الإمام أحمد.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "لقد هممتُ أن أبعثَ إلى الأنصار فينظرُوا من كانت له جِدَةٌ فلم يحُجَّ فليضرِبوا عليهم الجِزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين"؛ قال المُنذري: إسناده حسن.
فبادِروا بالحجِّ - أيها المسلمون -، واغتنِموا أعمارَكم قبل أن يُحالَ بينكم وبين ما تشتَهون فتعجَزون أو تموتون.
عباد الله:
وفي الحجِّ شرفُ الزمان والمكان؛ فالمكان: بلدُ الله الحرام، والزمان: عشرٌ مُعظَّمةٌ في أشهرٍ مُحرَّمة: {الحج أشهر .. الحج}، وهذه البُقعة عظَّم الله حُمرتها غايةَ التعظيم، وجعل إجلالَها من التقوى وسببًا للتقوى: {ذلك ومن يعظم .. القلوب}، وحرَّم تنفيرَ صيدِها وعضدَ شوكِها فضلاً عن قطع شجرها وقتل صيدِها؛ فكيف بحُمرة المُسلم فيها؟
حتى إن مجر رادة الشر في الحرَم مُوجِبٌ للعذاب؛ قال الله - عز وجل -: {ومن يرد .. أليم}.
وفي وصف أشهُركم هذه يقول الله - عز وجل -: {إن عدة الشهور .. أنفسكم}.
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله -: "كان الرجلُ يلقَى قاتلَ أبيه في الأشهُر الحرم فلا يمُدُّ إليه يدَه". وقال أيضًا: "إن الظلمَ في الأشهُر الحُرم أعظمُ خطيئةً ووِزرًا من الظلم فيما سواها".
إذا كان الأمرُ كذلك؛ فإنه لا ذنبَ بعد الشرك أعظمُ من قتل النفس المؤمنة، وسفك الدم الحرام في الشهر الحرام ظلمًا وعُدوانًا.
لقد سبقَ الإسلامُ كل المُحاولات البشرة لإيجاد منطقةٍ آمنةٍ وزمنٍ آمِن، وإن شئتَ فقل: زمانًا ومكانًا مُحرَّمًا منزوعَ السلاح يأمَنُ الناسُ فيه وينعَمون بالسلام، وهذا من أعظم مقاصِد الإسلام الذي قصدَ إلى إشاعة الأمن والسلام، فالواجبُ على المسلمين أن يستشعِروا هذه الحُرمة، ويُعظِّموا الأشهُر الحُرم، خصوصًا بعد عامٍ عصَفَت فيه الفتنُ واضطرَبَت الأحوالُ، وأُزهِقَت أنفسٌ واختلطَت أمور.
ومن الناس من تشابَهت عليهم الأزمِنة، واختلفَت في أفهامهم الأمكِنة؛ فكأنما الأشهُر الحُرُم حِلٌّ لأشدِّ المُحرَّمات - وهي الدماء -، وكأنما البلادُ في بعث الفتنةِ بها سواء، وكأننا نعيشُ زمنَ الخبر النبوي المُتحقِّق في آخر الزمان -: (يكثُر الهَرج - وهو القتل -، ولا يدري القاتلُ فيمَ قتَل، ولا المقتولُ فيمَ قُتِل، وهي فتنٌ الراقِدُ فيها خيرٌ من القاعِد، والقاعِدُ خيرٌ من الماشي).
وغفلَ المخذولُ عن قول الله - عز وجل -: {ومن يقتل مؤمنًا .. عظيما}.

أيها الناس:
لقد حانَ الوقتُ لإلقاء السلاح، وحقنِ الدماء، والاستجابةِ لأصول الحقوق التي وصَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في حجَّة الوداع، وأرسَى قواعدَها بقوله: (إن دماءَكم وأموالكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ كحُرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهرِكم هذا).
آنَ الأوان لأَن يُراجِعَ المعنيُّون واقِعَهم، وأن يحترِموا الأشهُر الحُرم، وأن تتغلَّب المصالحُ على المفاسِد، ومكاسِبُ الأمة على مصالح الأفراد؛ صيانةً للنفوس والحقوق، وحال العباد والبلاد، والله لا يحبُّ الفساد.
الواجبُ على القادة والعلماء القيامُ بما يستطيعون لوقفِ النزيفِ الهادِر من دماء المسلمين وأرواحهم؛ فهي من أولَى مُقتَضَيات الأُخوَّة والمُوالاة، والتناصُر واجبٌ بين المسلمين: {وإن استنصروكم .. النصر}.
وفي الحديث المتفق عليه: (انصر أخاكَ ظالمًا أو مظلومًا). فقال رجلٌ: أنصرُه مظلومًا، أفرأيتَ إذا كان ظالمًا كيف أنصرُه؟ قال: (تحجُزُه أو تمنعُه عن الظلم؛ فإن ذلك نصره).
إن النزاعات قطَعَت أوصالَ المسلمين، وجعلَت الأمةَ الواحدَة أممًا مُتناكِرة، ولن نستعيدَ مكانتنا ونصونَ رسالتَنا إلا إذا صحَّحنا انتماءَنا، وأصغَينا إلى قول الله تعالى: {إن هذه .. فاعبدون}.
واليوم نرى في أنحاء بلادنا الإسلامية لعبة العدو القديمة المُتجدِّدة: فرِّق تسُد، وأشغِلهم بأنفسهم كي لا يشغَلوك، وليس هناك وتَرٌ أكثر حساسيةً لبدءِ العزفِ عليه من وتَرِ الطائفية؛ كوتَر الطائفية والمذهبيَّة والحِزبيَّة، وما أكثر المُتسارِعين فيها، والمُتساقطين.
ولو سألتَ أشدَّ الخائضين فيها: كيف بدأَت تلك الفتنة؟ ولمصلحة من؟ لم تجِد جوابًا، وقديمًا قيل: إن أنجحَ المؤامرات هي التي لا يعلمُ الساعُونَ فيها أنها مُؤامرَة.
لقد تعايَشَت الطوائِفُ قرونًا في ظلِّ الإسلام، يُولَد أحدُهم في بلاد المسلمين على ملَّته ويموتُ عليها، لم يُجبِره أحدٌ أن يُغيِّر دينَه ومُعتقَدَه؛ فلماذا ثارَت هذه النَّعَراتُ في هذا التوقيت بالذات؟ ولماذا يخدِمُ دهماءُ الناس وبُسطاؤُهم تجَّار الفتنِ من حيث لا يشعُرون؟
اللهم جنِّبنا والمسلمين شرَّ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن.
اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفَعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.




ابوحاتم 10-15-2011 01:07 AM

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأبانَ طريقَ الإيمان، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه ومن تبِعَهم بإحسانٍ.
أما بعد، أيها المسلمون:
الاعتزازُ بالوطن وحِفظُ أمنه والحرصُ على تماسُكه ومكاسِبِه هو أمرٌ تنساقُ له الفِطَرُ السليمة، وتُوجِبُه العقولُ الراشِدة؛ فضلاً عما هو مُتقرِّرٌ في أحكام الشريعةِ وأول الدين، خصوصًا في أوقات الفتن والأزمات، ويشتدُّ العَتَبُ ويستوجِبُ العقوبةَ من أخلَّ بأمن الوطن إذا كان باعِثُه على ذلك نُشدانُ الصلحةِ الذاتية وطلبُ الكسب الشخصي.
أما إذا كان الباعِثُ مصحةً مُصدَّرةً من الخارج، ورغبةً من الرغبات العابِرة للحدود؛ فإنه يجتمعُ في المُنساقِ لها - إضافةً لما سبق - خيانةٌ للوطن، ونُكرانٌ للأهل، فهو بمثابةِ من يقطَعُ الشجرةَ التي أظلَّته، ويُعكِّرُ الماءَ الذي سقاه.
فكيف إذا عُلم أن المحرِّك لتلك الفتنة قومٌ تميَّز تاريخُهم في الفتن بأن وقودَ فتنتهم رجالٌ من أرضٍ غير أرضِهم، ومن جنسٍ سوى جِنسِهم، وعِرقٍ لا ينتمِي لعِرقِهم، ثم سُرعان ما يتخلَّون عمَّن غرَّروا بهم، ليُواجِهوا مصيرَهم بمُفردِهم، وربما واسَوهم باللسان، وليس وراء اللسان شيءٌ.
فيا أيها الإخوة، ويا مُواطنينا في المملكة وفي بلاد العرب والمسلمين:
أسوقُ إليكم نداءً تغلِبُ الشفقةُ فيه العَتَب، وتُغالِبُ الرحمةُ فيه الغضَب، إنه لم يعُد من الخافِي أن مُوقِدي تلك الفتن هم قومٌ يُؤمِنون بعُنصرهم أكثر من إيمانهم بالدين، وأن نُصرتَهم وجهادَهم هو لجِنسهم وشعبِهم وتاريخهم الذاهِب، لا لله ولا لفلسطين.
وتاريخُهم في السنوات الأخيرة شاهدٌ على مواقفِهم المشِينة في إيقاد الفتن في بلاد العرب وشقِّ الصفوف، وما أمرُ العراقِ عنا ببعيد.
فيا مُواطنينا:
إن كان من ثورةٍ فلتكُن على المُعتقَدات التي تُصنَع وتُعلَّبُ خارجَ الحُدود ليتشرَّبَ بها أناسٌ تُسلَبَ بها أيانُهم وأموالُهم وولاؤهم، ليكونوا أدواتٍ في أيدي أعدائهم، إن كان من انتفاضَة فلتكُن للعقل ليتحرَّر من رِقِّ التبَعيَّة وإسَار الشعوبية، ويرى نورَ الله الذي يملأ الكونَ، نورُ الله الذي انبَثَقَ من الحجاز، وأشرقَ به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -، وحملَ مشاعِلَه الصحابةُ الأخيارُ، والتابعون لهم بإحسان.
وأنعمَ الله على المملكة العربية السعودية فورِثَت ذلك النور، وحمَلَت تلك المَشاعِل، مُقتفيةً أثرَ الكاب والسنة، راعيةً للحرمين الشريفين، جامعةً لرابطة المسلمين، ساعيةً للسِّلم والوحدة، نابِذةً للشِّقاقِ والفُرقة مُحترمةً الحقوق مهما اختلفَت المشارِب؛ فلا طائفيةَ ولا عُنصريَّة، وكلٌّ له حقوقٌ وعليه واجِبات.

ويا أيها المُغرَّر بهم:
إنه ما فتِئَ الأغرابُ يُحاوِلونَ قطعَ صِلَتكم بسلفِ الأمة ويُنحُّوهم من أن يكونوا مصدرًا لتلقِّي الهداية ليملؤوا ذلك الفراغ بما يُوغِرُ صدورَكم على سلَفكم وأهلِكم وبلدِكم، وبما يُشعِركم بالغُربة في ديارِكم وما أنتم بالغُرباء، وبما يُشعِركم بالبُعد عن مُواطنيكم وما أنتم بالبعيدين، وثمرةُ ذلك كلِّه تُقطَفُ من وراء الحُدود، وليس لكم من ذلك كلِّه شيء.
إن الرائدَ لا يكذِبُ أهلَه؛ فكيف يبيعُهم ويبيعُ وطنَه، ويُدمِّر خيراتِه ومُمتلكاتِه، وينشُر الفوضَى بين أهلِه، وهو الخاسِرُ الأولُ والأخير؟!
إن الإصلاحَ لا يكون بالفساد، والبناءُ لا يستقيمُ بالهَدم، والرَّغَدُ لا يأتي بإخلال الأمن.
إن أهواءً وأوهامًا تملأ الجوَّ بالشحناء، ولو صدَقَت النياتُ، وأُغلِقَت الأفواهُ التي تستمرِئُ الوقيعةَ والإفك؛ لتلاشَت أنواعٌ من الفُرقة لا مساغًا لوجودها.
نُناشِدُ العُقلاء أن يقطَعوا الطريقَ على تجَّار الفتن ولُصوص الإثارة ومُصطادي المصالِح في المذابِح، وإن ظهَروا بلَبُوسِ المُشفِقِ ومُسُوحِ الناصِح!
فكم من فتنٍ لم يتبيَّن خائِضُها إلا عند إدبارِها وقد نالَه منها ما نالَه؟!
ولنا في مُبادَرة العُقلاء من الناس أمل، ولدينا في حَزم رجال الأمن عند الحاجةِ ثقة، والله مولانا وعليه توكُّلُنا، فنِعمَ المولَى ونعمَ النصير.
ومن الله أمنُنا، وعليه اعتمادُنا، {فالله خير .. الراحمين}.
اللهم جنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطَن.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأرادَ بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، وأتِمَّ عليه الصحةَ والعافيةَ والشفاء.
اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم جازِه بالخيرات والحسنات على خدمة الحرمين الشريفين والعناية بالحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه الخيرُ للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيل الرشاد.
اللهم ادفع عنَّا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خُلَّتهم، وأطعِم جائعَهم.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصُرهم على من ظلَمَهم يا حي يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمعهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم احفَظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، ويسِّر لهم أداء مناسِكهم آمِنين، يا حيُّ يا قيُوم يا ذا الجلال والإكرام.
نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله، نستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّوم ونتوبُ إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحنُ الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا، اللهم أغِثْنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا غدَقًا طبَقًا مُجلِّلاً عامًّا نافعًا غيرَ ضار، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضِرِ والبادِ.
اللهم سُقيَا رحمة، اللهم سُقيَا رحمة، اللهم سُقيَا رحمة لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرَق.
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 10-22-2011 09:14 PM

الإسلام دينُ الأخلاق
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 23/11/1432هـ بعنوان: "الإسلام دينُ الأخلاق"، والتي تحدَّث فيها عن الأخلاق في الإسلام ومدى تأثير حُسن الخُلُق على الفرد والمُجتمع في الدنيا والآخرة، وذكر بعض النماذج من السيرة النبوية المُطهَّرة على حُسن تعامُل النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله مُنشِئ الأُمم ومُبيدها، وباعِث الرِّمَم ومُعيدها، أحمده - سبحانه - شاكرًا طائعًا، وأستعينُه وأستغفِرُه عابدًا خاضِعًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُوحِّدًا مُخلِصًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله بعثَه ربُّه بدينِ الحقِّ داعيًا وهاديًا، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا كثيرًا دائمًا مُتوالِيًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عز وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ[البقرة: 282]، بالعلم يصحُّ العمل، وبالعمل تُنالُ الحكمة، وبالحكمةِ يقومُ الزُّهد، وبالزُّهد تُعرفُ الدنيا، ومن عرفَ الدنيا رغِبَ في الآخرة، ومن رغِبَ في الآخرة نالَ المنزلة، والتوفيقُ خيرُ قائدٍ، ومن رضِيَ بقضاء الله لم يُسخِطه أحد، ومن قنِع بعطاء مولاه لم يدخُله حسَد، ومن فُتِح له بابُ خيرٍ فليُسرِع إليه؛ فإنه لا يدري متى يُغلَقُ دونَه.
واعلموا أن الموتَ يعمُّنا، والقبورَ تضمُّنا، والقيامةُ تجمَعُنا، والله يحكمُ بيننا وهو خيرُ الحاكمين، فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون[المائدة:48].
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
يقول الله - عز وجل -: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب[البقرة:197].
قواعدُ السلوك ومعايير الأخلاق وآداب التعامُل مقياسُ جلِيٌّ من مقاييس الالتزام بدين الإسلام، وعنوانٌ من عناوين الرُّقِيِّ الحضاريِّ، ومَعلَمٌ من معالمِ السموِّ الإنساني، إنها: القواعد والآداب التي تحكُم العلاقات بين الناس من كل فئاتهم وطبقاتهم، قواعدُ وآدابُ تبعَثُ على الشعور بالأمان والمحبَّة وحُسن المعاشَرة وسعادة المُجتمع.
والحُجَّاج في جُموعهم، والمسلمون في تجمُّعاتهم تتجلَّى فيهم هذه المظاهر السلوكية، والتخلُّق بأخلاق دينهم، والالتزام بتعاليم شرعِهم، ومن تحبَّبَ إلى الناس أحَبُّوه، ومن أحسنَ مُعاملَتَهم قبِلُوه.
الدمَاثَة وحُسن الخُلُق هي اللغةُ الإنسانيةُ المُشتركة التي يفهَمُها كلُّ أحد، وينجذِبُ إليها الكريم، ويُحسِنُ الإنصاتَ إليها الحكيم.
الوجهُ الصبوح خيرُ وسيلةٍ لكَسب الناس، وحُسن البُشر يُذهِبُ السَّخِيمة، وذو المُروءةِ الحكيم من يُخاطِبُ الناسَ بأفعاله قبل أن يُخاطِبَهم بأقواله.
أيها المسلمون، معاشر الحَجيج:
وفي ديننا من التوجيهات والتعليمات ما يبني شبكةً واسعةً من العلاقات المَتينة مع الدائرة الأُسريَّة والمُجتمعية، والدائرة الإسلامية الأوسع، ثم الدائرة الإنسانية الأشمَل.
وفي ديننا كذلك: «أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي.
وفي الحديث: «إنكم لن تسَعُوا الناسَ بأموالكم، وليسَعْهُ منكم بسطُ الوجهِ وحُسن الخُلُق»؛ رواه الترمذي، والحاكم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - بإسنادٍ صحيح.
وفي الحديث عند مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحبَّ أن يُزحزَحَ عن النار ويدخُل الجنة فلتأتِهِ منيَّتُه وهو يُؤمنُ بالله واليوم الآخر، وليأتِ إلى الناس الذي يُحبُّ أن يُؤتَى إليه».
والناسُ معادن وطبقات ومنازل، ومُعاملتُهم معاملةً واحدةً أمرٌ في الحياة لا يستقيم؛ فما يُلائِمُ هذا لا يُلائِمُ ذاك، وما يُناسِبُ هذه الفِئَة لا يُناسِبُ تلك، ويحسُن مع هذا ما لا يجمُلُ مع الآخر.
والناس يُخاطَبون بما يعرِفون؛ فالعقولُ مُتفاوِتة، والفُهومُ مُتبايِنة، والطِّباعُ مُتغايِرة، ولله في خلقِهِ شُؤون؛ من والدٍ وولدٍ، وزوجٍ وأخ، ورئيسٍ ومرؤوسٍ، وسريع الفَهم وبطيئه، وحادِّ الطبع وباردِه، وقريبِ الصلةِ وغريبها، في أشخاصٍ وصفاتٍ وأحوال؛ من شدَّةٍ ورخاءٍ، وحُزنٍ وسُرورٍ، والأرواحُ جنودٌ مُجنَّدة.
وقد قالت الحُكماء: "إذا أردتَ اصطيادَ السم فضع في سنَّارتك ما يُلائِمُ من طعامٍ، وقد تُلائِمُ الديدان لا فاخرُ اللحوم".
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
وهذا عرضٌ لبعض ما حفَلَت به السيرةُ المُصطفوية والهديُ المُحمَّديُّ والسنةُ النبوية من أنواع المُعاملات والتوجيهات لمُختلَف الطبقات والشحصيات؛ كيف وهو المُصطفى الهادي البشيرُ، واصطفاه ربُّه بقوله - عزَّ شأنُه -: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم[التوبة:128]، وقال - جل وعلا -: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين[آل عمران:159].
وأولُ ما يُواجِهُ المُتأمِّلُ في هذه السيرةِ النبوية الكريمة والهدي المُحمَّدي: مُعاملتُه مع أهله، وسلُوكه في بيته - عليه الصلاة والسلام -.
لقد كان حبيبُنا ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم - بشرًا من البشر؛ يفلِي ثوبَه، ويحلِبُ شاتَه، ويخدِمُ نفسَه، وكان في مهنةِ أهله، فإذا حضرَت الصلاةُ خرجَ إلى الصلاة؛ أخرجه البخاري، والترمذي.
وكان يقول - عليه الصلاة والسلام -: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلِي»؛ أخرجه الترمذي، وابن ماجه.
ويظنُّ بعضُ الناس أن الرجُولةَ والشخصيةَ في عُبوسِ الوجه، وتقطيبِ الجبين، وإصدار الأوامر والنواهي، وتجنُّب المُباسَطة في الحديث مع الأهل، ومُبادلَة المسرَّات وحُسن الإصغاء.
وحديثُ أم زرعٍ الطويل كان مُسامرةً بين عائشة - رضي الله عنها - وزوجِها محمد رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - مُؤانسةً ومُباسطَة.
ومن حُسن المعاملة: المُشاوَرة في الشؤون الأُسريَّة وغيرها، فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا[البقرة: 233]، وشاورَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زوجَهُ أمَّ سلَمَة في شأنٍ كبيرٍ، وهو: شأنُ صُلح الحُديبية، وأخذ بمشُورتها.
وشاوَرَ بريرَة في قصة الإفك - وهو حدثٌ عظيمٌ مُزلزِل -.
بل تأمَّلوا وتفقَّهوا كيف كان تعامُلُه - عليه الصلاة والسلام - مع أخطاء الناس وغيرة النساء؛ فحين كسرَت إحدى زوجاته صحفةَ صاحبتها المملوءة طعامًا، ما كان من النبي الكريم ذي الخُلُق العظيم - عليه أفضل الصلاة وأزكَى التسليم - إلا أن تعاملَ برفقٍ، مُقدِّرًا طبائع النساء قائلاً: «غارَت أمُّكم»، فجمعَ الطعامَ المُتناثِر، وقال: «طعامٌ بطعامٍ، وإناءٌ بإناءٍ»؛ أخرجه البخاري، والترمذي.
يقول الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وفيه: عدمُ مُؤاخَذة الغيراء بما يصدُرُ منها؛ لأنها في تلك الحالة يكونُ عقلُها محجوبًا لشدَّة الغضب بسبب الغَيرة".
يا هذا! القوةُ والعنفُ والضربُ والشدَّة يقدِرُ عليها كلُّ أحدٍ، أما الحِلمُ والرِّفقُ والصفحُ والعفوُ والتسامُح فليس إلا لذوي الإرادات القوية والمُروءات العالية والأخلاق الرفيعة، "وما ضربَ نبيُّكم محمد - صلى الله عليه وسلم - امرأةً ولا خادمًا إلا أن يُجاهِدَ في سبيل الله"؛ أخرجه أحمد، وأبو داود.
أما الأطفالُ والصِّبيانُ؛ فحدِّث عن هديِ نبيِّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في ذلك ولا حرَج:
ومن دقيق المُلاحَظة في التعامُل مع الصغار: أنهم لا يُفرِّقون بين أوقات الجِدِّ وأوقات اللعب؛ فالطفلُ يظنُّ أن الوقتَ كلَّه له، وقد قدَّر الإسلامُ هذه المشاعِر؛ فها هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحملُ بنتَ بنته في الصلاة، فإذا ركعَ وضعَها، وإذا قام رفعَها؛ متفق عليه.
والحسنُ أو الحُسين - رضي الله عنهما - يرتحِلُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويركبُ على ظهره وهو في الصلاة، فيُطيلُ السجود حتى يقضِيَ الطفلُ نُهمَتَه؛ أخرجه أحمد، والنسائي.
بل وهو يخطبُ على المنبر جاء الحسنُ - رضي الله عنه -، فصعِد المنبَر، فضمَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ومسحَ رأسَه وقال: «ابنِي هذا سيدٌ، ولعلَّ اللهَ أن يُصلِحَ على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين»؛ أخرجه أبو داود.


أيها المسلمون:
والطريقُ الأيسر والأقصرُ والأمتَعُ إذا قُوبِلَ الأطفال والصغار هو مُلاطفتُهم ومُمازحتُهم وحُسن رعايتهم ومنحُهم الحنان والاهتمام، وما كان أحدٌ أرحمَ بالعيال من محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
وزحمةُ الواجبات وكثرةُ المسؤوليات لا يجوزُ أن تشغَلَ عن مثل هذا، فهذا من جُملةِ المسؤوليات والواجبات.
يقول أنسٌ - رضي الله عنه -: "كان إبراهيمُ ابن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مُسترضَعًا في عوالي المدينة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينطلقُ ونحن معه، فيدخلُ البيت ويأخذه ويُقبِّلُه ثم يرجع"؛ رواه مسلم.
مُفردات التعامُل مع الصغار: قبلةٌ حانية، وحِضنٌ دافِئ، ولعبٌ بريء، وهي لغةٌ سهلةٌ يسيرةٌ في تكاليفها، عظيمةٌ في تأثيرها.
مسكينٌ هذا الغليظُ القاسي حين يُصوِّرُه ذلك الرجل الذي رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّلُ سِبطَه الحسن - رضي الله عنه -، فقال: أوَتُقبِّلون أطفالَكم؟ إن لي عشرةً من الولد ما قبَّلتُ أحدًا منهم، فكان الجوابُ النبوي: «من لا يرحَمُ لا يُرحَم»، وفي الصورة الأخرى: «أوَأملِك أن نزعَ اللهُ الرحمةَ من قلوبكم».
بل إنه - عليه الصلاة والسلام - إذا سمِعَ بكاءَ الصبيِّ وهو في الصلاة خفَّفَ مُراعاةً لأمِّه أن تفتِتن.
معاشر الأحِبَّة، حُجَّاج بيت الله:
أما التعامُل مع الخَدَم والأُجَراء والعُمَّال فيُجسِّدُه تمام التجسيد مقولةُ أنس - رضي الله عنه - مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خدمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سنين، فما قال لي لشيءٍ فعلتُه لِمَ فعلتَه، ولا لشيءٍ لم أفعله لم لم تفعله".
وتأمَّلوا هذه الحادثة مع أنسٍ نفسه - رضي الله عنه -: خرج أنسٌ في حاجةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأى الصبيانَ يلعبون في السوق فانشغلَ معهم؛ لأنه كان صغيرًا في سنِّهم، فاستبطأَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فخرج يبحثُ عنه فوجدَهُ يلعبُ مع الصبيان.
يقول أنس: فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وآله وسلَّم - قد قبضَ بقفايَ من ورائي، فنظرتُ إليه وهو يضحَك، فقال: «يا أُنيس! أذهَبتَ حيثُ أمرتُك؟». فقلتُ: نعم، أذهبُ يا رسول الله!
هذا هو الدرس؛ إنسانية، وتلطُّف، ورقَّةٌ في النداء: «يا أُنيس» من غير نَهْرٍ، ولا نفضِ يدين، فضلاً عن الصُّراخ والضرب والتعنيف.
وحين شكا رجلٌ خادِمَه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: إنه يُسيءُ ويظلِم، أفأضرِبُه؟ فقال: «تعفُو عنه كلَّ يومٍ سبعين مرَّة»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، والترمذي.
نعم، أيها المسلمون:
إن من أعظم ما يتجلَّى فيه آدابُ التعامُل وكريمُ الأخلاق: مواقف الناس في مُعاملاتهم وبياعاتهم ومُدايناتهم، «رحِمَ اللهُ عبدًا سمحًا إذا باعَ، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى»؛ أخرجه البخاري.
وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون[البقرة:280].
«ومن سرَّه أن يُنجِيَه الله من كربِ يوم القيامة فليُنفِّث عن مُعسِرٍ أو ليضَع عنه»؛ أخرجه مسلم.



معاشر الحَجيج:
أما التعامُل أمام مكر الماكرين، وخيانات الخائنين، وكُفر الكافرين؛ فقد قال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين[المائدة:13].
ولو نظرَ المسلمُ إلى المُعاهَدات التي عقدَها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع غير المسلمين، لرأى فيها من صُنوف التسامُح وحُسن الجِدال وضُروب العفو والصفح ما لا ينقضِي منه العجَب:
«من دخلَ دارَ أبي سُفيان فهو آمِن، ومن أغلقَ عليه بابَه فهو آمِن، ومن ألقى السلاحَ فهو آمِن».
وقال لقريشٍ يوم الفتح، وهم من هم في ماضِيهم الأسود، وتاريخهم المُظلِم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وتعذيب المُستضعَفين، وإيذاء المؤمنين، لقد قال لهم: «ما تقولون أني فاعلٌ بكم؟». فقالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريم، فقال: «أقولُ كما قال أخي يوسف: لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين[يوسف:92]، اذهبُوا فأنتمُ الطُّلَقاء».
وحين قيل له: ادعُ على المشركين. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إني لم أُبعَث لعَّانًا، وإنما بُعِثت رحمةً»؛ أخرجه مسلم.
وبعد، عباد الله:
فإليكم ميزانًا لا يختلف ومِعيارًا لا يُطفِّف، أحِبُّوا لغيركم ما تُحبُّون لأنفسكم، واكرهوا لغيركم ما تكرهون لأنفسكم، وأحسِنوا كما تُحبُّون أن يُحسَن إليكم، وارضَوا من الناس ما ترضَونَه لأنفسكم، ولا تقولوا ما لا تُحبُّون أن يُقال لكم، ولا تظلِموا كما لا تُحبُّون أن تُظلَموا، وافعلوا الخيرَ مع أهله ومع غير أهله؛ فإن لم يكونوا من أهله فأنتم من أهله.
يا عبد الله:
كم من بلِيَّةٍ مُقبِلةٍ دفعَها معروفٌ لمسلمٍ بذلتَه، أو همٌّ لمهمومٍ فرَّجتَه، أو مُحتاجٌ في ضائقةٍ أعنتَه، ومن قاسَ هجيرَ صنائع المعروف في الدنيا استظلَّ في ظلال النعيم في الجنَّة، وخيرُ الناس أتقاهُم وآمرُهم بالمعروف وأنهاهُم عن المنكر، وأوصلُهم لذي رحِمِه، ومن يُخالِطُ الناسَ ويصبِرُ على أذاهم خيرٌ ممن لم يُخالِطِ الناس ولم يصبِر على أذاهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم (35) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم[فصلت: 34- 36].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


ابوحاتم 10-22-2011 09:15 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله جامعِ الناسِ ليومٍ لا ريبَ فيه، يعلمُ ما يُسرُّ العبدُ وما يُخفِيه، أحمده - سبحانه - وأشكره وأستغفِرُه وأستَهديه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ عبدٍ مُوقِنٍ بقلبِه مُعلِنٍ بفِيه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه قام بعبادة ربِّه حتى تفطَّرت قدماهُ وصامَ وواصلَ فكان يبيتُ عند ربِّه يُطعِمُه ويسقِيه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه صلاةً وسلامًا دائمًا طيبًا مُباركًا فيه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومٍ لكل امرئٍ فيه شأنٌ يُعنيه.


أما بعد:
معاشر الأحبة، حُجَّاج بيت الله:
ومن حُسن التعامُل وآدابه: اليقين الجازم بأنه لا أحد يخلو من العيوب.
يقول سعيد بن المُسيّب - رحمه الله -: "ليس من شريفٍ ولا عالمٍ ولا ذي فضلٍ إلا وفيه عيوبٌ".
لكن من الناس من لا ينبغي أن تُذكَر عيوبُه؛ فمن كان فضلُه أكثرَ من نقصِه ذهبَ نقصُه لفضله، وكم من الناس تنقُدُهم، فإذا رأيتَ غيرَهم حمِدتَّهم.
وقد قال نبيُّنا محمد - صلى الله عليه وسلم - في العلاقات الزوجية: «لا يفرَكُ مؤمنٌ مُؤمِنةً، إن كرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخَر»؛ رواه مسلم.
والناسُ - رحمك الله - يكرهون من لا ينسَى زلاَّتهم، ويُذكِّرهم بأخطائهم، ومُواجهةُ الناس بأخطائهم هي أقصرُ طريقٍ للعداوة، ومن سترَ مسلمًا ستَرَه الله، والمُتَّقون هم الكاظِمون الغيظَ والعافون عن الناس.
وقدِّر غيرَك تفُز بتقديره، وابتسِم للناس يبتسِموا لك، وتبسُّمُك في وجهِ أخيك صدقةٌ، إن استثارةَ العواطف النبيلة من نفوس الناس طريقٌ كريمٌ حكيم لكسبِهم والتأثير فيهم.
وفي التعامُل - حفظك الله - اجتنِب الحديثَ عن نفسك ونسبَ الفضائل لها، وإلقاء التبِعَة على الآخرين، فما تتفاخَرُ به قد يراه الناسُ نقصًا وشذَرًا، وأحسِن الإنصات، والمُقاطَعة في الحديث تجرحُ المشاعِرَ، ومن لم يشكُر الناسَ لم يشكُر الله، ولا تظُنَّنَّ بكلمةٍ خرجَت من أحدٍ سُوءًا وأنت تجِدُ لها في الخير محمَلاً.



وبعد:
فإن الناسَ - وأنت منهم - عواطفُ أولاً، ثم عقولٌ ثانيًا.
فاتقوا الله - رحمكم الله -؛ فمن حسُنَ خُلُقُه بلغَ درجةَ الصائم القائم، والمؤمنُ يألَفُ ولا يُؤلَف، ولا خيرَ فيمن لا يألَفُ ولا يُؤلَف، وخيرُ الناس أنفعُهم للناس.
هذا؛ صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم، فقال في محكم تنزيله - وهو الصادقُ في قِيلِه -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحة والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، اللهم وفِّقه ونائبَيْه وإخوانه وأعوانه لما تحب وترضى، وخُذ بنواصيهم للبر والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ طاعتك، ويُهدَى فيه أهلُ معصيتك، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إن إخواننا في الصومال جِياعٌ فأطعِمهم، وعُراةٌ فاكسُهم، وحُفاةٌ فاحمِلهم، اللهم اشفِ مريضَهم، وارحَم ميِّتَهم، اللهم واجمع كلمتَهم، وأصلِح أحوالَهم، اللهم وارفَع البأسَ عن البائسين، واكشِف الضرَّ عن المُتضرِّرين يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دُنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ، وأحسِن عاقبَتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم من أرادنا وأرادَ ديننا وديارَنا وولاة أمرنا وعلماءَنا وأمنَنا وأمتَنا واجتماعَ كلمتنا سوءٍ اللهم فأشغِله بنفسه، واجعل كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه تدميرًا عليه يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين، اللهم عليك باليهود الغاصبين المحتلين فإنهم لا يُعجزونك، اللهم وأنزِل بهم بأسك الذي لا يُردُّ عن القوم المجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نحورهم، ونعوذ بك من شرورهم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم يسِّر للحُجَّاج حجَّهم، اللهم يسِّر للحُجَّاج حجَّهم، واجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، اللهم وأحسِن مُنقلبَهم، وأعِدهم إلى ديارهم سالمين غانمين مقبولين، بمنِّك وجودِك يا أكرم الأكرمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 11-04-2011 09:33 PM


الصبر وثمراته
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 1/12/1432هـ بعنوان: "الصبر وثمراته"، والتي تحدَّث فيها عن الصبر وأهميته وأدلته من الكتاب والسنة، وعِظَم أجر المُتحلِّين به، وذكر عددًا من ثمراته مما ذُكِر في الوحيَيْن القرآن والسنة.

الخطبة الأولى
الحمد لله يحبُّ الصابرين، ويُبشِّرهم بصلواتٍ منه ورحمةٍ ويُثنِي عليهم فيصِفُهم بالمُهتدين، أحمده - سبحانه - حمدَ عباده الصابرين الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو بها الفوزَ والنجاةَ يوم الدين، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وإمامُ الصابرين وقائدُ الغُرِّ المُحجَّلين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، وراقِبوه، واعلَموا أنكم مُلاقوه يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُون[النحل:111].
أيها المسلمون:
نزولُ البلايا وحُلول المصائِب في ساحةِ العبد على تنوُّعها وتعدُّد ضُرُوبها، وما تُعقِبُه من آثار وما تُحدِثُه من آلامٍ يتنغَّصُ بها العيشُ ويتكدَّرُ صفوُ الحياة؛ حقيقةٌ لا يُمكِنُ تغييبُها، ولا مناصَ من الإقرار بها؛ لأنها سُنَّةٌ من سُنن الله في خلقه، لا يملِكُ أحدٌ لها تبديلاً ولا تحويلاً، غيرَ أن الناسَ تتبايَنُ مواقفُهم أمامَها:
فأما أهل الجَزَع ومن ضعُف إيمانُه واضطربَ يقينُه فيحمِلُه كل أولئك على مُقابلة مُرِّ القضاء ومواجهة القدَر بجزَعٍ وتبرُّمٍ وتسخُّطٍ تعظُمُ به مُصيبتُه، ويشتدُّ عليه وقعُها فيربُو ويتعاظَم، فينوءُ بثِقَلها ويعجِزُ عن احتمالها، وقد يُسرِفُ على نفسه فيأتي من الأقوال والأعمال ما يزدادُ به رصيدُه من الإثم عند ربِّه، ويُضاعِفُ نصيبَه من سخَطِه، دون أن يكون لهذه الأقوال والأعمال أدنى تأثيرٍ في تغيير المقدور أو دفع المكروه.
وأما أولو الألباب؛ فيقِفُون أمامَها موقفَ الصبر على البلاء والرضا ودمع العين، لا يأتون من الأقوال والأعمال إلا ما يُرضِي الربَّ ويُعظِمُ الأجرَ ويُسكِّنُ النفسَ ويطمئنُّ به القلبُ، يدعوهم إلى ذلك ويحُثُّهم عليه ما يجِدونه في كتاب الله من ذكر الصبر وبيان حُلو ثِماره وعظيمِ آثاره؛ فمن ذلك:
ما فيه من ثناءٍ على أهله، ومدحٍ لهم بأنهم هم الصادقون المُتَّقون حقًّا؛ كقوله - عزَّ اسمه -: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُون[البقرة:177]، وكقوله - سبحانه -: الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَار[آل عمران:17].
وما فيه من إيجاب محبَّة الله لهم ومعيَّته - سبحانه - لهم المعيَّة الخاصة التي تتضمَّن حفظَهم ونصرَهم وتأييدَهم؛ كقوله: وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِين[آل عمران:146]، وكقوله: وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِين[الأنفال:46].
ومن إخبارٍ بأن الصبرَ خيرٌ لأصحابه: وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرين[النحل:126].
ومن إيجابِ الجزاءِ لهم بغير حسابٍ: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَاب[الزُّمَر:10].
ومن إيجاب الجزاء لهم بأحسن أعمالهم: وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُون[النحل:96].
ومن إطلاق البُشرَى لأهل الصبر: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين[البقرة:155].
ومن ضمان النصر الربَّاني والمدَد الإلهي: بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِين[آل عمران:125].
ومن ذلك: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في وصيَّته المشهورة له: «واعلم أن النصرَ مع الصبرِ».
ومن إخبارٍ بأن أهل الصبر هم أهل العزائم الذين لا تلِينُ لهم قناةٌ في بُلوغ كلِّ خيرٍ في الدنيا والآخرة: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور[الشورى:43].
ومن إخبارٍ بأنه ما يُلقَّى الأعمالَ الصالحةَ وجزاءَها والحُظوظَ إلا أهل الصبر؛ كقوله: وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُون[القصص:80]، وقوله أيضًا: وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيم (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم[فُصِّلَت:34، 35].
ومن إخبارٍ أنه إنما ينتفعُ بالآيات والعِبَر أهلُ الصبر؛ كقوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور[إبراهيم:5]، وكقوله في شأن أهل سبأ: فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُور[سبأ:19].
ومن إخبارٍ بأن الفوزَ بالمطلوب والظَّفَر بالمحبوب والنجاة من المكروب والسلامة من المرهوب ونزولَ الجنة إنما نالَه أهلُ الصبر: وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَاب (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّار[الرعد:23، 24].
وبأنه يُعقِبُ المُستمسِك به منزلةَ الإمامة في الدين؛ قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "سمعتُ شيخَ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقول: بالصبر واليقين تُنالُ الإمامةُ في الدين، ثم تلا - رحمه الله - قولَه تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون[السجدة:24]".
فلا عجبَ إذًا أن يكون للصبر تلك المنزلةُ العظيمةُ التي عبَّر عنها أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بقوله: "إن الصبرَ من الإيمان بمنزلة الرأس من الجَسَد، ألا لا إيمان لمن لا صبرَ له".
وأن يُدرِك المرءُ بالصبر خيرَ عيشٍ في حياته، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "خيرَ عيشٍ أدركناه في الصبر".
وأن يكون الصبرُ ضياءً كما وصفَه رسول الهدى - صلوات الله وسلامه عليه -، وذلك في الحديث الذي أخرجه مسلم في "صحيحه"، والإمام أحمد في "مسنده".
وأن يكون الصبرُ خيرَ وأوسَعَ عطاءٍ يُعطاهُ العبد، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، والبخاري ومسلم في "صحيحيهما" - واللفظ للبخاري - عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصار الذين سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفِدَ ما عنده، قال: «ما يكونُ عندي من خيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومن يستعفِف يُعِفّه الله، ومن يستغنِ يُغنِه الله، ومن يتصبَّر يُصبِّره الله، وما أُعطِيَ أحدٌ عطاءً خيرًا وأوسعَ من الصبر».
وأن يكون أمرُ المؤمن كلُّه خيرًا له؛ لأنه دائرٌ بين مقامَي الصبر والشُّكر، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلمٌ في "صحيحه"، والإمامُ أحمد في "مسنده" عن صُهيب بن سِنان - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «عجبًا لأمر المؤمن إن أمرَه كلَّه له خيرٌ، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابَته سرَّاء شكَرَ فكان خيرًا له، وإن أصابَته ضرَّاءُ صبَرَ فكان خيرًا له».
ألا وإن من أشدِّ البلاء وقعًا على النفس: موتَ الأحِبَّة، لا سيَّما أعلامُ النُّبلاء منهم من ذوي التأثير البارِزِ في حياةِ الناس ومن لهم يدُ فضلٍ وبِرٍّ جازَت بهما الحُدود، وعمَّت القاصيَ الداني، وكان للإسلام منهم مواقفُ عظيمةٌ مشهودة، وكان للمسلمين وقفاتٌ مُباركةٌ داعمةٌ غيرُ محدودةٍ بحُدود الزمان أو المكان؛ من مثل من فقدَته الديارُ السعودية والمسلمون قاطبةً هذه الأيام، ألا وهو: سموُّ الأمير سُلطان بن عبد العزيز وليُّ العهد - رحمه الله رحمةً واسعة، وغفرَ له في المهديين، ورفع درجاته في عليِّين، وألحقَه بصالحِ سلفِ المؤمنين -، آمين، آمين، والحمدُ لله رب العالمين على قضائه.
وإن العينَ لتدمَع، وإن القلبَ ليحزَن، ولا نقولُ إلا ما يُرضِي الربَّ: إنا لله وإنا إليه راجِعون، إنا لله وإنا إليه راجِعون، إنا لله وإنا إليه راجِعون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية
الحمد لله وليِّ الصابرين، أحمده - سبحانه - حمدَ الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نُرضِي بها ديَّان يوم الدين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسوله إمامُ المُتقين وقُدوة العابدين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - في بسطِ مدلول قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِين[البقرة:155].
قال: "أخبرَ تعالى أنه يبتلِي عبادَه؛ أي: يختبرهم ويمتحِنهم، كما قال تعالى: ولنبلونكم .. أخباركم}، فتارةً بالسرَّاء، وتارةً بالضرَّاء. مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ؛ أي: بقليلٍ من ذلك. وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِأي: بذهابِ بعضها وَالأنفُسِكموت الأصحاب والأقارب والأحباب وَالثَّمَرَاتِأي: لا تُظِلُّ الحدائق والمزارِعُ كعادتها، وكلُّ هذا وأمثالُه مما يختبِرُ الله به عبادَه؛ فمن صبرَ أثابَه، ومن قنطَ أحلَّ به عقابَه، ولهذا قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِين. ثم بيَّن تعالى مَن الصابرون الذين شكَرَهم فقال: الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعون[البقرة:156] أي: تسلَّوا بقولهم هذا عمَّا أصابَهم، وعلِموا أنهم مُلكٌ لله يتصرَّفُ في عبيده بما يشاء، وعلِموا أنه لا يضيعُ لديه مِثقالُ ذرَّةٍ يوم القيامة، فأحدثَ لهم ذلك اعترافًا بأنهم عبيدُه وأنهم إليه راجِعون في الدار الآخرة، ولهذا أخبرَ تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال: أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْأي: ثناءٌ من الله تعالى عليهم".
وقال سعيدُ بن جُبيرٍ - رحمه الله -: "الصلواتُ أمَنةٌ من العذاب".
وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونقال أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: "نِعمَ العِدلان ونِعمَت العِلاوة، أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌفهذان العِدلان، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونفهذه العِلاوة - وهي: ما تُوضَع بين العِدلَيْن، وهي زيادةٌ في الحِمل، وكذلك هؤلاء أُعطُوا ثوابَهم وزِيدُوا أيضًا -"؛ أخرجه الحاكم في "المستدرك" بإسنادٍ صحيحٍ.
فاتقوا الله - عباد الله -، وكونوا من الصابرين على مُرِّ القضاء تفوزوا بأجرِكم، يُوفِّيه إليكم ربُّكم يوم القيامة بغير حسابٍ.
وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله: محمد بن عبد الله؛ فقد أُمِرتم بذلك في كتاب الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.
اللهم وفِّقه ونائبَه وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد، يا من إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب[آل عمران:8]، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.



ابوحاتم 11-04-2011 09:46 PM

وصية الله لحجاج بيته الحرام

ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 8/12/1432هـ بعنوان: "وصية الله لحجاج بيته الحرام"، والتي تحدَّث فيها عن بعض الوصايا الإلهية والتوجيهات النبوية لحُجَّاج بيت الله الحرام ومُعتمِريه وزائريه، وقد أرشد فيها إلى بعض التعليمات الواجب التنبُّه لها من الحُجَّاج والمُعتمرين.

الخطبة الأولى

الحمد لله، الحمد لله فالق الإصباح، والحمد لله بُكرةً وعشيًّا وفي الغُدُوِّ وفي الرَّوَاح، الحمد لله الذي وفدَ له الحَجيجُ من كل ناحيةٍ وساحٍ، وجعل الحجَّ والمشاعِرَ مزادةً للتقوى، ومهوًى للنفوس، ومنهلاً للأرواح، وجعل بيتَه المُعظَّم حرمًا لا يُستباح، وحِمًى لا يُعضَدُ شوكُه، ولا يُنفَّرُ صيدُه، ولا يُشهَرُ به سلاح، أشهد أن لا إله إلا الله وحده الأحدُ الحميد لا شريك له ولا شَبيه ولا نَديد، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله سيدُ من حجَّ البيتَ وطافَ، صلَّى الله عليه وعلى آله وعلى صحابته الأسلاف، ومن اتَّبَعهم واستنَّ بهديِهم من التابعين والأخلاف، وسلِّم يا رب تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، أيها المسلمون:
وصيةُ الله للأولين والآخرين تقوى الله: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131]، ووصيةُ الله لحُجَّاج بيته تقوى الله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[البقرة: 197].

أيها المسلمون:
حُجَّاج بيت الله الحرام! شكرَ اللهُ سعيَكم، وبارَكَ خطوَكم، وأدامَ سعدَكم، قد وطِئتُم أرضَ الحرَم، وتلبَّستُم بالنُّسُك الأعظم، واكتحلَت عيونُكم بمرأى الكعبةِ المُشرَّفة، وبلغتُم هذا البيتَ العتيق، وشرعتُم في مناسِكِ الحجِّ، فلكم تُزفُّ التهاني ببُلوغِ هذه الأماني، والله المسؤول أن يُتِمَّ حجَّم ويُيسِّر أمرَكم وأن يتقبَّل منكم.
فلله ما أهناكم! والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق رجعَ كيوم ولدَته أمُّه» - أي: نقيًّا من الذنوب والخطايا -؛ رواه البخاري ومسلم.
وفي "الصحيحين" أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «العُمرةُ إلى العُمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة».
فيا لها من منحةٍ تطرَبُ لها النفوسُ المؤمنةُ، وتهُونُ في سبيلها كلُّ المتاعِب والصِّعاب.
أيها المسلمون في كل مكان:
حُجَّاج بيت الله الحرام! أيامُكم هذه أيامٌ عظَّم اللهُ أمرَها، وشرَّفَ قدرَها، وأقسمَ بها في كتابه العزيز، فقال - جلَّ شأنُه -: وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ[الفجر: 1، 2].
وقال عنها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما من أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى الله من هذه الأيام». قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله ثم لم يرجِع من ذلك بشيءٍ»؛ أخرجه البخاري.
وعند الإمام أحمد: «فأكثِروا فيهنَّ من التهليل والتكبير والتحمِيد».
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
كبِّروا ليبلُغ تكبيرُكم عَنانَ السماء، كبِّروا فإن اللهَ عظيمٌ يستحقُّ الثناء، أكثِروا من الأعمال الصالحة، وتزوَّدوا من ساعات هذه الأيام ولياليها، فهي التجارة الرابحة، واعلموا أن لله تعالى نفَحَات فاستكثِروا من الصالحات، وتطهَّروا من دَنَس المعاصي والسيئات، إن العُمر لا يعُود، والمَوسِمَ لا يدُوم، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ.
عباد الله، حُجَّاج بيت الله الحرام:
هذا هو اليومُ الثامنُ من ذي الحجَّة، وفي ضُحاهُ يُحرِمُ من يُريدُ الحجَّ ويذهبُ إلى مِنَى فيُصلِّي بها الظهرَ في وقتها قصرًا والعصرَ في وقتها قصرًا والمغربَ في وقتها والعشاء في وقتها قصرًا، ويبيتُ بمِنَى هذه الليلة، فإذا صلَّى بها الفجرَ وطلَعَت شمسُ اليوم التاسع توجَّه إلى عرفات وصلَّى بها الظهر جمعًا وقصرًا، ثم يقِفُ على صعيد عرفات مُكثِرًا من ذكر الله تعالى، مُتذلِّلاً بين يديه يسألُه خيرَي الدنيا والآخرة، ويُلِحُّ في الدعاء والرجاء في ذلك الموقف العظيم؛ فإن الحجَّ عرفة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقال أيضًا: «خيرُ الدعاءِ دعاءُ يوم عرفة، وخيرُ ما قلتُ أنا والنبيُّون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ وهو على كل شيءٍ قديرٌ»؛ رواه الترمذي.
وفي ساحةِ الغُفرانِ في عرفات تخشَعُ القلوبُ، وتَذرِفُ العيون، تُسكَبُ العَبَرات، تُقالُ العَثَرات، وتُرفَعُ الدرجات، ويُباهِي اللهُ بحُجَّاجه ملائكةَ السماوات، ويقول - سبحانه -: «انظروا إلى عبادي أتَوني شُعثًا غُبرًا ضاحِين من كلِّ فجٍّ عميقٍ، أُشهِدُكم أني غفرتُ لهم».
عباد الله:
ومن لم يكن حاجًّا فيُستحبُّ له صيامُ يوم عرفة مُحتسِبًا أن يُكفِّرَ اللهُ عنه السنةَ الماضيةَ والباقيةَ، كما قال ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه مسلم.
وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من يومٍ أكثر من أن يُعتِقَ اللهُ فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟»؛ رواه مسلم.
فإذا غربَت الشمسُ، انصرَفَ إلى مُزدلِفَة بسكينةٍ ووقارٍ، وصلَّى بها المغربَ والعشاء جمعًا، ويقصُرُ العشاء، ويبيتُ بمُزدلِفةَ تلك الليلة، ويُصلِّي بها الفجرَ، ويُكثِرُ من ذكر الله ومن الدعاء حتى يُسفِرَ جدًّا، ثم ينصرِفُ إلى مِنَى قُبيلَ طُلوع الشمس، ويجوزُ للضَّعَفة من النساء والصبيان ونحوِهم الانصرافُ من مُزدلِفة بعد نصف الليل، ويتحقَّقُ ذلك بغروب القمر.
فإذا وصل الحاجُّ إلى مِنَى رمى جمرة العقبة بسبع حصَيَاتٍ مُتعاقباتٍ يُكبِّرُ مع كل حَصاة، ثم ينحَرُ الهديَ إن كان عليه هَدي، ثم يحلِقُ رأسَه أو يُقصِّرُه، والحلقُ أفضل، ثم يتوجَّه للبيت الحرام إن تيسَّر له يوم العيد وإلا بعده، فيطوفُ طوافَ الإفاضة، ثم يسعَى بين الصفا والمروة، فإن كان قارِنًا أو مُفرِدًا وقد سعى قبل الحجِّ بعد طوافِ القُدُوم فيكفيه سعيُه ذلك، ومن قدَّمَ شيئًا أو أخَّر شيئًا من أعمال يوم النحر، فلا حرج عليه.
ثم يعودُ إلى مِنَى، ويبيتُ بها ليالي أيام التشريق، ويرمِي الجِمارَ الثلاث في كل يومٍ بعد زوال الشمس، ثم إن شاءَ تعجَّل في يومين، وإن شاء تأخَّر لليوم الثالث عشر - والتأخُّر أفضل -، ثم لا يبقَى عليه إلا طوافُ الوداعِ عندما يُريدُ السفرَ من مكة.
أيها المسلمون:
ولقد كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - مواطنُ يُكثِرُ فيها من الدعاء حريٌّ بالمُسلمِ أن يتحرَّاها، وأن يحرِصَ عليها؛ منها: يوم عرفة - وبالأخصِّ آخر النهار -، وبعد صلاة الفجر بمُزدلِفة حتى يُسفِر جدًّا، وبعد رمي الجمرة الأولى، وبعد رمي الجمرة الثانية من أيام التشريق، وكذا الدعاء فوق الصفا والمروة.
فاجتهِدوا في تمام حجِّكم، واتقوا الله فيما تأتون وتذَرُون، وأخلِصوا لله في عملكم وقصدِكم، واتَّبِعوا الهُدى والسنَّة، واجتنِبوا ما يخرِمُ حجَّكم أو يُنقِصُه، وعليكم بالرِّفقِ والسكينةِ والطُّمأنينة والشَّفَقَة والرحمة بإخوانكم المُسلمين - سيَّما في مواطن الازدحام، وأثناء الطواف، ورميِ الجِمار، وعند أبوابِ المسجد الحرام -.
واستشعِروا عِظَمَ العبادة وجلالة الموقف، جعل الله حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.


الخطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي جعل مواسِمَ الخيرات مربحًا ومغنَمًا، وأيام البركات إلى جناته طريقًا وسُلَّمًا، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون:
لقد بُنِي هذا البيتُ العتيقُ مُؤسَّسًا على التوحيد ولأجل التوحيد: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا[الحج: 26].
ومنذ أن دخلتَ النُّسُك وأنت مُعلِنٌ للتوحيد: "لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والملك، لا شريك لك".
وفي ثنايا آيات الحج يقول الله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج: 30، 31].
وفي حديث جابرٍ - رضي الله عنه - في صفة حجِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثم أهلَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتوحيد: لبَّيك اللهم لبَّيك، لبَّيك لا شريك لك لبَّيك"؛ رواه أبو داود.
فأخلِصوا دينَكم لله، وتفقَّدوا أعمالَكم ومقاصِدَكم.
عباد الله:
وفي مناسِك الحجِّ تربيةٌ على إفراد الله بالدعاء والسؤال والطلب، مع التوكُّل عليه واللجُوءِ إليه، والاستغناء عن الخلق والاعتماد على الخالق: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا[الجن: 18]، لا نبيًّا ولا وليًّا، ولا مكانًا ولا رسمًا.
كما لا يجوزُ أن يُحوَّلَ الحجُّ إلى ما يُنافِي مقاصِدَه، فلا دعوةَ إلا إلى الله وحده، ولا شِعارَ إلا شِعارُ التوحيد والسنة.
أيها المسلمون:
والحجُّ عبادةٌ فريدةٌ تجمعُ ملايين البشر المُتدفِّقين لأداء النُسُك شوقًا، التاركين لدنياهُم طوعًا؛ فأيُّ مشهدٍ أبهى من هذا التجمُّع الإيماني العظيم، فيه اجتماعُ الأمة وائتلافُها، وتظهَرُ قِيَمُها وأخلاقُها، فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ[البقرة: 197].
قِيَم التسامُح والإخاء والبُعد عن الخلاف والمِراء، قِيَمُ المُساواة والعدل والأُخُوَّة والمحبة، قِيَمُ القناعة والبَساطة في تجرُّد الحاجِّ من متاع الدنيا في لِباسِه ومسكنه ومنامه، يتربَّى على ترك الترفُّه، ويتحمَّلُ المشقَّة والتضحية.
من الحجِّ نستلهِمُ المُراجعات السُّلُوكية لكثيرٍ من القِيَم والأخلاق.
حُجَّاج بيت الله العتيق:
الحجُّ جهادٌ، ولا بدَّ في الجهاد من مشقَّة، وتركُ الترفُّه مقصودٌ، وعلى الحاجِّ أن يصبِرَ ويحتسِبَ في إتمام حجِّه كما أمر الله آخِذًا نُسُكَه من رسول الله.
ومن الخُذلان أن يتتَبَّعَ الإنسانُ الرُّخَص ويزهَدَ في السنن، ويرجِعَ بحجٍّ مُشوَّه، ويتنازَل عن كمال النُّسُك، ولا يتنازَلُ عن نقص الخدمات في الطعام والشراب والسَكَن، والله تعالى يقول: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[البقرة: 196]، اجعلوا هذه الآيةَ شِعارَكم.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
تعلَّموا أحكامَ مناسِكِكم، واسألوا عن عباداتكم، وتحرَّوا صحةَ أعمالكم قبل إتيانِها، تفرَّغوا لما جِئتُم لأجله، واشتغِلوا بالعبادة والطاعات؛ فإن ما عند الله لا يُنالُ بالتفريط.
أكثِروا من الدعاء والتضرُّع، والهَجوا بذكر الله في كل أحوالكم؛ فنبيُّكم - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إنما جُعِل الطوافُ بالبيت وبين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله»؛ رواه أبو داود، والترمذي.
وربُّكم تعالى يقول: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا[البقرة: 198- 200].

حُجَّاج بيت الله الحرام:
تبذُلُ الدولةُ برجالاتها وأجهزتها ومُؤسَّساتها الحُكومية وغير الحُكُومية جهودًا هائلةً لخِدمتكم وتيسير حجِّكم، والنظامُ وُضِعَ لمصلحتكم، والجهودُ كلُّها لأجلكم، فالتزِموا التوجيهات، واتَّبِعوا التعليمات، وابتعِدوا عن مواطن الزحام، وتعاوَنوا مع رجال الأمن والأجهزة الحكومية.
لا تُغلِقوا الطرقات، ولا تجلِسوا في الممرات، واستشعِروا ما أنتم فيه، وكونوا على خير حالٍ في السُلُوك والأخلاق، والزَموا السكينةَ والوَقار، واجتهِدوا وسدِّدوا وقارِبوا، وأبشِروا وأمِّلوا؛ فإنكم تقدُمون غدًا على ربٍّ كريمٍ.
تمنَّ على ذي العرشِ ما شئتَ إنه
جوادٌ كريمٌ لا يُخيِّبُ سائلاً

تقبَّلَ الله حجَّكم، وأعانكم على تمام النُّسُك، وأحاطكم بحفظِه ورعايته.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم جازِه بالخيرات والحسنات على خدمة الحرمين الشريفين والعناية بالحُجَّاج والمُعتمِرين، وأتِمَّ عليه الصحة والعافية، اللهم وفِّق وليَّ عهده وسدِّده وأعِنه على ما حُمِّل، واجعله مبارَكًا مُوفَّقًا لكل خيرٍ وصلاح.
اللهم اغفر للأمير سلطان بن عبد العزيز، وارحمه، وتجاوز عنه، وأسكِنه فسيحَ جناتك.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، اللهم انصرهم على من ظلمَهم.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصر المسلمين في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم احفظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم احفظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، اللهم احفظ الحُجَّاج والمُعتمِرين، ويسِّر لهم أداء مناسِكهم آمِنين، وتقبَّل منَّا ومنهم أجمعين.
اللهم وفِّق رجالَ الأمن والعاملين لخدمة الحُجَّاج، وجازِهم بالخيرات والحسنات يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مُجلِّلاً عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 11-08-2011 10:31 PM

المُحدثات طوفان مُغرِق
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبةعيد الأضحى 1432هـ بعنوان: "المُحدثات طوفان مُغرِق"، والتي تحدَّث فيها عن البدع والمُحدثات، وأن السنَّة هي سفينة نوح من ركبها نجا ومن تركها هلك، وذكَّر بأحكام الأُضحية ونبَّه على بعض الأخطاء التي يقع فيها بعضُ المسلمين، وبيَّن أنه لن يرتقي المسلمون ويصِلوا إلى مرضات الله تعالى إلى بالاستجابة لأمره - سبحانه - وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي لا يبلغُ مِدحَتَه القائلون، ولا يُحصِي نعماءَه العادُّون، ولا يُؤدِّي حقَّه المُجتهِدون، المعلومِ من غير رؤية، والخالقِ بلا حاجة، والمُميت بلا مخافة، والباعثِ بلا مشقَّة، خلقَ الخلائقَ بقدرته وحكمته، ونشرَ الرياحَ بُشرًا بين يدي رحمته، مُبدئِ الخلق ووارثِه، وباسطٍ فيهم بالجُودِ يدَه، كتبَ على نفسه لعباده المؤمنين الرحمة، وسبقَ عفوُه عقابَه وحلمُه غضبَه، لا يخفى عليه مثقالُ ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماء، لا تُدرِكُه الأبصار وهو يُدرِكُ الأبصار وهو اللطيفُ الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، خيرُ من صلَّى لله وقام وحجَّ البيت الحرام وصام عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[التوبة: 128]، ما تركَ خيرًا إلا دلَّنا عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرَنا منه، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى الصحابة والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
الله أكبر، الله أكبر كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا.
الله أكبر غافرُ الزلاَّتِ
داعِي الحَجيج إلى ثَرى عرفاتِ
الله أكبر ملءَ ما بين السما
والأرضِ عدَّ الرملِ والذرَّاتِ
والحمدُ لله العليِّ فنورُه
في الذكرِ كالمِصباحِ في المِشكاةِ
الله أكبر بُكرةً وعشيَّةً
الله أكبرُ سامعُ الأصواتِ
الله أكبر عالمًا ومُهيمِنًا
مُحصِي الحَجيج وجامعِ الأشتاتِ
ما كان يخفاهُ الضميرُ وهمسةً
مهما تكن عند اختلافِ لغاتِ
الله أكبر مُبصِرُ النملِ الذي
في ليلةٍ سوداء فوق صفاةِ
قد أبصرَ الجمعَ الغفيرَ وإنه
ليَرَى نِياطَ القلبِ والنَّبَضاتِ
الله أكبر لن تُوارِيَ دمعةٌ
عنه الدموعَ وخافِيَ العَبَراتِ
علِمَ الغيوبَ وكلَّ حبَّةِ خردلٍ
ما قد مضَى منها وما هو آتِ
الله أكبر فاستجِبْ يا ربَّنا
ولتَمْحُ عنا سالفَ العَثَراتِ
واغفر لحُجَّاجٍ أتَوا شُعثًا فقد
ناجَوكَ يا رحمنُ بالزَّفَراتِ
الله أكبر أنت أرحمُ راحمٍ
فاقبَلْ كريمًا صالحَ الدعواتِ
واجعله حجًّا صالحًا مُتقبَّلاً
والطُفْ بنا في الحشرِ والعَرَصاتِ
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أما بعد:
فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - سبحانه -؛ فإنها مفتاحُ سَداد، وذخيرةُ معاد، وعِتقٌ من كل ملَكَة، ونجاةٌ من كل هلَكَة، بها ينجحُ الطالب، وينجُو الهارِب، فاعملُوا فإن العمل يُرفَع، والتوبةَ تنفع، والدعاءَ يُسمَع.
ألا وإن عليكم رُصَّدًا يحفَظون أعمالَكم وعددَ أنفاسِكم، لا تستُركم عنهم ظُلمةُ ليلٍ داجٍ، ولا يُكِنُّكم بابٌ ذو رِتاج، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار: 10- 12].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

ابوحاتم 11-08-2011 10:32 PM

حُجَّاج بيت الله الحرام:
لقد أصبحتم في هذا اليوم في عيدٍ مبارك؛ عيد الأضحى، يوم القَرابين، يوم الحج الأكبر، يوم قضاء التَّفَث والوفاء بالنُّذور والطواف بالبيت العتيق، إنه يومُ الفرح بالاستجابة لدعوة الخليل - عليه السلام -: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ[الحج: 27- 29].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون:
لقد شرعَ الله لنا في هذا اليوم المُبارَك ذبحَ الأضاحِي تقرُّبًا لله؛ إذ من أفضل أعمال ابن آدم يوم النحر إراقة دم الهَدي والأضاحي تقرُّبًا وزُلفَى للخالق - سبحانه -: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
إنها سُنَّةُ أبينا إبراهيم المُؤكَّدة، ويُكرَهُ تركُها لمن قدِرَ عليها، كما أن ذبحَها أفضلُ من التصدُّق بثمنها، وتُجزِئُ الشاةُ عن واحدٍ، ولا بأس أن يُشرِكَ معه أهلَ بيته، وتُجزئُ البدَنة والبقرة عن سبعة.
ثم إنه يجبُ على المُضحِّي أن يُراعِي شروطَ الأُضحية الثلاثة:
فأولها: أن تبلغَ الأضحيةُ السنَّ المُعتبَرُ شرعًا، وهو: خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنةٌ كاملةٌ في المعز، وستةُ أشهرٍ في الضأن.
والشرطُ الثاني: أن تكون الأُضحية سالمةً من العيوب التي نهي عنها الشارع، وهي أربعة عيوب: العرجاء التي لا تُعانقُ الصحيحةَ في المشي، والمريضةُ البيِّنُ مرضُها، والعوراءُ البيِّنُ عورُها، والعَجفاءُ وهي الهَزيلةُ التي لا مُخَّ فيها، وكلما كانت الأُضحيةُ أكمل في ذاتها وصفاتها فهي أفضل.
والشرطُ الثالثُ: أن تقعَ الأُضحية في الوقت المُحدَّد، وهو الفراغُ من صلاة العيد، وينتهي بغروبِ اليوم الثالث بعد العيد، فصارت الأيامُ أربعةً.
ثم ليرفِق الجميعُ بالبَهيمة: «وليُرِح أحدُكم ذبيحَته، وليُحِدَّ شفرَتَه؛ فإن الله كتبَ الإحسانَ على كل شيءٍ» حتى في ذبح البهيمة، ثم ليُسمِّي أحدُكم عند ذبحها؛ لأن الله يقول: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ[الأنعام: 121].
ويُستحبُّ للمُضحِّي أن يأكل منها، ويُهدِي ويتصدَّق، ولا يُعطِي الجزَّارَ أُجرتَه منها.
فضحُّوا واهدُوا، تقبَّل الله ضحاياكم وهداياكم.
ضحُّوا فإن لحُومَها ودماءَها
سينالُها التقوى بلا نُقصانِ
العيدُ أَضحى فالدماءُ رخيصةٌ
مُهراقةً للواحد الديَّانِ
هي سنةٌ بعد الذبيحِ وإنها
من خير ما يُهدَى من القُربانِ
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.


حُجَّاج بيت الله الحرام:
إن هذا البيت العتيق الذي رفعَ قواعدَه إبراهيمُ وابنُه إسماعيل - عليهما السلام - لم يُبنَ إلا بالتوحيد ولأجل التوحيد ولأهل التوحيد، تتعاقبُ الأجيالُ على حجِّه، ويتنافسُ المسلمون في بُلوغ رِحابِه، وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ[الحج: 26].
ولقد بعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سنة تسعٍ من الهجرة مع أبي بكر - رضي الله عنه - من يُنادِي بالناس: ألا يطوفَ بالبيت عُريان، وألا يحُجَّ بعد العام مُشرِكٌ؛ رواه البخاري ومسلم.
فالحجُّ - عباد الله - أمارةٌ تدعو إلى التوحيد؛ فاجتماعُ الناس على اختلاف ألوانهم وأجناسِهم ليُوحِي إليهم أنه ينبغي للمسلم ألا يعبُدَ إلا الله ولا يلجأ إلا إلى الله في خوفه ورجائه وذبحِه ونذرِه ورغبته ورهبَته، حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ[الحج: 31، 32].
إن المؤمن المُوحِّد ليشعُر من أعماق قلبه أن ما دون الله هَباء، ويستحيلُ عنده أن يُغلَبَ اللهُ على أمره أو أن يُقطَع شيءٌ دونه؛ إذ التعلُّق بغير الله عجزٌ، والتطلُّع إلى سواه ضلالٌ وحُمقٌ.
وإن مما يُؤسِف أشدَّ الأسف: ما يقع فيه بعضُ أهل الغفلة ممن لم يُلامِس التوحيدُ شِغافَ قلوبهم، فادَّعوا علمَ ما لم يعلَموا، ولجئوا إلى غير الله، وخاضُوا في أمور الغيب، فاستحكمَت لديهم الشعوذةُ والكِهانة وما يُسمَّى: تحضيرَ الأرواح وقراءة الكفِّ والفنجان، أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ[الطور: 41]، قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ[النمل: 65].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.


حُجَّاج بيت الله الحرام:
في الحجِّ تتجلَّى صورةٌ عُظمى وسمةٌ جُلَّى هي نبراسٌ للأمة إن أرادت الهداية وصحةَ العمل بعد الإخلاص لله تعالى، ألا وهي: متابعةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلكم من خلال قوله - صلوات الله وسلامه عليه - في حجَّة الوداع: «خُذوا عنِّي مناسِكَكم»، ليُؤكِّد لنا - صلوات الله وسلامه عليه - أن خيرَ الهدي هديُه - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لا هديَ أحسنُ من هديِه، ولا طريقَ أقومُ من طريقه، وهيهات هيهات أن يأتي الخلَفُ في أعقاب الزمن بخيرٍ مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - والسلف الصالح في عصور النور.
فإن من غُربة الدين: أن تلتصِقَ به المُحدَثات التي هي تشويهٌ لجمال الدين، وطمسٌ لمعالم السُّنَن، ومكانةٌ السنة بين هذه المُحدَثات أنها دعوةُ كمال، فكلما تردَّد الإنسان بين طريقين دعَتْه السنةُ إلى خيرهما، وإن تردَّد العقلُ بين حقٍّ وباطلٍ دعَته السنةُ إلى الحق.
وبهذا يُعلَم أن دعوةَ السنةِ إنما هي لأصعبِ الطريقين وأشقِّ الأمرَين بالنسبة لأهواء البشر، وسببُ ذلك - عباد الله - هو: أن الانحدارَ مع الهوى سهلٌ يسيرٌ، ولكن الصعودَ إلى العلو صعبٌ وشاقٌّ، وإن الماء ليَنزِلُ وحدَه حتى يستقرَّ في قَرَارة الوادي، ولكنه لا يصعَد بالعلو إلا بالجُهد والمضخَّات.
وما فائدةُ العقل بلا سُنَّةٍ ولا هديٍ من الله؟!
فها هو - صلوات الله وسلامه عليه - أكملُ الناس عقلاً بلا نزاع، ومع ذلك قال عنه ربُّه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ[الشورى: 52، 53].
ثم إن المُحدَثات سريعةُ الانتشار، تستلفِتُ أنظارَ الدَّهماء فيعمَدونها الذين لا يُبصِرون، ويصمُّوا عنها الذين هم عن السمعِ معزولون؛ فالمُحدَثات طوفانٌ مُغرِق، والسُّنَّةُ الصحيحةُ سفينةُ نوح؛ من ركِبَها نجا، ومن تركها غرِق ولَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ[هود: 43].
وإننا حينما نتحدَّث عن البِدَع فإننا نعنيها بأوسَع مفاهيمها، وهي: كل ما خالفَ هديَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في العبادات والمعاملات والأخلاق والمسؤوليات والواجبات والحُقوق والثقافة والفِكر، ولقد صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - صلوات الله وسلامه عليه -؛ حيث قال: «إنه من يعِش منكم فسيرَى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنَّواجِذ، وإياكم ومُحدثَات الأُمور؛ فإن كل بدعةٍ ضلالة»؛ رواه أبو داود والترمذي.
ألا فليُعلَم أنه لا يمكن أن يأتي مبدأ أو فِكرٌ يُقرِّرُ العدلَ والمُساواة وحفظَ الحقوق والواجبات ورعايةَ الأُمَم أفرادًا وأُسرًا ومُجتمعات بمثل ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن ما جاء به إنما هو من عند حكَمٍ عدلٍ برٍّ رحيمٍ يُريدُ بعباده اليُسْرَ ولا يُريدُ بهم العُسرَ، خلقَ الخلقَ وهو أعلمُ بما يصلُحُ لهم في دينهم ومعاشِهم وآخرتهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: 216].
ولهذا كان آخر ما أوصى به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمَّتَه في حجَّة الوداع أن قال لهم: «وإنِّي قد تركتُ فيكم ما لن تضِلُّوا بعدي إن اعتصمتُم به: كتابَ الله، وأنتم مسؤولون عني؛ فما أنتم قائِلون؟!». قالوا: نشهَد أنك قد بلَّغتَ رسالاتِ ربِّك، وأدَّيت، ونصحتَ لأمَّتك، وقضيتَ الذي عليك. فقال بأُصبعه السبَّابة يرفعها إلى السماء وينكُتُها إلى الناس: «اللهم اشهَد، اللهم اشهَد»؛ رواه البيهقي وابن ماجه.
قال سفيان الثوري - رحمه الله -: "من ابتدعَ في الإسلامِ بدعةً يراها حسنةً فقد زعمَ أن محمدًا خانَ الرسالة؛ لأن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3]".
ولقد اتفق أئمةُ التفسير أن هذه الآية نزلت في حجَّة الوداع، وإنها لآيةٌ عظيمة ومنَّةٌ كريمة أن أتمَّ الله على عباده نعمةَ الدين، ورضِيَ لهم الإسلامَ دينًا، فبذلك فلنفرَح هو خيرٌ مما نجمَع.
وإنه لعيبٌ على كل مسلمٍ أن يُدرِكَ غيرُ المسلمين معنى هذه الآية وأثرَها على النفس أكثر مما يُدرِكُه بعضُ من ينتسِبون إلى الإسلام على حين غفلةٍ من العلم والفقهِ في الدين؛ ففي "الصحيحين" عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين! آيةٌ في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: "أيّ آية؟". قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3]. قال عمر: "قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو قائمٌ بعرفة يوم الجُمعة".
أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ[يونس: 35].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله الحرام:
الأمةُ المُسلمةُ المُتميِّزةُ هي تلكم الأمة التي تتحقَّقُ لها ضرُورياتُها وحاجاتها وتحسينياتُها تحت ظلٍّ وارِفٍ من الرضا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًّا ورسولاً، وهي بمثل ذلك لا يُقوِّضُ بُنيانَها أزمةٌ، ولا يُعكِّرُ صفوَها ضيقٌ، ولا تُفترسُ يومًا تحت نابِ سبُعٍ عادٍ، أو تُجرَح بمخالبِ باغٍ مُتوحِّش.
كلا لا يمكن أن يكون ذلك لأمةٍ شاعَت بين ذوِيها روحُ الإخاء والعدل والإنصاف والإيثار والشَّفَقة والتواضُع لله ثم لخلقه، وإنما يقعُ في مثل ذلكم أممٌ تدثَّرَت بالصَّلَف والكبرياء والبُعد عن وحيِ الله، تستنشِقُ البغيَ والهوى والظلمَ والأنانية لتمثُلَ أمام حاضرٍ كريهٍ ومُستقبلٍ مُقلِق، فيسبِقُها خصمُها إلى إذلالها وكبتِ حُريَّتها التي اكتسبَتها من قُربها من خالقها ومولاها.
ألا إن من رأى واقع الأمة المسلمة اليوم فإنه سيرى بعين رأسه أن ذوِيها أفخَرُ ملبسًا، وأجسَمُ مطعمًا، وأرفهُ مركبًا عن ذي قبل، ولكن من يرى بعين فِكره ولُبِّه فسيرى كثيرًا منهم أقلَّ في الخصائص الروحانية أو أضعفَ وازعًا وأكثر شهواتٍ وشُبُهات، والذي من أجله كثُرت آلامُها ونُكِئَت جِراحُها، فصارَت تُعالِجُ غليانًا وهيجانًا تلعبُ به الريحُ ذات اليمين وذات الشمال، وهي تتلقَّى اللَّكَمات والوَكَزات في صياصِيها أو قريبًا من دارها، فلا تكادُ تُسيغُ ما يجري، ويأتيها الموتُ من كل مكان وما هي بميتةٌ - بإذن الله -.
والحقيقةُ أن هذا كلَّه لم يكن بِدعًا من الأمر ولا كان طَفرةً دون مُقدِّمات، إنما هو نتيجةُ ثُقوبٍ وشُرُوخٍ في سِياجِ الأمةِ الشَّامِخ تراكَمت على حين غفلةٍ من ترميمه وصيانتِه وتعهُّد احتياجات هذا السِّياجِ المَنيع، فادلهمَّت الخُطوب، وترادَفَت حلقاتُها حتى صارَت كل فتنةٍ تقول للأخرى: أختي أختي.
وقد لا يكون ذلكم مُستغربًا عقلاً وواقعًا؛ لأن النسيمَ لا يهُبُّ عليلاً على الدوام، ولكن المُستغرَب أن تضعَ الأمةُ كل علامات الاستفهام في مسامِعِها حينًا بعد آخر ثم لا تُلامِسُ تلكم الاستفهامات مظانَّ الأدواء، فيقعُ التطبُّبُ المذموم، وتُشحَذُ الهمَّة على إخراج الشوكة في حين إن الروحَ تُغرغِر، أو كمن يستطِبُّ زُكامًا لمن به جُذام، حتى يبيتَ الأمرُ من الخُطورة بمكانٍ بحيث يُوجِبُ البحثَ الحقيقيَّ عن الداء والأسبابِ المُفضِيَةِ إلى تلك التراكُمات والتَّدَاعيات التي تؤُزُّ المُجتمعات أزًّا شاءَت هي أم أبَت؛ لأن من البديهي أنه إذا عُرِف السبب بطل العجَب، وإذا أُحسِن التشخيصُ أُحسِن العلاج، فقد يكون السببُ تربويًّا أو اقتصاديًّا أو ثقافيًّا أو إعلاميًّا أو سياسيًّا، وأيًّا كان من ذلكم فإن لكل داءٍ دواءً، ولكل علَّةٍ شِفاءً.
وعندما يقعُ التقصيرُ في التداوي فإن المرض ما منه بُدٌّ، وما هو إلا كشفُ الإناء لكل لاعبٍ والِغٍ، ثم هي الفوضَى في الوِرْد والصدر، وعندئذٍ لا بُدَّ من تجرُّع النتيجة المُرَّة مأم
على شَرَق.
ومن مثلِ هذا يعرفُ العُقلاءُ قيمةَ التواصِي والاجتماع والوِحدة ونبذ الفُرقة؛ فدينُ الإسلام جامِعُنا، ومن أتانا في اجتماعنا فقد أتانا في ديننا، ومن أتانا في ديننا فقد أتانا في اجتماعنا.
ولقد حثَّنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على أن نحذَرَ كلَّ عدوٍّ لنا وأن نتَّقِيَه ما استطعنا؛ كيف لا وقد علَّمنا - صلوات الله وسلامه عليه - أن عدوَّ ديننا عدوٌّ لنا كائنًا ما كان؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «اقتُلوا الوَزَغ؛ فإنه كان ينفُخُ على إبراهيم - عليه السلام - النار»؛ رواه أحمد، وأصلُه في "الصحيحين".
هكذا حذَّرَنا - صلوات الله وسلامه عليه - من أعدائنا حتى ولو كانوا حشراتٍ صغيرةً كالأوزاغ؛ بل إنه لم يُرتِّب أجرًا في قتل حشرةٍ أو دابَّةٍ كما رتَّب ذلك في قتل الوَزَغ، كماء عند مسلمٍ وغيره.
فإذا أردنا التغيُّر للأحسن والأكمل فلنتدبَّر قولَ الله: إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ[الرعد: 11].
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
إن الأمةَ المسلمةَ إذا أرادت الاستقرار الأمنيَّ والأخلاقيَّ والسياسيَّ والإعلاميَّ فيجبُ عليها أن تكون صريحةً مع نفسها، مُعترِفةً بأخطائها، عازمةً على المُضِيِّ قُدُمًا في كل ما من شأنه سدُّ ثُلمتِها ولمُّ شعَثِها واجتماعُ فُرقتها، ولن يكون ذلكم دون وُضوح، كما أنه لن يتم من خلال مبدأ الانتقائية، أو مبدأ القائل: أصمُّ عن الأمرِ الذي لا أريدُه، وأسمعُ خلقَ الله حين أشاءُ.
لأن مثل هذا المبدأ يُؤخِّر يوم الاستقرار ولا يُقدِّمُه، أو يقودُ إلى الغرق في بحرٍ لُجِّيٍّ يغشاهُ موجٌ من فوقه موجٌ م فوقه سحابٌ من الفتن المُتلاطِمة التي تُعيقُ عجلَةَ التصحيح إن لم تئِدها برُمَّتها.
ألا وإن مصدر محَن أمة الإسلام من داخلها أشدُّ خطرًا من عدوِّها؛ لأن العدوَّ واحدٌ بخلاف الأصدقاء وبني المُجتمع فليسوا في البرِّ سواء، ولا يُدرِك عمقَ هذا إلا من وهبَه الله معرفةَ لحنِ القول الذي ينخُرُ في جسَد الأمة وله وقعٌ في نفسها أشدُّ من وقع سِهام عدوِّها، والنوائبُ والمُدلهِمَّات هي التي تُقرِّرُ العدوَّ من الصديق، لتُدهَشَ الأمةُ حينما تجِدُ اللسانَ لسانَهم، والفُؤادَ تُجاهَ عدوِّهم، الجسدُ مُخالط والقلبُ مُفارِق.
وأمثالُ هؤلاء لا يُكشَفون إلا في الأزمَات، أمثالُهم سببُ الفُرقة حالَ الرغبة في الاجتماع، وهم سببُ الفُتوق حال استِجلابِ الرُّتُوق، ولقد أحسن من قال:
وكان بنو عمِّي يقولون: مرحبًا
فلما رأوني مُعسِرًا ما تمرحَبوا
أمثالُ هؤلاء هم الذين حذَّرَنا منهم من حجَّت هذه الملايين اقتداءً به واتباعًا لسنته - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث جاء عنه عند البخاري ومسلم: قوله عن فتن آخر الزمان، وقد سأله حُذيفة بن اليمان قائلاً: وهل بعد ذلك الخير من شرٍّ؟ قال: «نعم، دُعاةٌ على أبوابِ جهنَّم، من أجابَهم إليها قذفُوه فيها». قال: يا رسول الله! صِفهم لنا. قال: «هم من بني جِلدتنا، ويتكلَّمون بألسنتنا ..» الحديث.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.




ابوحاتم 11-08-2011 10:33 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مُباركًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضَى.
أما بعد:
فاتقوا الله - حُجَّاج بيت الله الحرام -، واجعلوا من حجِّكم وعيدكم هذا - أمة الإسلام - نقطةَ انطلاقةٍ من السيءِ إلى الحسن، ومن الحسَن إلى الأحسن، وأصلِحوا أنفسَكم من داخلها، واعلموا أن واقع المسلمين لا يُمكن أن يُصلَح خارجًا عنهم؛ لأن مُستقبل المسلمين يجبُ أن يُصنَع في بلادهم وعلى أرضِهم بكدِّهم وكدحِهم وأخلاقهم، بشغلِ أوقاتهم في كل ما من شأنه خدمةُ الإسلام والمُسلمين، حتى لا يرُوغَ بعضُهم على بعض، ويشغَلَ بعضُهم بعضًا في التهويش والتحريش، ولئلا يُبطَلَ الحقُّ ويُغمَطَ الناس، واللهَ اللهَ في تنقيةِ المُجتمعات من شوائِبِها.
فاحرِصوا على الإعلام، واجعلوه منارةً لكل ما يفيد، وسِياجًا منيعًا ضدَّ كل دَخيلٍ لا نفعَ فيه؛ فإن الإعلام سِلاحٌ ذو حدَّين أصدقُهما وأنفعهُما ما قادَ إلى الخير وعمَّ بالنفع ولهَجَ بالصدق والتثبُّت والبُعد عن الكذِب والتضليل؛ لأنه قِوامُ المُجتمعات ومِرآتُها، فمن أراد أن يرى حُسن صورته فلا ينظر إلى مِرآةٍ مُتهالِكة.
كما أنه ينبغي علينا جميعًا أن نُعطِي كل ذي حقٍّ حقَّه، وألا نبخَسَ الناسَ أشياءَهم، لا سيما المرأة المسلمة؛ لأنها محطُّ الأنظار في هذه الآوِنة، فلنتذكَّر وصيةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في حجَّة الوداع، وأنها مخلوقةٌ حرَّةٌ لها حقوقٌ وواجبات وعليها حقوقٌ وواجبات، وجعل لها من الحقِّ مثل ما للرجل، وللرجل عليها درجة.
فاللهَ اللهَ في إنصافها بما أنصفَها الله به وأنصفَها به رسولُه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإن المرأة هي أمِّي وأمُّك وأختي وأختُك وزوجتي وزوجتُك وبنتي وبنتُك، لها شأنٌّ في المُجتمع، فهي نصفُه وإنها لتلِدُ النصفَ الآخر فكأنها مجتمعٌ بأكمله.
كما أن من إنصافِ المرأة: عدمَ الزجِّ بها بما ليس من فِطرتِها وجِبِلَّتها وليس مما شرعَه الله لها، أو إقحامها فيما هو من خصائص الرجال دون مُراعاةٍ لقُدراتها العاطفية والبدنية والأُنثوية؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في حجَّة الوداع: «فاتقوا الله في النساء؛ فإنكم أخذتُموهنَّ بأمانة الله، واستحللتُم فُرُوجهنَّ بكلمة الله».
ألا فإن للمرأة عقلاً وجسدًا وروحًا ورأيًا وحقًّا، فأعطُوا كلَّ ذي حقٍّ حقَّه.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.
حُجَّاج بيت الله الحرام:
ها أنتم قد خرجتم من المُزدلِفة بقلوبٍ خاشِعةٍ مُطمئنَّة، تعلوكم السكينة، ويحدُوكم الرجاءُ، وليس السابقُ اليوم من سبَقَت به دابَّتُه، وإنما السابقُ اليوم من أحسنَ العملَ وأخلصَه لله فسبقَ إلى مغفرته ورِضوانه.
واعلموا - رحمكم الله - أن أول ما يُبدأُ به من الأعمال في هذا اليوم بعد الخروج من مُزدلِفة: أن يتوجَّه الحاجُّ إلى مِنَى بسكينةٍ ووقار فيرمِي جمرةَ العقبة بسبعِ حصَيَاتٍ، وهي أقربُ الجمرات إلى مكة، يُكبِّرُ مع كل حصاةٍ يرميها، ثم ينحَرُ هديَه إن كان عليه هَدي بأن كان مُتمتِّعًا أو قارِنًا، ثم يحلِقُ رأسَه أو يُقصِّرُ فيُحِلُّ من إحرامه، ويُباحُ له كلُّ شيءٍ حرُمَ عليه أثناء الإحرام إلا النساء.
ويبقى في حقِّ القارِنِ والمُفرِدِ: طوافُ الإفاضة وسعيُ الحجِّ إن لم يكن قد سعى مع طوافِ القُدوم.
وأما المُتمتِّعُ فيبقى عليه طوافٌ وسعيٌ غيرُ طوافِ العُمرة وسعيِها.
ثم بعد طوافِ الإفاضة يحِلُّ للحاجِّ كلُّ شيءٍ حرُم عليه بسببِ الإحرام حتى النساء، ولا يضرُّ الحاجَّ ما قدَّم أو أخَّر من أعمالِ يوم النَّحْر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سُئِل عن شيءٍ قُدِّم ولا أُخِّر في ذلك اليوم إلا قال: «افعل ولا حرج» تسهيلاً للأمة ورفعًا للحرج - بأبي هو وأمي - صلوات الله وسلامه عليه -.
ثم يبيتُ الحاجُّ بمِنَى ليالي التشريق وجوبًا؛ لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولقوله: «خُذُوا عنِّي مناسِكَكم»، فيرمِي الجمَرات بعد الزوال في اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر إن لم يكن مُتعجِّلاً، يرمي كلَّ جمرةٍ بسبعِ حصَيَاتٍ، يبدأُ بالجَمرة الصغرى ثم الجمرة الوُسطى ثم الجمرة الكبرى.
فإذا أنهى الحاجُّ الرميَ والمبيتَ فإنه يطوفُ طوافَ الوداعِ وجوبًا، ويسقُطُ عن المرأة الحائض، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعله، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة: 200- 202].
وتذكَّروا - حُجَّاج بيت الله الحرام - بجمعِكم هذا يوم يجمعُ الله الأولين والآخرين على صعيدٍ واحدٍ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ[الحاقة: 18]، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا[مريم: 93- 95].
اللهم تقبَّل منا، اللهم تقبَّل منا، اللهم تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، واغفر لنا إنك أنت الغفورُ الرحيم، اللهم اجعل حجَّنا مبرورًا، وسعيَنا مشكورًا، وذنبَنا مغفورًا.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح ذاتَ بينهم، واكفِهم شرَّ أنفسهم وشرَّ الشيطان وشِركه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر إخواننا المُستضعفين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم كُن لهم ناصرًا ومُعينًا ومُؤيِّدًا وظَهيرًا.
اللهم هؤلاء عبادُك أتوك شُعثًا غُبرًا، يرجُون رحمتَك ويخشَون عذابَك، اللهم فاقبَل توبتَهم، اللهم فاقبَل توبتَهم، اللهم فاقبَل توبتَهم، وامحُ حوبتَهم، ورُدَّهم إلى أهلِهم سالمين غانِمين غير خزايا ولا محرومين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وأجزِل الفضلَ والمثوبَة لكل من ساهمَ في خدمةِ حُجَّاج بيتك الحرام، واجعل ما قدَّموه في موازين أعمالهم يوم يلقَونَك.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل ولايتَنا فيمن خافَك واتقاك، واتبعَ رِضاكَ يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اجعل مواسمَ الخيرات لنا مربَحًا ومغنَمًا، وأوقات البركات والنَّفَحات إلى رحمتِك طريقًا وسُلَّمًا.
اللهم ما سألناك من خيرٍ فأعطِنا، وما لم نسألك فابتدِئنا، وما قصُرَت عنه آمالُنا وأعمالُنا من الخيراتِ فبلِّغنا.
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

ابوحاتم 11-12-2011 12:44 AM

سُبُل المحافظة على الطاعات
ألقى فضيلة الشيخ حسين بن عبد العزيز آل الشيخ - حفظه الله - خطبة الجمعة 15/12/1432هـ بعنوان: "سُبُل المحافظة على الطاعات"، والتي تحدَّث فيها عن المحافظة على الطاعات والتي تكون بالاستقامة عليها والثبات، والمُداومة على فعلها والمُسارعة في تأديتها، ومُجاهَدة النفس على العبادة والبُعد عن المحظورات.

الخطبة الأولى
الحمد لله على نعمة الإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ العلاَّم، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه - عليه أفضلُ الصلاة والسلام -.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
أُوصيكم ونفسي بتقوى الله - جل وعلا -؛ فهي سببُ الفلاح في الدنيا وفي الأخرى.
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
هنيئًا لكم على نعمةِ إتمامِ النُّسُك - بحمد الله - بسلامةٍ وعافيةٍ وراحةٍ واطمئنان، أتمَّ الله - جل وعلا - على جميع المؤمنين النِّعَم ودفعَ عنهم النِّقَم، وجعل الله حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبًنا ذنبَكم مغفورًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
الحجُّ المبرورُ يُكفِّرُ الله به السيئات، ويرفعُ به الدرجات، ويُدخِلُ به الجنَّات، ولكن للحجِّ المبرورِ علاماتٌ يُعرفُ بها، ذكرَها أهلُ العلم من خلال استقراء النُّصوص من القرآن والسنَّة.
ألا وإن أعظم تلك العلامات: أن يستقيمَ العبدُ على طاعة الله - جل وعلا -، وأن يرجِعَ الحاجُّ راغبًا في الآخرة، مُشمِّرًا إلى المُسارعة إلى الأعمال الصالحة، مُلتزِمًا طاعةَ الله - جل وعلا - حتى الممات؛ استِجابةً لقول الله - جل وعلا -: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
نعم؛ إن من علامات قبول الطاعات - ومنها الحجُّ -: الاستقامةَ الدائمةَ على البرِّ والتقوى، وربُّنا - جل وعلا - يقول لمن غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر - وهو أمرٌ لأمَّته -: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[هود: 112]، فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ[فصلت: 6].
جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا بعدك. فقال: «قُل: آمنتُ بالله، ثم استقِم».
أيها المسلمون:
إنها الاستقامة التي تتضمَّنُ كمالَ الذلِّ لله - جل وعلا - وتمام المحبَّةِ له - عزَّ شأنُه -، مع الصبر على فعلِ المأموراتِ واجتِنابِ المحظورات، والصبر على المقدورات، مع اتباعِ محاسنِ الأخلاق ونبيلِ الصفات.
جاء رجلٌ إلى الحسن البصري، فقال له: إن جزاء الحجِّ المبرور المغفرة. فقال له الحسن: "آيةُ ذلك: ألا يقودَ إلى سيِّئِ ما كان عليه من العمل".
وذكرَ ابنُ رجبٍ وغيره أن رجلاً حجَّ ثم باتَ مع قومه في مكة، فدعَته نفسُه إلى معصية الله، فسمِعَ هاتِفًا يقول: يا هذا! ألم تُحُجَّ؟! فجعل الله ذلك سببًا لعِصمته من ذلك الذنب.
أيها المسلمون:
إنه وإن كان الحجُّ له جزيلُ الثواب وعظيمُ الأجر؛ فإن أعظم ما ينبغي أن يُعتَنى به في هذه الحياة اغايةُ العُظمى، وهي: تحقيقُ الإيمان لله - جل وعلا -.
سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيِّ الأعمال أفضلُ؟ قال: «إيمانٌ بالله، ثم جهادٌ في سبيل الله، ثم حجٌّ مبرور»؛ وهو في "الصحيحين".
فالإيمانُ بالله - جل وعلا - هو الغايةُ التي خُلِق الخلقُ من أجلها: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56]، إنه الإيمانُ المُتضمِّنُ تحقيقَ التوحيد بإفراد الله - جل وعلا - بالعبادةِ والخوفِ والرجاء والإنابةِ والتوكُّلِ والدعاء، فالمؤمنُ الصادقُ هو الذي لا يعبُدُ إلا الله - جل وعلا -، ولا يدعُو ويسألُ إلا ربَّه - سبحانه -، فلا يطلُبُ كشفَ ضُرٍّ ولا جلبَ نفعٍ إلا من الله - عز وجل -، فغربُّنا - جل وعلا - يقول: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ[يونس: 106]. والآياتُ في هذا كثيرةٌ جدًّا.
ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث ابن مسعودٍ يقول: «من ماتَ وهو يدعُو من دون الله نِدًّا دخل النار»؛ رواه البخاري.
وخرَّج مسلمٌ من حديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخلَ الجنةَ، ومن لقِيَه يُشرِكُ به شيئًا دخلَ النارَ».
إنه الإيمانُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطاعته فيما أمر، واجتِنابِ ما نهى عنه وزجَر، وألا يُعبَدَ الله - جل وعلا - بشيءٍ إلا بما شرَعَه وقرَّرَه بقوله أو فعله أو تقريره.
وأما المُجاهَدة في سبيل الله؛ فإن أعظمَها: مُجاهَدةُ النفس على طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقد روى أحمد - بإسنادٍ حسن -، ورواه الترمذي، وقال: "حديثٌ حسنٌ صحيحٌ" - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المُجاهِد من جاهدَ نفسَه في سبيلِ الله».
جاء رجلٌ إلى أحد كِبار الصحابةِ فقال له: إني أريدُ أن أغزُو. فقال: "عليك أولاً بنفسك فاغزُها، وعليك بنفسِك فجاهِدها في سبيل الله".
ألا وإن أعظمَ المُجاهَدة: أن يُجاهِدَ الإنسانُ نفسَه على فعل المأمورات؛ ومن ذلك: المُحافَظة على الصلوات المفروضة، وألا يُشغِلَ الإنسانَ عنها شيءٌ إلا لعُذرٍ قاهرٍ.
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه مسلم - أنه قال: «ألا أدلُّكم على ما يمحُو اللهُ به الخطايا، ويرفعُ به الدرجات؟ إسباغُ الوضوء على المكارِه، وانتظارُ الصلاةِ بعد الصلاة، وكثرةُ الخُطا إلى المساجِد، فذلكم الرِّباطُ، فذلكم الرِّباطُ، فذلكم الرِّباطُ».
ألا وإن أعظم المُجاهَدة للنفس: أن يحفَظ الإنسانُ نفسَه - لسانًا ويدًا وجوارِح - من أن يُؤذِيَ إخوانَه المؤمنين بقولٍ أو فعل؛ فإن من أعظم ما يُكدِّرُ الحسنات حقوقُ المخلوقين، فنبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - يقول في الحديث الصحيح: «المُهاجِر من هجرَ ما نهَى الله عنه، والمُسلمُ من سلِمَ المُسلِمون من لسانِه ويدِه».
إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد حذَّرَنا من الإفلاس الحقيقي، حينما قال: «أتدرُون من المُفلِس؟». قالوا: المُفلِسُ هو من لا دِرهَم عندَه ولا دِينار. قال: «المُفلِس: هو من يأتي بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وصومٍ وحجٍّ، ثم يأتي يوم القيامة وقد شتمَ هذا، وضربَ هذا، وأخذَ مالَ هذا، فيأخُذُ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنِيَت حسناتُه أُخِذ من سيئاتهم فطُرِحت عليه، فطُرِح في النار».

أيها المسلمون:
إن من المُجاهَدة للنفس: أن يكون الإنسان ذا همَّةٍ عالية، ونفسٍ شريفةٍ توَّاقةٍ إلى فعل الخيرات، فصحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما سمِعوا قولَ الله - جل وعلا -: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ[البقرة: 148]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ[الحديد: 21] حرِصَ كلُّ واحدٍ أن يكون هو المُسارِع المُسابِقَ لغيره في ذلك.
يقول عمر - رضي الله عنه -: "ما استبَقنا إلى خيرٍ إلا سبَقَنا إليه أبو بكرٍ" - رضي الله عن الجميع -.
ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا حسدَ إلا في اثنتَيْن: رجلٍ آتاه الله مالاً فهو يُنفِقُ منه سرًّا وجهرًا، ورجلٍ آتاه الله القرآن فهو يتلُوه ويُعلِّمُه آناءَ الليل وناء النهار».
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[فصلت: 30].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعَنا بما فيه من الآيات والهُدى والفُرقان، أقولُ هذا القولَ، وأستغفرُ الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.




ابوحاتم 11-19-2011 01:25 PM

ما بعد الحج



ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 15/12/1432هـ بعنوان: "ما بعد الحج"، والتي تحدَّث فيها عما يعقُب مناسكَ الحج من المُداومة على الطاعات، والمُسارعة إلى فعل الحسنات وترك السيئات، وأشادَ بجهود خادم الحرمين والقائمين على تيسير المناسك للحُجَّاج والمُعتمرين، ونبَّه على ضرورة تعلُّم آداب وأحكام زيارة المسجد النبوي الشريف.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، أحمده - سبحانه - أكمل لنا المناسك وأتمَّ، وأسبغَ على الحَجيج فضلَه المِدارارَ الأعمَّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نسمُو بها إلى أعلى القِمَم، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أزكى من أدَّى المناسِكَ وطافَ بالبيت العتيق وأمَّ، وأبانَ معالمَ الدين ورسَم بأبلغِ عبارةٍ وأوجزِ الكلِم، صلَّى الله عليه وعلى آله الأطهارِ صفوةِ الأُمَم، السالكين النهجَ القويمَ الأَمَم، وأصحابِه الأخيارِ أُسدِ العَرين ولُيُوثِ الأَجَم، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ما قصدَ المسجدَ الحرام حاجٌّ والتزَم، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله! حُجَّاج بيت الله الحرام:
اتقوا الله - تبارك وتعالى - حقَّ التقوى؛ فإنها أنفسُ الذخائِر، والأثرُ الجليلُ لما أدَّيتُم من أعظم الشعائر، فتقوى الله - سبحانه - ضياءُ الضمائر، ونورُ البصائر، وترياقُ السرائر، وخيرُ عاصمٍ من الجرائر، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى[البقرة: 197].

يريدُ المرءُ أن يُؤتَى مُناهُ ويأبَى اللهُ إلا ما أرادا
يقول المرءُ: فائدتي ومالي وتقوى اللهِ أعظمُ ما استفادا
وفودَ الرحمن! أيها الحُجَّاج الكرام:
منذ أيامٍ قلائل نعِمتم بإكمال مناسكِ الركنِ الخامسِ من أركان الإسلام، وأحدِ مبانيه العِظام، في أجواءٍ إيمانية سعيدةٍ، وأوضاعٍ أمنيَّةٍ فريدة، فاقدُرُوا هذه النعمةَ الكبرى التي يغبِطُكم عليها سائرُ الأمم، واشكروا المولى - سبحانه -؛ حيث أفاضَ عليكم أزكَى المِنَن والنعَم، وغمَرَكم فضلُ الباري بالحجِّ إلى البيت الذي جعله مثابةً وأمنًا للناس، وفي ذلك الأجرُ الجزيلُ بغير قياس، وعلى إثر ذلك ودَّعَت أمتُنا الإسلامية مناسبةَ عيد الأضحى الغرَّاء، وأيامَه العبِقَة الزهراء؛ إذ المقامُ بعدئذٍ مقامُ شكرِ المُنعِم - سبحانه -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ[إبراهيم: 7].
فاشكروه تعالى حقَّ شكره، واذكروه - جل وعلا - حقَّ ذكره؛ فقد وقفتُم بأزكى البِطاح ترجُون غفرانَ الذنوب والجُناح، وتأمُلون الفوزَ بالأجر والفلاح، وقد نقعتُم أنفسَكم وأرواحَكم في مُغتسَل المغفرة ونفحاتها، وسحجتُم الآثامَ بشآبيب الرحماتِ وهبَّاتها، تدعون ربَّكم بألسنةٍ طاهرة وقلوبٍ خاشعة ونفوسٍ مُنكسِرةٍ ضارِعة وأعيُنٍ بالعَبَرات سكَّابةٍ دامِعة.
عيونٌ إلى الرحمنِ ترنُو ضراعةً فينهَلُّ فيضٌ من مدامِعِها سكبًا
حجيجٌ كموجِ البحر في زحمةِ التُّقَى يُلبِّيه ربُّ العالمين إذا لبَّى
فعلى صعيدِ عرفاتٍ لهَجتُم إلى الله بالتجاوُز عما كان من السيئات وفات، ووقفتُم - أحبَّتنا الحُجَّاج - موقفَ المُفتقِر المُحتاج، فأحرزتُم غايةَ الحُبور والابتِهاج، ونحرتُم الأضاحِيَ والهدايا بمِنَى، ورميتُم الجمرات للمُنى، وحلَّقَت أرواحُكم في أنداء الصفا بالسعي بين المروة والصفا، وعند الركن والمقام انهلَّت منكم العبَراتُ السِّجام.
وعند الرُّكنِ تنحسِرُ الخطايا مُلملِمَةً جوانِحَها انهِزامًا
فتنشرِحُ الصدورُ بطِيبِ ذكرٍ أماطَ الكربَ عنها والقَتَاما
ومن كان بهذه المثابة؛ فأحرِ به أن يُكرِمَه المولى بعظيمِ الأجر والإنابة، وحقيقٌ به أن يعمُرَ بالبُرُور والقُرُبات أوقاتَه وأزمانَه، وأن يُطلِقَ دومًا للحسنات عِنانَه.
فهنيئًا لكم، ويا بُشراكم بقول المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: «والحجُّ المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة»؛ خرَّجه الشيخان من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
الله أكبر؛ لكأنها كلماتٌ من لؤلؤ على بِساطٍ من سُندُس.
معاشر الحَجيج الأكارِم:
وها قد انعطفتُم في حياتِكم إلى عهدٍ جديدٍ، وميلادٍ مباركٍ سعيد، مُشرِقةٍ صفحاتُه، نقيَّةٍ أوقاتُه، سنيَّةٍ ساعاتُه، وها قد انقَضَت المناسِك؛ فماذا بعدُ أيها الناسِك؟!
ألا فالزَموا المُداومَةَ على الأعمال الصالحة والثبات، والاستقامةَ عليها حتى الممات، وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ[الحجر: 99].
وتزوَّدوا - يا رعاكم الله - من مناهلِ حجِّكم بالتوبة النَّصوح واليقين المتين، والنفسِ الزكيَّة، والسجايا السنيَّة لخوضِ غِمار الحياة بصالح الأعمال وخالصِ النيَّة، وحُسن استثمار هذه الدنيا الدنيَّة.
قيل للحسن البصري - رحمه الله -: ما الحجُّ المبرور؟ قال: "أن تعودَ زاهدًا في الدنيا راغبًا في الآخرة".
أمةَ الإسلام، حُجَّاج بيت الله الحرام:
ومُقتضى الحجِّ المبرور: التغييرُ إلى مرافِئِ الرُّقِيِّ والحُبُور، وذلك بالاعتصام بحبل الله المتين، والتوادُدِ والاتفاق ونبذِ التنازُع والافتراق، والتواصِي بالصلاحِ ومكارمِ الأخلاق، واجتِنابِ المُوبِقات والمُنكراتِ ودواعِي النفاق.
فطهِّروا ألسنتَكم من الكذبِ والغِيبَة والآثام، ومنكرِ القولِ والشِّتام، وزكُّوا قلوبَكم فإنها محلُّ نظرِ ذي الجلال والإكرام.
فيا حُجَّاج بيت الله كونوا على المنهاجِ روَّادًا عِظامًا
وتلك العُروةُ الوُثقى شِعارٌ فلا ترضَوا لعُروتها انفِصامًا
معاشر المسلمين، والحُجَّاج الميامين:
ولا بُدَّ لهذه المناسبة الكريمة ومناسِكِها العظيمة أن نستلهِمَ منها الآيات والعِبَر، والتذكُّر في صُروفِ الدَّهر وما له من غِيَر؛ فإن هذه الفريضةَ العظيمةَ منبعٌ ثرٌّ للتسامُح والتحاوُر، والتضامُن والتشاوُر، تتجلَّى فيها أسمَى صور الأمة الواحدة التي اجتمعَت على هدفٍ واحد، فلا ينبغي أن يمرَّ موسمٌ إلا وتعلَّمَت الأمةُ من هذا التجمُّع الكبير دروسًا بليغة، وخرجَت بطاقاتٍ فريدة، تُستَمَدُّ من هذه الجُموع المُبارَكة.
وأرضُ الحرمين - حرسَها الله - منحَت العالمَ - بفضل الله - صُور المُسامَحة والتعاوُن، وقِيَم الأمن والأمان، وكم في هذه الفريضة من المشاهد الإسلامية والإنسانية، والصُور الحضارية التي لا تظهر إلا في هذه البِقاع الطاهرة، لتُدرِكَ الأمة أنها بغير الإيمان والعقيدة وبدون الاعتصام بالكتاب والسنة لن ولا ولم تكن شيئًا مذكورًا، وأن عواملَ الخلافِ والفُرقة لن تحمِلَ غيرَ الشتاتِ والضياع.
وإننا باسم الأمة الإسلامية قاطبةً لنُناشِدُ من مهبِطِ الوحي ومنبَعِ الرسالة قادةَ الأمة وشُعوبَها القيامَ بدورهم التأريخي في العمل على بثِّ الأمن والاستقرار في مُجتمعاتهم، ونبذِ العُنفِ والقمعِ والقتلِ والعُدوان، ورفعِ الظلمِ والبغيِ والطغيان، مُدرِكين أن الوعيَ الحَصيفَ هو السبيلُ - بعد الله - لاختيار طريق التوحيد والوَحدة لا التخبُّط والاضطرابِ والفَوضَى.
فالتحدِّيات المُتسارعة، والمُتغيِّراتُ المُتلاحِقة لهذه الأمة تستدعِي منها أن تعِيَ مخاطرَ المُستقبَل فتستشرِفَه بكل ثقةٍ واقتِدار، وها هو الزمانُ يسيرُ بنا سيرًا حثيثًا ولسانُ العِبَر والعِظات يتلُو علينا كلَّ يومٍ حديثًا، عروشٌ زالَت، ودولٌ دالَت، وأخرى انتصَرَت وقامَت، وكذا ذو المَنون تعثامُ الخِيَرة الأعلام والأعِزَّةَ الكرام والأقارِبَ والأرحام، أسكنَهم الله فسيحَ الجِنان، وجزاهم عنا وعن المسلمين أعظمَ الأجر والإحسان. وهكذا الدنيا راحلٌ بعد راحِل، وعِبَرٌ لكل مُتدبِّرٍ عاقل.
فكونوا - يا عباد الله الكرام، ويا حُجَّاج بيته الحرام - من المُشمِّرين للدار الآخرة، الساعين للمنازل العالية الفاخِرة.
أيها الإخوة المؤمنون:
ومن شُكر المُنعِم المُتفضِّل - جل جلاله -: التحدُّث بما حبَى الله بلاد الحرمين الشريفين - حرسَها الله - من شرفِ خدمةِ الحُجَّاج مُحتسِبَةٍ الأجرَ والمثوبةَ من الله - جلَّ في عُلاه -، ومُضيِّها في خدمةِ ضُيوف الرحمن مُستمِدَّةٍ العونَ من المولى - تبارك وتعالى -، فخدمةُ الحُجَّاج والمُعتمِرين، ورعايةُ أمنِهم وطمأنينتهم تقعُ في أعلى مسؤولياتها وقمة اهتماماتها، مُستشعِرةً في ذلك عِظَمَ الأمانة المُلقاةِ على عاتقها.
ومن فضل الله وتوفيقه تحقيقُها النجاحات المُتميِّزة في تقديم منظومةِ الخدماتِ المُتألِّقة في الجوانب كافَّتها، وهنا لا بُدَّ من إزجاء تحيةِ اعتزازٍ وتقدير، ودعاءٍ وتوقير للقائمين على شؤون وفود الرحمن بكل حِذقٍ وتفانٍ أن يجزِيَهم الله - سبحانه - خيرَ الجزاء وأوفاه، وأعظمَه ومُنتهاه.
والدعاءُ موصولٌ للجُنود المجهولين الساهرين على خدمةِ الحَجيجِ وراحتهم على تنوُّع اختصاصاتهم، لا سيَّما في لجنة الحجِّ العُليا والمركزية والأمنية والعلمية والدعوية والصحية، لا حرمَهم الله ثوابَ ما قدَّموا، وأجرَ ما أحسَنوا، كِفاءَ ما أجدَعوا واجتَهدوا لإنجاحِ هذا الموسمِ العظيم باقتِدار، على الرغمِ من المحدودية المكانية والزمانية والظروفِ الإقليمية والمُتغيِّرات الدولية.
وإننا باسم جُموع حُجَّاج بيت الله العتيق لنرفَعُ التهانِيَ مُضمَّخةً مُعطَّرة، والدعواتِ صادقةً مُؤرَّجَة لمقام خادم الحرمين الشريفين ووليّ عهده الأمين - حفظهما الله -، وللأمة الإسلامية جمعاء على ما منَّ به - سبحانه - من نجاحِ موسم حجِّ هذا العام بامتياز، فلله الحمدُ والفضلُ والشُكر على ما أنعمَ وجادَ، ووفَّق للسداد والرشاد، والأمن والاستقرار والإسعاد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ[البقرة: 200- 202].
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا وإياكم بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولكافةِ المسلمين من كل خطيئةٍ وإثمٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوَّابين غفورًا.

ابوحاتم 11-19-2011 01:28 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله وليِّ التوفيق والإصابة، أحمده - سبحانه - خصَّ من شاء من عباده بالحجِّ المبرورِ والمغفرة والإنابة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجُو بها من الرحمن دعوةً مُجابة، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله ذو القدرِ العليِّ والذاتِ المُهابَة، خيرُ من درَجَ على ثرَى أمِّ القُرى والمدينةِ طابَة، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ الأطهارِ ذوِي المكارِمِ والنجابَة، وصحبِه الأخيار أُولِي النفوس الأبِيَّةِ المُستطابة، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله - تبارك وتعالى - حقَّ التقوى، واعتصِموا لذلك بالعُروة الوُثقى، واعلًَموا - رحمكم الله - أن المولى - سبحانه - بعثَ فيكم رسولَه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - لتُعزِّرُوه وتوقِّروه، فيا بُشرَى من أجابَ دعوتَه ومُنادِيَه، وأفلحَ من امتثلَ أوامِرَه واجتنبَ نواهِيَه.
أيها الحُجَّاج الميامين:
وبعد أن قضيتُم مناسِكَكم، وزعمَ بعضُكم على زيارة مسجدِ المصطفى - عليه الصلاة والسلام -، وشدَّ لذلك المَطايا والرِّحال، هنيئًا لكم الحِلُّ والتَّرْحال، وليكن من بعلمٍ وحُسبان أن الزيارةَ ليست من واجباتِ الحجِّ وأركانه، وليس في تركها انثِلامُه أو نُقصانُه؛ بل الحجُّ - بفضل الله - تامٌّ صحيحٌ، وصاحبُه ذو عملٍ نَجيح، وأجرٍ عميمٍ رَبيح، وما يُذكَر من روايات ارتباطِ الزيارةِ بالحجِّ ضعيفةٌ موضوعة، أو واهيةٌ مصنوعة.
ولكن من زارَ طيبةَ الطيبة قُربةً واحتِسابًا وحُبًّا لتلك المرابِعِ لُبابًا أثابَه الباري أجرًا وثابًا؛ أليست هي مأرِزَ الإيمان، ومُهاجَرَ سيد ولد عدنان - عليه الصلاة والسلام الأتمَّانِ الأكملان -؟!
هذي دُونَكم طيبَةٌ ورُبُوعُها قد بُورِكَت في العالمين رُبوُعًا
هذي المدينةُ قد تألَّقَ فوقَها تاجٌ يُرصَّعُ بالهُدى ترصيعًا
هي مأرِزُ الإيمان في الزمنِ الذي يشكُو بناءُ المكرُماتِ صُدوعًا
فيا أيها الزوَّار الأخيار:
وأنتم تقدُمون مدينةَ المُصطفى المُختار - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام - تذكَّروا وجوبَ اتباعِ سُنَّته واقتِفاء محجَّته والارتِواءَ من سيرته؛ لأن في اتباعه الهُدى والصلاح والفوزَ والفلاح، وفي التمسُّك بسُنَّته السنيَّة وسيرتِه المُشرِقَة البهيَّة الشمسُ الساطِعة، والمِشعَلُ الوضَّاء، والسَّنَى المُتلألِئُ الذي يُبدِّدُ غياهِبَ الانحِرافاتِ العقديَّة، والمُمارَساتِ السلوكية، والنَّعَراتِ الطائفيَّة، ويرتقِي بالأمة إلى ذُرَى القِمَم الاجتماعية والحيَويَّة.
وقد حذَّرَ المولى - سبحانه - من مُخالفة رسوله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور: 63].
ومُقتضى طاعته ومحبَّته - صلى الله عليه وسلم -: تعلُّم آداب زيارة مسجده الشريف وآداب السلام عليه وعلى صاحبَيْه - رضوانُ الله عليهما -، وآداب الإقامة في مدينته النبوية المُنوَّرة، لا زالت بالبركات مُحاطةً مُسوَّرة.
وختامًا - إخوة الإيمان -:
وأنتم في مهبِط الوحيِ على وداعٍ، ومن منبَع الرسالةِ على فِراقٍ والتِياع، لا نملِكُ إلا اغتِنام الفُرصة عن الضياع، مُردَّدين على الأسماعِ عبرَ الأصداءِ والأصقاع دعاءَ الأُخُوَّة والوداع: نستودِعُ اللهَ دينَكم وأمانتَكم وخواتيمَ أعمالكم، زوَّدكم الله التقوى، وغفرَ ذنوبَكم، ومحا حُوبَكم، وحقَّق آمالَكم وسُؤلَكم، وبلَّغَكم مرادَكم ومأمولَكم، وجعل حجَّكم مبرورًا، وسعيَكم مشكورًا، وذنبَكم مغفورًا، وأعادَكم إلى أهلِكم وديارِكم سالمين غانِمين مأجُورين غيرَ مأزورين، فرِحين مُستبشِرين، وعلى الطاعةِ دائبين، وعلى الاستقامةِ دائمين، إنه سميعٌ مُجيب.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على خيرِ الورَى الحبيبِ المُجتبَى والرسولِ المُرتَضَى، كما أمركم المولى - جل وعلا -، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا»؛ خرَّجه مسلمٌ من حديث عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -.
صلَّى عليك الله ما قرأَ الورَى آيَ الكتابِ وسُورةَ الفُرقانِ
مِنَّا السلامُ عليك ما هبَّ الصَّبَا فوقَ الرُّبَى وشقائقِ النُّعمانِ
اللهم صلِّ على محمدٍ وآلهِ وأزواجِه وذريَّته، كما صلَّيتَ على إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وبارِك على محمدٍ وآلهِ وأزواجِه وذريَّته، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين، إنك حميدٌ مجيد، وارضَ اللهم عن الأئمة الأربعةِ الخلفاء الراشدين، الأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، وسلِّم الحُجَّاج والمُعتمِرين، والمُسافِرين في برِّك وبحرِك وجوِّك أجمعين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمَّتنا وولاةَ أمورِنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا.
اللهم وفِّق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفَين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيَته للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحة التي تدلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانَهم وأعوانَهم إلى ما فيه صلاحُ الإسلام والمسلمين، اللهم اجزِهم خيرَ الجزاءِ وأوفرَه جزاءَ ما قدَّموا ويُقدِّمون لخدمةِ حُجَّاج بيتك الحرام.
اللهم اجعل ذلك في موازين أعمالهم وصفحات حسناتهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفِّق جميعَ وُلاة أمور المسلمين لما تحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى، واجعلهم لشرعِك مُحكِّمين، ولسنَّة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم - مُتَّبعين، ولأوليائك ناصِرين.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين في كل مكان، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم اكشِف الغُمَّة عن هذه الأمة، اللهم احقِن دماءَ المسلمين، اللهم احقِن دماءَ المسلمين، اللهم احقِن دماءَ المسلمين، واحفَظ أمنَهم وإيمانَهم واستقرارَهم في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من المُحتلِّين المُعتدين، اللهم اجعله شامِخًا عزيزًا إلى يوم الدين، اللهم عليك بالصهايِنة المُعتدين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم شتِّت شملَهم، وفرِّق جمعَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبرين يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر لفقيد الأمة الإسلامية سلطان بن عبد العزيز، اللهم اغفر له وارحمه، اللهم ارفَع درجاته في المهديِّين، اللهم ضاعِف حسناته في علِّيِّين، اللهم اخلُفه في عقِبِه في الغابِرين، اللهم اغفر لنا وله ولسائر المسلمين ولموتانا وموتى المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِث قلوبَنا بالإيمان واليقين، وبلادَنا بالخيرات والأمطار والغيثِ العَميم.
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ووالدِيهم وجميعِ المسلمين الأحياءِ منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربِّك ربِّ العِزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسَلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 11-21-2011 03:00 PM

ثبات الإسلام واستقراره
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة 22/12/1432هـ بعنوان: "ثبات الإسلام واستقراره"، والتي تحدَّث فيها عن دين الإسلام ومدى ثبات مبادئه ورُسوخ معالمه، مُقارنةً بواقع من لم يتمسَّك به ولم ينتهِج مناهجه، وذكَّر في ثنايا خطبته بما أفسدَ دين الإسلام؛ من السحر والكهانة، والغلو والتطرُّف، وغير ذلك.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي أتمَّ على عباده حجَّ بيته الحرام، ويسَّر لهم السعيَ في ربوعٍ درَجَ فيها الأنبياءُ - عليهم السلام -، فتلك عرفاتُ ومِنَى وهذا زمزمُ وذاك المقام، معالمُ للإسلام، ورُسومٌ لأنبياءٍ وأديان غبَرَت بها السنُونُ والأيام، وبقِيَت معالمُ تُذكِّرُ اللاحِقَ بالسابقِ من الأنام، استحضارٌ للأزمِنة، واستِنطاقٌ للأمكِنة بما مرَّ على ثَرَاها من أنبياء، وبما أُنزِلَت على جبالها من سُوَر، وأُرسِيَت عقائد، وشُرِع على سُفُوحها من شرائع، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله ختمَ الله به النبوَّات فنِعمَ الخِتام، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى حقَّ التقوى، واستمسِكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
أما بعد، أيها المسلمون:
حجَّاج بيت الله الحرام! في هذه الحياة نُظُمٌ ومناهجُ وأفكار، وبناياتٌ سامِقةٌ تراها كأعالي الأشجار، وحين تهبُّ الرياحُ العواصِف وتثورُ الزلازلُ القواصِف تنهارُ الصورُ الزائفة، وتسقُطُ البناياتُ المُشيَّدة وينكشِفُ عيبُها وخلَلُها.
والمُتأمِّلُ اليوم يرى تسارُعًا في انهياراتٍ مُتعدِّدة؛ في المال والاقتصاد، والحكم والسياسة، والأفكار والمناهج، ويرى حيرةً كُبرى لأرباب المال، ودهاقِنة السياسات، ثم يلتفِت فيرى بناءَ الإسلام ثابتًا مُستقرًّا، أصلُه ثابتٌ وفرعُه في السماء.
حين تتأمَّل مبادئ الإسلام في كل الجوانب ترى قِيَمًا راسِخَة البُنيان، عصيَّةً على الذوَبان؛ في العقيدة والفِكر، والعبادة والتشريع، والأخلاقِ والسلوك، صالحةً لكل زمانٍ ومكان، وهو تأمُّلٌ يجبُ على المسلم أن يتذكَّر فيه فضلَ الله عليه، ويستشعِرَ قيمةَ دينه وإنعامَ الله به عليه.
أيها المسلم:
لم يُنعِم اللهُ عليه نعمةً هي أوفَى ولا أمنَّ ولا أسبغَ من كونك مُسلمًا لله مع المسلمين، لا تسجُد لشجرٍ أو حجر، ولا تذِلُّ لحيوانٍ أو جمادٍ أو بشر، ولا تعبدُ غيرَ الله، فاهنأ بإسلامك، وانعَم بإيمانك؛ فقد هداك الله يوم ضلَّ غيرُك، وأرشدَك حين تاهَ سِواك، وأعِد التأمُّل والمراجَعة مُستمسِكًا بأساس دينك وقاعدة إيمانك، عارِفًا فضلَ إسلامك وعاقبةَ توحيدك، مُستبشِرًا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لمُعاذٍ - رضي الله عنه -: «ما من أحدٍ يشهدُ أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صِدقًا من قلبه إلا حرَّمَه الله على النار»؛ رواه البخاري.
وعنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لقِيَ اللهَ لا يُشرِكُ به شيئًا دخل الجنة»؛ رواه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون:
ولهذا التوحيد معالمُ رسمَها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوضحَ أعلامَها، ولهذه البُشرى شواهِدُ بيَّنها وأرسَى أركانَها، حريٌّ بالمُسلم أن يستمسِكَ بغَرزِها، وأن يحذَرَ التفريق حتى لا يحبَطَ عملُه، أو يضِلَّ سعيُه؛ فكم من تائهٍ وهو لا يدري، وكم من ضالٍّ يظنُّ أنه مُهتدِي؟!
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن معاذًا - رضي الله عنه - قال: بعَثَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فقال: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فادعُهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أن الله افترضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كل يومٍ وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أن اللهَ افترضَ عليهم صدقةً تُؤخَذُ من أغنيائهم فتُردُّ في فُقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياكَ وكرائم أموالهم، واتقِ دعوةَ المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حِجابٌ»؛ أخرجه البخاري ومسلم.
لقد جعلَ أصولَ الإيمان: التوحيدَ، ثم الصلاةَ، ثم الزكاةَ، ثم حِفظَ الحقوق ومبدأ العدل المُطلق.
أيها المسلمون:
لقد كرَّم الله الإنسان، وشرعَ له ما يربَأُ به عن الخُرافات أو التعلُّق بالأوهام، وجعله حُرًّا لا يتعلَّقُ إلا بالله خالِقِه، وجعل التعلُّق بغير الله يُنافِي التوحيدَ اعتقادًا وعملاً؛ فعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لعنَ الله من ذبحَ لغير الله، ولعنَ الله من آوَى مُحدِثًا، ولعنَ الله من لعنَ والديْه، ولعنَ الله من غيَّر منارَ الأرض»؛ رواه مسلم.
كما حذَّرَ من النذر لغير الله، وجعله من عمل المُشرِكين؛ قال الله تعالى في كتابه المُبين: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ[الأنعام: 136].
ومن معالم هذا التوحيد: الاستعاذةُ والاستجارةُ بالله وحده دون سِواه؛ قال - سبحانه -: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا[الجن: 6].
ومن محاسن الدين القَويم: أن المسلمَ لا يدعو ولا يرجُو إلا الله، فليس بين المسلم وبين ربِّه وسائط؛ قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً[الأعراف: 55]، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[غافر: 60].
فسمَّى الدعاءَ عبادة، وأمرَ رسولَه بإخلاصه له، فقال: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي[الزمر: 14]، وقال: وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[يونس: 106، 107]، وقال - سبحانه - لمن دعا غيرَه: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[العنكبوت: 17]، وقال - سبحانه -: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ[الأحقاف: 5].
بل سمَّى اللهُ دعاءَ غيره شِركًا؛ قال - سبحانه -: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر: 13، 14].
عباد الله:
إن مما أفسدَ الدين وحرفَ التديُّن: الغلوُّ والتنطُّع، والمُبالغةُ بغير علم، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إياكم والغلوَّ في الدين؛ فإنما أهلكَ من كان قبلَكم الغلوُّ في الدين»؛ أخرجه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة بإسنادٍ صحيحٍ. ولمُسلمٍ: «هلكَ المُتنطِّعون». قالها ثلاثًا.
والله تعالى يقول: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ[النساء: 171].
ومن الغلوِّ: الغلوُّ في تعظيم الأولياء والصالحين أو تعظيم آثارهم، وقد حذَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، فقال: «لا تُطرُوني كما أطرَت النصارَى ابنَ مريم؛ فإنما أنا عبدُه، فقولوا: عبدُ الله ورسولُه»؛ رواه البخاري.
وعن شقيقٍ عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن من شِرارِ الناسِ: من تُدرِكُه الساعةُ وهم أحياء، ومن يتَّخِذُ القبورَ مساجد»؛ رواه الإمامُ أحمد.
عباد الله:
دينُ الإسلام كلُّه حسنٌ، وما نهى اللهُ عن شيءٍ إلا لضرره على الأفراد والمُجتمعات مما يُبطِلُ الإيمانَ ويُوبِقُ الإنسان؛ كالسحر وإتيان الكُهَّان؛ قال الله تعالى: وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى[طه: 69]، وقال: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ[البقرة: 102]، وقال - سبحانه -: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ[البقرة: 102].
وكم تعلَّق بهذه الأوهام أُناسٌ أضاعوا دينَهم ودُنياهم، وانحدَرَت عقولُهم إلى درَكٍ من الخُرافات جعلوها دينًا ومنهجًا. فالحمدُ لله الذي كرَّمَنا بالإسلام.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اجتنِبوا السبعَ المُوبِقات». قالوا: يا رسولَ الله! وما هنَّ؟ قال: «الشركُ بالله، والسحرُ، وقتلُ النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وأكلُ الربا، وأكلُ مال اليتيم، والتولِّي يوم الزحف، وقذفُ المُحصنات الغافلات»؛ رواه البخاري ومسلم.
وعند مسلمٍ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أتى عرَّافًا فسألَه عن شيءٍ لم تُقبَل له صلاةٌ أربعين ليلة». وعند أبي داود: «من أتى كاهِنًا فصدَّقَه بما يقول فقد برِئَ مما أُنزِل على محمد».
أيها المسلمون:
ومن معالم الدين الحِسان: الارتقاءُ بالمحبة والعواطِف والولاء والتناصُر في وقتٍ سفُلَت بأهل الدنيا مبادئهُم، فأصبحَت المحبَّةُ والمُوالاةُ لأجل الدنيا ومصالحها؛ عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه وجدَ حلاوةَ الإيمان: أن يكون الله ورسولُه أحبَّ إليه مما سِواهُما، وأن يُحبَّ المرءَ لا يُحبُّه إلا لله، وأن يكرَه أن يعودَ في الكفر كما يكرَهُ أن يُقذَفَ في النار»؛ رواه البخاري ومسلم.

أيها المسلمون:
الدينُ دينُ الله والشرعُ شرعُه، والواجبُ على من بلغَه كلامُ الله وسنةُ رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يتبَعَ الحقَّ ويطرَحَ ما سِواه، ولا يتركَ القرآنَ والسنةَ لقول أحدٍ مهما كان، واللهُ تعالى يقول: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور: 63].
وقد ذمَّ الله الذين أطاعوا أشياخَهم في مُخالفة أمر الله ورسوله، فقال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ[التوبة: 31].
قال عديُّ بن حاتم - رضي الله عنه -: لما سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية، قلتُ: يا رسولَ الله! إنا لسنا نعبُدهم. قال: «أليس يُحرِّمون ما أحلَّ الله فتُحرِّمونه، ويُحِلُّون ما حرَّم الله فتُحِلُّونه؟». فقلتُ: بلى. قال: «فتلك عبادتُهم»؛ أخرجه الإمام أحمد، والترمذي.
اللهم بارِك لنا في الكتاب والسنة، وانفعنا بما فيهما من الآيات والحِكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.


ابوحاتم 11-21-2011 03:02 PM

الخطبة الثانية
الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، يُنعِمُ بالحسناتِ ويعفُو عن السيئات، وأشهد أن إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسولُ الله شهادةً عليها المحيا والممات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أيها المسلمون:
وتوحيدُ الاعتقاد يستتبِعُ توحيدَ العمل، فيجبُ على المسلم أن يُحبَّ ربَّه ويُخلِصَ له ويُعوِّلَ عليه، وأن تكون مشاعرُ نفسه وخلَجَاتُ قلبه مُتَّجِهةً إليه لا تعدُوه إلى سِواه، المسلمُ لا يدعو إلا الله، ولا يعبُد غيرَه، ولا يُطيعُ إلا أمرَه، ولا يُنفِذُ إلا حُكمَه، يُحِلُّ ما أحلَّ، ويُحرِّمُ ما حرَّم، ويقِفُ عند ما حدَّ، ويتحرَّكُ وِفقَ ما طلَب.
المُسلمُ مُنتصِبُ القامةِ أمام كلِّ حيٍّ، فلا يحنِي ظهرَه إلا لله، ومعرفتُه لعظمة الخالق الأحَد ولهيمنَة الله التامَّةِ على الناسِ والكون تجعلُ مشاعِرَ الرغبَة والرهبَة مُستقيمةً في نفسه، فلا تنحرِفُ ولا تضطرب.
ومن أجل ذلك كان امتلاءُ القلب بعقيدة التوحيد أساسًا لخِلال القوة والعِزَّة لا ينفكُّ عنها مُؤمنٌ صادق.
عباد الله، حُجَّاج بيت الله الحرام:
وفي كلِّ خِتامٍ يستحضِرُ المسلمُ أن مِعيارَ القبولِ هو إخلاصُ العاملِ لله، ومُتابعتُه رسول الله، وفضلُ الله واسع، ومن علامة قَبول الحسنةِ الحسنةُ بعدها، وعلامةُ الحجِّ المبرور: أن تعودَ خيرًا مما كنت، ومن طهُرَت صحيفةُ عمله بالغُفران فليحذَر العودَ إلى دنَس الآثام؛ فالنَّكثةُ أشدُّ من الجُرح، وليكن من الخير في ازدياد، فإن ذلك من علامة القبول.
ثم الصلواتُ الزاكياتُ، والتسليماتُ الدائماتُ على أشرفِ خلق الله: محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المرضيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عمله في رضاك، وهيِّئ له البِطانة الصالحة، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم جازِه بالخيرات والحسنات على خدمة الحرمين الشريفين والعناية بالحُجَّاج والمُعتمِرين، وأتِمَّ عليه الصحة والعافية، اللهم وفِّق وليَّ عهده وسدِّده وأعِنه على ما حُمِّل، واجعله مبارَكًا مُوفَّقًا لكل خيرٍ وصلاح.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمعهم على الحق والهدى، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وانصُرهم على من ظلَمَهم، اللهم سُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزونك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميع الدعاء.
اللهم اقبل من الحُجَّاج حجَّهم، وأجِب دعاءَهم، اللهم اجعل حجَّهم مبرورًا، وسعيَهم مشكورًا، وذنبَهم مغفورًا، وأعِدهم إلى ديارِهم سالمين، اللهم تقبَّل منَّا ومنهم، وثبِّتنا وإياهم على الحق والهُدى، واختِم لنا بخيرٍ يا أرحم الراحمين.
نستغفرُ الله، نستغفرُ الله، نستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيوم ونتوبَ إليه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مُجلِّلاً نافعًا عامًّا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعله بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 11-26-2011 09:44 PM

قِصَر الأمل وحُسن العمل
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 29/12/1432 هـ بعنوان: "قِصَر الأمل وحُسن العمل"، والتي تحدَّث فيها عن انصرامِ عامٍ وإقبالٍ عامٍ جديد، وذكَّر بما عمِلَه المرءُ فيما مضى إن كان مُحسِنًا تزوَّد منه، وإن كان غيرَ ذلك فليتُب وليُقبِل على ربِّه، وبيَّن أن الإنسان بلا دينٍ كالبهيمة التي لا تعقل، وحثَّ على ضرورة الإقبال على العمل الصالح والتوبة والاستغفار.

الخطبة الأولى
الحمد لله خلقَ الليلَ والنهارَ، وقدَّرَهما مواقيتَ للأعمال ومقادير للأعمار، لا إله إلا هو جعلَ في مرورِ الأيامِ والليالي عِبَرًا لأهل هذه الدار، أحمده - سبحانه – وأشكره على عظيم آلائه والشكرُ سبيلٌ للمزيد والاستِكثار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة بصدق المُعتقَد وصحةِ الإقرار، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيُّ الأُمِّي العربيُّ الهاشميُّ المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البَرَرَة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، فمن عرفَ الله أعطاه حقَّه، ومن أحبَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وآله وسلم – لزِمَ سنَّته، ومن قرأَ كتابَ الله عمِلَ به، ومن أرادَ الجنةَ عمِلَ لها، ومن خافَ النارَ هربَ منها، ومن أيقنَ بالموت استعدَّ له.
يقول عليُّ - رضي الله عنه -: "اشتدَّ خوفي من اثنين: طولِ الأمل، واتِّباعِ الهوى؛ أما طولُ الأمل فيُنسِي، وأما اتِّباعُ الهوى فيصدُّ عن الحق".
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[الجاثية: 23].
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
ها أنت تُودِّعون عامًا، وتدلِفون لاستِقبال عامٍ آخر، وذلك كلُّه من أعمالكم وأيامكم، عامًا مضى بما أودَعتُموه من عملٍ، فمن أحسنَ فليهنَأ وليحمَد الله وليزدَد، وخيرُ الزاد التقوى، ومن كان غيرَ ذلك فلا يزالُ في الأجل فُسْحة، فليستعتِب، وربُّكم يتوبُ على من تابَ.
اللهم اجعل عامَنا عامَ خيرٍ وبرَكة، وأيامَنا أيامَ أمنٍ وأمان، وسلامةٍ وإسلام، اللهم وفِّقنا فيه لصالحِ العمل، وجنّبنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن، واجمع اللهم كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى والصلاح، وأعِزَّ الإسلام وأهلَه، وأذِلَّ الطغاةَ وأعداء المِلَّة.
أيها الإخوة:
في تقلُّب الأيام وتصرُّم الأعوام فرصةٌ وفُرَص للمُراجَعة والمُحاسَبة، فطُوبَى لمن أخذَ العِبرَة، وفاضَت منه العَبْرة، والحسرةُ لأرباب الغفلة، فلينظُر العاملُ عملَه، وأين المُؤمِّلُ وما أمَّله؟!
يا معشر العباد:
أين الآباء والأجداد؟! وأين المرضى والأصِحَّاء والعُوَّاد؟! أفضَوا إلى ما قدَّموا، الموعدُ يومُ المعاد، والمُلتَقى يومُ التَّنَاد، يوم يُنفَخُ في الصور، ويُنقَر في الناقُور.
يا عبد الله:
السعيدُ من وُعِظَ بغيره، وإذا ذُكِرَ الموتى فعُدَّ نفسكَ منهم، فخُذ من حياتك لموتك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحَّتك لمرضك، ومن غِناك لفقرك، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وكلما قصُر الأمل جادَ العمل.
كم من مُستقبِلٍ يومًا لا يستكمِلُه، وكم من مُؤمِّلٍ لغدٍ لا يُدرِكه، ومن رأى أجلَه ومسيرَه أدرك حقيقةَ الأمل وغرورَه، ومن أنفع أيام المؤمن ما ظنَّ أنه لا يُدرِكُ آخِره.
يا وحيدًا بعد قليلٍ في قبره، يا مُستوحِشًا بعد أُنسٍ حين انقِضاء عُمره، تجمعُ الدنيا على الدنيا لغيرك، وينساكَ من أخذَ كلَّ خيرِك، هلاَّ تزوَّدتَ لمقرِّك.
فبادِروا – رحمكم الله – بالصحةِ سقمَكم، واحفَظوا أمانةَ التكليف لمن ائتَمَنكم، لا شيء أقلُّ من الدنيا، ولا شيء أعزُّ من النفس، فاقنَع بالكَفاف، وصُن نفسَكَ بالعفاف، وقِف مُتدبِّرًا في حالك؛ فالمؤمنُ وقَّاف.
يا عبد الله:
أفضلُ الأعمال: أداءُ ما افترضَ الله، والورعُ عمَّا حرَّم الله، وصدقُ النيَّة فيما عند الله.
واعلَم أن الرضا في طاعة الله؛ فلا تحقِرنَّ من الطاعة شيئًا، والسخَط في معصية الله؛ فلا تستصغِرنَّ من المعاصي شيئًا، وأشرفُ الأوقات ما صُرِف في طاعة الله، ولا تنظُر إلى صِغَر المعصية ولكن انظُر عِظَم من عصيتَ.
والنفسُ إن لم تشغَلها بطاعة الله شغَلَتك بما لا ينفعُ، والقلوبُ كالقُدور تغلي بما فيها، والألسِنةُ مغارِفُها، والذنوبُ مفسَدةُ القلوب، والقويُّ من داومَ على الطاعة، والضعيفُ من غلَبَته محارِم الله.
والعملُ بضاعةُ الأقوياء، والأماني بضاعةُ الضعفاء، والتُّؤدَةُ مُستحسَنةٌ في كل شيء إلا ما كان من أمر الآخرة: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه: 84].
والبركةُ في أكل الحلال، والعملِ الحلال؛ فاللهُ طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا، وخزائنُه لا تنفَد فهو الرزاق ذو القوة المتين، والصدقةُ تدفعُ البلاء، وما نقصَ مالٌ من صدقة، وهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضُعفائكم.
والقناعةُ كنزٌ لا يفنَى، وراحةُ الجسم في قلَّة الطعام، وراحةُ النفس في قلَّة الآثام، وراحةُ القلب في قلَّة الاهتمام، وراحةُ اللسان في قلَّة الكلام، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
والمهزومُ من هزمَته نفسُه، ومن لم يرضَ بالقضاء فليس لحبِّه دواء، والعيشُ مضمون، والرزقُ مقسوم، والهموم لا تدوم.
ومن أرادَ أن تدومَ له السلامةُ والعافيةُ من غير بلاءٍ فما عرفَ التكليف، ولا أدركَ التسليم، والخيرُ كلُّه في الرضا.
فإن استطعتَ – يا عبد الله – أن ترضى وإلا فاصبِر، والرضا يكون بسُكون القلب تحت مجارِي الأحكام.
يقول حاتم الأصمُّ: "نظرتُ في أحوال الخلق؛ فإذا الذي أحببتُ من الناس لم يُعطِني، والذي أبغضتُه لم يأخُذ مني، فقلتُ في نفسي: من أين أُتيتُ؟ فرأيتُ أني أُوتيتُ من قِبَل الحسَد، فطرحتُ الحسدَ، فأحببتُ الناسَ كلَّهم، فكلُّ شيءٍ لم أرضَه لنفسي لم أرضَه لهم".
ومن عرفَ شأنَه حفِظَ لسانَه، وأعرضَ عما لا يعنيه، وكفَّ عن عِرضِ أخيه، ودامَت له سلامتُه، وقلَّت ندامتُه.
والمسلمُ من سلِمَ المسلمون من لسانه ويدِه، والمؤمنُ من أمِنَه الناس، والمهاجِرُ من هجرَ ما حرَّم الله، والمُسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يُسلِمه ولا يخذِله ولا يحقِرُه.
وأقربُ الناس من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم القيامة أحاسِنهم أخلاقًا، وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه، وإن اللهَ ليُعطِي على الرِّفق ما لا يُعطي على العُنف، وصانِعُ المعروف لا يقع، وإن وقعَ وجدَ مُتَّكئًا.
يا عبد الله:
علِّق قلبكَ بربِّك، وخُذ بالأسباب، وليكن زادُك القناعة والصبر والشُكر والأمل مع إحسان العمل، وإحسان الظن، وإحسان النظر.
وليكن زادُك الوقوف عند الحق، وعدمَ تجاوُز الحدِّ، والحرصَ على الورَع؛ طاعةً لله، ونفعًا للنفس، وقيامًا بالمسؤولية، ومن سلكَ ذلك حسُن إيمانُه، واجتمعَ عليه أمرُه، فلم يكن لوقتِه مُضيِّعًا، ولا في غير النافعِ والمُفيد مُشتغِلاً.
ألا فاتقوا الله جميعًا – عباد الله -، ولا تكونوا كأصحاب نفوسٍ قسَت قلوبُها، وغلُظَت أكبادُها، وعظُم عن آيات الله حِجابُها فلا تعتبِر ولا تدَّكِر؛ فإن أقوامًا جاءَتهم آياتُ ربِّهم فكانوا منها يضحَكون، وأراهم ربُّهم آياتٍ كلُّ آيةٍ أكبرُ من أختها فكانوا عنها مُعرضين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[لقمان: 33، 34].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله مُوقِظ القلوبِ بالوعظ والتذكير، أحمده - سبحانه - وأشكره على خيره العَميم وفضلِه الوَفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مُبرَّأةً من الشرك كبيرِه والصغير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن على نهجِهم يسير، وسلَّم التسليم الكثير.
أما بعد:
فالإنسانُ بغير دينٍ ورقةٌ تُقلِّبُها الرياحُ، لا يستقرُّ له حال، ولا تُعرَف له وِجهة، ولا يسكُنُ له قرار: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج: 31].
الإنسانُ بغير دينٍ لا قيمةَ له ولا مكانة، قلِقٌ مُتبرِّم، مُتقلِّبٌ تائِه، لا يعرِفُ حقيقةَ نفسه، ولا حِكمةَ وجوده: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ[الأنعام: 125].
الإنسانُ بغير دينٍ حيوانٌ بهيم، وسبُعٌ ضارٍ، لا تُعلِّمُه ثقافة، ولا يردَعُه وازِع، يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ[محمد: 12]، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف: 179].
والمُجتمع بغير دينٍ مُجتمعُ غابة، وإن بدَرَت فيه بوادِرُ حضارة، أو بدَت فيه أثَارةٌ من علمٍ، الحياةُ فيهم هي من نصيب الأشدِّ الأقوى وليس للأصلحِ والأتقى.
العلومُ المُجرَّدة تدلُّ على الوسائل، ولا تقودُ إلى الغايات، وتُعطِي الأدوات ولا تُعطِي قيمًا وأهدافًا، علمٌ بظاهر الحياة الدنيا وأسبابِها، كما ذكر الله في أقوامٍ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[الروم: 7].
إن في ظاهر الدنيا من يزدادُ ثراؤهم بازدياد عِصيانهم ومُخالفاتهم، ولقد جاء في التنزيل العزيز: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 44، 45].
إن من الخطَّائين من يُؤدَّبُ فيتأدَّب، ويُؤخَذ فيتراجَع، فالحِرمانُ له فِطامٌ عن الذنب، وطريقٌ إلى المثَاب.
ومنهم من تتكاثرُ حولَه الدنيا كما تتكاثَرُ الأمواجُ على الغريق، فلا يزالُ يكرَعُ منها حتى يهلَك.
إن أنواعَ الابتلاء وأنواع الجزاء أوسعُ من علمنا وإدراكِنا.
فاستفتِحوا – رحمكم الله – عامَكم بالعمل الصالح، وأحسِنوا الظنَّ بربِّكم، وأصلِحوا ذاتَ بينكم.
ألا فاتقوا الله – رحمكم الله -، وآمِنوا برسولِه يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحديد: 28]، تُوبوا إلى ربِّكم من المعاصي، واستعِدُّوا ليومٍ يُؤخَذ فيه بالأقدام والنَّواصِي، قدِّموا الباقيةَ على الفانِية في هِمَمٍ عالية لعلكم تلحقون بمن عناهُم الله بقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة: 24].
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه – قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مَّهم الضرُّ وحلَّ بهم الكرب واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكَت دماء، وقُتِل أبرياء، ورُمِّلَت نساء، ويُتِّم أطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين، ويا مُنجِي المؤمنين انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفَع ضُرَّهم.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحق والهُدى كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[الأعراف: 47]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.


ابوحاتم 12-11-2011 11:51 PM

مفهوم السلام في الإسلام
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة 14/1/1433هـ بعنوان: "مفهوم السلام في الإسلام"، والتي تحدَّث فيها عن السلام ومفهومه في الإسلام وكيفية تحقيقه في هذه الأزمان المتأخرة، وبيَّن أننا نعيشُ في عصرٍ بلغ فيه التقدُّم والتطوُّر شأوًا عظيمًا، ومع ذلك لا زال أكثرُ الناس لا يُدرِكون معنى السلام الذي هو الإسلام الحقيقي، ويفهمونه خلافَ معناه، ويضعونه في غير نِصابِه؛ مما أدَّى إلى حدوثِ الكوارثِ العظيمة والفتنِ الجَسيمة التي تمرُّ بها دولُ العالَم.
الخطبة الأولى
الحمد لله الكبيرِ المُتعال، ذي العِزَّة والقوة والجلال، مُرسِلِ البرقَ خوفًا وطمعًا، ومنُشِئِ السحابَ الثِّقال، فالقِ الحبِّ والنَّوَى شديدِ المِحال، له يسجُدُ من في السموات والأرض طوعًا وكَرهًا وظِلالُهم بالغُدُوِّ والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله رفيعُ الخِصال، قدوةٌ في الأقوال والفِعال، صادقٌ مصدوقٌ بالقلبِ والجوارِحِ والمَقال، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى أزواجه أمهات المؤمنين والآل، وعلى أصحابه والتابعين لهم في الخِلال، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم المَآل، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولَةَ لي ولكم - عباد الله - هي تقوى الله - سبحانه - التي أوصَى بها الأولينَ والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131]، فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[العنكبوت: 17].

أيها المسلمون:
إن الله - سبحانه وتعالى - خلقَ هذا الكونَ عُلوِيَّه وسُفلِيَّه، بإنسِهِ وجنِّه، وملائكتِهِ وجمادِه ودوابِّه وطيرِه؛ ليعبُدوه وحده - سبحانه - لا شريكَ له، وليكون الكونُ كلُّه خاضعًا لعظمته، مُوقِنًا بعبوديته لخالقه، كما قال - سبحانه -: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات: 56]، وكما قال - جل وعلا -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ[ص: 27]، وكما قال - سبحانه -: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[الدخان: 38، 39].
إذًا لم يخلُق الباري - جل شأنُه - هذا الكونَ بأكملِه عبثًا، وما سخَّره - جل وعلا - لعباده عبَثًا، وما جعل لهم الأرضَ ذَلولاً يمشُونَ في مناكبِها ويأكلون من رزقِه سُدًى، كلا؛ إذ كيف يكون ذلك والخالقُ - جل شأنُه - يقول: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ[الأنبياء: 16- 20].
ومن هنا؛ جاء إنكارُ الباري - سبحانه - وتوبيخُه لمن لم يُدرِك معنى خلقِ الله للسماوات والأرض، ولم يجعل هذا الخلقَ وسيلةً لتحقيقِ عبوديته - سبحانه - دون سِواه، فقال عن أمثال هؤلاء: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ[فصلت: 9] إلى أن قال: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ[فصلت: 11].
فيا لله العجَب! كيف يستكبِرُ من في الأرضِ عن عبوديته - سبحانه - والسماءُ التي تُظِلُّهم والأرضُ التي تُقِلُّهم طائعتان للباري - جل شأنُه -، هذا ما قاله - سبحانه وتعالى - عن سماواته وأرضِهِ.
وأما الطيرُ في السماء؛ فقد قال الله عنه: وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ[النور: 41]، وما عدا ذلك من دوابٍّ وجمادٍ وشجرٍ وحجرٍ؛ فقد قال الله عنه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ[الإسراء: 44]؛ أي: أنتم أيها الإنسُ والجِنُّ لا تفقَهون عبوديَّتَهم لله وتسبيحَهم له.
فأين عقلُك - أيها الإنسان -، وأين قلبُك - أيها الإنسان -، وأين تفضيلُه لك على كثيرٍ ممن خلقَ تفضيلاً؟!
ألا قُتِل الإنسانُ ما أكفَرَه؛ نعم، قُتِل الإنسانُ ما أكفَرَه، يخلُقُه ربُّه ثم هو يخضَعُ لغيره، ويرزُقُه ربُّه فيشكُرُ غيرَه، فضَّلَه ربُّه بالعقل والحِكمة والآدميَّة، فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا[الإسراء: 89]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ[البقرة: 243]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[الأعراف: 187]، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ[هود: 17].
ومن العجبِ الذي لا ينقَضي، والدهشةِ التي لا تتوقَّف: أن يكون من يملِكُ الوسيلةَ الكاملةَ للعبودية أقلَّ في خُضوعه لله من سائر مخلوقاتِهِ دوابًّا وجمادات، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ[الحج: 18].
فتأمَّلوا - يا رعاكم الله - أن الله - سبحانه - لم يستثنِ مما ذكرَ إلا البشرَ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ[البقرة: 253]، وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[يوسف: 103].
عباد الله:
إننا نعيشُ في زمنٍ بلغَ شأوًا رفيعًا في الحياة المادية، والنظريات الفلسفية، والثورةِ التِّقَنِيَّة، والترسانةِ العسكرية المُتشبِّعة بروحِ الأنانية والعُدوانية، وإرادة العُلُوِّ في الأرض وإهلاكِ الحرثِ والنَّسْل، والله لا يُحبُّ الفساد، لكنَّ هذه الحضارة لم تستطِع إشباعَ الروحِ بالرحمةِ والطمأنينة والحكمةِ والعدلِ والإيثار، ولا أدلَّ على تلكم النَّزعة من إفرازِ هذه الحضارة: السِّباقَ المحمُوم نحو التسلُّح على حسابِ الاحتياجات البشرية للأخلاق والطعام والشراب والمعيشة بأضعافٍ مُضاعَفة.
حتى جَثَا على سياسة العالَم الثالُوثُ الخانِق، وهو: الخِواءُ الرُّوحيُّ، والتزييفُ التاريخيُّ للحقائق، والقهرُ العسكريُّ، ومن ثمَّ خُلِقَت أسلحةُ الدمارِ الشاملِ، فدُعَّت إلى شعوبِ العالَم دعًّا، والتي صوَّرَت السلامَ حُمقًا، والرحمةَ عجزًا، والعدلَ استِكانَة، وجعلَت مفهومَ الغباء فيمن يُحاوِلُ أن ينالَ حقَّه باسم العدالة أو الرحمة، وجعلَت مفهومَ الغِبطَة في الضعيفِ المهزولِ الجاثِي على رُكبَتَيْه الذي يسبِقُ مدمَعُه مِدفعَه؛ بحيثُ أصبحَ لا يُوجَد مفهومُ العدل إلا حيث يُوجَد الجَور، ولا يُوجَد مفهومُ السلام إلا حيثُ تُوجَد الحرب، حتى تشرَّبَ العالَم اليومَ ألوانًا من الاعتِداءات السياسية والاقتصادية والعسكرية؛ بحيث إن الأمانَ لدى كثيرٍ من المُجتمعات أصبحَ كسرابٍ بقِيعةٍ يحسبُه الظَّمْآنُ ماءً.
والسرُّ الكامِنُ في ذلكم كلِّه: هو تهميشُ السلام؛ نعم، السلامُ الذي هو الطُّمأنينةُ والسكينةُ والاستقرارُ، السلامُ الذي يُقرِّرُ العبوديةَ للحَكَم العدل، ويُؤمِنُ به ربًّا خالقًا رازِقًا لا معبودَ سِواه، السلامُ الذي شرَعَه الله الملكُ القدُّوسُ السلام، السلامُ الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يدَيْهِ ولا من خلفِه تنزيلٌ من حكيمٍ حميدٍ، السلامُ من ربِّ السلام، السلامُ من ربِّ البشر إلى البشر، وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[النساء: 125].
إنه مهما عمِلَ البشرُ من جهود، ومهما بذَلوا من علومٍ ومعارِف، ومهما استعمَلوا فيها من وسائل، فلن يبلُغوا مِثقالَ ذرَّةٍ من علمِ الله؛ لأن الله يقول: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا[طه: 110]، ويقول - سبحانه -: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ[البقرة: 255]، فمال البشرية إذًا لا ترجُوا لله وقارًا، وقد خلقَهم أطوارًا؟! لن يُصلِحُ الناسَ مثلُ السلام الذي جاء من عند الله.
ألا إنه لا يُعرفُ في التاريخ مبدأٌ أو دينٌ أو فِكرٌ أرأَف ولا أرحَم ولا أعدَلُ من دين الإسلام، ولا أدلَّ على ذلكم من اتفاقِ أهلِ الإسلام أنه لا يجوزُ في حال الحربِ مع العدوِّ أن يُقتلَ شيخٌ كبيرٌ، ولا طفلٌ صغير، ولا امرأةٌ، ولا أن تُقطَعَ شجرةٌ؛ فأيُّ سلامٍ أعظمُ من هذا السلام؟!
ولكنَّ الأسف كل الأسف أن يُدرِكَ بعضُ المسلمين هذا كلَّه ثم هم يُهروِلون نحوَ شِعاراتٍ برَّاقة، وفلسفاتٍ ما أنزلَ اللهُ بها من سُلطان يُفسِّرون بها السلامَ على غير وجهِهِ.
وإن مما لا شكَّ فيه أنه كلما قلَّت الصحوةُ السليمة والنَّظرةُ الثاقبة لدى المسلمين تُجاه المعنى الحقيقية للسلام كلما ازدادوا ولَهًا إلى سرابِ السلام الزائِف، فالتَفتوا إلى لونه وتجاهَلوا طعمَه، نظَروا إلى دمعةِ المُخادِع ولم ينظرُوا إلى مِدفعِه، علِموا أن الحيَّة لا تبتسِمُ وهي تلدَغ، وخفِيَ عليهم من يلدغُ وهو يبتسِم.
وقد أحسنَ أبو حاتم البُستيُّ - رحمه الله - حينما ضربَ مثلاً عن أحد شيوخه أن صيَّادًا كان يصطادُ العصافيرَ في يومِ ريحٍ، قال: جعلَت الرياحُ تُدخِلُ في عينَيْه الغُبار فتذرِفان، فكلما صادَ عصفورًا كسرَ جناحَه وألقاه في ناموسَة، فقال رجلٌ لصاحبِه: ما أرقَّه عليهم، ألا ترى دموعَ عينيْه! قال الآخر: لا تنظُر إلى دموعِ عينيْه، ولكن انظُر إلى عملِ يديْه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[البقرة: 208، 209].
إنه لا بُدَّ لكلِّ فردٍ أن يتحرَّر من الأنانية واللامسؤولية، وأن يقطَعَ قيودَ وأغلالَ السلبيَّة واللامُبالاة؛ ليكون لبِنَةً صالحةً في بناء بُرج السلام الشامِخ الذي ما خابَ من بَناه ولا ندِمَ من اتخَذَه دارًا؛ لأن معرفةَ الله الحقَّة والإيمانَ بما جاء من عنده - سبحانه - هي السبيلُ الوحيد للفرزِ بين السلام الحقِّ والسلامِ الزائفِ؛ لأن السلامَ في الإسلام هو العدلُ والصدقُ والأمانةُ والرحمةُ، وأما السلامُ بالمفهومِ الزائف فإنه مبنيٌّ على المصلحةِ الذاتية والقوةِ الكابِحة ومبدأ الهيمَنَة للأقوى، أو على المبدأ الجاهليِّ الذي يجعلُ الظلمَ من شِيَم النفوس، ومن يكنْ ذا عِفَّةٍ فلِعلَّةٍ لا يظلِم.
ولقد صدقَ الله - جل وعلا - في عُلاه: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا[الكهف: 20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتِنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه الداعِي إلى رِضوانِه، صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله وأزواجِه وأصحابِه وإخوانِه.
أما بعد، فيا أيها الناس:
إننا حينما نتحدَّثُ عن السلام الذي هو الإسلام، ونرى أنه هو المُنقِذُ للبشرية من ظُلمات التِّيه والانحِراف العقَدي والأخلاقيِّ والفِكريِّ والعسكري، إننا حينما نتحدَّثُ عن ذلكم فإننا لا نعنِي أن السلامَ يقتضي الدُّونيَّة أو الخُنوع أو الاستِكانة، كلا؛ فإن أمةً لم تركَع إلا لخالقِها لا يُمكِنُ أن تخضَعَ لغيره البَتَّة، وإن أمةً لا تعرفُ إلا الله فلن يغلِبَها من لا يعرفُ الله، غيرَ أن الإسلامَ هو السلامُ الحقيقيُّ بكلِّ ما تعنيه الكلمةُ من معنًى، فالله - جل وعلا - هو السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ[الحشر: 23].
وقد وردَ ذكرُ السلامِ في القرآن مُتصرِّفًا أربعًا وأربعين مرَّةً، في حين أن لفظَ الحرب لم يرِد في الكتاب الحكيم إلا ستَّ مراتٍ، والمسلمون يقولون كلَّ يومٍ وليلة لفظَ السلام عشر مراتٍ؛ وذلك اقتداءً بالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرَف من صلاته؛ حيث كان يقول: «أستغفرُ الله. أستغفرُ الله. أستغفرُ الله. اللهم أنت السلامُ، ومنك السلامُ، تبارَكتَ ذا الجلالِ والإكرامِ»؛ رواه مسلم.
فالسلامُ دينُ الله في الأرض، وتحيَّةُ المسلمين فيها السلام؛ فقد قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أفشُوا السلامَ بينكم»؛ رواه مسلم.
وفي ميدان الحربِ والقتالِ إذا بذلَ العدوُّ كلمةَ السلام وجبَ الكفُّ عنه واعتبارُه مُسلمًا مُتمتِّعًا بالسلام؛ عملاً بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[النساء: 94].
وإذا كان هذا كلُّه في الحياةِ الدنيا فإن الجنةَ في الدار الآخرة هي السلام: وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[يونس: 25]، وتحيَّة المؤمنين يوم يلقَون ربَّهم: سلامٌ: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا[الأحزاب: 44]، والملائكةُ حينما يدخلون على أهل الجنة يُلقون عليهم السلام: وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ[الرعد: 23، 24].
أما حياةُ المؤمنين في الجنة فقد وصفَها الله بقوله: لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا[الواقعة: 25، 26].
بارك الله ولكم في القرآن والسنة، واعلموا - رحمكم الله - أن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وأصحابه التابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم لا تحرِمنا خيرَ ما عندك بشرِّ ما عندنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة : 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 12-19-2011 12:28 AM

فضل كلمة التوحيد: لا إله إلا الله
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة 21/1/1433هـ بعنوان: "فضل كلمة التوحيد: لا إله إلا الله"، والتي تحدَّث فيها عن فضل كلمة التوحيد، وأن الله - سبحانه - فضَّلَ المسلمين بها على غيرهم من الأمم، وذكر ما يجبُ عليهم تجاهَ ربِّهم شُكرًا لهذه النعمة وحِفاظًا عليها، وشدَّد على ضرورة التمسُّك بالكتاب والسنة لضمانِ النصر والتمكين في الدنيا، والفوز بجنات النعيم في الآخرة.
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدك ربي ونستعينُك ونستغفرُك ونتوبُ إليك، ونُثنِي عليك الخيرَ كُلَّه ثناءً كثيرًا طيبًا مديدًا، مِلءَ الآفاق مُبارَكًا مزيدًا.
لك الحمدُ اللهم يا خيرَ ناصرِ
لدينِ الهُدى ما لاحَ نجمٌ لناظِرِ
لك الحمدُ ما هبَّ النسيمُ من الصَّبَا
على نِعَمٍ لم يُحصِها عدُّ حاصِرِ
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا بربوبيته وألوهيته وتوحيدًا، وتعظيمًا لجلاله - سبحانه - وتفريدًا، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أزكى من دعا للتوحيدِ اعتقادًا وعملاً فريدًا، صلَّى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين البالغين بالحقِّ رُكنًا شديدًا، وعِزًّا مشيدًا، وصحبِهِ الباذِلين لكلمةِ الإخلاص طارِفًا وتليدًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ممن رجا وعدًا واتَّقَى وعيدًا، وسلِّم ربَّنا تسليمًا عديدًا إلى يوم الدين سرمدًا مزيدًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن رُمتُم من التآخي ائتلافًا، ومن التمكينِ والعِزِّ ازدِلافًا، ومن ثوابِ الرحمنِ جناتٍ ألفافًا؛ فعليكم بتقوى الله قولاً وعملاً واعترافًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ[آل عمران: 102].
عليك بتقوى اللهِ سرًّا وجهرةً
ففيها جميعُ الخيرِ حقًّا تأكَّدَا
لتُجزَى من اللهِ الكريمِ بفضلِهِ
مُبوَّأ صدقٍ في الجِنانِ مُخلَّدًا

أيها المسلمون:
في عصرنا الراهِن المُدلهِمِّ بالتقلُّبات الفكريةِ، والتحدياتِ السياسية والمُجتمعية، والمُؤثِّرات الثقافيةِ والمعلوماتية، وعلى مشارِفِ عامٍ هجريٍّ مُبارَكٍ جديدٍ لا يكتمِلُ استشرافُ المُستقبَل ورسمُ آفاقِهِ واستنطاقُ أندائهِ وأعماقهِ إلا في ضوءِ نعمةٍ جُلَّى قد كمُلَت فضائلُها وتمَّت، وكثُرت دلائلُها وجمَّت، وأذهبَت الغياهِبَ عن الدنيا وجلَّت، وهزَّت فيالِقَ الإلحاد والوثنيَّةِ وفلَّت؛ إنها أعظمُ كلمةٍ قِيلَت في هذا الوجود، وسُطِّرَت رمزًا للخُلود، وأجلُّ عبارةٍ لهَجَت بها الألسُن في الأصقاع، وأزكَى مقولةٍ شُنِّفَت بها الأسماعُ.
هي النعمةُ المُسداة، والمِنَّةُ المُهداة، هي أكبرُ نعمةٍ يمنُّ الله - تبارك وتعالى - بها على من يشاءُ من عباده، إنها - يا رعاكم الله -: كلمةُ التوحيد: (لا إله إلا الله)، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ[محمد: 19]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ[الأنبياء: 25].
معاشر المسلمين:
ولئن كان هذا أمرًا متفقًا عليه عند أهل القبلةِ تقريرًا، وسطَّرَته أقلامُهم تحريرًا، وتأصَّلَ في قلوبهم استشعارًا وتذكيرًا؛ فإن فِئامًا من بني الإسلام قد رضُوا باللَّقَب، واكتفَوا بالاسمِ وقنِعوا بالوصفِ، وغفَلوا عن المضمونِ في الجُملة، فتبلَّدَت منهم الحواسُّ، وجفَّت المشاعِر، وأجدَبَت القلوبُ إلا من رحِمَ الله.
ولهذا مهما بلغَ من حُرِمَ هذا الشرفَ العظيمَ في هذه الحياة الدنيا من مراتِب، وهما أُوتِي من جاهٍ ومالٍ وجمالٍ، ومن قوةٍ ودهاءٍ وذكاءٍ إلا أن أمنيَّته يوم القيامة: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا[النبأ: 40].
فنعمةُ (لا إله إلا الله) لا تُقدَّرُ بثمن، وكلُّنا في حبِّها مُرتَهَن؛ في الحديثِ الصحيحِ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أن موسى - عليه السلام - قال: يا ربِّ علِّمني شيئًا أذكُركَ وأعدوك به. قال: يا موسى! قُل: لا إله إلا الله. قال موسى: يا ربِّ! كلُّ عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى! لو أن السماوات السبعِ وعامِرهنَّ غيري، والأرضِين السبعَ في كِفَّة، ولا إله إلا الله في كِفَّة مالَت بهنَّ لا إله إلا الله»؛ أخرجه الحاكم، وابنُ حبَّان، وصحَّحه.
الله أكبر! إنه لو وقفَ المسلمون عند مُقتضى كلمةِ الإخلاصِ وأحكامها، وبديعِ مضامينها ومرامِيها؛ لما رأينا الظلمَ والاعتداء من الطُّغاة على الأبرياء، ولما تناهَشَ عِزَّتَنا الأعداءُ الألِدَّاءُ.
إخوة الإيمان:
إن هذا الدين القيم هو النعمةُ العُظمى، والمِنَّةُ الكبرى، وبه يمتازُ المؤمنُ عن غيره من أهلِ المِلَل الذين يشترِكون معه في نعمةِ الوجود والعقلِ والرزقِ وغيرها، إلا أن المسلمَ ينفرِدُ - بكلِّ شرفٍ واعتِزازٍ - بنعمةِ الإسلام، بنعمةِ (لا إله إلا الله)؛ فهي نعمةٌ تستوجِبُ منَّا أن نُمرِّغَ وجوهَنا وجِباهَنا وأنُوفَنا شُكرًا لله ربِّ العالمين.
إذا نزلَ الإسلامُ ساحةَ معشرٍ
تبدَّلَ فيه عُسرُه أبدًا يُسرًا
هو الأمنُ والإيمانُ والنعمةُ التي
بها تسعَدُ الأجيالُ في شأنِها طُرًّا
فمن لم يحيَ بها في هذه الحياة فهو الميتُ حقًّا؛ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا[الأنعام: 122]، ومن لم يستأنِس بها فهو المُستوحِشُ يقينًا؛ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ[الزمر: 22].
أليس الله - تبارك وتعالى - هو الذي خلَقَنا فسوَّانا، وأوجدَنا وأحيانا، وبإحسانِهِ ربَّانا، ومتى دعوناهُ أجابَنا ولبَّانا، ومن كل كربٍ وضيقٍ نجَّانا؟ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ[النمل: 62].
فيا أحبَّتنا المكروبين المرثُوئين في كل مكانٍ! ألِظُّوا بالدعاء، واستَغيثوا بربِّ الأرضِ والسماءِ أن يُنجِيَكم من كل باغٍ ظَلوم، ومُستبدٍّ غَشوم.
يا مَن بذَرت الكيدَ في أرضِ النَّدَى
مهلاً فلن تجنِي سوَى البغضاءِ
لن يُقنِعَ الناسَ الكذُوبُ بقولِهِ
ولو ارتقَى لمنازلِ الشُّرَفاءِ
ومن أعظم معاني هذا الدين وأسمى مبادئه؛ بل أروع حقائقه وأجمل دقائقه التي هي جوهرُه ولُبُّه، وعِمادُه وطُمْبُه: إظهارُ الانكِسار والافتِقار والحاجةِ لله الواحدِ القهَّار.
أمةَ العقيدة:
الفائزون بكلمة التوحيد هم طُلاَّبُها، والعاجِزون من أعياهم التحقُّقُ بها واكتِسابُها، فهُرِعوا إلى التِّقانات والفضائيات، ولوَّثوا سَلسالَ التوحيد بالشركيَّات والخُرافات، ووَبيلِ المُعتقَدات؛ فليست كلمةُ التوحيد مُجرَّد لفظةٍ تُقال، أو عبارةٍ تُردَّدُ على الألسُن، وإن كان مُجرَّدُ التلفُّظ بها عاصمًا للدمِ والمالِ والعِرْضِ، ولكن هي بمثابةِ الدمِ للبَدَن، والهواءِ للأحياء، والماءِ للنبات، فإذا ما استقرَّت في السُّويْداء وحُقَّت، وانداحَت في الروحِ وترقَّت، إلا وأعلَنها صاحبُها مُدوِّيَةً: ألا معبودَ بحقٍّ يستحقُّ أن تُصرَف له العبادة إلا اللهُ الواحدُ الأحدُ الصمدُ، لا إله إلا الله.
فتُصبِحُ أقوالُه وأعمالُه، ذَهابُه وإيابُه لله رب العالمين لا شريكَ له؛ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ[الأنعام: 162، 163].
وأن يُفردَ الله - جل وعلا - في رُبوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته وطاعته والتحاكُم إلى شريعته، ولقد تجسَّدَت هذه الروح في أكمَل عبادِ الله وأحبِّهم إليه وأكرمِهم عليه وصفوتِه من خلقِه: أنبيائه ورُسُله - عليهم أفضل الصلاة وأزكى التسليم -.
هذا نبيُّنا وحبيبُنا وقدوتُنا محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - يستقبِلُ القبلةَ يوم بدرٍ، ثم يمُدُّ يديه فيهتِفُ بربِّه: «اللهم أنجِز لي ما وعَدتَني، اللهم آتِني ما وعدتَني، اللهم إن تهلِك هذه العُصابة من أهل الإسلام فلن تُعبَد في الأرض». فما زال يهتِفُ بربِّه حتى أتاه أبو بكرٍ - رضي الله عنه - والتزَمَه من ورائه، وقال: يا نبيَّ الله! كفاكَ مُناشَدَتَك ربَّك، فإنه سيُنجِزُ لك ما وعدَك، إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ[الأنفال: 9].
معاشِر الأحِبَّة:
المُتأمِّلُ في هذا الحديثِ الشريفِ يجِدُ فيه صورةً حيَّةً ناطِقةً بالذلِّ والخُضوعِ، والتضرُّع والانطِراح، والافتِقار والالتِجاءِ إلى اللهِ الواحدِ الأحدِ من أفضل خلقِ الله - عليه أفضلُ الصلاة وأزكى التسليم -.
ورسَمتَ للتوحيدِ أكملَ صورةٍ
نفَضَت عن الأذهانِ كلَّ غُبارِ
فرجَاؤُنا ودُعاؤُنا ويقينُنا
وولاؤُنا للواحدِ القهَّارِ
وفي ظِلالِ تلك الضَّرَعات الوارِفة في معارجِ التوحيدِ الخالِصِ بين يدي الله - عز وجل - من جميعِ أنبياءِ الله ورُسُله: نوحٍ وإبراهيم وموسى وعيسى وأيوب ويونس وزكريا ومحمدٍ - عليهم الصلاة والسلام -، يرتسِمُ أثرُ العقيدة وتحقيقُها لخيْرَي الدنيا والآخرة.
أمةَ التوحيد والسنة:
ومع ما لكلمة التوحيدِ من مكانةٍ جُلَّى؛ فإن الحِفاظَ عليها وتحقيقَ شُروطها ومُقتضياتها لاسيَّما في مجال التطبيقِ وميادين العملِ، وساحاتِ المواقفِ والابتلاءات يُعدُّ المقصدَ الأعظمَ في الحياة كلِّها؛ إذ أعظمُ مقاصدِ الشريعةِ الغرَّاء: حِفظُ الدين وجودًا وعدمًا، وحِراسةُ العقيدةِ من كلِّ ضُروبِ المُخالَفاتِ، لاسيَّما في عصرٍ طغَت فيه الصراعاتُ العقدية، والنَّعَراتُ الطائفيَّة، والخِلافاتُ المذهبيَّةُ.
وامتدَّ فُسطاطُ اللَّوثات، وانتشرَ رُواقُ المُحدَثات، واختلطَ فيها سَخينُ المَدامِعِ بدويِّ المدافعِ، ونالَ المُتمسِّكون بعقيدتهم الصحيحة وسنةِ نبيِّهم - عليه الصلاة والسلام -، ومنهجِ سلَفهم الصالح ما نالَهم؛ فإن العاقبةَ الحميدَةَ - بإذن الله - لهم.
فصبرًا صبرًا أهلَ التوحيد والسنة، صبرًا صبرًا أهلَ التوحيد والسنةِ في كل مكانٍ، ويا بُشراكُم؛ فهذه راياتُ النصر تلُوحُ، وبشائرُه تغدُو وترُوح، وشواهِدُه المُشرِقة المُتمثِّلةُ في مهدِ الرسالة، ومنبَعُ العقيدة والأصالَة، وموئِلُ السنة: المملكةُ العربيةُ السعودية أُنموذجًا مُتألِّقًا، وسَلسالاً مُتأنِّقًا في إيمانها وعقيدتها وأمانها ورخائها واستقرارها، كلُّ ذلك بفضل اللهِ، ثم بفضلِ صحةِ المُعتقَد، وسلامةِ المنهَج، وتحقيقِ العدلِ، ونزاهَةِ واستِقلالِ القضاء، وتطبيقِ الشريعةِ بيُسرِها وسماحتِها، ووسطيَّتها واعتدالِها.
ولن يبُوءَ المُزايِدون عليها وعلى عقيدتها ومنهجِها وقضائِها ووُلاتِها وعلمائِها، المُتوسِّعون بنشر أباطيلهم، المُصدِّرون لأضاليلهم، المُتنمِّرون في بيانات السُّوءِ والفتنةِ من قراصِنةِ العقيدة، وسَماسِرةِ الأفكارِ والتصوُّرات، ومُعولِمةِ الثقافات والتِّقانات إلا بالبَوارِ والتَّبَار.
أمةَ الإسلام:
ومع ما تعيشُهُ أمتُنا الإسلاميةُ من الواقعِ المريرِ في بِقاعٍ عزيزةٍ علينا مما أقضَّ مضاجِعَ المؤمنين الصادقين؛ فإننا نشعُرُ مُتفائلين أن لهيبَ التمحيصِ لا بُدَّ أن يُضِيءَ طريقَنا إلى العامِ الهجريِّ الجديدِ، مُستيقنين أن كلمةَ التوحيدِ عُدَّتُنا مطلعَ كل عامٍ جديدٍ، وأنها المثابَة التي لا مندُوحةَ لأمةٍ من أن تفِيءَ إلى معاقدِ شُموخِها وسُطوعِها، وعِزَّتها ولُموعها، لتحقيقِ أملِنا المنشود، وسُؤدَدنا المفقود، وما ذلك على اللهِ بعزيزٍ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[النور: 55].
لا إله إلا الله.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ والسنةِ، ونفعَني وإياكم بما فيهما من الآياتِ والحِكمةِ، أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المُسلمين من كل ذنبٍ خطيئةٍ، فاستِغفروه وتوبوا إليه، إن ربِّي لغفورٌ رحيمٌ.


ابوحاتم 12-19-2011 12:29 AM

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا لم يزَل فيَّاحًا، ابتغاءً لمرضاتِهِ واستِمناحًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أشرقَ نورُها وضَّاحًا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أخلصَ الدينَ لله دعوةً وإصلاحًا، اللهم فصلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آلهِ وصحبِه الأُلَى نشَروا التوحيدَ غُدُوًّا ورواحًا، فعمَّ البسيطةَ هِضابًا وبِطاحًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله في السرِّ والعلَن، واحمَدوه على ما شرعَ لكم من التوحيدِ وسنَّ، واحذَروا شوبَه بما ظهرَ من البدعِ وما بطَن، واعلمُوا أن أصدقَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ.
أمة التوحيد والسنة:
إن المُتأمِّل البصير الذي يرومُ عِزَّةَ أمته هو من يستنطِقُ الحادِثات المُستجِدَّات في ضوءِ أصولها الكُلِّيات تجاوُزًا للتحديات، وتخلُّصًا من الصِّراعات، وإننا لنُعيذُ أمتنا - وهي تُكابِدُ من المِحَن ما تُكابِد - أن يتفاقَمَ بلاؤُها من ذاتِها أكثرَ من عُداتِها.
وفي هذه الآونةِ خُصوصًا تعظمُ الأمانة وتجِلُّ المسؤولية المُناطةُ بأهل العقيدة، وحملَة الشريعة، ورجال العلم والدعوةِ والإصلاح، السائرين على المنهجِ الربانيِّ الوضَّاح، وكذا القادةُ والساسةُ أن ينتشِلوا المُجتمعات والأجيال من أوهاقِ الافتِئاتِ على العقيدة، والمُزايَدة على مرامِيها البَلْجاءِ العَتيدة، وأن يتَّخِذوا من التوحيد والسنة أطيبَ سَقْيِ وغِراسٍ، وخيرَ مِنهاجٍ ونِبراس، لإصلاحِ أحوالِ الأمة، وتوثيقِ اتحادها، ودحرِ الأرزاءِ عنها، وتحقيقِ أجلِّ مُرادها، ولن يكون ذلك إلا بالاعتصامِ بالكتابِ والسنةِ؛ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا[آل عمران: 103].
بني الإسلامِ قد حانَ اعتصامٌ
بحبلِ اللهِ نهجًا والتِزامًا
لنرفعَ رايةَ الإسلامِ عدلاً
ونحمِي حوزةَ المجدِ اعتِزامًا
إذ ذاك؛ يأبَى الله - سبحانه - تحقيقًا لوعده إلا أن يُتِمَّ نورَه بكشفِ الغُمَّة ونصرِ الأمة، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ[الأنعام: 82].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على أزكَى البريَّةِ قدرًا، المبعوثِ في الدياجِي بدرًا، من أعلى رايةَ التوحيدِ والسنةِ نهيًا وأمرًا؛ فقد قال - جلَّ في عُلاه - قولاً كريمًا، ولم يزَل سميعًا عليمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
مُحمدٍ المُختارِ والآلِ بعدَهُ
وأصحابِهِ الغُرِّ الكرامِ الأكابرِ
مدَى الدهرِ والأزمانِ ما قالَ قائلٌ
لك الحمدُ اللهمَّ يا خيرَ ناصرِ
اللهم صلِّ وسلِّم على سيدِ الأولين والآخرين، وعلى آله وصحبِهِ الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُلِ الشرك والمشركين، ودمِّر الطُّغاةَ والمُفسِدين وسائرَ أعداء الدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم وفِّقنا لكل خيرٍ يا رب العالمين، اللهم أيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا.
اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفَين إلى ما تحبُّ وترضى، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وخُذ بنواصيهم للبرِّ والتقوى، اللهم وفِّقهم وإخوانَهم وأعوانَهم إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه خيرُ البلاد والعبادِ يا رب العالمين.
اللهم احفَظ على هذه البلاد عقيدَتها وقيادتَها وأمنَها واستقرارَها ورخاءَها يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم رُدَ عنا كيدَ الكائدين، وعُدوان المُعتدين، ومكرَ الماكرين، وحسَد الحاسِدين، اللهم واكفِنا شُرورَهم بما شِئتَ يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في عقيدتهم واتباعهم لسنة نبيِّك - صلى الله عليه وسلم -، المُتمسِّكين بمنهجِ سلَفهم الصالح، اللهم كُن لهم في كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم احقِن دماءَ المُسلمين، اللهم احقِن دماءَ المُسلمين، اللهم احقِن دماءَ المُسلمين، وأصلِح أحوالَهم في كل مكانٍ.
اللهم احفَظ على إخواننا في يمننا وفي شامِنا وفي كل مكان أمنَهم واستقرارَهم يا حيُّ يا قيُّوم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين والمُسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياءِ منهم والأموات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 12-27-2011 12:12 AM

قِصَر الأمل وحُسن العمل
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة 29/2/1433هـ بعنوان: "قِصَر الأمل وحُسن العمل"، والتي تحدَّث فيها عن انصرامِ عامٍ وإقبالٍ عامٍ جديد، وذكَّر بما عمِلَه المرءُ فيما مضى إن كان مُحسِنًا تزوَّد منه، وإن كان غيرَ ذلك فليتُب وليُقبِل على ربِّه، وبيَّن أن الإنسان بلا دينٍ كالبهيمة التي لا تعقل، وحثَّ على ضرورة الإقبال على العمل الصالح والتوبة والاستغفار.

الخطبة الأولى
الحمد لله خلقَ الليلَ والنهارَ، وقدَّرَهما مواقيتَ للأعمال ومقادير للأعمار، لا إله إلا هو جعلَ في مرورِ الأيامِ والليالي عِبَرًا لأهل هذه الدار، أحمده - سبحانه – وأشكره على عظيم آلائه والشكرُ سبيلٌ للمزيد والاستِكثار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً خالصةً مُخلِصة بصدق المُعتقَد وصحةِ الإقرار، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله النبيُّ الأُمِّي العربيُّ الهاشميُّ المُصطفى المُختار، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله السادة الأطهار، وأصحابه البَرَرَة الأخيار، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ ما تعاقبَ الليلُ والنهار، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، فمن عرفَ الله أعطاه حقَّه، ومن أحبَّ رسولَ الله – صلى الله عليه وآله وسلم – لزِمَ سنَّته، ومن قرأَ كتابَ الله عمِلَ به، ومن أرادَ الجنةَ عمِلَ لها، ومن خافَ النارَ هربَ منها، ومن أيقنَ بالموت استعدَّ له.
يقول عليُّ - رضي الله عنه -: "اشتدَّ خوفي من اثنين: طولِ الأمل، واتِّباعِ الهوى؛ أما طولُ الأمل فيُنسِي، وأما اتِّباعُ الهوى فيصدُّ عن الحق".
أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ[الجاثية: 23].
أيها المسلمون، حُجَّاج بيت الله:
ها أنت تُودِّعون عامًا، وتدلِفون لاستِقبال عامٍ آخر، وذلك كلُّه من أعمالكم وأيامكم، عامًا مضى بما أودَعتُموه من عملٍ، فمن أحسنَ فليهنَأ وليحمَد الله وليزدَد، وخيرُ الزاد التقوى، ومن كان غيرَ ذلك فلا يزالُ في الأجل فُسْحة، فليستعتِب، وربُّكم يتوبُ على من تابَ.
اللهم اجعل عامَنا عامَ خيرٍ وبرَكة، وأيامَنا أيامَ أمنٍ وأمان، وسلامةٍ وإسلام، اللهم وفِّقنا فيه لصالحِ العمل، وجنّبنا الفتنَ ما ظهر منها وما بطَن، واجمع اللهم كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى والصلاح، وأعِزَّ الإسلام وأهلَه، وأذِلَّ الطغاةَ وأعداء المِلَّة.
أيها الإخوة:
في تقلُّب الأيام وتصرُّم الأعوام فرصةٌ وفُرَص للمُراجَعة والمُحاسَبة، فطُوبَى لمن أخذَ العِبرَة، وفاضَت منه العَبْرة، والحسرةُ لأرباب الغفلة، فلينظُر العاملُ عملَه، وأين المُؤمِّلُ وما أمَّله؟!
يا معشر العباد:
أين الآباء والأجداد؟! وأين المرضى والأصِحَّاء والعُوَّاد؟! أفضَوا إلى ما قدَّموا، الموعدُ يومُ المعاد، والمُلتَقى يومُ التَّنَاد، يوم يُنفَخُ في الصور، ويُنقَر في الناقُور.
يا عبد الله:
السعيدُ من وُعِظَ بغيره، وإذا ذُكِرَ الموتى فعُدَّ نفسكَ منهم، فخُذ من حياتك لموتك، ومن فراغك لشغلك، ومن صحَّتك لمرضك، ومن غِناك لفقرك، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباحَ، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وكلما قصُر الأمل جادَ العمل.
كم من مُستقبِلٍ يومًا لا يستكمِلُه، وكم من مُؤمِّلٍ لغدٍ لا يُدرِكه، ومن رأى أجلَه ومسيرَه أدرك حقيقةَ الأمل وغرورَه، ومن أنفع أيام المؤمن ما ظنَّ أنه لا يُدرِكُ آخِره.
يا وحيدًا بعد قليلٍ في قبره، يا مُستوحِشًا بعد أُنسٍ حين انقِضاء عُمره، تجمعُ الدنيا على الدنيا لغيرك، وينساكَ من أخذَ كلَّ خيرِك، هلاَّ تزوَّدتَ لمقرِّك.
فبادِروا – رحمكم الله – بالصحةِ سقمَكم، واحفَظوا أمانةَ التكليف لمن ائتَمَنكم، لا شيء أقلُّ من الدنيا، ولا شيء أعزُّ من النفس، فاقنَع بالكَفاف، وصُن نفسَكَ بالعفاف، وقِف مُتدبِّرًا في حالك؛ فالمؤمنُ وقَّاف.
يا عبد الله:
أفضلُ الأعمال: أداءُ ما افترضَ الله، والورعُ عمَّا حرَّم الله، وصدقُ النيَّة فيما عند الله.
واعلَم أن الرضا في طاعة الله؛ فلا تحقِرنَّ من الطاعة شيئًا، والسخَط في معصية الله؛ فلا تستصغِرنَّ من المعاصي شيئًا، وأشرفُ الأوقات ما صُرِف في طاعة الله، ولا تنظُر إلى صِغَر المعصية ولكن انظُر عِظَم من عصيتَ.
والنفسُ إن لم تشغَلها بطاعة الله شغَلَتك بما لا ينفعُ، والقلوبُ كالقُدور تغلي بما فيها، والألسِنةُ مغارِفُها، والذنوبُ مفسَدةُ القلوب، والقويُّ من داومَ على الطاعة، والضعيفُ من غلَبَته محارِم الله.
والعملُ بضاعةُ الأقوياء، والأماني بضاعةُ الضعفاء، والتُّؤدَةُ مُستحسَنةٌ في كل شيء إلا ما كان من أمر الآخرة: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى[طه: 84].
والبركةُ في أكل الحلال، والعملِ الحلال؛ فاللهُ طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيبًا، وخزائنُه لا تنفَد فهو الرزاق ذو القوة المتين، والصدقةُ تدفعُ البلاء، وما نقصَ مالٌ من صدقة، وهل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضُعفائكم.
والقناعةُ كنزٌ لا يفنَى، وراحةُ الجسم في قلَّة الطعام، وراحةُ النفس في قلَّة الآثام، وراحةُ القلب في قلَّة الاهتمام، وراحةُ اللسان في قلَّة الكلام، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة.
والمهزومُ من هزمَته نفسُه، ومن لم يرضَ بالقضاء فليس لحبِّه دواء، والعيشُ مضمون، والرزقُ مقسوم، والهموم لا تدوم.
ومن أرادَ أن تدومَ له السلامةُ والعافيةُ من غير بلاءٍ فما عرفَ التكليف، ولا أدركَ التسليم، والخيرُ كلُّه في الرضا.
فإن استطعتَ – يا عبد الله – أن ترضى وإلا فاصبِر، والرضا يكون بسُكون القلب تحت مجارِي الأحكام.
يقول حاتم الأصمُّ: "نظرتُ في أحوال الخلق؛ فإذا الذي أحببتُ من الناس لم يُعطِني، والذي أبغضتُه لم يأخُذ مني، فقلتُ في نفسي: من أين أُتيتُ؟ فرأيتُ أني أُوتيتُ من قِبَل الحسَد، فطرحتُ الحسدَ، فأحببتُ الناسَ كلَّهم، فكلُّ شيءٍ لم أرضَه لنفسي لم أرضَه لهم".
ومن عرفَ شأنَه حفِظَ لسانَه، وأعرضَ عما لا يعنيه، وكفَّ عن عِرضِ أخيه، ودامَت له سلامتُه، وقلَّت ندامتُه.
والمسلمُ من سلِمَ المسلمون من لسانه ويدِه، والمؤمنُ من أمِنَه الناس، والمهاجِرُ من هجرَ ما حرَّم الله، والمُسلمُ أخو المسلم لا يظلِمُه ولا يُسلِمه ولا يخذِله ولا يحقِرُه.
وأقربُ الناس من رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يوم القيامة أحاسِنهم أخلاقًا، وما كان الرِّفقُ في شيءٍ إلا زانَه، وما نُزِع من شيءٍ إلا شانَه، وإن اللهَ ليُعطِي على الرِّفق ما لا يُعطي على العُنف، وصانِعُ المعروف لا يقع، وإن وقعَ وجدَ مُتَّكئًا.
يا عبد الله:
علِّق قلبكَ بربِّك، وخُذ بالأسباب، وليكن زادُك القناعة والصبر والشُكر والأمل مع إحسان العمل، وإحسان الظن، وإحسان النظر.
وليكن زادُك الوقوف عند الحق، وعدمَ تجاوُز الحدِّ، والحرصَ على الورَع؛ طاعةً لله، ونفعًا للنفس، وقيامًا بالمسؤولية، ومن سلكَ ذلك حسُن إيمانُه، واجتمعَ عليه أمرُه، فلم يكن لوقتِه مُضيِّعًا، ولا في غير النافعِ والمُفيد مُشتغِلاً.
ألا فاتقوا الله جميعًا – عباد الله -، ولا تكونوا كأصحاب نفوسٍ قسَت قلوبُها، وغلُظَت أكبادُها، وعظُم عن آيات الله حِجابُها فلا تعتبِر ولا تدَّكِر؛ فإن أقوامًا جاءَتهم آياتُ ربِّهم فكانوا منها يضحَكون، وأراهم ربُّهم آياتٍ كلُّ آيةٍ أكبرُ من أختها فكانوا عنها مُعرضين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[لقمان: 33، 34].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

ابوحاتم 12-27-2011 12:13 AM

الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله مُوقِظ القلوبِ بالوعظ والتذكير، أحمده - سبحانه - وأشكره على خيره العَميم وفضلِه الوَفير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً مُبرَّأةً من الشرك كبيرِه والصغير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه البشيرُ النذير، والسراجُ المُنير، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين، وأصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ ومن على نهجِهم يسير، وسلَّم التسليم الكثير.
أما بعد:
فالإنسانُ بغير دينٍ ورقةٌ تُقلِّبُها الرياحُ، لا يستقرُّ له حال، ولا تُعرَف له وِجهة، ولا يسكُنُ له قرار: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج: 31].
الإنسانُ بغير دينٍ لا قيمةَ له ولا مكانة، قلِقٌ مُتبرِّم، مُتقلِّبٌ تائِه، لا يعرِفُ حقيقةَ نفسه، ولا حِكمةَ وجوده: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ[الأنعام: 125].
الإنسانُ بغير دينٍ حيوانٌ بهيم، وسبُعٌ ضارٍ، لا تُعلِّمُه ثقافة، ولا يردَعُه وازِع، يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ[محمد: 12]، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف: 179].
والمُجتمع بغير دينٍ مُجتمعُ غابة، وإن بدَرَت فيه بوادِرُ حضارة، أو بدَت فيه أثَارةٌ من علمٍ، الحياةُ فيهم هي من نصيب الأشدِّ الأقوى وليس للأصلحِ والأتقى.
العلومُ المُجرَّدة تدلُّ على الوسائل، ولا تقودُ إلى الغايات، وتُعطِي الأدوات ولا تُعطِي قيمًا وأهدافًا، علمٌ بظاهر الحياة الدنيا وأسبابِها، كما ذكر الله في أقوامٍ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[الروم: 7].
إن في ظاهر الدنيا من يزدادُ ثراؤهم بازدياد عِصيانهم ومُخالفاتهم، ولقد جاء في التنزيل العزيز: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام: 44، 45].
إن من الخطَّائين من يُؤدَّبُ فيتأدَّب، ويُؤخَذ فيتراجَع، فالحِرمانُ له فِطامٌ عن الذنب، وطريقٌ إلى المثَاب.
ومنهم من تتكاثرُ حولَه الدنيا كما تتكاثَرُ الأمواجُ على الغريق، فلا يزالُ يكرَعُ منها حتى يهلَك.
إن أنواعَ الابتلاء وأنواع الجزاء أوسعُ من علمنا وإدراكِنا.
فاستفتِحوا – رحمكم الله – عامَكم بالعمل الصالح، وأحسِنوا الظنَّ بربِّكم، وأصلِحوا ذاتَ بينكم.
ألا فاتقوا الله – رحمكم الله -، وآمِنوا برسولِه يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[الحديد: 28]، تُوبوا إلى ربِّكم من المعاصي، واستعِدُّوا ليومٍ يُؤخَذ فيه بالأقدام والنَّواصِي، قدِّموا الباقيةَ على الفانِية في هِمَمٍ عالية لعلكم تلحقون بمن عناهُم الله بقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ[الحاقة: 24].
ثم صلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيكم محمدٍ رسول الله، فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه – قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واحمِ حوزةَ الدين، واخذُل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَهم وأعوانَهم لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إن لنا إخوانًا مُستضعفين مظلومين قد مَّهم الضرُّ وحلَّ بهم الكرب واشتدَّ عليهم الأمر، تعرَّضوا للظلم والطغيان، سُفِكَت دماء، وقُتِل أبرياء، ورُمِّلَت نساء، ويُتِّم أطفال، اللهم يا ناصر المُستضعفين، ويا مُنجِي المؤمنين انتصِر لهم، وتولَّ أمرهم، واكشِف كربَهم، وارفَع ضُرَّهم.
اللهم أصلِح أحوالَ المسلمين، اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، واجمع على الحق والهُدى كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشرور والفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك.
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[الأعراف: 47]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابو سعد 01-06-2012 01:24 AM

جزاك الله الف خير

ابوحاتم 01-06-2012 09:46 PM

حال عباد الله المتقين
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة 5/2/1433هـ بعنوان: "حال عباد الله المتقين"، والتي تحدَّث فيها عن أحوال عباد الله المُتقين في الدنيا من طاعة ربهم، واجتنابِ ما نهاهم عنه، وما أعدَّه الله لهم يوم القيامةِ من النعيمِ المُقيمِ جزاءَ استِجابتهم لأوامِره وانتِهائهم عن نواهيه.
الخطبة الأولى
الحمد لله يصطفِي من عباده من يشاء، أحمده - سبحانه - حمدًا يُكافِئُ الآلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الصفاتُ العُلَى والحُسنى من الأسماءِ، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله سيدُ الرُّسُل وخاتمُ الأنبياء، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الأئمةِ البَرَرة الأتقياء، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم البعثِ والنُشور والجزاء.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكروا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه، فأعِدُّوا لذلك اليوم عُدَّتَه، وخُذوا له أُهبَتَه.
أيها المسلمون:
إن للمتقين من كمالِ السعيِ إلى بُلوغِ رِضوانِ الله ما لا نظيرَ له، وإن لهم في سبيلِ الفوزِ بالنعيمِ المُقيمِ في الجنةِ دارِ كرامتِهِ ونُزُلِ أوليائه مسالِك يسلُكُونها، وطرائِق يتفرَّدون بها، وهِممًا يسمُون بها ويفوقون غيرَها، وتبعثُهم على دوامِ المُسارَعةِ إلى المغفرةِ من ربِّهم، والحَظوةِ برِضوانِه، ودخولِ روضاتِ جنَّاته.
وكيف لا يكون لهم هذا الحالُ، وهم مع إيمانهم بالله ورُسُله وأدائِهم حقَّه - سبحانه -؛ بفعلِ ما أمرَهم به، وتركِ ما نهاهُم عنه، والاستقامةِ على ذلك، والاستِمساكِ به يسمَعون نداءَ ربِّهم الرحيمَ الذي يدعوهم فيه إلى ما يُحيِيهم، وما يعلُو به قدرُهم، ويعظُمُ به شأنُهم، ويحسُنُ به مآبُهم، وتطيبُ به عنده عُقباهم ببيانِه لهم أسبابَ مغفرتِهِ ودخول جنَّته، وبحثِّه - سبحانه - لهم على المُبادَرة إليها، والعملِ بها في غير توانٍ ولا تردُّدٍ ولا إبطاءٍ؛ ليُحسِنوا بذلك إلى أنفسهم، ويُحسِنوا إلى غيرهم من عبادِ الله بجُملةٍ من الصفاتِ الجميلة، والفِعالِ الجليلة التي جاءَت مُبيَّنةً أوضحَ بيان في قولِ الرحيمِ الرحمنِ - عزَّ اسمُه -: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ[آل عمران: 133- 136].
إنه إحسانٌ إلى النفسِ وإلى الخلقِ لا حُدودَ له، إحسانٌ يتجلَّى في بذلِ المالِ في وجوهِ الخيرِ في كل الأحايين، لا فرقَ في ذلك بين حالِ المُنفِقِ في الرخاءِ وحالِهِ في الشِّدَّة؛ فهو ماضٍ في بذلِهِ، مُقيمٌ على جُوده وسخائِه؛ لأنه مُوقِنٌ بحُسنِ الإخلافِ من ربِّه القائلِ - عزَّ شأنُه -: وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ[سبأ: 39]، والقائل: وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ[البقرة: 272].
ومُتأسٍّ بهذا النبيِّ الكريمِ - عليه أفضلُ الصلاةِ وأتمُّ التسليم - الذي قال يومًا لأبي ذرٍّ الغِفاريِّ - رضي الله عنه -: «هل ترى أُحُدًا؟». قال: نعم، قال: «ما أُحبُّ أن أُحُدًا لي ذهبًا يأتي عليَّ ليلةٌ أو ثلاثٌ عندي منه دِينار إلا دينارًا أرصُدُه لدَيْنٍ، إلا أن أقولَ به في عبادِ الله هكذا وهكذا وهكذا - عن يمينه وشمالِه، ومن أمامه ومن خلفِه» يعني: في الإنفاق.
وأن يفعلُوا ذلك رغبةً في أن يشملَه دعاءَ الملَك الوارِدِ في الحديثِ الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من يومٍ يُصبِحُ العبادُ فيه إلا ملَكَان ينزِلان، فيقولُ أحدُهما: اللهم أعطِ مُنفِقًا خلَفًا، ويقول الآخر: اللهم أعطِ مُمسِكًا تلَفًا».
وهو إحسانٌ يتجلَّى أيضًا في صفةٍ تُصوِّرُ السخاءَ والكرمَ النفسيَّ في أجملِ صورةٍ؛ تلك هي: كظمُ الغيظِ حين تبدُرُ بوادِرُ الإساءة، والترقِّي من ذلك إلى مُقابلتها بالعفوِ عن المُسيءِ، والصفحِ والتغاضِي عما بدَرَ منه؛ رغبةً في نَيلِ الجزاء الضافي والأجرِ الكريم الذي أخبرَ به نبيُّ الرحمةِ - صلوات الله وسلامه عليه - بقوله: «من كظَمَ غيظًا وهو قادرٌ على أن يُنفِذَه دعاهُ الله - عز وجل - على رُؤوس الخلائِقِ يوم القيامة حتى يُخيِّرَه من أيِّ الحُورِ شاءَ»؛ أخرجه الإمامُ أحمد في "مُسنده"، وأبو داود والترمذي وابن ماجه في "سننهم" بإسنادٍ حسنٍ من حديثِ سهلِ بن مُعاذٍ، عن أبيه - رضي الله عنه -.
وبقولِنا يكونُ شأنُ من زلَّت به القدَمُ فظلَمَ نفسَه بإتيانِ ما حرَّم الله عليه أو تركِ ما أوجبَ عليه أن يذكُرَ عظمَة ربِّه الذي عصاهُ، وآلاءَه التي تفضَّلَ بها عليه، وشديدَ عذابِهِ وأليمَ عقابِه لمن لم يرْجُ له وقارًا فبارَزَه بالعِصيان.
فيحمِلُه هذا التذكُّرُ على المُبادَرَة إلى التوبةِ النَّصُوحِ بالإقلاعِ عمَّا تلوَّثَ بأرجاسِه، وبالنَّدَم على ما كان، وبالعزمِ على عدمِ العودة إليه - إلى ذلك الذنبِ -، وبردِّ الحقوقِ إلى أهلها؛ لأنه يعلمُ أنه لا يغفِرُ الذنوبَ غيرُه - سبحانه -، ولا يقبَلُ العثَرات سِواه، وأنه كريمٌ لا يُعاجِلُ بالعقوبة، كثيرُ السترِ للخطايا والقَبول للتوبةِ التي جعلَ بابَها مفتوحًا للتائبين حتى تطلُع الشمسُ من مغربِها.
وهذا شأنُ المُتقين، وسبيلُ المُخبتين، وطريقُ من خشِيَ الرحمنَ بالغيبِ، ذلك هو الذي أعقبَهم عند ربِّهم مغفرةَ الذنوبِ بالسترِ الجَميل، وبرفعِ المُؤاخَذة والإكرامِ بإدخالِهم الجنةَ دارَ السلام خالدين فيها، ونِعمَت الجنةُ وروضاتُها ونعيمُها، ثوابًا للعامِلين المُخلِصين لله في أعمالهم، المُبتغين بها وجهَه - سبحانه -، والمُتابعين فيها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، والمُهتدين بهديِه، والمُستنِّين بسُنَّته.
وما أجدرَ كلَّ عاقلٍ حريصٍ على حيازةِ الخيرِ لنفسِهِ، وعلى صيانتِها من التردِّي في وحدةِ الباطلِ في كلِّ صُورهِ المُفضِيَةِ إلى التَّبابِ، المُورِثةِ للخُسرانِ المُبين في الدنيا ويوم يقومُ الناسُ لربِّ العالمين، ما أجدَرَه أن ينهَجَ هذا النهجَ، ويسيرَ هذا السيرَ، ويمضِيَ على هذا الطريقِ.
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملكُ الحقُّ المُبين، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خاتمُ النبيين وخيرُ خلقِ الله أجمعين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحابتهِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن من أظهرِ صفاتِ المُتقين التي نالُوا بها الدرجاتِ العُلَى عند الربِّ الكريمِ: دوامَ استِحضارِهم عظمَةَ خالقِهم - سبحانه - وعظيمَ حقِّه عليهم، ذلك الاستِحضار الذي أورثَهم استِحياءً منه، وهيبةً له، ومحبَّةً وشوقًا إلى لقائِه، ذلك الشوقُ الذي أعقبَهم كمالَ حِرصٍ على العملِ بطاعتهِ، والنُّفرةِ من معصيتِهِ، والتزوُّد بخيرِ زادٍ يصحَبُهم في سيرِهم إليه - سبحانه -، إنه زادُ التقوى الذي أمرَهم به - عز وجل - بقوله: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[البقرة: 197].
ولا عجبَ أن يكون المُتزوِّدون بهذا الزادِ خيرَ الناسِ وأفضلَ الخلقِ بعد النبيين، وأجلَهم قدرًا، وأنبَهَهم ذِكرًا، وأحراهُم بنَيْلِ كلِّ خيرٍ عاجلٍ أو آجلٍ، وأجدَرَهم بالسعادةِ والرِّيادةِ، وأحظاهم بمحبَّةِ الله والناسِ أجمعين.
فاتقوا الله - عباد الله -، واعمَلوا على التخلُّق بصفاتِ المُتقين، وانتهاجِ نهجِهم، وسُلُوكِ سبيلِهم؛ تكونوا من المُفلِحين الفائزين بمغفرةٍ من ربِّكم وجنَّةٍ عرضُها السماوات والأرضُ.
واذكروا على الدوامِ أن الله تعالى قد أمرَكم بالصلاةِ والسلامِ على خيرِ الأنامِ، فقال - في أصدقِ الحديثِ وأحسنِ الكلامِ -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.
اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد، يا من إليه المرجِعُ يوم المعاد. اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم احفَظ المسلمين في كل مكان، اللهم احفَظهم من الفِتَن، وقِهِم شرَّ الفِتَن ما ظهَرَ منها وما بطَنَ.
اللهم احفَظ المسلمين في سُوريا وفي مصر وفي اليمن وفي ليبيا وفي كل أمصارهم ودِيارِهم، وقِهِم شرَّ الفِتَن، اللهم قِهِم شرَّ الفِتَن واحقِن دماءَهم، اللهم قِهِم شرَّ الفِتَن واحقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وأصلِح ذاتَ بينهم، وألِّف بين قلوبِهم يا رب العالمين، وكُن لهم، اللهم كُن لهم، وارحَم ضعفَهم، واجبُر كسرَهم، وارحم موتاهم، اللهم ارحَم موتاهم، واشفِ جرحاهم، اللهم ارحَم موتاهم، واشفِ جرحاهم، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفِتَن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفِتَن ما ظهَر منها وما بطَنَ.
اللهم احفَظ هذه الديارَ السعودية من كل سوءٍ، واجعلها أمنًا ورخاءً واستِقرارًا ومثوًى للمُسلمين أجمعين إلى يوم الدين يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وآلهِ وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 01-09-2012 11:50 PM

خطر الجهر بالمعاصي والذنوب
ألقى فضيلة الشيخ صلاح البدير - حفظه الله - خطبة الجمعة 12/2/1433هـ بعنوان: "خطر الجهر بالمعاصي والذنوب"، والتي تحدَّث فيها عن خطر الجهر بالمعاصي وفضح المُسلمين وعدم سترهم، وبيَّن متى يُذاع فيها أمرُ العاصِي ومتى لا يُذاع، وشدَّد على ضرورة رفع أمره إلى وليِّ الأمر في حال مُجاهرته وتشهيره بالمُسلمين.

الخطبة الأولى
الحمد لله، آوى إلى من إلى لُطفه أوَى، وداوَى بإنعامه من يئِسَ من إسقامه الدوا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له حرَّم العدوان والبغيَ والأذى، وأمرَ بالسِّتر والزكاءِ والحيا، وأشهد أن نبيَّنا وسيدنا محمدًا عبده ورسوله من اتبعَه كان على الخير والهُدى، ومن عصاه كان في الغوايةِ والرَّدَى، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه معادِن التقوى وينبوع الصَّبَا، صلاةً تبقَى، وسلامًا يَترَى.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
بالتقوى تحلُّ الخيرات، وتنزلُ البركات، وتندفعُ الشرور والآفات، وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الزمر: 61].
أيها المسلمون:
يتصوَّن المؤمنُ عن كل فعلٍ تعود عليه فيه سُبَّة، ويعلَقُ به منه عارٌ، وتلحَقُه به دنيَّةٌ ومعاذَة، ورُبَّ سخطةٍ جلَبَت فضيحةً لا تُطفَأُ نارُها، ولا يخمُدُ أُوارُها.
وموتُ الفتى لم يُعطَ يومًا خسيفةً
أعفُّ وأغنى في الأنامِ وأكرمُ
والعبدُ يسمُو ويهفو، والله يمحو ويعفو، والعبدُ يُذنِبُ ويفجُر، والله يغفِرُ ويستُر، والله حليمٌ حيِيٌّ ستِّير.
وهو الحيِّيُّ فليس يفضَحُ عبدَه
عند التجاهُر منه من عصيانِ
لكنه يُلقي عليه سِترَه
فهو الستِّيرُ وصاحبُ الغُفرانِ
وكيف يُتصوَّرُ الأمرُ لو كانت الخلَوات بين الخلقِ بادية، والغدَرات على الناسِ غير خافية؛ فعن قبيصةَ بن عقبة قال: بلغ داودَ الطائيَّ أنه ذُكِر عند بعضِ الأمراء فأثنى عليه، فقال: "إنما نتبلَّغ بستره بين خلقه، ولو يعلمُ الناسُ بعضَ ما نحن فيه ما ذلَّ لنا لسانٌ أن نُذكَر بخيرٍ أبدًا".
فلله الحمدُ على سِتره الجميل وبرِّه الجزيل.
أيها المسلمون:
ومن شعثَه الهوى، وضعُف عن المُجاهدة، ولم يزَع النفسَ عن الجهل فليستتِر بسترِ الله تعالى، ولا يُجاهِر بمعصيته، ولا يُعلِن بفُجوره، ويلزَمُه مع ذلك التوبةُ والإنابةُ والندمُ على ما صنَع، والإقلاع عما فعل.
أخرج مالكٌ مُرسلاً، والحاكمُ، والبيهقيُّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أصابَ شيئًا من هذه القاذورات فليستتِر بسترِ الله تعالى؛ فإنه من يُبدِ لنا صفحتَه نُقِم عليه كتابَ الله تعالى».
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «كلُّ أُمتي مُعافًى إلا المُجاهِرين، وإن من المُجاهَرة أن يعملَ الرجلُ بالليل عملاً ثم يُصبِحُ وقد ستَرَه الله، فيقول: يا فلان! عملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد باتَ يستُره ربُّه، ويُصبِحُ يكشِفُ سترَ الله عليه»؛ متفق عليه.
فيا عجبًا ممن يُفاخِرُ بفواحِشِه وجرائمِه وقبائحِه، يقُصُّها على أقرانه، ويُزيِّنُها لأصحابه، نعوذُ بالله من الضلالة والجهالة والغواية.
أيها المسلمون:
ومن الناسِ من تهفُو نفسُه إلى معرفةِ الخفايا والأسرار، وتتبُّع الحوادِث والأخبار، فالحذَرَ الحذَرَ! فإن طالبَ الوديعةِ خائن، وخاطبَ السرِّ عدوّ، ومُتتبِّع الأخبار غادِر.
ونبيُّنا وسيدُنا محمد - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إني لم أُومَر أن أنقُبَ عن قلوبِ الناس ولا أشُقَّ بطونَهم»؛ متفق عليه.
أيها المسلمون:
ودينُكم دينُ السترِ والتزكيةِ والنصيحة، لا دينُ الهتكِ والفضحِ وإشاعةِ الرذيلة، فأظهِروا المحاسِن والممادِح، واستُروا المساوئَ والقبائِح، وأشهِروا الخيرَ والنصائح، وغطُّوا العيوبَ والفضائِح.
ومن علِمَ من مسلمٍ قُصورًا أو فُجورًا فلا يُظهِر للناس زلَّته، ولا يُشهِر بين الخلق هفوتَه، ولا يكشِف سترَه، ولا يقصِد فضيحتَه؛ بل يُخفِي عيوبَه، ويستُر هناتِه؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يستُر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا سترَه الله يوم القيامة»؛ أخرجه مسلم.
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ومن سترَ مُسلمًا سترَه الله يوم القيامة»؛ متفق عليه.
قال ابن حجر: "معنى قوله: «سترَ مُسلمًا» أي: رآه على قبيحٍ فلم يُظهِره للناس، وليس في هذا ما يقتضي تركَ الإنكار عليه فيما بينه وبينه".
أيها المسلمون:
ومن تتبَع عورات المُسلمين والمُسلمات، والتمسَ معايِبَهم ومساوِئَهم وأظهرَها وأشهرَها بقصدِ فضحِهم، والإساءَة إليهم، وتشويه سُمعتهم، والحطِّ من قدرهم؛ فقد ارتكَبَ فعلاً مُحرَّمًا، وأمرًا مُجرَّمًا، لا يقدُم عليه إلا خسيسُ الطبع، ووضيعُ القدر، وساقطُ المنزلة.
فعن نافعٍ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: صعِد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبَرَ، فنادى بصوتٍ رفيعٍ فقال: «يا معشرَ من أسلمَ بلسانه ولم يُفضِ الإيمانُ إلى قلبه! لا تُؤذُوا المُسلمين، ولا تُعيِّروهم، ولا تتَّبِعوا عوراتِهم؛ فإن من تتبَّع عورةَ أخيه المُسلم تتبَّع الله عورتَه، ومن يتَّبِع الله عورتَه يفضَحه ولو في جوفِ رحلِه»؛ أخرجه الترمذي.
لا تلتمِس من مساوِي الناسِ ما ستَروا
فيكشِفُ اللهُ سترًا من مساوِيكا
واذكُر محاسنَ ما فيهم إذا ذُكِروا
ولا تعِب أحدًا منهم بما فيكَا
ولما دفعَ هزَّان بن يزيد الأسلميُّ - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ماعزًا ليعترِف بالزنا، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: «واللهِ يا هزَّان لو كنتَ سترتَه بثوبِك كان خيرًا مما صنعتَ به»؛ أخرجه مالكٌ، وأحمد، وأبو داود، والحاكم.
وكم يسوؤُنا ما وقعَ فيه بعضُ الأبرار، ونحَى نحوه بعضُ الأشرار من إذاعة الأسرار، وإشاعة الخفايا والأخبار، وتتبُّع الزلاَّت والهفَوات، ونشر المعايِب والسَّقَطات، والتعيير والتشهير عبر المجالسِ والمجامِع والمُنتديات والجوّالات والمواقع والصفحات والقنوات ووسائل الاتصالات، حتى صارَت الفضائحُ والقبائحُ تُزفُّ للناسِ زفًّا؛ فهذه فضيحةُ فلان بن فلان، وهذه هفوةُ فلان بن فلان.
أيُّ حالٍ هذه؟! حُرمةُ المُسلِم تُنتَهك، وسرُّه يُذاع، وذنبُه يُشاع، وعِرضُه يُباع، مرتعٌ وخيم، وعملٌ ذميم، عمَّ وطمَّ، ولم يقتصِد أذاه على المفضوحِ وحده؛ بل ربما تعدَّاه إلى أسرته، وعشيرته، وقبيلته، وبلده ومُجتمعه، وربما أُخِذ البريءُ بجريرةِ المُجرِم، والنقيُّ بخطيئةِ العاصِي.
بل صارت تلك الأفعال سببًا للطعن في أهل الإسلام، وتشويه سُمعتهم، والنَّيل من عقيدتهم ودينهم وبلادهم، وتصغيرها وتحقيرها بين الأمم.
فاتقوا الله - أيها المسلمون -، وأظهِروا محاسِنَكم، أظهِروا قِيَمكم، أظهِروا شِيَمكم، وانشُروا برَّكم وخيرَكم وإحسانكم، وكفُّوا عن هذه المسلِك المُردية، والأفعال الشائِنة.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والبيِّنات والعِظات والحِكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


ابوحاتم 01-09-2012 11:51 PM



الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانِهِ، والشكرُ له على توفيقهِ وامتِنانِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لِشأنِه، وأشهد أن نبيَّنا وسيدَنا محمدًا عبدُه ورسوله الداعي إلى رِضوانِه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله وراقِبوه، وأطيعُوه ولا تعصُوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِيْنَ [التوبة: 119].
أيها المسلمون:
ومن كان ضررُه مُتعدِّيًا، وفسادُه باديًا، وأذاه ظاهرًا كمن كان داعيةً إلى بدعةٍ أو فتنةٍ، أو مُروِّجًا لرذيلةٍ، أو مُتعاطيًا للسحر والشعوذة والكِهانة، أو كان مُروّجًا للمُخدِّرات والمُسكِرات والمُنبِّهات والمُفتِّرات، أو كان ساعيًا لشقِّ عصا المُسلمين وتفريقِ جماعتهم وزعزعة استقرارهم وأمنهم، أو كان أمينًا على مصالحِ المُسلمين فخانَهم، أو أمينًا على صدقاتٍ أو أوقاف أو أيتامٍ فخانَ الأمانةَ فلا يحِلُّ السَّترُ عليه ووجبَ رفعُ أمره إلى وليِّ الأمر أو نوَّابه لقطعِ فساده وحماية المُسلمين من إفساده، وليس ذلك من الغِيبة المُحرَّمة؛ بل هو من النصيحة الواجبة.
سُئِل الإمامُ أحمد - رحمه الله تعالى -: إذا عُلِم من الرجل الفُجور أيُخبَرُ به الناس؟ قال: "لا؛ بل يُستَر عليه، إلا أن يكون داعيةً" يعني: لفُجُوره.
أيها المسلمون:
إن ثمرةَ الاستِماع الاتِّباع، فكونوا من الذين يستمِعون القولَ فيتَّبِعون أحسنَه.
ثم صلُّوا وسلِّموا على أحمدَ الهادي شفيعِ الورَى؛ فمن صلَّى عليه صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.
صلَّى الله عليه ما حنَّت الدُّجَى
وأطلَعت الأفلاكُ في أُفقها فجرًا
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيِّنا وسيدِنا محمدٍ، وارضَ اللهم عن آلِه الأطهار، وصحابتهِ الأخيار من المُهاجرين والأنصار، وعنَّا معهم بمنِّك وجُودك ورحمتك يا عزيزُ يا غفَّار.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمنَّا في أوطننا، وأصلِح أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقِّ والنصر والتمكين إمامَنا ووليَّ أمرنا.
اللهم من أرادنا أو أراد بلادَنا أو أراد بلادَ المسلمين بسوءٍ اللهم فأشغِله بنفسه، واجعل كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه في تدميره، اللهم اقتُله بسلاحه، وأحرِقه بناره، واكشِف سِرَّه، واهتِك سترَه، وافضَح أمرَه، واكفِنا شرَّه، واجعله عبرةً، يا رب العالمين.
اللهم كُن لإخواننا في سورية ناصرًا ومُعينًا، اللهم كُن لإخواننا في سورية ناصرًا ومُعينًا، ومُؤيِّدًا وظهيرًا، اللهم انصُرهم على القتلةِ المُجرمين، اللهم انصُرهم على القتلةِ المُجرمين، والخَونة الظالمين يا رب العالمين.
اللهم عليك بالطغاة المُجرمين، اللهم بدِّد جمعَهم، وفرِّق شملَهم، وخالِف كلمتَهم، اللهم أرسِل عليهم أمرًا من عندك، وجندًا من جُندك يدفعُ شرَّهم، ويقتلِع ضُرَّهم يا رب العالمين.
اللهم انقطعَ الرجاءُ إلا منك، وخابَت الظنونُ إلا فيك، وضعُف الاعتمادُ إلا عليك، اللهم نجِّ إخواننا المُستضعفين في سوريةَ يا رب العالمين، يا كريم يا رحيم، يا كريم يا رحيم، يا كريم يا رحيم نجِّهم من القوم الظالمين يا رب العالمين.
اللهم طهِّر المسجدَ الأقصى من رِجسِ يهود، اللهم انصر إخواننا في فلسطين على اليهود الغاصبين.
اللهم ألِّف بين قلوبِنا، وأصلِح ذات بيننا، واهدِنا سُبُل السلام، وأخرِجنا من الظلمات إلى النور، ونقِّنا من الذنوب والخطايا يا رب العالمين.
اللهم مُنَّ على جميع أوطانِ المسلمين بالأمن والاستقرار يا رب العالمين.
اللهم اشفِ مريضَنا، اللهم اشفِ مريضَنا، اللهم اشفِ مريضَنا، اللهم عافِ سقيمَنا، اللهم عافِ سقيمَنا، اللهم قوِّ ضعيفَنا، اللهم قوِّ ضعيفَنا، اللهم أغنِ فقيرَنا، اللهم اجبُر كسيرَنا، اللهم ارحم ميِّتَنا، اللهم ارحم ميِّتَنا، اللهم ارحم ميِّتَنا، واجبُر كسيرَنا يا رحيمُ يا رب العالمين.
عباد الله:
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
فاذكروا الله العظيمَ الجليلَ يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، ولذكرُ الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

ابوحاتم 03-22-2012 04:58 PM

الرؤى والأحلام في ضوء الكتاب والسنة
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الرؤى والأحلام في ضوء الكتاب والسنة"، والتي تحدَّث فيها عن الرؤى والأحلام وأحكامها وأقسامها في ضوء الكتاب والسنة، وبيَّن شطَط ذوي الأهواء الذين يعبِّرون الرُّؤى والأحلام بلا علمٍ ولا حلمٍ، وحذَّر من اتباع سُبُلهم والسير على تأويلاتهم.

الخطبة الأولى
الحمد لله، تفرَّد بالخلق والقضاء تدبيرًا وإحكامًا، أحمدُه - سبحانه - أظهرَ بديعَ آياته في عباده يقظَةً ومنامًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له توحيدًا للباري وإعظامًا، شهادةً نرجُو بها عِزًّا للعلياء تسامَى، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله زكَّى الله به أرواحًا وأرشدَ أفهامًا، صلَّى الله عليه أصدقِ البريَّةِ مرائيَ وأحلامًا، وعلى آله الطيبين نفوسًا الراجحين أحلامًا، وصحبِهِ الغُرِّ الميامين الأُلَى تواصَوا بالحق والهُدى بيانًا واعتصامًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرومُ من الجِنان منزلاً عليًّا ومُقامًا، وسلِّم ربَّنا تسليمًا كثيرًا عديدًا مُبارَكًا كريمًا إلى يوم الدين مديدًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
اتقوا الله - تبارك وتعالى -، واعلموا أن تقواه - عز وجل - هي السراجُ المُنير في حُلَك الدُّجَى، والمُعتصَمُ الوثيقُ لذوي الحِجَى، والمِعراجُ السنِيُّ عند الضراعة والالتِجا، وبها الظَّفَرُ بالرغائب والرَّجا، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[البقرة: 194].
سرَى أهلُ التُّقَى ليلاً وجَدُّوا
وفازوا بالوُصولِ ولاحَ وعدُ
ولم تلحَق بهم أو تستعِدُّ
ومن لك بالأماني وأنت عبدُ
أيها المسلمون:
لا يرتابُ أهلُ الإيمان أن شريعةَ الإسلام قصدَت إلى حفظِ الدين والسموِّ بالعقول والأفهام، ونأَت بأتباعها عن مسالكِ الأضاليل والأوهام، وإنه بالتدبُّر في دفتر الأكوان يرتدُّ إلينا بصرُ الإعجاز والبُرهان بأعظم حُجَج القُرآن: أن الإنسان هو أكرمُ الجواهر بما أودعَ الباري فيه من آياته البواهِر.
ومن ذلكم: آيةٌ زخِرَت بالعِبَر، وتعلَّق بها جمٌّ غفيرٌ من البشر، وحارَت في دلائلها الفِكَر، عجزَ دون تجليَةِ حقائقها العالِمون، وشطَّ عن حدِّها العارِفون، أبحَروا في أسرارها وخوافيها، فاشتجَرَت مذاهِبُهم دون كُنهها وأنَّى تُوافِيها؛ لأن أقوالهم عطِلةٌ عن البُرهان، فأشبَهَت الهَذَيان.
لكن الحبيبَ - بأبي هو وأمِّي - عليه الصلاة والسلام - قد أوضَحها وجلاَّها، فتدلَّت لنا كالشمسِ في ضُحاها، إنها - يا رعاكم الله -: آيةُ الرُّؤى والأحلام، أوان السُّبات والمنام، لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ[الفتح: 27].
وفي بيان معانيها وأقسامها وماهيَّتها ومرامِها يقول - صلى الله عليه وسلم -: «الرُّؤيا ثلاثة: فرُؤيا صالحة بُشرى من الله، ورُؤيا تحزينٌ من الشيطان، ورُؤيا مما يُحدِّثُ به المرءُ نفسَه»؛ رواه البخاري، ومُسلمٌ، واللفظُ له.
أقسامُها ثلاثةٌ عن النبي
أولُها: بُشرى الإلهِ الأقربِ
والثاني: تحزينٌ من الشيطانِ
وثالثٌ من همَّةِ الإيمانِ



إخوة الإسلام:
وتنويهًا بمنزلة الرُّؤيا الشريفة وحالتها المُنيفة؛ فقد بوَّب أئمةُ الحديثِ في الصِّحاح والسنن أبوابًا في الرُّؤى وتعبيرها، يقول - صلى الله عليه وسلم -: «الرُّؤيا الصالحة جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جُزءًا من النبوَّة»؛ خرَّجه الشيخان.
ويقول - عليه الصلاة والسلام -: «لم يبقَ من النبوَّة إلا المُبشِّرات». قالوا: وما المُبشِرات يا رسول الله؟ قال: «الرُّؤيا الصالحة»؛ رواه البخاري ومسلم.
ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه - رضوان الله عليهم -: «من رأى منكم رُؤيا فليقُصَّها أعبُرُها له»؛ رواه مُسلم.
وما ذلك إلا تشوُّفًا منه - عليه الصلاة والسلام - لظهور الإسلام وسُطوعه، واقترابِ عِزَّته ولُموعه، ولكن أصدَق الناسِ رُؤيا أصدقُهم حديثًا، وهم أهلُ الإيمان والصلاح.
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «إذا اقتربَ الزمانُ لم تكَد رُؤيا المؤمنِ تكذِب، وأصدقُهم رُؤيا أصدقُهم حديثًا»؛ متفق عليه.
قال الإمام الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وقد يندُرُ خلافُ ذلك".
معاشر المؤمنين:
وفي أعقابِ الزمن ولما بعُدَ كثيرٌ من الناس عن آثار النبوَّة، وفي عصرِنا الصاخِب بالفضائيات، الموَّار بالتِّقانات تصدَّرَ لهذا العلمِ العويصِ الغيبيِّ، والفنِّ اللطيفِ السنِيِّ ثُلَّةٌ من العابِرين، وطرقَ مضائِقَه الكأداء فئةٌ من المُتعالِمين - هداهم ربُّ العالمين -، فعبَروا المرائي على ما يسُرُّ الرائي وفق الحَدس والأهواء دون رَيثٍ أو إبطاء، وكأنَّ أحدهم ابنُ بَجدتها، وطلاَّعُ أنجِدتها، تراه من جزمِه كأنما يعبُر من وحيٍ.
فكم من أضغاثِ الأحلام تُبنَى عليها الخيالات والأوهام، وتطيشُ بسوء تعبيرها رواجِحُ العقول والأفهام، فتهدِمُ الحقائق، وتُفكِّكُ أوثقَ العلائِق، فيُصبِحُ الأوِدَّاء في تعاسةٍ وشقاء، والأزواجُ والآباء في عنَتٍ وعناء.
فسُبحان الله - عباد الله -، فدامةٌ في الاستِعبار وإسفاف، وتمحُّلٌ في التعبير واعتِساف، وإفراطٌ في رشقِ المُغيَّبات وإسراف، دون تنزُّهٍ عن أموال الناس أو استِعفاف.
ربَّاه ربَّاه؛ كم من كريماتٍ أوانِس غدَينَ بسبب تجاسُر وجُرأة العابِرين قعيدَاتِ البيوت عوانِس، ورُبَّ داءٍ أضرُّ منه الدواءُ، وآخرُ رأى في غسَق الأسحار من الرُّؤَى الأجَلْ فجعل منها معقِد الأملْ، وخفَّ إلى وثير التواكُل والتواني، يرصُدُ فجأةَ الثراء وبلوغ الأماني، وتجاهلَ المغرورُ قولَ العزيز الغفور: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا[الملك: 2].
أمة الإسلام:
وكم همُ الذين أسلَسُوا قِيادَهم لبوارِق الرُّؤَى تبني أمجادَهم وتتولَّى إسعادَهم؟!
وكم همُ الذين زُعزِعَت بيوتُهم الهانئة بالشُّكوك والهواجِس بسببِ تعابير جارِحة؟! وآخرون اغتالَت نفوسَهم المُطمئنَّة الغُمَمُ والوساوِسُ بتفسيراتٍ كالِحة.
ومن الأسَى أن يتوغَّل هذا الوهمُ لدى أقوامٍ اتَّخَذوا المنيَّ مطيَّةً لبعض التكليفاتِ الإلهية، والإرهاصات الربانية، والاستِنباطات الشرعية، والله تعالى يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا[المائدة: 3].
ومن المُقرَّر عند علماء الإسلام: أن الرُّؤى والأحلام لا تُبنى عليها الأحكام.
يقول الإمام الشاطبيُّ - رحمه الله -: "فإن الظواهِر قد تعيَّن فيها في حُكم الشريعة أمرٌ آخر، فلا يُعتمَدُ فيها على الرُّؤى النومية؛ فمثلُ هذا من الرُّؤى لا مُعتبَر بها في أمرٍ ولا نهيٍ، ولا بِشارةٍ ولا نِذارة؛ لأنها تخرِمُ قاعدةً من قواعد الشريعة، ولو جازَ ذلك لجازَ نقضُ الأحكام بها وإن ترتَّبَت في الظاهر مُوجِباتُها، وهذا غيرُ صحيحٍ بحالٍ".
عباد الرحمن:
أيها العابِرون! حنانَيكم بأنفسكم وبالمُسلمين حنانَيْكم؛ فتأويلُ الرُّؤيا بمنزلة الفتوى من الأهمية والمكانة، وفي التنزيل العزيز: أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ[يوسف: 43]، فسمَّى تعبيرَ الرُّؤى فتوى، وفي ذلك من الخُطورة ما ترتعِدُ من حوله الفرائِصُ.
فلا تُخاضُ غِمارُ الرُّؤَى إلا بفهمٍ وعلمٍ وبصيرةٍ نافِذةٍ وحلمٍ، ولا يعبُرُها إلا حاذِقٌ خفيٌّ، أو ماهرٌ نقيٌّ، أو عالِمٌ تقيٌّ قد علِمَ شُروطَها وضوابِطها، ورُموزَها وروابِطها.
يقول - صلى الله عليه وسلم -: «لا تقُصُّوا الرُّؤيا إلى على عالِمٍ أو ناصحٍ»؛ أخرجه الترمذي من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ولا تُؤوِّل ما رأيتَه على
من هو من علمٍ وحلمٍ قد خلا
سُئِل إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس - رحمه الله -: أيعبُرُ الرُّؤيا كلُّ أحد؟ فقال - رحمه الله -: "أبالنبوة يُلعَب؟!".
ومن أسفٍ؛ أن كثيرًا من الناس قد أسلَسُوا قِيادَهم لبوارِقِ الرُّؤَى تبني أمجادَهم، لا يعبُرُ الرُّؤيا إلا من يُحسِنُها؛ فإن رأى خيرًا أخبرَ به، وإن رأى مكروهًا فليقُل خيرًا أو ليصمُت.
الله أكبر، الله أكبر، ما أحكمَها من عبارة، وما أبلغَها من إشارة!
واكتُم عوارَ الناسِ إن عبَّرتَ
واحذَر من الإعجابِ إن أصبتَ
وغلِّبِ الأرجحَ والأقوى اعتبِر
إذ في المنامِ الخيرُ والشرُّ حضَر
ألا فليُدرِك ذلك الذين ارتبؤوا ثبَجَ الفضائيات بُكرةً وعشيًا، يبتغُون حصدَ الأموال شِبَعًا ورِيًّا، والله - عز وجل - يقول: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ[البقرة: 188].
وقد أتوا شيئًا فريًّا؛ حيث أمطَروا العبادَ بأوهام السرَّاء ومِحَن الضرَّاء التي تؤُزُّ المُسلمَ إلى سيِّئِ التفكير، والتشاؤُم في التدبير.
فكفى استِغفالاً للعوام، وتلاعُبًا بقاصِرات العقول والأفهام، واستِنزافِ الجُيوبِ بتجارة الأوهام؛ فلم يكن من هديِ السلفِ الانتِصابُ لهذا المقام، فضلاً عن الترويجِ له والاتِّجار به عبرَ رسائل الخيالات والأحلام في وسائل وقنوات الإعلام.
وإنك لواجِدٌ في القنوات الفضائية من ذلك ما يتملَّكُك منه العجبُ العُجابُ، وإن تعجَبُوا - يا رعاكم الله - فعجَبٌ هذا التهافُت المذموم والتسابُق المحموم في هذا المجال الموهوم، والله وحده المُستعان.
أيها المُستعبِرون:
توكَّلوا على الله في عزمِكم وجميع الأمور، ولا تصُدَّنكم عن العلياء رُؤى الغرور، فإنها لا تضُرُّ - بإذن العزيز الغفور -؛ لما وردَ في الصحيح المأثور: قوله - عليه الصلاة والسلام -: «إذا رأى أحدُكم ما يكرَه فليتعوَّذ بالله من شرِّها - أي: الرُّؤيا - ومن شرِّ الشيطان، وليتفُل عن يساره ثلاثًا، ولا يُحدِّثْ بها أحدًا، فإنها لا تضُرُّه»؛ رواه البخاري ومسلم.
وبنحوِ هذا الضابط العاصِم يقول الإمام محمد بن سيرين نِحريرُ المُعبِّرين - رحمه الله -: "اتَّقِ الله وأحسِن في اليَقَظة، فإنه لا يضُرُّك ما رأيتَ في النوم".
ولا يقُصُّ ما رأى على أحد
فلا يضُرُّ عن الهادِي ورَد
أمة التوحيد والاتباع:
مصائرُ الخلق بيد الله - عزَّ اسمُه -، وهي أجلُّ وأعظمُ من أن تُرتَهَن في مرائٍ مشوبة، وتأويلاتٍ بالدرهم مثوبة، على مرأى العالَم وسمعه بما يهتِك أدبَ الكتمان والاستِمهال، ويعسُر دونه التحرِّي في التعبير والاستِفصال.
وإن الإعلام الهادفَ المسؤول هو الوثيقُ الإيمانَ برسالته البنَّاءة، عظيمُ المُغالاة بها، الإعلامُ الذي يُزكِّي الأوراحَ ويرتقي بالأمم إلى الكمال الذي لا تُحدُّ آفاقه، وذلك الذي نصبُو إليه من تأصيل مُجتمعاتٍ ذات قوَّةٍ إيمانية ورجاحةٍ عقلية ومناعةٍ فكرية، تتأبَّى عن الانسِياق في الاستِهلاك والشهرة والابتِزاز؛ بل تتوشَّى بالرَّصانة والوشْي والاعتِزاز.
ولتحقيقِ ذلك لا بُدَّ من تنادي حُرَّاس العقيدة، وحُماة المِلَّة، والأخيار والجِلَّة لمحو فوضَى العابِرين والمُستعبِرين ومغبَّاتها، وضجيجِها ومعرَّاتها، وضبطِها في المُؤهَّلين والأكفاء دون الدُّخَلاء الراكِضين شطرَ الشهرة والأضواء الذين رنَّقُوا سلسالَ هذا العلمِ النَّمير بالتغيير والتكدير، مُتجاسِرين على ما استأثَرَ به العزيزُ القديرُ، وأن تُستنفَرَ المُؤسَّساتُ والطاقاتُ للحدِّ من غُلَواء هذا التيَّار الزخَّار حِيالَ رسُوخنا العقديِّ، وتميُّزنا الاجتماعي، وتُراثِنا الثقافيِّ، ورخائنا واستقرارنا الأمنيِّ، وإنقاذ المُجتمعات من مُنزلَقٍ قد يكون عميقًا، ولكنه يُوشِكُ أن يكون على طرَفِ الثُّمام حقيقًا.
ما كلُّ ماءٍ كصدَّاءٍ لوارِدِه
نعَم، نعم ولا كلُّ نبتٍ فهو سَعدانُ
ولكنَّ الحزمَ مِلاكُ الأمور وأساسُها، وضبطُها نِظامُها ونِبراسُها.
وفَّق الله الجميعَ لصالح القول وصالح العمل، وبلَّغنا أزكى الرجاءِ وأسنَى الأمل، إنه - سبحانه - على ذلك قدير، وبالإجابةِ جدير.
بارك الله لي ولكم في القرآنِ، ونفعَني وإياكم بما فيه من الهُدى والبيان، ورزَقَنا التمسُّك بسنة المُصطفى من ولدِ عدنان، وجنَّبَنا الانسِياقَ خلفَ الأضاليل والأوهام، إنه خيرُ مسؤول، وأكرمُ مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المُسلمين والمُسلمات من جميع الذنوب والخطيئات، فاستِغفروه وتوبوا إليه واشكُروه، إن ربَّنا لغفورٌ شكورٌ.

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا دائمًا مُتصلاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلقَ العبادَ ليبلُوهم أيُّهم أحسنُ عملاً، شهادةً تُبلِّغُ من رِضوان ربِّنا الأمَلا، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه هدانا سُبُل الهُدى والخير ذُلُلاً، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آلهِ البالغين ذُرَى الحق لا يبغُون عنها حِولاً، وصحبِه الأُلَى كانوا في التُّقَى أنموذجًا ومثلاً، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واعتصِموا بحبله المتين عن الآفات والمُلِمَّات، واحذَروا التشبُّث بأضغاث الأحلام والمنامات؛ ففيه الخُلفُ لهديِ خير البريَّات.
إخوة الإيمان:
لا يخفَى على شريفِ علمِكم أن التهافُت اللهيفَ حِيالَ تعبير الرُّؤَى مع الغلُوِّ فيها والتهويل، والتواكُل عليها والتعويل، والخروجِ بها عن سنَن النبوَّة الوسَط إلى حيِّز الشطَط تأذُّنٌ لرواجِ الأباطيل واستِشراء الأقاويل، والافتِئاتِ على شرع الله دون سِنادٍ أو دليلٍ.
ومن احتبسَ عليها عقلَه وروحَه فعن هدي سيدِ الثَّقَلَيْن - عليه الصلاة والسلام - قد حادَ، ولن يبلُغ شروَى نقيرٍ من المُراد.
فيا أيها الحالِمون الواهِمون! ويا هؤلاء المناميُّون! علامَ اللهاثُ صوبَ العابِرين علامَ، فما كانت الأحلامُ أبدًا وقطُّ وعوضُ لارتِقاء النبوغِ والإبداع، وترادُف النِّعَم والإمراع، أو جلبِ الحظوظ والسعادة، والمنازلِ العليَّة السيَادة.
ولو أن الأسلاف الأخيارَ تكأكَؤوا على هذا المهيَع، وشغَلوا به مُدنهم وبوادِيَهم، ومُجتمعاتهم ونوادِيَهم على ما أنتم عليه لما حقَّقُوا نصرًا، ولما فتَحوا مِصرًا، ولا بلَغوا كمالاً ولا جلالاً؛ فكيف تُريدون نُكوصًا عنهم واختِلالاً، وهم الذين عاصَروا التنزيل، وشهِدوا التأويل؟!
فهل ضعُفَت الهِمَم إلى حدِّ إشغال الأمةِ بالمنامات والحُلوم عن مراقِي السعود في المعارِف والعلوم، غيرَ أن هذه الذِّكرى ليست اتهامًا للأشخاصِ والمقاصِدِ والنيَّات، فعلمُها عند ربِّ البريَّات، ولكنها نِذراةٌ بخُطورة هذه التصرُّفات، واعتِبار الآثار والمآلات.
وإنه نظرًا لتفشِّي هذه الظاهرة، وامتِطاءِ فئامٍ من الناس لصهوَتها وهم ليسُوا من أهلها؛ فإن المُؤمَّل إيجادُ مظلَّةٍ شرعيَّةٍ علميَّةٍ مُعتبَرةٍ تتولَّى الإشرافَ على هذه القضيةِ المُهمَّة، فتمِيزُ الأكفياءَ عن الأدعياء؛ حِفاظًا لبَيضَة الدين، وحِراسةً للمِلَّة والديانة، وسُمُوًّا بعقول أبناء الأمة. والله من وراء القصد، وهو المُوفِّقُ والهادي إلى سواء السبيل.
هذا، واعلَموا - رحمكم الله - أن أحسنَ الكلام وعظًا، وأشرفَه معنًى ولفظًا: كلامُ من أنزلَه تبيانًا وتولاَّه حِفظًا، فقال فيه قولاً كريمًا، من لم يزَل برًّا رحيمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
وقال الحبيبُ المُجتبى والرسولُ المُرتَضى: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا».
فأزكَى صلاةِ الله ما طافَ طائِفٌ
وما نِيطَ بالبيت العتيقِ حَطيمُ
على من هو الماحِي لكلِّ ضلالةٍ
نبيِّ الهُدى بالمؤمنين رحيمُ
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على سيدِ الأولين والآخرين، ورحمةِ الله للعالمين: نبيِّنا وقُدوتنا وحبيبِنا وقُرَّة أعيُننا محمدِ بن عبد الله، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، اللهم ارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الأئمةِ المهديين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، ذوي القدرِ العلِيِّ والشرفِ الجلِيِّ، وعن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام وانصر المسلمين، وارفع بفضلك كلمةَ الحق والدين.
اللهم اجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح ووفِّق أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا خادمَ الحرمين الشريفين، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وكن له على الحق مُؤيِّدًا ونصيرًا، ومُعينًا وظهيرًا، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عِزُّ الإسلام وصلاحُ المسلمين، وإلى ما فيه الخيرُ للبلاد والعبادِ، ووفِّق جميعَ ولاة المُسلمين لتحكيم شرعك واتباع سنة نبيك - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين.
اللهم انصر إخواننا المُستضعفين في دينهم في كل مكانٍ، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، واحفَظ أموالَهم وأعراضَهم.
اللهم احقِن دماءَ إخواننا المُسلمين في سُورية وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم كُن لإخواننا في فلسطين، وفي العراق، وفي كل مكانٍ يا أرحم الراحمين يا رب العالمين، ويا أكرم الأكرمين.
اللهم انصر إخواننا المُجاهِدين في سبيلك في كل مكان، اللهم أنقِذ المسجدَ الأقصى من براثِن المُعتدين المُحتلِّين، اللهم عليك بالصهايِنة المُحتلِّين، وسائر الظلمة والمُفسدين والطُّغاة؛ فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل عليهم بأسكَ الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم شتِّت شملَهم وفرّق جمعَهم، واجعلهم عبرةً للمُعتبِرين، وغنيمةً للمُسلمين يا رب العالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ، أنزِل علينا الغيثَ، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمين الأحياءِ منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 03-22-2012 05:02 PM

آداب المعاملات بين الزوجين
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن عبد الله بن حميد - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "آداب المعاملات بين الزوجين"، والتي تحدَّث فيها عن تماسُك المُجتمع واتصاله ببعضه، وأن لبِنَته الأساسية هي الأُسرة، وأن الزوجين هما رُكنا أيِّ أُسرة، وتوجَّه بالنصائح المهمة لكل زوجٍ وزوجة بضرورة التروِّي وإعادة النظر قبل اللجوء في حل المُشكلات إلى الطلاق، وقد أرشدَ إلى العديد من سُبُل العلاج المُتاحة قبل إيقاع الطلاق.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله دبَّر بحكمته شؤون العباد، وأوضحَ بفضله سبيلَ الرشاد، وقهرَ بحُجَّته أهل العناد، أحمده - سبحانه - وأشكره ونِعمُ ربنا بالشكر تزداد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الأشباه والأنداد، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خصَّه ربُّه بالمقام المحمود والحوض المورود في يوم المعاد، صلَّى الله وسلَم وبارَك عليه وعلى آله الطيبين الأسياد، وأصحابه البَرَرَة الأمجاد، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم التناد، وسلَّم تسليمًا كثيرًا مزيدًا مُتطاوِل الآماد.
أما بعد:
فأُوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله - عزَّ وجل -، فاتقوا الله - رحمكم الله -، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ[البقرة: 281]، فمن اتَّقى الحسابَ تورَّعَ في الاكتِساب، ومن قنِع باليسير هانَ عليه العسير، والأيامُ تُبلِي الأفعال، وتمحُو الآثار، وتُميتُ الذكرَ.
فاجتهِدوا في فعلٍ لا يَبلى، وذكرٍ لا يُنسَى، وآثارٍ لا تُمحَى؛ من الإيمان والإخلاص، وبذل المعروف، وحبِّ الناس؛ فقد جُبِلَت القلوب على حبِّ من أحسنَ إليها، وبلينِ الكلامِ تدومُ المودَّة، وبحُسن الخُلُق يَطيبُ العيشُ، وبخفضِ الجَناح تستقيمُ الأمور، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ[فصلت: 34، 35].
أيها المسلمون:
يقول الله - عزَّ شأنُه -: رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ[الأنبياء: 89]، الإنسانُ مدنيٌّ بطبعه، اجتماعيٌّ بفِطرته، يعيشُ مع الجماعة، يتأثَّرُ بها، ويُؤثِّرُ فيها، يُقيمُ علاقاته الاجتماعية بدءًا من طفولته المُبكرة مع أمه وأبيه، ثم أفراد أسرته وأقاربه وجيرانه، ليمتدَّ اتصالُه وتفاعُله في دوائر مُتصلة؛ في مدرسته، وسوقه، وعمله، وسائر أنحاء بلده، ومُجتمعه الكبير.
وتماسُك المُجتمع وسلامتُه ونموُّه وانسجامُه يتمُّ بإمداده بأعضاء فاعلين مُنسجِمين، وذلك يبدأُ - بإذن الله - من عتَبَة الأسرة؛ فهي اللَّبِنةُ الأولى في البِنية الاجتماعية، والمرأةُ والرجلُ شقيقان قرينان لهما دورهما المُشترك، والتمازُجُ في الأسرة والمُجتمع، فهما الزوجان والأبَوان والأخ والأخت، يعملان ويكدَحان ويُكافِحان من أجلِ عيشٍ كريمٍ، وحياةٍ سعيدةٍ مُستقرة، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ[البقرة: 35]، قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا[طه: 123].
ومن هنا؛ فإن الزواجَ والحياةَ الأسرية هي محلُّ الاهتِمام في ديننا، ومحلُّ العناية من علمائنا وأهل الفِكر والرأي فينا وعلماء الاجتماع والنفس؛ لأن هناءَ الزوجين واستقرارَهما واستمرارَهما هو هناءُ الحياة واستمرارُها، وسعادةُ المُجتمع واستقرارُه.
والزوجان شريكان كريمان جعل الله بينهما مودَّةً ورحمة، يخوضان مُعترَكَ الحياة، يُحقِّقان أهدافَهما الهدفَ تلوَ الأخرى، والزواج ليس رابطةً بين شخصين فقط؛ بل هو علاقةٌ وثيقةٌ بين أُسرتين وميثاقٌ غليظٌ بين زوجين، وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا[النساء: 21].
ميثاقٌ غليظٌ ليس من اليسير نقضُهُ؛ فالزوجان قبل الزواج كان لهما طبائِعهما وتصوُّراتهما وهواجسهُما ومخاوِفهما وآمالُهما، ناهِيكم بتأثير العادات والتقاليد والأعراف والمُستوى المعيشي والاجتماعي، وبعد الزواج يحتاجُ الزوجان إلى تكيُّفٍ وتأقلُمٍ وإعادةٍ للنظرِ في تصوُّراتهما وهوَاجسهِما ومخاوفهما وآمالهما، مما يحتاجُ معه كلُّ واحدٍ فيهما إلى التعديلِ والتقييم سواءً في ذلك الزوجان والأُسرتان والمُحيطون بهم.
أيها المسلمون:
الزوجان شريكان لا غريمان، ما كان في مصلحة الزوج فهو في مصلحة الزوجة، وما كان في مصلحة الزوجة فهو في مصلحة الزوج، ومن بعدهما مصلحة الأُسرة والأقارب والمُجتمع، فتعاوُنهما تبادُلٌ للمصالح بينهما، ولا مانع أن يختلفا في تقدير المصلحة ورُجحان رأيٍ على آخر عن تشاوُرٍ منهما وتراضٍ، ولكن يجبُ ألا يختلِفا على المصلحة العُليا وتقديرها وتقديمها، إنها الاحترامُ المُتبادَل، والمُحافَظةُ على تماسُك الأسرة، والتوافُق والتضحيةُ من الجانبين، والتنازُل المُتبادَل عن بعض المطالبِ الشخصية في الحياة الأُسرية.
إن الإدارة الحكيمة والنظرَ الواعي للمصالح وتقديرها واليقين أن المُستهدَف هو مصلحةُ الجميع؛ فالرِّبحُ للجميع، والخسارةُ على الجميع.
يجبُ إدارة الأُسرة بالرِّفق والمودة والصبر والتصبُّر والهدوء والروِيَّة والحوار الهادِف والتفاهُم المُحاط بالتسامُح.
يجبُ الابتِعادُ عن المُكابَرة ومفهوم النصر والهزيمة والرِّبح والخسارة، أو فرض الشخصية في الحياة الأُسرية، فليس في البيت مُنتصرٌ ولا مهزوم؛ بل النصرُ للجميع والهزيمةُ على الجميع.
السعادةُ ليست في وَفرة المال، ولا علوِّ الجاه، ولا غلَبَة واحدٍ على الآخر، ولكنها بالإيمان، وصفاء النفس، وراحة الضمير، والبُعد عن النفعية الشخصية البَحتة والأنانية القاتِلة، وابتِغاء رضا الله، ثم صلاح الأُسَر.
معاشر المسلمين:
في طبيعة الإنسان أنه في حال الغضب والاستِياء لا يذكُر إلا ما كان غيرَ حسنٍ، ويتصيَّد الأخطاء يرصُدُها، ويُكبِّر صغيرَها، ويُطيلُ قصيرَها، ويُعسِّرُ يسيرَها، مع أن من المعلوم أن أغلبَ بني الإنسان صوابُهم أكثرُ من خطئهم، وحسناتُهم تفوقُ سيئاتِهم، وإيجابياتهم تغلِبُ سلبياتِهم، ولكن في حال الغضب والكُره والسَّخَط لا يرى الغاضِبُ إلا السوءات، ولا يُظهِرُ الساخِطُ سوى الأخطاء، ويعمَى عن الحسنات والفضائل، ونبيُّنا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - يُنبِّهُ إلى هذه الطبيعة البشرية، فيُوصِي بقوله في الحديث الصحيح: «لا يفرَك مؤمنٌ مُؤمنةً، إن كرِهَ منها خُلُقًا رضِيَ منها آخر»؛ رواه مسلمٌ.
معاشر المسلمين:
الموضوع واسعٌ، والحديثُ مُتشعِّبٌ، والخوضُ فيه مهمٌّ، والعنايةُ به مُلِحَّة؛ بل إن قضيةَ الأُسرة ومُشكلاتها من أهم القضايا، وإن مما يُؤسَفُ له: أن الناسَ في بيوتهم، والأزواج في مُشكلاتهم ليس لهم تفكيرٌ في العلاج إلا في الطلاق.
التسرُّعُ في إيقاع الطلاق من غيرِ تروٍّ ولا فهمٍ للبواعِث ودراسةٍ للآثار والتَّبِعات، التسرُّع يُورِثُ الاكتِئاب والانعِزال واليأس والإحباط، وتتوارَدُ الأفكارُ والخواطرُ والشُّكُوك والوساوِسُ، فيفقِدُ صاحِبُه الاتزانَ في التصرُّف، والعدلَ في الحُكم، المُتسرِّعُ لا يتَّسِمُ بالثباتِ والاستِقرار؛ بل بالتقلُّب، وعدم الرَّصانة والتوازُن الاجتماعي.

الزوجُ لن يكون سعيدًا وهو يرى بيتَه يتهدَّمُ، وأُسرتَه تتناثَر، وحيويَّتَه تدوب، كيف يرعَى أبناءَه وبناته، إنه مُشتَّتُ الذِّهنِ مُوزَّعُ الفِكر.
الطلاقُ المُتسرِّعُ زلزالٌ أُسريٌّ يُهدِّدُ كيانَ الأُسرة، ويهدِمُ أركانَ البيت، وهل للبيت إلا رُكنان: الزوج والزوجة، والأبُ والأُمُّ؟!
معاشر الإخوة:
الطلاقُ من غير حاجةٍ حقيقيةٍ ولا أسبابٍ صحيحةٍ يُمثِّلُ مُشكلةً لا حلَّ لها؛ بل مُشكلةً مُتعدِّيةً لا تخُصُّ الطليقَين؛ بل تتعدَّى للأطفال، ثم أفراد الأُسرتين، ثم المُجتمع.
الطلاقُ المُتعجِّلُ فراقٌ لأُنسِ الصحبة والسَّكَن والسكينة والاستقرار، الخلافُ الناجِمُ عن الطلاق يتَّسِمُ بالعُنف والكراهية المُتبادَلة، ويُثيرُ المشاعِر العُدوانية بين الأطفال في فجوةٍ نفسيَّةٍ واسِعة تُباعِدُ بين الطفل وبين المُحيطين به يشعُرُ معها بعدم التقبُّل، والقُصُور، والإهمال، وفُقدان الحُبِّ والتقبُّل الأُسريِّ، وعدم الاهتمام بين الزملاء، مع الشعور بالحُزن والتشاؤُم، وعدم الشعور بقيمةِ الذات، والبُعد عن المُشارَكة والتفاعُل والتواصُل الاجتماعي، والفشل، الطفلُ يشعُرُ بالفشل وتأنيبِ الضمير ومُحاسَبةٍ داخليَّةٍ عنيفةٍ، وشعورٍ بالذنبِ والندَم يزيدُ في المُعاناة والعُزلة والانغِلاق.
الأولادُ في أُسرة الطليقين ينتمون إلى أُسرةٍ مُفكَّكةٍ مُتفرِّقة، الحنانُ فيها ضعيفٌ إن لم يكن مفقودًا، يفقِدون معه الأمن والحماية والاستِقرار؛ بل إنهم فرائِسُ صراع الوالدَيْن، سواءً بتجالُب الحضانة والرعاية، أو بتدافُعها والتخلِّي عنها.

وقد يسمعُ الأولادُ من أحد الوالدَيْن أو من كليهما في الآخر كلامًا غيرَ سديدٍ ولا حكيمٍ، مما يُفقِدُهم الثقةَ بأنفسهم ووالدَيْهم ومُجتمعهم، ومعلومٌ تأثيرُ ذلك كله على سُلُوكهم وتعامُلهم ودراساتهم وعلاقاتهم.
الوالِدان هما مدَدُ الأولاد بالعاطِفة والعقلانية والمُساعَدة في مسارات الحياة، ولا سيَّما في السنوات المُبكِّرة سنوات التنشِئة والتربية والتعليم، وبالانفِصال يفقِدُ الأولادُ التوجيهَ المُتَّزِن، ناهِيكم لما يتعرَّضُ له هؤلاء الأولاد من احتِمال الانحرافِ والجُنوحِ والوقوع في أحضان قُرناء السوء والبيئات الموبوءَة، والتخلُّف الدراسي، والأمراض النفسية، والتشرُّد، والمُخدِّرات، والتسوُّل، وانتشار الجريمة، وهي مُشكلاتٌ خطيرةٌ، وآثارٌ مُتعدِّيةٌ على المُجتمع كله.
أيها الأحِبَّة:
أما المرأةُ فإن ثقافة كثيرٍ من المُجتمعات فيها ثقافةٌ قاصِرة؛ بل خاطِئة، فالمُطلَقةُ عندهم مُدانةٌ في جميع الأحوال، تعودُ إلى البيت حاملةً مع متاعها جراحَها وآلامها ودموعها في مُعاناةٍ نفسيَّةٍ لا تكادُ تُطاق، هذه الثقافةُ الخاطِئة تُحاصِرُ المرأةَ المُطلَّقة بنظرةِ انتِقاصٍ ورَيبٍ، مما تشعُرُ معه أن السهامَ مُوجَّهةٌ إليها، يُشعِرونها بالذنبِ والفشلِ وخيبةِ الأمل، بل تشعُرُ وكأن المُجتمع يتنصَّلُ من مسؤوليته نحوَها ونحو أطفالها والحُنُوِّ عليهم.
وبعدُ، عباد الله:
فالطلاقُ على غير سُنَّةٍ بغيضٌ، يُولِّدُ حالةً نفسيَّةً كريهةً، ومُعاناةً أُسريَّةً ثقيلة، تنزِلُ بكلكَلِها على النفسِ والجسَدِ، فيهتزُّ الجسد، وينكسِرُ القلب، ويضيقُ الصدرُ، ويُحِسُّ صاحِبُه - رجلاً كان أو امرأة - بخيبةِ الأمل، والشعور بالقلق والنُّفرة.

حتى قالوا: إن الفراقَ بالطلاق أصعبُ منه بالموت، وإن كان كلاهما مُوجِعًا؛ لأن الفقدَ بالطلاق يُولِّدُ مُحاسبةً ورِيبةً ومسؤولية، أما الفراقُ بالموت فيُولِّدُ الحُزنَ والعطفَ والشفقةَ وألمَ الفراق، مع الحِفاظ على التوازُن النفسيِّ.
ألا فاتقوا اتلله - رحمكم الله -، وحافِظوا على بيوتكم وأولادكم وأُسَركم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[الطلاق: 1- 3].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.



الخطبة الثانية
الحمد لله، الحمد لله على سعة عطائه، والشكرُ له على جزيل آلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته ووحدانيته وصفاته وأسمائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبدُ الله ورسولُه رفعَ له ذِكرَه في أرضِه وسمائه، صلّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وأصحابه وأحِبَّائه، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم لقائه.
أما بعد، أيها المسلمون:
الإسلامُ كرِه الطلاق ونفَّر منه، وفي الحديثِ: «ما أحلَّ اللهُ شيئًا أبغض إليه من الطلاقِ»؛ رواه أبو داود بإسنادٍ متصلٍ صحيحٍ عن معروف بن واصِل، عن مُحارِبٍ، عن دِثارٍ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - مرفوعًا.
ولكن حين تكون الحاجةُ إليه فهو داءٌ مُرٌّ، أباحَه الإسلام بضوابطه؛ إذ الحياة الزوجية والمعيشة الأُسرية لا بُدَّ لها من أحد طريقين صالحين ناجِحين: فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ[البقرة: 229]، وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ[النساء: 130].
وكما أن سوء استِخدام الطلاق يُمثِّلُ مُشكلةً وأسى، فإن الإمساك بغير المعروف يُمثِّل ما هو أشدُّ وأقسى، الطلاقُ في الإسلام شُرِع ليكون فرَجًا ومخرَجًا وليس ضيقًا وشدَّة، حين تُسدُّ الطرقُ من المعالجة والإصلاح، وحين يتعذَّر تحقيقُ مقاصد الزواج القائمِ على المودَّة والسكَن والتعاوُن في الحياة، فإن الطلاق المُنضبِط بضوابطه الشرعية هو حلٌّ وليس مُشكلةً، لا يضيعُ أفرادُه، ولا يندَمُ فاعِلُه.
والإسلامُ حين شرعَ الطلاقَ وأباحَه نظَّمه تنظيمًا دقيقًا ليكون علاجًا ودواءً وحلاًّ، مُراعيًا المقاصِد الكُبرى من الاستِقرار والسعادة وحِفظ الكِيان، فالطلاقُ في الإسلام لا يكون إلا بعد استِنفاذِ وسائل الإصلاح والاستِصلاح، وحين تتعذَّرُ الحياةُ السعيدة والسكنُ والمودَّة.
الطلاقُ الحلُّ لا بُدَّ أن يسبِقَه مُمهِّداتٌ من التروِّي والمُراجَعة، والمُعالَجات من الوعظِ والهجرِ في المَضجَع، والتهديد من غير تعنيفٍ، والتحكيم، وإذا لم يُفِد ذلك كلُّه وصار التوجُّه إلى الطلاق فيُترقَّبُ طُهرٌ جديدٌ لم يقَع فيه مُعاشَرة، ثم بعد هذا الانتظار والترقُّب والتروِّي، ورُؤِيَ اللجوء إلى الطلاق فيكون طلاقًا رجعيًّا طلقةً واحِدةً.
الإسلامُ استبقَى مجالاً للحياة الزوجية بعد الطلاق لعلَّ مشاعِر المودَّة تعود، أعطى حقَّ الرجعةِ والمُراجَعة إذا كان الطلاقُ طلقةً واحِدةً أو طلقتين.
عباد الله:
وإذا حصلَ الطلاقُ وتمَّ الفِراق فليكن تسريحًا بإحسانٍ، كما أمرَ الله - عز وجل -، ومن الإحسانِ نسيانُ الهَفَوات، وتركُ تتبُّع العَثَرات، والصفحُ عن الزلاَّت، وقد بوَّب الإمام النسائيُّ في "سننه" في ذلك فقال: "بابُ النهي عن التِماس عثَرات النساء"، مُستدلاًّ - رحمه الله - بحديثِ: «نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يطرُقَ الرجلُ أهلَه ليلاً» - أي: يتخوَّنهم أو يتلمَّس عثَرَاتهم -؛ والحديثُ في البخاري.
هذا وهي في عِصمته؛ فكيف بعد الفِراق؟!
ومن التسريحِ بإحسانٍ: تجنُّب التجريحِ والقسوةِ وإظهار العُنف والشدَّة، فكفَى بالطلاق البَغيضِ قسوةً وعُسرًا، وقد سمَّاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كسرًا.
ومن التسريحِ بإحسانٍ: حِفظُ الأيام الجميلة، واللحظات الحانية، فهذا عقلٌ وحكمةٌ؛ بل بلسمٌ ودواءٌ يجبُرُ ألمَ الفُراق، ويُواسِي جراحَ الطلاق، وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ[البقرة: 237].
ومن التسريحِ بإحسانٍ: الإنفاقُ على الأولاد بسخاءٍ، سواءً كانوا في حضانة الأب أو الأم، ومع أن هذا واجبٌ ومسؤوليةٌ ولكنه كرمٌ وإحسانٌ ومُروءة.
يقول أيوب السختياني لأحد تلاميذه: "لو أعلمُ أن أبنائي يحتاجون إلى بَقلة ما جلستُ معكم ساعةً".
معاشر الأحِبَّة:
هذه بعضُ المُعالَجات والآداب في شؤون الأُسرة وتعامُلاتها، ألا فاتقوا الله - رحمكم الله -، وأصلِحوا ذاتَ بينكم، فحقٌّ على الأهل والمعارِف وكلِّ ذي علاقةٍ أن يكون عونًا وسنَدًا ماديًّا ومعنويًّا ليُخفِّف أعباءَ الطلاق وتداعياتها وآثاره.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على الرحمة المُهداة، والنعمة المُسداة: نبيِّكم محمدٍ رسول الله؛ فقد أمركم بذلك ربُّكم في محكم تنزيله، فقال - وهو الصادقُ في قِيلِه - قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد الحبيب المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاة والظلَمة والملاحدة وسائر أعداء الملَّة والدين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين، وألبِسه لباسَ الصحةِ والعافية، وأمِدَّ في عُمره على طاعتك، واجمَع به كلمةَ المسلمين على الحق والهُدى يا رب العالمين.
اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانَه وأعوانَه لما تُحبُّ وترضى، وخُذ بنواصِيهم للبرِّ والتقوى.
اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنَّة نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتَهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وأبرِم لأمةِ الإسلام أمرَ رُشدٍ يُعزُّ فيه أهلُ الطاعة، ويُهدَى فيه أهلُ المعصية، ويُؤمَرُ فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم عليك باليهود الغاصِبين المُحتلِّين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل بهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين، اللهم إنا ندرأُ بك في نُحورهم، ونعوذُ بك من شُرورهم.
اللهم وفِّقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبوابَ القبول والإجابة، اللهم تقبَّل طاعاتنا ودعاءَنا، وأصلِح أعمالنا، وكفِّر عنا سيئاتنا، وتُب علينا، واغفر لنا، وارحمنا يا أرحم الراحمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا، واجعل ما أنزلتَه قوةً لنا على طاعتك، وبلاغًا إلى حينٍ.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنَع عنا بذنوبنا فضلَك.
عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[يونس: 85]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار[البقرة:201].
سبحان ربك ربِّ العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-22-2012 05:06 PM

أسباب العقوبات العامة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "أسباب العقوبات العامة"، والتي تحدَّث فيها عن أسباب العقوبات العامة التي يُنزِلُها الله على الأمم، وذكر من أعظمها: الشرك بالله، والظلم، وانتشار الفواحِش، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأسباب، ودلَّل على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل لا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
ثم إن خيرَ الوصايا: الوصية بتقوى الله تعالى، فما جاوَرَت قلبًا إلا سلِم، ولا خالطَت عقلاً إلا رجِح، وما تلبَّس بها أحدٌ إلا صلح، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].


أيها المسلمون:
كل البشر يسعَون إلى الحياةِ الهانِئة السعيدة، ويُسخِّرون كل إمكاناتهم وطاقاتهم لتجنُّب أسباب الشقاء والعذاب؛ فضلاً عن الفناءِ والهلاكِ، فإذا تحقَّق لهم خيرٌ حافَظوا عليه بكل الوسائل وخافوا من فواته أو نقصِه.
وكم من أمةٍ كانت آمنةً مُطمئنَّةً تُجبَى إليها ثمراتُ كلِّ شيءٍ، ويأتيها رزقُها رغدًا من كل مكانٍ، لم يخفِق فيها قلبٌ من خوفٍ، ولم تتضوَّر نفسٌ من جوعٍ، فانقلبَت أحوالُها في طرفةِ عينٍ، فإذا بالنعمةِ تزول، وإذا بالعافيةِ تتحوَّل، وإذا بالنِّقمةِ تحِلُّ.
وكم حكَى الزمانُ عن دولٍ وأممٍ وأفرادٍ وجماعات أتَت عليهم عقوباتٍ تستأصِلُ شأفتَهم، وتمحُو أثرَهم، لا ينفعُ معها سلاحٌ ولا تُغني معها قوَّةٌ، وكلُّ أحدٍ من البشر له مدفعٌ ومنه حِيلة، ولا ملجأَ من ربِّنا ولا منجَا منه إلا إليه، فهو القويُّ القاهِر، والعزيزُ القادِر، وهو العظيمُ الذي لا أعظمَ منه.
ولله مع خلقهِ أيامٌ وسُنن؛ فأين ثمود وعاد؟ وأين الفراعِنةُ الشِّدادُ؟ أين من قدُّوا الأرضَ ونحَتوا الجبال، وحازوا أسباب القوة واحتاطوا للنوائِب؟ لما نسُوا اللهَ أوقعَ بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجودِ أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا، فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون[العنكبوت:40].
عباد الله:
إن سنةَ الله لا تُحابِي أحدًا، وليس لفردٍ ولا لمُجتمعٍ حصانةٌ ذاتيةٌ، وحين تُقصِّرُ أمةٌ في توقِّي أسباب المصائب العامة فإن عليها أن تتقبَّل نتيجةَ التقصير، والسعيدُ من اتَّعَظَ بغيره، وليست أمةٌ بمنأَى عن العذابِ إذا عقَدَت أسبابَه، ولا في مأمنٍ من العقابِ إن سلَكَت سبيلَه وفتحَت للذنبِ أبوابَه، ولذلك أكثرَ الله تعالى من وعظِ هذه الأمةِ بمصارعِ الأمم الغابِرة، وحذَّر الآمنين من مكرِه الذين لا يُقدِّرون اللهَ حقَّ قدره، ولا يقِفون عند نهيِه وأمرِه، فقال - عز وجل -: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيم، وقال - عز وجل -: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُون (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون[الأعراف: 97- 100].
إن الأمنَ من مكر اللهِ كبيرةٌ من الكبائِر؛ عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: "الكبائِرُ: الإشراكُ بالله، والأمنُ من مكرِ الله، والقنوطُ من رحمة الله، واليأسُ من روحِ الله"؛ رواه الطبراني والبيهقي.
ولهذا كان أعرفُ الخلقِ بربِّه وأخشاهم له - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، فسُئِل عن ذلك فقال: «ما يُؤمِّنُني أن يكون فيه عذابٌ، قد عُذِّبَ قومٌ بالريح، ورأى قومٌ العذابَ فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا[الأحقاف: 24]»؛ متفق عليه.
أيها المسلمون:
لقد أخبرَ - عليه الصلاة والسلام - عن أنواع المصائب التي كان يخشَى أن تنزل بأمَّته، وحذَّرَهم من أسبابِ نزولها، فقال: «يا معشر المُهاجِرين! خمسٌ إذا ابتُليتُم بهنَّ وأعوذُ بالله أن تُدرِكوهن: لم تظهر الفاحِشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فشَا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافِهم الذين مضَوا، ولم ينقُصوا المِكيالَ والميزانَ إلا أُخِذوا بالسنين وشِدَّة المَؤونَة وجَور السلطان عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا، ولم ينقُضوا عهدَ الله وعهدَ رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخَذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكُم أئمتُهم بكتابِ الله ويتخيَّروا مما أنزلَ اللهُ إلا جعلَ اللهُ بأسَهم بينهم»؛ أخرجه ابن ماجه، والحاكمُ وصحَّحه، ووافقَه الذهبيُّ.
فظهورُ الفاحِشةِ في واقعِ المُسلمين وفي وسائل الإعلام، والتطفيفُ في المُعاملات، ومنعُ الزكاةِ، وخِيانةُ الأمانة، ونقضُ العهود، وتحكيمُ الهوى ونبذُ الشريعة؛ تلك هي أكبرُ أسباب المصائب العامة التي إذا نزلَت بقومٍ لم يسلَم من وطأَتها أحدٌ.
ومن أسباب العقوبات العامة: ما أخبرَ عنه المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «في هذه الأمةِ خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ». فقال رجلٌ من المُسلمين: يا رسول الله! ومتى ذاك؟ قال: «إذا ظهرَت القَيناتُ والمعازِف، وشُرِبَت الخُمور»؛ رواه الترمذي.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "المسخُ واقعٌ في هذه الأمةِ ولا بُدّ، وهو في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلَبوا دينَ الله وشرعَه، فقلبَ الله تعالى صُورَهم كما قلَبوا دينَه، والمُجاهِرين المُتهتِّكين بالفسقِ والمحارِم، ومن لم يُمسَخ منهم في الدنيا مُسِخ في قبره أو يوم القيامة".
أيها المؤمنون:
إن المسؤولية في المُجتمع على كلِّ فردٍ فيه، وجاء الأمرُ باتقاءِ المصائب العامة مُوجَّهًا إلى كل أحدٍ، كلٌّ بحسَبِه، قال الله - عز وجل -: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً[الأنفال: 25].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أمرَ اللهُ المؤمنين ألا يُقِرُّوا المنكرَ بين ظهرانَيهم، فيعُمَّهم اللهُ بالعذابِ، يُصيبُ الصالحين منهم ما أصابَ الناسَ، يهلِكون مهلكًا واحِدًا، ويصدُرون مصادر شتَّى، يبعثُهم الله على نيَّاتهم".
عباد الله:
إن اتقاءَ هذه المصائب العامة لا يكونُ إلا بتوقِّي أسبابها، والظلمُ من أعظم أسباب العذاب العام، فبسببه هلَكَت الأممُ السالِفة والقرونُ الخالية، وبسببه تسقُط الدولُ، وتهلَك القُرى، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا[الكهف: 59]، وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِين[الأنبياء: 11].
والله - عز وجل - يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ ليُملِي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلِته، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد[هود: 102]»؛ أخرجه البخاري.
فاحذَروا ظلمَ العباد وهضمَ حقوق العُمَّال والضعفاء، فضلاً عن المظالمِ العامة التي يطالُ ضررُها الكثيرين.
ومن الظلمِ: خُذلان المظلوم والتخلِّي عن نُصرته؛ فإن ذلك مُؤذِنٌ بالعقوبة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخُذوا على يديه أوشكَ أن يعُمَّهم الله بعقابٍ»؛ أخرجه الترمذي، وقال: حديثٌ صحيحٌ.
وأشدُّ الظلمِ ما يُسبِّبُ فواتَ الدين أو النفسِ أو العرضِ أو المالِ.
أيها المؤمنون:
والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكر أمَنَةٌ من العذابِ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون[هود: 117]؛ فما أعظمَ بركةَ المُصلِحين، وما أقبحَ أثرَ الناسِ عليهم!
ومن سُنَّةِ اللهِ في عباده: أن المُنكَر إذا فشَا فيهم ولم يُغيِّروه فإن العقوبةَ تشملُهم والعذابَ يعُمُّهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ - عز وجل - لا يُعذِّبُ العامةَ بعملِ الخاصَّة حتى يرَوا المُنكَرَ بين ظهرانَيهم، وهو قادِرون على أن يُنكِروه فلا يُنكِروه، فإذا فعَلوا ذلك عذَّبَ اللهُ الخاصةَ والعامةَ»؛ أخرجه الإمام حمد، وحسَّنه الحافظُ ابن حجر.
وعن النعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثَلُ القائمِ على حُدود الله والواقعِ فيها كمثَل قومٍ اتَهَموا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلِها مرُّوا على من فوقَهم، فقالوا: لو أنَا خرَقنا في نصيبِنا خرقًا ولم نُؤذِ من فوقنا، فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعًا»؛ أخرجه البخاري.
وعن زينب بنت جحشٍ - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترَب، فُتِح اليوم من ردمِ يأجُوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه» - وحلَّقَ بأُصبعه الإبهام والتي تلِيها -. قالت زينبُ: فقلتُ: يا رسول الله! أنهلَكُ وفينا الصالِحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبَثُ»؛ متفق عليه، واللفظُ للبخاريِّ.
وأخرج الإمامُ أحمد، والترمذي وحسَّنه من حديثِ حُذيفةَ بن اليمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده؛ لتأمرنُّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المُنكَر، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدعُونَه فلا يُستجابُ لكم».
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ثم يقدِرون على أن يُغيِّروا ثم لا يُغيِّروا إلا يُوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ»؛ أخرجه الإمام أبو داود.
عباد الله:
ومن أسباب العقوبات العامة: كُفران النِّعم، وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون[النحل: 112]، الجوعُ والخوفُ شبَحٌ يُرعِبُ كلَّ الأحياء، ولقد قال: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِولم يقُل: كفَرَت باللهِ؛ ذلك أن كُفران النِّعَم سبب الجُوع والخوف، وسببُ الفتن والاضطرابِ في الأمن والمعايِش، وإنما تثبُت النعمةُ بشُكر المُنعِم.
وإن اللهَ تعالى أعطَى فأجزَل، وأنعمَ فتفضَّل، وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا[إبراهيم: 34]، وقد وعدَ - سبحانه - وأوعدَ، فقال - وهو القادِر -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد[إبراهيم: 7].
ومن كُفران النِّعَم: الإسرافُ والتبذيرُ، وإهانةُ الطعام، والطغيان، والتباهِي بما يجلِبُ سخطَ اللهِ ومقتَه.
أيها المسلمون:
ومن أسباب العقوبات العامة: الغفلةُ والإغراقُ في اللهو والعبَث؛ جاء في "المُسند" عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتَ اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو استِدراجٌ». ثم تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون[الأنعام: 44]».
قال الحسنُ - رحمه الله -: "مكِر بالقومِ - وربِّ الكعبة -، أُعطُوا حاجتهم ثم أُخِذوا".
وقال قتادة: "بغَتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذَ اللهُ قومًا قطُّ إلا عند سَكرتهم وغِرَّتهم ونِعمتهم".
فلا تغترُّوا باللهِ، إنه لا يغترُّ إلا القومُ الفاسِقون، وحاذِروا الترَفَ، والرُّكونَ إلى الدنيا والتسابُقَ فيها؛ فإنه الداءُ الذي أهلكَ الأممَ السابقة، وهو ما حذَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمتَه منه، حين حذَّرَها من فتنةِ الدنيا والتسابُق فيها، فقال: «فواللهِ ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن أخشَى أن تُبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطَت على من كان قبلَكم، فتنافَسُوها كما تنافَسُوها، وتُهلِكَكم كما أهلكَتهم»؛ متفق عليه.
وقال: «إني مما أخافُ عليكم من بعدي ما يُفتَحُ عليكم من زهرة الدنيا وزِينتها»؛ متفق عليه.
ومن أعظمِ أسباب العقوبات العامة: انتشارُ الفواحِش والزنا، وأسباب الفُسوق المُؤدِّية إليها، قال الله - عز وجل -: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء: 16]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لم تظهَر الفاحِشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فشَا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافهم الذين مضَوا»؛ أخرجه ابن ماجه، والحاكمُ وصحَّحه.
فحافِظوا على أمنِكم - أيها المؤمنون -، وحاذِروا غضبَ الجبَّار، وتوقَّوا أسبابَ غضبه لعلكم تتقُون.
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِهِ ومن تبِعَهم بإحسانٍ.
عباد الله:
والسببُ الذي ترجِعُ إليه كلُّ أسباب العقوبات العامة بعد الشركِ بالله: هو الذنوبُ والمعاصِي؛ فهي التي تُزيلُ النِّعَم، وتُحِلُّ النِّقَم، وتُحدِثُ في الأرضِ أنواعًا من الفساد في الماء والهواء، والزروعِ والثِّمارِ، والمساكِن والأرزاق، والأمنِ وسائرِ الأحوال، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون[الروم: 41]، وقال - سبحانه -: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين[الأنعام: 6]، وقال - سبحانه -: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ، وقال - عزَّ من قائلٍ -: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير[الشورى: 30].
وما المعاصي إلا خرابٌ للديارِ العامِرة، وسلبٌ للنِّعَم الظاهِرة والباطِنة، فبادِروا بالتوبةِ والاستِغفار؛ فذلك أمانٌ من العذابِ، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون[الأنفال: 33]، الاستِغفارُ سببٌ لرحمةِ الله ولُطفه، لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون[النمل: 46].
وكذا الإيمانُ والتقوى، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ[الأعراف: 96]، أما إذا غيَّر العبادُ أو بدَّلوا فإن سننَ الله لا تُحابِي.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نِقمتك، وجميعِ سخَطك.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى والرسول المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّق وليَّ عهده وسدِّده وأعِنْه على ما حُمِّل، واجعَله مُبارَكًا مُوفَّقًا لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ.
اللهم كُن لإخواننا في سُورية، اللهم أصلِح أحوالَهم، واحقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، يا حيُّ يا قيُّوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم عليك بأعداءِ الدين فإنهم لا يُعجِزونَك، اللهم عليك بالطُّغاة والظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميعُ الدعاء.
نستغفِرُ الله، نستغفِر الله، نستغفِرُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ ونتوبُ إليه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مُجلِّلاً عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-22-2012 05:12 PM

تزكية النفوس وإصلاح القلوب
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان"تزكية النفوس وإصلاح القلوب"، والتي تحدَّث فيها عن تزكية النفوس وإصلاح القلوب، والطرق التي ينبغي على كل مسلمٍ سلوكها لتحصيل ذلك، مُستشهِدًا في ذلك بالآيات والأحاديث والأقوال والآثار عن السلف والعلماء.
الخطبة الأولى
الحمد لله العليِّ الأعلى، أحمده - سبحانه - وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلقَ فسوَّى وقدَّر فهدَى، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله نبيُّ الرحمة والهُدى، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الأئمةِ الأبرارِ النُّجَبَا، والتابعين ومن تبِعَهم إلى يوم البعثِ واللِّقاءِ والجَزَا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكرُوا أنكم موقوفون عليه، مسؤولون بين يديه، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ[عبس: 34- 37].
عباد الله:
تزكيةُ النفوسِ وتقويمُها وإصلاحُ القلوبِ وتطهيرُها أملٌ سعَى إليه العُقلاء في كل الثقافات وفي كل الحضارات منذ أقدم العُصور، فسلكوا إلى بلوغه مسالك شتَّى، وشَرَعوا لأنفسهم مناهِج وطرائِق قِددًا، وحسِبُوا أن في أخذهم أنفُسهم بها إدراكَ المُنَى، وبلوغَ الآمال في الحَظوةِ بالحياة الطيبة والعَيشِ الهانِئِ السعيد.
فمن تعذيبٍ للجسد بأمورٍ وأعمال مُضنِيةٍ أسمَوها: رياضاتٍ ومُجاهَدات، إلى إغراقٍ في الشهوات، وانهِماكٍ في طلب اللذَّاتِ بإسرافٍ على النفسِ لا حُدود له، إلى عكوفٍ على مناهج فلسفيَّة وتأمُّلاتٍ قائمةٍ على شطَحَاتٍ وخيالاتٍ لا سنَدَ لها من واقعٍ، ولا ظهيرَ لها من عقلٍ، إلى غير ذلك من نزَعاتٍ وطرائِق لا يجِدُ فيها اللبيبُ ضالَّته، ولا يبلُغُ منها بُغيتَه.
غيرَ أن كل من أُوتي حظًّا من الإنصافِ، ونصيبًا من حُسن النظر والبصر بالأمور لا يجِدُ حرجًا في الإقرار بأن السعادةَ الحقَّة التي تطيبُ بها الدنيا، وتطمئنُّ بها القلوبُ، وتزكُو النفوسُ هي تلك التي يُبيِّنُها ويكشِفُ عن حقيقتها الكتابُ الحكيمُ والسنةُ الشريفةُ بأوضحِ العبارة وأدقِّها وأجمعِها في الدلالة على المقصود.
عباد الله:
لقد أرسلَ الله رُسُلَه، وأنزلَ كُتبَه ليُرشِدَ الناسَ إلى سُبُل تزكيةِ أنفسهم وإصلاحِ قلوبهم، وليُبيِّن لهم أن ذلك الأمر لن يتحقَّق إلا حين يُؤدُّون حقَّ الله عليهم في إخلاص العبودية له؛ إذ هي الغايةُ من خلقهِ لهم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[الذاريات: 56- 58].
وقد جاء في كتاب الله وسنةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيانُ الطريقِ إلى هذه التزكية التي جعل اللهُ فلاحَ المرء مرهونًا بها، وجعل الخيبةَ والخُسران مرهونًا بضدِّها، وهو: التَّدسِيَة؛ أي: تخبيثُ وتلويثُ النفس وإفسادُها بالخطايا؛ فقال الله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[الشمس: 7- 10]، وقال - عزَّ اسمُه -: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[الأعلى: 14، 15]، وقال - سبحانه - في خطابِ نبيِّه موسى - على نبيِّنا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام - حين أرسله إلى فرعون، قال: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى[النازعات: 17- 19].
وإن هذا الكتابَ المُبارَك - يا عباد الله - الذي جعله الله روحًا تحيا به القلوبُ، ونورًا تنجابُ به الظُّلُماتُ: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الشورى: 52].
إن هذا الكتابَ ليُصرِّحُ أن أساسَ التزكية في الإسلام ورُوحها وعِمادَها ومِحورَها: توحيدُ الله تعالى، وحقيقتُه - كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "أن يشهدَ العبدُ انفرادَ الربِّ - تبارك وتعالى - بالخلق والحُكم، وأنه ما شاء كان، وما لم يشَأ لم يكُن، وأنه لا تتحرَّك ذرَّةٌ إلا بإذنه، وأن الخلقَ مقهورون تحت قبضَته، وأنه ما من قلبٍ إلا وهو بين أصبعين من أصابعه إن شاءَ أن يُقيمَه أقامَه، وإن شاءَ أن يُزيغَه أزاغَه.
فالقلوبُ بيده، وهو مُقلِّبُها ومُصرِّفُها كيف شاءَ وكيف أراد، وأنه هو الذي آتَى نفوسَ المؤمنين تقواها، وهو الذي هداها وزكَّاها، وألهمَ نفوسَ الفُجَّار فُجورَها وأشقاها، من يهدِ الله فهو المُهتَد، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، يهدِي من يشاءُ بفضله ورحمته، ويُضِلُّ من يشاءُ بعدلهِ وحِكمته، هذا فضلُه وعطاؤُه، وما فضلُ الكريم بممنون، وهذا عدلُه وقضاؤه، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء: 23] ...
وفي هذا المشهَد يتحقَّقُ للعبدِ مقامُ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة: 5] علمًا وحالاً، فيثبُتُ قدمُ العبدِ في توحيد الربوبية، ثم يرقَى منه صاعِدًا إلى توحيد الإلهية، فإنه إذا تيقَّن أن الضُّرَّ والنفعَ والعطاءَ والمنعَ والهُدى والضلال والسعادةَ والشقاءَ، كل ذلك بيد الله لا بيدِ غيره، وأنه الذي يُقلِّبُ القلوبَ ويُصرِّفُها كيف يشاء، وأنه لا موفِّقَ إلا من وفَّقه وأعانَه، ولا مخذولَ إلا من خذلَه وأهانَه وتخلَّى عنه، وأن أصحَّ القلوبَ وأسلمَها وأقومَها وأرقَّها وأصفاها وأشدَّها وأليَنها: من اتخَذَه وحده إلهًا ومعبودًا، فكان أحبَّ إليه من كلِّ ما سِواه، وأخوفَ عنده من كل ما سِواه، وأرجَى له من كل ما سِواه.
فتتقدَّمُ محبَّتُه في قلبه جميعَ المحابِّ تبَعًا لها، كما ينساقُ الجيشُ تبَعًا للسلطان، ويتقدَّم خوفُه في قلبه جميعَ المخوفات، فتنساقُ المخاوِفُ كلها تبَعًا لخوفه - سبحانه -، ويتقدَّم رجاؤه في قلبه جميعَ الرجاء، فينساقُ كل رجاءٍ تبعًا لرجائه. فهذا علامةُ توحيد الإلهية في هذا القلب، والبابُ الذي دخلَ إليه منه هو توحيدُ الربوبية ...
والمقصود: أن العبدَ يحصُل له في هذا المشهد من مُطالَعة الجنايات والذنوب وجريانها عليه وعلى الخليلَ بمعونته، ولا وصول لمرضاته إلا بتوفيقه، فموارد الأمور كلها منه، ومصادِرها إليه، وأزِمَّةُ التوفيقِ جميعُها بيديه، فلا مُستعان للعباد إلا به، ولا مُتَّكَل إلا عليه، كما قال شُعيب - خطيبُ الأنبياء -: وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ[هود: 88]". اهـ كلامُه.
وإن أثرَ التوحيد في التزكية - يا عباد الله -؛ بل في حياة المسلم لَيبدو جلِيًّا في توحيد الهدَف والغاية واتفاقِ العلمِ والعمل، حتى يكون فهمُ المُسلم وعقيدتُه وعلمُه وعملُه وقصدُه واتجاهاتُ قلبه ونشاطُه مُنتظمًا في سلكٍ واحدٍ، مُتوافقٍ مُؤتلفٍ لا تعارُضَ فيه ولا تضارُب، ويرتفعُ عن كاهلِ الإنسان ذلك الضيقُ المُمِضُّ الذي يستشعِرُه حين تتعارَضُ في نفسه الأهداف، وتتناقضُ الأعمال.
ومما يُزكِّي النفوسَ - يا عباد الله -: تجيدُ الإيمان فيها على الدوام؛ إذ الإيمانُ يخلَقُ كما تخلَقُ الثياب، ولذا كان صحابةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخُذ أحدُهم بيدِ الآخر فيقول: "تعالَ نُؤمنُ ساعةً"، فيجلِسان فيذكُران اللهَ تعالى.
وفي ذكر الله تعالى وتلاوة كتابه وطاعته والازدِلافِ إليه أعظمُ ما يُجدِّدُ الإيمان في نفس المؤمنِ الذي يعلمُ أن الإيمانَ يزيدُ بالطاعة، وينقُصُ بالمعصية، فيعملُ على زيادة إيمانه بصدقِ الالتِجاءِ إلى الله تعالى الذي تكونُ أظهرُ ثماره المُبارَكة تزكية النفوس، كما جاء في الدعاء النبوي الكريم: «اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها».
ومما يُزكِّي النفوس ويُصلِحُ القلبَ - يا عباد الله - أيضًا: دوامُ تذكُّر نعمِ الله التي أنعمَ بها على عباده، وإحصاؤُها خارجٌ عن مقدور البشر، كما قال الله تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[النحل: 18].
فإن هذا التذكُّر لهذا النعَمِ يُورِثُ الذاكِرَ لها كمال تعلُّقٍ بربِّه، وتمامَ توجُّهٍ إليه، وخضوعًا وتذلُّلاً له - سبحانه -؛ فإن كل ما وهبَهُ من حياةٍ وصحةٍ ومالٍ وولدٍ وجاهٍ وغيرها إنما هو منَّةٌ منه، وفضلٌ وإِنعامٌ أنعمَ به كيف ومتى شاء، ولو شاء لسلَبَ ذلك منه متى شاء؛ فإنه مالكُ الملكِ كلِّه، بيده الخيرُ يُؤتيه من يشاءُ، ويصرِفُه عمَّن يشاءُ، ومعرفةُ ذلك ودوامُ تذكُّره باعِثٌ على معرفةِ العبدِ بعجزه وضعفِه وافتِقاره إلى ربِّه في كل شؤُونه.
غيرَ أن تذكُّر النِّعَم لا بُدَّ من اقتِرانه بالعمل الذي يرضاه الله ويُحبُّه ويُثيبُ عليه يوم القيامة، وحقيقتُه: فعلُ الخيراتِ، وتركُ المُنكرات، على هُدًى من الله، ومُتابعةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مع العنايةِ الخاصَّةِ بالفرائِض التي افترَضَها الله على عباده؛ إذ هي أحبُّ ما يتقرَّبُ به العبدُ إلى ربِّه، كما جاء في الحديثِ: «إن الله تعالى قال: من عادَى لي وليًّا فقد آذنتُه بالحرب، وما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها، ولئن سألني لأُعطينَّه، ولئن استعاذَني لأُعيذنَّه»؛ أخرجه الإمام البخاري في "صحيحه" من حديثِ أبي هريرة - رضي الله عنه -.
ومما يُزكِّي النفسَ أيضًا - يا عباد الله -: أعمالُ القلوب؛ فإن القلبَ ملكُ الجوارِح تصلُح بصلاحه وتفسُد بفساده، كما جاء في الحديثِ: «ألا وإن في الجسد مُضغةً إذا صلَحت صلَح الجسدُ كله، وإذا فسَدت فسدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي القلب»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" من حديثِ النُّعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنه -.
ومن أهمِّها وأعظمِها: نيَّةُ المرء ومقصودُه من كلِّ عملٍ يعملُه، فقد قال رسول الهُدى - صلواتُ الله وسلامُه عليه -: «إنما الأعمالُ بالنيَّات، وإنما لكل امرئٍ ما نوَى؛ فمن كانت هِجرتُه إلى الله ورسولِه فهِجرتُه إلى الله ورسولِه، ومن كانت هِجرتُه لدُنيا يُصيبُها أو امرأةٍ ينكِحُها فهِجرتُه إلى ما هاجَرَ إليه»؛ أخرجه الشيخان في "صحيحيهما".
فاتقوا اللهَ - عباد الله -، واتخِذوا من كتاب ربِّكم وسنةِ نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - خير منهجٍ لتزكيةِ النفوسِ وإصلاحِ القلوبِ ابتغاءَ رِضوان الله على هُدًى من الله، وتأسِّيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واقتِفاءً لأثر الصفوةِ من عباد الله، أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ[الزمر: 18].
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
الحمد لله الوليِّ الحميد، الفعَّال لما يُريد، أحمده - سبحانه - يخلُق ما يشاءُ ويفعلُ ما يُريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتَّقي بها نارًا حرُّها شديد، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسوله صاحبُ الخُلُق الراشدِ والنهجِ السديد، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فيا عباد الله:
إن النقصَ والتقصيرَ والخطأ لا ينفكُّ عنه إنسانٌ، ولا يسلَمُ منه إلا من عصمَه الله، ولذا جاء الأمرُ بالتوبة للناس جميعًا بقوله - سبحانه -: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[النور: 31].
والتوبةُ - يا عباد الله - من أعظمِ أسباب التزكيةِ للنفس والإصلاحِ للقلبِ؛ فإن عبوديةَ التوبة - كما قال ابن القيم - يرحمه الله -: "من أحبِّ العبودياتِ إلى الله وأكرمِها عليه؛ فإنه - سبحانه - يحبُّ التوابين، ولو لم تكن التوبةُ أحبَّ الأشياء إليه لما ابتَلَى بالذنبِ أكرمَ الخلقِ عليه، فلمحبَّته لتوبةِ عبادهِ ابتلاه بالذنبِ الذي يُوجِبُ وقوعَ محبوبهِ من التوبةِ، وزيادةَ محبَّته لعبده؛ فإن للتوبة عنده - سبحانه - منزلةً ليست لغيرها من الطاعات، ولهذا يفرحُ - سبحانه - بتوبةِ عبده حين يتوبُ إليه أعظمَ فرحٍ يُقدَّمُ، كما مثَّلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بفرَحِ الواجدِ لراحِلَته التي عليها طعامُه وشرابُه في الأرضِ الدوِيَّةِ المُهلِكة بعدما فقدَها وأيِسَ من أسباب الحياة، ولم يجِئ هذا الفرحُ - يا عباد الله - في شيءٍ من الطاعاتِ سِوى التوبة.
ومعلومٌ أن لهذا الفرحِ تأثيرًا عظيمًا في حال التائبِ وقلبه، ومزيدُه لا يُعبَّر عنه، وهو من أسبابِ تقدير الذنوبِ على العباد؛ فإن العبدَ ينالُ بالتوبةِ درجةَ المحبوبيَّة فيصيرَ حبيبًا لله، فإن الله يُحبُّ التوابين، ويُحبُّ العبدَ المُفتَّن التوَّاب، ويُوضِّحُه: أن عبوديَّة التوبة فيها من الذلِّ والانكِسار والخُضوع والتملُّقِ لله والتذلُّل له ما هو أحبُّ إليه من كثيرٍ من الأعمال الظاهرة، وإن زادَت في القدرِ والكمية على عبودية التوبة، فإن الذلَّ والانكِسار روحُ العبودية ومُخُّها ولُبُّها.
يُوضِّحُ ذلك: أن حُصول مراتب الذلِّ والانكِسار للتائبِ أكملُ منها لغيره، فإنه قد شاركَ من لم يُذنِب في ذلِّ الفقر والعبوديةِ والمحبةِ، وامتازَ عنه بانكِسار قلبه، ولأجل هذا فإن أقربَ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجِدٌ، كما أخبرَ بذلك نبيُّ الرحمة والهُدى - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه مقامُ ذلٍّ وانكِسارٍ بين يدَي ربِّه.
ويُوضِّحُ ذلك: أن الذنبَ قد يكونُ أنفعَ للعبدِ إذا اقترنَت به التوبةُ من كثيرٍ من الطاعات؛ فإنه قد يعملُ الذنبَ فلا يزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعَد وإن مشَى ذكَر ذنبَه، فيُحدِثُ له انكِسارًا وتوبةً واستِغفارًا وندَمًا، فيكونُ ذلك سببَ نجاته، ويعملُ الحسنةَ فلا تزالُ نُصبَ عينيه إن قامَ وإن قعدَ وإن مشَى، كلما ذكَرَها أورثَتْه عُجبًا وكِبرًا ومِنَّة، فتكونُ سببَ هلاكِه.
فيكون الذنبُ مُوجِبًا لترتُّب طاعاتٍ وحسناتٍ ومُعاملاتٍ قلبيَّةٍ؛ من خوفِ الله والحياء منه، والإطراقِ بين يديه، مُنكِّسًا رأسَه، خجِلاً، باكِيًا، نادِمًا، مُستقيلاً ربَّه.
وكلُّ واحدٍ من هذه الآثار أنفعُ للعبد من طاعةٍ تُوجِبُ له صولةً وكِبرًا وازدِراءً للناس ورؤيتَهم بعين الاحتِقار، ولا ريبَ أن هذا المُذنِبَ خيرٌ عند الله وأقربُ إلى النجاةِ والفوزِ من هذا المُعجَبِ بطاعته، الصائلِ بها، المانِّ بها وبحاله على الله - عز وجل - وعباده". اهـ كلامُه.
ألا وإن عمادَ التزكيةِ التي تُورِثُ الحياةَ الطيبةَ في الدنيا، والفوزَ بعيشِ السُّعداءِ في الآخرةِ، وأساسُها ولُبُّها ورُوحُها: عبادةُ الله على بصيرةٍ، بألا يُعبَدَ - سبحانه - إلا بما شرَعه في كتابه، أو صحَّ به الخبرُ عن رسوله - عليه الصلاة والسلام -، وهذا يستلزِمُ الاستِمساك بسُنَّته - صلوات الله وسلامه عليه - والعضَّ عليها بالنواجِذ، كما جاء في حديثِ العِرباضِ بن ساريةَ - رضي الله عنه -، وفيه قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «.. إنه من يعِش منكم فسيرَى اختِلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعيد، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعةٍ ضلالةٌ»؛ أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه في "سننهم"، والحاكم، وابنُ حبان في "صحيحه".
وجاء في الحديثِ الذي أخرجه مُسلمٌ في "صحيحه"، والنسائيُّ - واللفظُ له - من حديثِ جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خُطبته: «نحمَدُ الله ونُثنِي عليه بما هو أهلُه»، ثم يقول: «من يهدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِي له، إن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار ..» الحديث.
وفي "الصحيحين" من حديثِ عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أحدثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ». وفي لفظٍ لمُسلمٍ - رحمه الله -: «من عمِلَ عملاً ليس عليه أمرُنا فهو ردٌّ». أي: مردودٌ على صاحبِه، غيرُ مرضِيٍّ ولا مقبولٍ عند الله.
وهذا الحديثُ العظيمُ - كما قال أهلُ العلمِ - قاعدةٌ جليلةٌ، وأصلٌ عظيمٌ في ردِّ الابتِداعِ وإبطال الإحداثِ في دين الله، يجبُ على كل لبيبٍ ناصحٍ لنفسه، مُريدٍ للخيرِ لها أن يضعَه نُصبَ عينيه.
وما أحسنَ قول الصحابيِّ الجليلِ حُذيفة بن اليَمان - رضي الله عنه - ناصِحًا به، ومُحذِّرًا أصحابَه القُرَّاء من مُجانَبة سبيل سلفِ الأمةِ وخِيارها، والتردِّي في ظُلمات البِدَع؛ حيث قال - رضي الله عنه -: "كلُّ عبادةٍ لم يتعبَّدها أصحابُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - فلا تعبَّدوها؛ فإن الأولَ لم يدَع للآخر مقالاً، فاتقوا الله - يا معشرَ القُرَّاء - وخُذوا طريقَ من قبلكم".
فاتقوا الله - عباد الله -، وحذارِ من الابتِداعِ في دين الله حَذَارِ.
وصلُّوا وسلِّموا على النبيِّ المُختار؛ فقد أمَرَكم بذلك ربُّكم بقوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء.
اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وإخوانه إلى ما فيه خيرُ الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاحُ العباد والبلاد، يا من إليه المرجِعُ يوم المعاد.
اللهم احفَظ المُسلمين في كل مكان، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احفَظ المُسلمين في سُورية، اللهم احفَظ المُسلمين في سُورية، اللهم احفَظ المُسلمين في سُورية، وفي كل بلاد الإسلام يا رب العالمين، اللهم احقِن دماءهم، وكُن لهم، وارحَم عفَهم، واجبُر كسرَهم، واشفِ جرحاهم، وارحَم موتاهم يا رب العالمين، وقِهِم شرَّ الفتن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفتن، اللهم قِنا وإياهم شرَّ الفتن ما ظهرَ منها وما بطَن يا رب العالمين.
اللهم آتِ نُفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلِّ اللهم وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-22-2012 05:16 PM

لتحذير من السَّفَه في العقل والمال
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التحذير من السَّفَه في العقل والمال"، والتي تحدَّث فيها عن السَّفَه ومعناه وصفات المُتخلِّقين به، وبيَّن خطورته، مُحذِّرًا من مغبَّته، مُستدلاًّ على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، ومن الواقع المُشاهَد.

الخطبة الأولى
الحمد لله العليِّ القدير، هو القاهرُ فوق عبادهِ ويُرسِلُ عليهم حفَظَةً، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[القصص: 70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، أرسلَه الله بالهُدى ودينِ الحقِّ ليُظهِرَه على الدينِ كلِّه ولو كرِهَ المُشرِكون، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولةَ لي ولكم - عباد الله - هي تقوى الله - سبحانه -؛ فهي سِلاحُ كلِّ مؤمنٍ، ودِثارُ كلِّ خائفٍ، وبُشرى كلِّ راغبٍ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة: 100].


أيها الناس:
يتفقُ الناسُ جميعًا مهما اختلَفَت مدارِكُهم أن العقلَ من أعظم نِعَم الله على العبدِ، به يميزُ الخبيثَ من الطيبِ، والزَّينَ من الشَّيْن، هو علامةٌ فارِقةٌ بين الآدميَّة وبين البهيميَّة والحجر الصَّلدِ، إنه لا يعرفُ قدرَ العقلِ إلا من وُهِبه، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[النحل: 78].
وإنه لا يعلمُ مقدارَ العقلِ إلا من رأى فاقِدَه أو فقِدَ الاستِنارةِ به، ومن وهبَه الله عقلاً لا أثرَ له في واقعِ حياته فهو كمثلِ الحِمارِ يحمِلُ أسفارًا، أو كالعِيسِ في البَيْدَاءِ يقتلُها الظَّمَأ والماءُ فوق ظُهورِها محمولٌ.
لقد تسلَّلَت الاِزدِواجيَّةُ والتَّضادُّ لدى كثيرٍ من العقول، وما ذاك إلا لاضطرابِ وسائل التلقِّي التي يتعارَكُ فيها الحقُّ والباطلُ، والزَّيْنُ والشَّيْنُ، في زمنٍ يتقدَّمُ الحقُّ فيه تارةً ويتسلَّلُ الباطلُ فيه تاراتٍ.
وإنه متى تسلَّل الخللُ إلى العقل لِواذًا فتجاذَبَته الخِفَّةُ والطَّيشُ والاضطرابُ في الرأيِ والفكرِ والأخلاق؛ فإنه السَّفَهُ ما مِنه بُدٌّ، والسفيهُ في مثل هذا: هو ظاهرُ الجهل خفيفُ اللُّبِّ، استمهَنَ عقلَه بالتقليدِ الأعمى، والإعراضِ عن النظرِ به خللٌ في تفكيره، وخللٌ في لسانه، وخللٌ في قلمه، وخللٌ في أخلاقه، يفِرُّ منه العُقلاءُ فِرارَ الصحيحِ من الأجربِ.
السَّفَهُ - عباد الله - ليس جنونًا ولا فُقدانًا للعقل؛ وإنما هو سوءُ استعمالٍ له أو تهميشُه عن أداء دوره الذي خُلِق له، فكلُّ صاحبِ عقلٍ سارَ مع مُرادِ الله ومُرادِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو العقلُ السلمُ، ومن ندَّ عن مُراد الله ومُراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو السَّفيهُ وإن كان عقلُه يفوقُ عقولَ الدُّهاة.
ومن هنا وصفَ الله - جل وعلا - بالسَّفَه كلَّ من عانَدَه أو ندَّ عن شِرعتِه ومِنهاجِه، كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ[البقرة: 13]، فوصفَهم بالسَّفَه مع كمال عقولهم ودهائِهم؛ لمُخالفتهم صِبغةَ الله، ولهذا توعَّد اللهُ كلَّ سفيهٍ لا يُعمِلُ عقلَه فيما يُرضِي اللهَ - سبحانه -، أو يُعمِلُه فيما لا يُرضِي الله، بقوله تعالى: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف: 179].
والسَّفَه - عباد الله - آفةٌ تعتري الإنسانَ في أموره الدينية وأموره الدنيوية؛ أما الأمور الدينية فيكونُ ذلك بمُحادَّة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم –، والنُّكوص عن شِرعة الله أو مُضادَّتها، أو الاستِهزاءِ بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو السخريةِ بشيءٍ من أمور الدين، أو التهوين من شأن الشريعة الإسلامية ووصفها بالتخلُّف أو النُّقصان أو عدم مُلاءمتها لواقع الحال، كلُّ ذلك سَفَهٌ وخَبالٌ، كما قال تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا[البقرة: 142]، فقد وصفَ الله هؤلاء المُعترِضِين بالسَّفَه؛ لأن العاقلَ لا يعترِضُ على الله ولا على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثمَّ يكون عزيزًا كريمًا، بخلاف المُعترِض فإنه يُصابُ بالذلِّ والصَّغار، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ[المجادلة: 20].
ولم يكن وصفُ السَّفَهِ - عباد الله - قاصرًا على مُعانَدة بعض سُفهاءِ الإنس تجاهَ دينهم ومتهم ومُجتمعهم، كلا؛ بل إن اللهَ - سبحانه - ذكرَ ذلك عن أمةِ الجنِّ أيضًا، وذلك بقولهم: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا[الجن: 4]؛ أي: يقول بُهتانًا وزُورًا.
فانظروا - يا رعاكم الله - كيف اتفقَت الجِنَّةُ والإنسُ على وصفِ من تخبَّطَ في أمور الدين، ولتَّ فيها وعجَنَ بغير هُدًى من الله أنه سَفيهٌ ليس من العُقلاء في وِرْدٍ ولا صَدَرٍ، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة: 130].
ولهذا - عباد الله - تكون مغبَّة السَّفَه في أمور الدين وخيمةً، فهي غيرُ قاصرةٍ على السفيهِ وحدَه؛ بل تعمُّ السفيهَ والعقلَ والمُجتمعَ كلَّه؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سُئِل: أنهلِكُ وفينا الصالِحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبَثُ».
ولهذا قال الله - جل وعلا -: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[الأنفال: 25]، فمن سَفَهِ السفيهِ أنه يجُرُّ الويلَ والهلاكَ لمُجتمعه جرَّاءَ سفَهِهِ وحماقاتِهِ، وما كان خوفُ موسى - عليه السلام - من السَّفَه في أمور الدين إلا خشيةَ أن تعُمَّهم العقوبةُ من الله، فكان كلامُ موسى لربِّه: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ[الأعراف: 155].
وأما السَّفَهُ في الأمور الدنيوية - عباد الله - فيكون في التصرُّف في المال بما يُخالِفُ شرعَ الله، أو بالتبذيرِ والإسرافِ فيه، ومن ذلكم: الاتِّجارُ والمُرابَحَة فيها بتهوُّرٍ وعدم استِحضارِ حُرمتها وحُرمةِ أصحابها، فهذا سَفَهٌ ووضعٌ للأمور في غيرِ موضعِها، ولهذا قال الله تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا[النساء: 5].
لقد كثُر السَّفَهُ في الأموال، فاستهانَ البعضُ بالحقوق وتصرَّفوا بأموال الناس بلا ذِمَّةٍ ولا أمانة، فاضطربَت الإِحَنُ والمُشاحَّةُ والدعاوَى، وكثُر الإعسارُ المُفاجِئُ، والخسائرُ المُتراكِمة، ونشأَت الفتنُ بين المُساهِمين والمُستثمرين، فبغَى بعضُهم على بعضٍ، ولعَنَ بعضُهم بعضًا، كلُّ ذلك بسببِ الطمعِ والجشَع، وضعفِ القناعَة المُولِّدة للسَّفَه الماليِّ؛ لأن للمال ثورةً كثورةِ الخَمرة تأخُذ شارِبَها حتى ينتشِي.
وجامِعُ الأمر في ذلكم: هو قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «من يأخُذ مالاً بحقِّه يُبارَك له فيه، ومن يأخُذ مالاً بغير حقِّه فمَثَلُه كمثَلِ الذي يأكلُ ولا يشبَع»؛ رواه مسلم.
فليتَّقِ اللهَ أولئك الذين استأمنَهم الناسُ على أموالهم، وليُرابِحُوا فيها بما أحلَّ الله، وألا يتهوَّروا ولا يُفرِّطوا، ولا يقعُوا في الرِّيبةِ والشُّبهَة، ولا يستغِلُّوا ثقةَ الناسِ بهم، وليذكُروا قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أخذَ أموالَ الناسِ يُريدُ أداءَها أدَّى اللهُ عنه، ومن أخذَها يُريدُ إتلافَها أتلفَه الله»؛ رواه البخاري.
ثم إن من السَّفَه - يا رعاكم الله -: قتلَ النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وكلما ازدادَ المرءُ قتلاً ازدادَ سَفَهًا، وإن تعجَبوا - عباد الله - فعَجَبٌ سَفَهُ من يقتُلون شُعُوبَهم وبني جِلدَتهم ممن وصفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمثالَهم بأنهم سُفهاءُ الأحلام، ومن أفعالهم: أنهم يقتُلون أهلَ الإسلام، ويدَعُونَ أهلَ الأوثان، كما يجري لبعضِ إخواننا ممن قُتِلوا وعُذِّبُوا سَفَهًا بغير علم، وكم هي الحالُ المُؤرِّقةُ مع إخواننا في سورية والذين يُواجِهون أشدَّ أنواعِ الجَور والقتل والوحشية التي لا يرضاه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُقِرُّها دينٌ ولا مِلَّةٌ ولا عُرْفٌ، قتلٌ وغدرٌ وعِنادٌ، وكلما قيل لهم: اتقوا الله ولِينوا بأيدي إخوانكم، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وتأبَّطوا أسلحتَهم، وأصرُّوا واستكبَروا استِكبارًا.
وأمثالُ هؤلاء يصدُقُ فيهم قولُ ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -: "إذا سرَّك أن تعلمَ جهلَ العربِ فاقر قولَ الله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ[الأنعام: 140]"؛ رواه البخاري.
وبهذا المُناسَبة فإن الشكرَ موصولٌ لكل من كانت له يدٌ طُولَى في الإنكار على أولئك؛ من حكوماتٍ، وقادة، وعلماء، ومُفكِّرين، وشُعوب، وأخُصُّ منهم: الدول التي سحَبَت سُفراءَها، ووقفَت ضدَّ الظلم والعُدوان، ومنهم: هذه البلاد بقيادتها.
فإلى مزيدٍ من الجهود وممارسة تضييق الخِناقِ ضدَّ هذا التصعيدِ السَّفيه في نَزيفِ الدماء، وجمعِ الكلمة في اتخاذ خُطواتٍ مُتقدمةٍ تكون كفيلةً في حقنِ الدماءِ ورفع القتلِ والظلمِ.
بارَكَ الله في الجهود، وسدَّد الخُطى، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، وأُصلِّي وأُسلِّمُ على عبده ورسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن المُجتمعات الجادَّة الواعِية هي تلكم المُجتمعات التي تُحسِنُ التعامُل المُتكامِل، وتلمَّسُ مواقعَ الخللِ لدى بنِيها والمُنتَمين إليها؛ لتشكُر الناجِح وتُكرّمه، ولتُصلِح المُتعثِّر وتُقوِّمه، ومن ذلكم: أخذُها على أيدي سُفَهائِها، وإصلاح شأنهم، والقضاء على مظانِّ السَّفَه لئلا تغرقَ سفينةُ المُجتمع الماخِرة بقضِّها وقضيضِها.
السَّفيهُ آفةٌ في المُجتمع عالةٌ عليه؛ لأنه لا يعرفُ متى يجبُ أن يتكلَّم ولا متى يجبُ أن يسكُت.
السَّفيهُ يتطفَّلُ على كلِّ شيءٍ، ويتكلَّم ويهرِفُ في كل شيءٍ.
السَّفيهُ هو الرُّويبِضَةُ الذي يتكلَّمُ في أمرِ العامَّة، وينصِبُ نفسَه نِدًّا لذوي العلمِ والاختِصاصِ.
السَّفيهُ يسبِقُ طيشُه عقلَه، وغضبُه حلمَه، وغفلتُه يقظتَه، لا تزيدُه المُجاراةُ إلا هذَرًا، ولا المُداراةُ إلا بطَرًا، ولا أمانُ العقوبةِ لا هرَفًا وتماديًا.
وأما السَّفيهُ في الأخلاقِ فدواؤُه السكوتُ، ومُتاركتُه بلا جوابٍ أشدُّ عليه من الجوابِ في الغالبِ، سفيهُ الخُلُق إذا ردَدتَ عليه فرَّجتَ عنه، وإذا خلَّيتَه فإنه يموتُ كمَدًا، قال عنه الشافعيُّ - رحمه الله -:
يُخاطِبُني السَّفيهُ بكلِّ قُبحٍ
وأكرَهُ أن أكون له مُجيبًا
يزيدُ سفاهةً وأزيدُ حِلمًا
كعودٍ زادَه الإحراقُ طِيبًا
فالسَّفيهُ - عباد الله - كالضَّرعِ إن حلبتَه درَّ، وإن تركتَه قرَّ.
وقد كان عُميرُ بن حبيبٍ ممن أدركَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقولُ لبَنِيه: بنِيَّ! إياكم والسُّفهاء؛ فن مُجالستهم داءٌ، من يحلُم عن السَّفيه يُسَرُّ، ومن يُجِبْهُ يندَمُ، ومن لا يرضَى بالقليلِ مما يأت به السَّفيهُ يرضَى بالكثيرِ.
ولا خيرَ في عقلٍ إذا العلمُ غائبٌ
ولا خيرَ في علمٍ يكونُ بلا عقلِ
فلا بُدَّ من علمٍ وعقلٍ كلاهُما
يصُدَّان عنَّا ذا السَّفاهَةِ والجهلِ
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56]، وقال - صلواتُ الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها شرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمُشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في سُوريا، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في سُوريا، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، اللهم اشفِ مرضاهم، وفُكَّ أسراهم، وارحم موتاهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللم شأن من ظلمَهم في سِفال، وأمرَه في وبالٍ، يا حيُّ يا قيُّوم يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-22-2012 05:25 PM

أسباب العقوبات العامة
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "أسباب العقوبات العامة"، والتي تحدَّث فيها عن أسباب العقوبات العامة التي يُنزِلُها الله على الأمم، وذكر من أعظمها: الشرك بالله، والظلم، وانتشار الفواحِش، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من الأسباب، ودلَّل على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل لا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
ثم إن خيرَ الوصايا: الوصية بتقوى الله تعالى، فما جاوَرَت قلبًا إلا سلِم، ولا خالطَت عقلاً إلا رجِح، وما تلبَّس بها أحدٌ إلا صلح، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].


أيها المسلمون:
كل البشر يسعَون إلى الحياةِ الهانِئة السعيدة، ويُسخِّرون كل إمكاناتهم وطاقاتهم لتجنُّب أسباب الشقاء والعذاب؛ فضلاً عن الفناءِ والهلاكِ، فإذا تحقَّق لهم خيرٌ حافَظوا عليه بكل الوسائل وخافوا من فواته أو نقصِه.
وكم من أمةٍ كانت آمنةً مُطمئنَّةً تُجبَى إليها ثمراتُ كلِّ شيءٍ، ويأتيها رزقُها رغدًا من كل مكانٍ، لم يخفِق فيها قلبٌ من خوفٍ، ولم تتضوَّر نفسٌ من جوعٍ، فانقلبَت أحوالُها في طرفةِ عينٍ، فإذا بالنعمةِ تزول، وإذا بالعافيةِ تتحوَّل، وإذا بالنِّقمةِ تحِلُّ.
وكم حكَى الزمانُ عن دولٍ وأممٍ وأفرادٍ وجماعات أتَت عليهم عقوباتٍ تستأصِلُ شأفتَهم، وتمحُو أثرَهم، لا ينفعُ معها سلاحٌ ولا تُغني معها قوَّةٌ، وكلُّ أحدٍ من البشر له مدفعٌ ومنه حِيلة، ولا ملجأَ من ربِّنا ولا منجَا منه إلا إليه، فهو القويُّ القاهِر، والعزيزُ القادِر، وهو العظيمُ الذي لا أعظمَ منه.
ولله مع خلقهِ أيامٌ وسُنن؛ فأين ثمود وعاد؟ وأين الفراعِنةُ الشِّدادُ؟ أين من قدُّوا الأرضَ ونحَتوا الجبال، وحازوا أسباب القوة واحتاطوا للنوائِب؟ لما نسُوا اللهَ أوقعَ بهم بأسَه، فصاروا بعد الوجودِ أثرًا، وأصبحوا للتاريخ قصصًا وعِبرًا، فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُون[العنكبوت:40].
عباد الله:
إن سنةَ الله لا تُحابِي أحدًا، وليس لفردٍ ولا لمُجتمعٍ حصانةٌ ذاتيةٌ، وحين تُقصِّرُ أمةٌ في توقِّي أسباب المصائب العامة فإن عليها أن تتقبَّل نتيجةَ التقصير، والسعيدُ من اتَّعَظَ بغيره، وليست أمةٌ بمنأَى عن العذابِ إذا عقَدَت أسبابَه، ولا في مأمنٍ من العقابِ إن سلَكَت سبيلَه وفتحَت للذنبِ أبوابَه، ولذلك أكثرَ الله تعالى من وعظِ هذه الأمةِ بمصارعِ الأمم الغابِرة، وحذَّر الآمنين من مكرِه الذين لا يُقدِّرون اللهَ حقَّ قدره، ولا يقِفون عند نهيِه وأمرِه، فقال - عز وجل -: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُون (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِين (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيم، وقال - عز وجل -: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُون (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُون (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون[الأعراف: 97- 100].
إن الأمنَ من مكر اللهِ كبيرةٌ من الكبائِر؛ عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: "الكبائِرُ: الإشراكُ بالله، والأمنُ من مكرِ الله، والقنوطُ من رحمة الله، واليأسُ من روحِ الله"؛ رواه الطبراني والبيهقي.
ولهذا كان أعرفُ الخلقِ بربِّه وأخشاهم له - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى غيمًا أو ريحًا عُرِف ذلك في وجهه، فسُئِل عن ذلك فقال: «ما يُؤمِّنُني أن يكون فيه عذابٌ، قد عُذِّبَ قومٌ بالريح، ورأى قومٌ العذابَ فقالوا: هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا[الأحقاف: 24]»؛ متفق عليه.
أيها المسلمون:
لقد أخبرَ - عليه الصلاة والسلام - عن أنواع المصائب التي كان يخشَى أن تنزل بأمَّته، وحذَّرَهم من أسبابِ نزولها، فقال: «يا معشر المُهاجِرين! خمسٌ إذا ابتُليتُم بهنَّ وأعوذُ بالله أن تُدرِكوهن: لم تظهر الفاحِشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فشَا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافِهم الذين مضَوا، ولم ينقُصوا المِكيالَ والميزانَ إلا أُخِذوا بالسنين وشِدَّة المَؤونَة وجَور السلطان عليهم، ولم يمنَعوا زكاةَ أموالهم إلا مُنِعوا القطرَ من السماء، ولولا البهائمُ لم يُمطَروا، ولم ينقُضوا عهدَ الله وعهدَ رسوله إلا سلَّط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخَذوا بعضَ ما في أيديهم، وما لم تحكُم أئمتُهم بكتابِ الله ويتخيَّروا مما أنزلَ اللهُ إلا جعلَ اللهُ بأسَهم بينهم»؛ أخرجه ابن ماجه، والحاكمُ وصحَّحه، ووافقَه الذهبيُّ.
فظهورُ الفاحِشةِ في واقعِ المُسلمين وفي وسائل الإعلام، والتطفيفُ في المُعاملات، ومنعُ الزكاةِ، وخِيانةُ الأمانة، ونقضُ العهود، وتحكيمُ الهوى ونبذُ الشريعة؛ تلك هي أكبرُ أسباب المصائب العامة التي إذا نزلَت بقومٍ لم يسلَم من وطأَتها أحدٌ.
ومن أسباب العقوبات العامة: ما أخبرَ عنه المُصطفى - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «في هذه الأمةِ خسفٌ ومسخٌ وقذفٌ». فقال رجلٌ من المُسلمين: يا رسول الله! ومتى ذاك؟ قال: «إذا ظهرَت القَيناتُ والمعازِف، وشُرِبَت الخُمور»؛ رواه الترمذي.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "المسخُ واقعٌ في هذه الأمةِ ولا بُدّ، وهو في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلَبوا دينَ الله وشرعَه، فقلبَ الله تعالى صُورَهم كما قلَبوا دينَه، والمُجاهِرين المُتهتِّكين بالفسقِ والمحارِم، ومن لم يُمسَخ منهم في الدنيا مُسِخ في قبره أو يوم القيامة".
أيها المؤمنون:
إن المسؤولية في المُجتمع على كلِّ فردٍ فيه، وجاء الأمرُ باتقاءِ المصائب العامة مُوجَّهًا إلى كل أحدٍ، كلٌّ بحسَبِه، قال الله - عز وجل -: وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً[الأنفال: 25].
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أمرَ اللهُ المؤمنين ألا يُقِرُّوا المنكرَ بين ظهرانَيهم، فيعُمَّهم اللهُ بالعذابِ، يُصيبُ الصالحين منهم ما أصابَ الناسَ، يهلِكون مهلكًا واحِدًا، ويصدُرون مصادر شتَّى، يبعثُهم الله على نيَّاتهم".
عباد الله:
إن اتقاءَ هذه المصائب العامة لا يكونُ إلا بتوقِّي أسبابها، والظلمُ من أعظم أسباب العذاب العام، فبسببه هلَكَت الأممُ السالِفة والقرونُ الخالية، وبسببه تسقُط الدولُ، وتهلَك القُرى، وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا[الكهف: 59]، وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِين[الأنبياء: 11].
والله - عز وجل - يُمهِلُ ولا يُهمِلُ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ ليُملِي للظالمِ حتى إذا أخذَه لم يُفلِته، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيد[هود: 102]»؛ أخرجه البخاري.
فاحذَروا ظلمَ العباد وهضمَ حقوق العُمَّال والضعفاء، فضلاً عن المظالمِ العامة التي يطالُ ضررُها الكثيرين.
ومن الظلمِ: خُذلان المظلوم والتخلِّي عن نُصرته؛ فإن ذلك مُؤذِنٌ بالعقوبة، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الناسَ إذا رأوا الظالمَ فلم يأخُذوا على يديه أوشكَ أن يعُمَّهم الله بعقابٍ»؛ أخرجه الترمذي، وقال: حديثٌ صحيحٌ.
وأشدُّ الظلمِ ما يُسبِّبُ فواتَ الدين أو النفسِ أو العرضِ أو المالِ.
أيها المؤمنون:
والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكر أمَنَةٌ من العذابِ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون[هود: 117]؛ فما أعظمَ بركةَ المُصلِحين، وما أقبحَ أثرَ الناسِ عليهم!
ومن سُنَّةِ اللهِ في عباده: أن المُنكَر إذا فشَا فيهم ولم يُغيِّروه فإن العقوبةَ تشملُهم والعذابَ يعُمُّهم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن اللهَ - عز وجل - لا يُعذِّبُ العامةَ بعملِ الخاصَّة حتى يرَوا المُنكَرَ بين ظهرانَيهم، وهو قادِرون على أن يُنكِروه فلا يُنكِروه، فإذا فعَلوا ذلك عذَّبَ اللهُ الخاصةَ والعامةَ»؛ أخرجه الإمام حمد، وحسَّنه الحافظُ ابن حجر.
وعن النعمان بن بشيرٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مثَلُ القائمِ على حُدود الله والواقعِ فيها كمثَل قومٍ اتَهَموا على سفينةٍ، فأصابَ بعضُهم أعلاها وبعضُهم أسفلَها، فكان الذين في أسفلِها مرُّوا على من فوقَهم، فقالوا: لو أنَا خرَقنا في نصيبِنا خرقًا ولم نُؤذِ من فوقنا، فإن يترُكوهم وما أرادوا هلَكوا جميعًا، وإن أخَذوا على أيديهم نجَوا ونجَوا جميعًا»؛ أخرجه البخاري.
وعن زينب بنت جحشٍ - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا إله إلا الله، ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترَب، فُتِح اليوم من ردمِ يأجُوجَ ومأجوجَ مثلُ هذه» - وحلَّقَ بأُصبعه الإبهام والتي تلِيها -. قالت زينبُ: فقلتُ: يا رسول الله! أنهلَكُ وفينا الصالِحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبَثُ»؛ متفق عليه، واللفظُ للبخاريِّ.
وأخرج الإمامُ أحمد، والترمذي وحسَّنه من حديثِ حُذيفةَ بن اليمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والذي نفسي بيده؛ لتأمرنُّ بالمعروف ولتنهَوُنَّ عن المُنكَر، أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يبعثَ عليكم عقابًا منه، ثم تدعُونَه فلا يُستجابُ لكم».
وقال - عليه الصلاة والسلام -: «ما من قومٍ يُعمَلُ فيهم بالمعاصي ثم يقدِرون على أن يُغيِّروا ثم لا يُغيِّروا إلا يُوشِكُ أن يعُمَّهم اللهُ منه بعقابٍ»؛ أخرجه الإمام أبو داود.
عباد الله:
ومن أسباب العقوبات العامة: كُفران النِّعم، وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُون[النحل: 112]، الجوعُ والخوفُ شبَحٌ يُرعِبُ كلَّ الأحياء، ولقد قال: فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِولم يقُل: كفَرَت باللهِ؛ ذلك أن كُفران النِّعَم سبب الجُوع والخوف، وسببُ الفتن والاضطرابِ في الأمن والمعايِش، وإنما تثبُت النعمةُ بشُكر المُنعِم.
وإن اللهَ تعالى أعطَى فأجزَل، وأنعمَ فتفضَّل، وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا[إبراهيم: 34]، وقد وعدَ - سبحانه - وأوعدَ، فقال - وهو القادِر -: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد[إبراهيم: 7].
ومن كُفران النِّعَم: الإسرافُ والتبذيرُ، وإهانةُ الطعام، والطغيان، والتباهِي بما يجلِبُ سخطَ اللهِ ومقتَه.
أيها المسلمون:
ومن أسباب العقوبات العامة: الغفلةُ والإغراقُ في اللهو والعبَث؛ جاء في "المُسند" عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتَ اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا على معاصيه ما يُحِبُّ، فإنما هو استِدراجٌ». ثم تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون[الأنعام: 44]».
قال الحسنُ - رحمه الله -: "مكِر بالقومِ - وربِّ الكعبة -، أُعطُوا حاجتهم ثم أُخِذوا".
وقال قتادة: "بغَتَ القومَ أمرُ الله، وما أخذَ اللهُ قومًا قطُّ إلا عند سَكرتهم وغِرَّتهم ونِعمتهم".
فلا تغترُّوا باللهِ، إنه لا يغترُّ إلا القومُ الفاسِقون، وحاذِروا الترَفَ، والرُّكونَ إلى الدنيا والتسابُقَ فيها؛ فإنه الداءُ الذي أهلكَ الأممَ السابقة، وهو ما حذَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمتَه منه، حين حذَّرَها من فتنةِ الدنيا والتسابُق فيها، فقال: «فواللهِ ما الفقرَ أخشَى عليكم، ولكن أخشَى أن تُبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسِطَت على من كان قبلَكم، فتنافَسُوها كما تنافَسُوها، وتُهلِكَكم كما أهلكَتهم»؛ متفق عليه.
وقال: «إني مما أخافُ عليكم من بعدي ما يُفتَحُ عليكم من زهرة الدنيا وزِينتها»؛ متفق عليه.
ومن أعظمِ أسباب العقوبات العامة: انتشارُ الفواحِش والزنا، وأسباب الفُسوق المُؤدِّية إليها، قال الله - عز وجل -: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء: 16]، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «لم تظهَر الفاحِشةُ في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلا فشَا فيهم الطاعونُ والأوجاعُ التي لم تكن مضَت في أسلافهم الذين مضَوا»؛ أخرجه ابن ماجه، والحاكمُ وصحَّحه.
فحافِظوا على أمنِكم - أيها المؤمنون -، وحاذِروا غضبَ الجبَّار، وتوقَّوا أسبابَ غضبه لعلكم تتقُون.
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكرُ له على توفيقه وامتِنانه، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه الداعِي إلى رِضوانه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِهِ ومن تبِعَهم بإحسانٍ.
عباد الله:
والسببُ الذي ترجِعُ إليه كلُّ أسباب العقوبات العامة بعد الشركِ بالله: هو الذنوبُ والمعاصِي؛ فهي التي تُزيلُ النِّعَم، وتُحِلُّ النِّقَم، وتُحدِثُ في الأرضِ أنواعًا من الفساد في الماء والهواء، والزروعِ والثِّمارِ، والمساكِن والأرزاق، والأمنِ وسائرِ الأحوال، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون[الروم: 41]، وقال - سبحانه -: أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين[الأنعام: 6]، وقال - سبحانه -: فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ، وقال - عزَّ من قائلٍ -: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير[الشورى: 30].
وما المعاصي إلا خرابٌ للديارِ العامِرة، وسلبٌ للنِّعَم الظاهِرة والباطِنة، فبادِروا بالتوبةِ والاستِغفار؛ فذلك أمانٌ من العذابِ، وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون[الأنفال: 33]، الاستِغفارُ سببٌ لرحمةِ الله ولُطفه، لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون[النمل: 46].
وكذا الإيمانُ والتقوى، وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ[الأعراف: 96]، أما إذا غيَّر العبادُ أو بدَّلوا فإن سننَ الله لا تُحابِي.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوالِ نعمتك، وتحوُّل عافيتِك، وفُجاءة نِقمتك، وجميعِ سخَطك.
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى والرسول المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّق وليَّ عهده وسدِّده وأعِنْه على ما حُمِّل، واجعَله مُبارَكًا مُوفَّقًا لكل خيرٍ وصلاحٍ.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بَطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ.
اللهم كُن لإخواننا في سُورية، اللهم أصلِح أحوالَهم، واحقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، يا حيُّ يا قيُّوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين، اللهم انصرهم في فلسطين على الصهاينة المُحتلِّين، اللهم عليك بأعداءِ الدين فإنهم لا يُعجِزونَك، اللهم عليك بالطُّغاة والظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميعُ الدعاء.
نستغفِرُ الله، نستغفِر الله، نستغفِرُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ ونتوبُ إليه، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مُجلِّلاً عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تُحيِي به البلاد، وتسقِي به العباد، وتجعلُه بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-22-2012 05:35 PM

لتحذير من السَّفَه في العقل والمال
ألقى فضيلة الشيخ سعود الشريم - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "التحذير من السَّفَه في العقل والمال"، والتي تحدَّث فيها عن السَّفَه ومعناه وصفات المُتخلِّقين به، وبيَّن خطورته، مُحذِّرًا من مغبَّته، مُستدلاًّ على ذلك بالأدلة من الكتاب والسنة، ومن الواقع المُشاهَد.

الخطبة الأولى
الحمد لله العليِّ القدير، هو القاهرُ فوق عبادهِ ويُرسِلُ عليهم حفَظَةً، لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[القصص: 70]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، أرسلَه الله بالهُدى ودينِ الحقِّ ليُظهِرَه على الدينِ كلِّه ولو كرِهَ المُشرِكون، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمة، فصلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فإن الوصيةَ المبذولةَ لي ولكم - عباد الله - هي تقوى الله - سبحانه -؛ فهي سِلاحُ كلِّ مؤمنٍ، ودِثارُ كلِّ خائفٍ، وبُشرى كلِّ راغبٍ، فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة: 100].


أيها الناس:
يتفقُ الناسُ جميعًا مهما اختلَفَت مدارِكُهم أن العقلَ من أعظم نِعَم الله على العبدِ، به يميزُ الخبيثَ من الطيبِ، والزَّينَ من الشَّيْن، هو علامةٌ فارِقةٌ بين الآدميَّة وبين البهيميَّة والحجر الصَّلدِ، إنه لا يعرفُ قدرَ العقلِ إلا من وُهِبه، وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[النحل: 78].
وإنه لا يعلمُ مقدارَ العقلِ إلا من رأى فاقِدَه أو فقِدَ الاستِنارةِ به، ومن وهبَه الله عقلاً لا أثرَ له في واقعِ حياته فهو كمثلِ الحِمارِ يحمِلُ أسفارًا، أو كالعِيسِ في البَيْدَاءِ يقتلُها الظَّمَأ والماءُ فوق ظُهورِها محمولٌ.
لقد تسلَّلَت الاِزدِواجيَّةُ والتَّضادُّ لدى كثيرٍ من العقول، وما ذاك إلا لاضطرابِ وسائل التلقِّي التي يتعارَكُ فيها الحقُّ والباطلُ، والزَّيْنُ والشَّيْنُ، في زمنٍ يتقدَّمُ الحقُّ فيه تارةً ويتسلَّلُ الباطلُ فيه تاراتٍ.
وإنه متى تسلَّل الخللُ إلى العقل لِواذًا فتجاذَبَته الخِفَّةُ والطَّيشُ والاضطرابُ في الرأيِ والفكرِ والأخلاق؛ فإنه السَّفَهُ ما مِنه بُدٌّ، والسفيهُ في مثل هذا: هو ظاهرُ الجهل خفيفُ اللُّبِّ، استمهَنَ عقلَه بالتقليدِ الأعمى، والإعراضِ عن النظرِ به خللٌ في تفكيره، وخللٌ في لسانه، وخللٌ في قلمه، وخللٌ في أخلاقه، يفِرُّ منه العُقلاءُ فِرارَ الصحيحِ من الأجربِ.
السَّفَهُ - عباد الله - ليس جنونًا ولا فُقدانًا للعقل؛ وإنما هو سوءُ استعمالٍ له أو تهميشُه عن أداء دوره الذي خُلِق له، فكلُّ صاحبِ عقلٍ سارَ مع مُرادِ الله ومُرادِ رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو العقلُ السلمُ، ومن ندَّ عن مُراد الله ومُراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو السَّفيهُ وإن كان عقلُه يفوقُ عقولَ الدُّهاة.
ومن هنا وصفَ الله - جل وعلا - بالسَّفَه كلَّ من عانَدَه أو ندَّ عن شِرعتِه ومِنهاجِه، كما قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ[البقرة: 13]، فوصفَهم بالسَّفَه مع كمال عقولهم ودهائِهم؛ لمُخالفتهم صِبغةَ الله، ولهذا توعَّد اللهُ كلَّ سفيهٍ لا يُعمِلُ عقلَه فيما يُرضِي اللهَ - سبحانه -، أو يُعمِلُه فيما لا يُرضِي الله، بقوله تعالى: أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ[الأعراف: 179].
والسَّفَه - عباد الله - آفةٌ تعتري الإنسانَ في أموره الدينية وأموره الدنيوية؛ أما الأمور الدينية فيكونُ ذلك بمُحادَّة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم –، والنُّكوص عن شِرعة الله أو مُضادَّتها، أو الاستِهزاءِ بالله وبرسوله - صلى الله عليه وسلم -، أو السخريةِ بشيءٍ من أمور الدين، أو التهوين من شأن الشريعة الإسلامية ووصفها بالتخلُّف أو النُّقصان أو عدم مُلاءمتها لواقع الحال، كلُّ ذلك سَفَهٌ وخَبالٌ، كما قال تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا[البقرة: 142]، فقد وصفَ الله هؤلاء المُعترِضِين بالسَّفَه؛ لأن العاقلَ لا يعترِضُ على الله ولا على رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومن ثمَّ يكون عزيزًا كريمًا، بخلاف المُعترِض فإنه يُصابُ بالذلِّ والصَّغار، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ[المجادلة: 20].
ولم يكن وصفُ السَّفَهِ - عباد الله - قاصرًا على مُعانَدة بعض سُفهاءِ الإنس تجاهَ دينهم ومتهم ومُجتمعهم، كلا؛ بل إن اللهَ - سبحانه - ذكرَ ذلك عن أمةِ الجنِّ أيضًا، وذلك بقولهم: وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا[الجن: 4]؛ أي: يقول بُهتانًا وزُورًا.
فانظروا - يا رعاكم الله - كيف اتفقَت الجِنَّةُ والإنسُ على وصفِ من تخبَّطَ في أمور الدين، ولتَّ فيها وعجَنَ بغير هُدًى من الله أنه سَفيهٌ ليس من العُقلاء في وِرْدٍ ولا صَدَرٍ، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ[البقرة: 130].
ولهذا - عباد الله - تكون مغبَّة السَّفَه في أمور الدين وخيمةً، فهي غيرُ قاصرةٍ على السفيهِ وحدَه؛ بل تعمُّ السفيهَ والعقلَ والمُجتمعَ كلَّه؛ فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سُئِل: أنهلِكُ وفينا الصالِحون؟ قال: «نعم، إذا كثُر الخبَثُ».
ولهذا قال الله - جل وعلا -: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[الأنفال: 25]، فمن سَفَهِ السفيهِ أنه يجُرُّ الويلَ والهلاكَ لمُجتمعه جرَّاءَ سفَهِهِ وحماقاتِهِ، وما كان خوفُ موسى - عليه السلام - من السَّفَه في أمور الدين إلا خشيةَ أن تعُمَّهم العقوبةُ من الله، فكان كلامُ موسى لربِّه: قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ[الأعراف: 155].
وأما السَّفَهُ في الأمور الدنيوية - عباد الله - فيكون في التصرُّف في المال بما يُخالِفُ شرعَ الله، أو بالتبذيرِ والإسرافِ فيه، ومن ذلكم: الاتِّجارُ والمُرابَحَة فيها بتهوُّرٍ وعدم استِحضارِ حُرمتها وحُرمةِ أصحابها، فهذا سَفَهٌ ووضعٌ للأمور في غيرِ موضعِها، ولهذا قال الله تعالى: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا[النساء: 5].
لقد كثُر السَّفَهُ في الأموال، فاستهانَ البعضُ بالحقوق وتصرَّفوا بأموال الناس بلا ذِمَّةٍ ولا أمانة، فاضطربَت الإِحَنُ والمُشاحَّةُ والدعاوَى، وكثُر الإعسارُ المُفاجِئُ، والخسائرُ المُتراكِمة، ونشأَت الفتنُ بين المُساهِمين والمُستثمرين، فبغَى بعضُهم على بعضٍ، ولعَنَ بعضُهم بعضًا، كلُّ ذلك بسببِ الطمعِ والجشَع، وضعفِ القناعَة المُولِّدة للسَّفَه الماليِّ؛ لأن للمال ثورةً كثورةِ الخَمرة تأخُذ شارِبَها حتى ينتشِي.
وجامِعُ الأمر في ذلكم: هو قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «من يأخُذ مالاً بحقِّه يُبارَك له فيه، ومن يأخُذ مالاً بغير حقِّه فمَثَلُه كمثَلِ الذي يأكلُ ولا يشبَع»؛ رواه مسلم.
فليتَّقِ اللهَ أولئك الذين استأمنَهم الناسُ على أموالهم، وليُرابِحُوا فيها بما أحلَّ الله، وألا يتهوَّروا ولا يُفرِّطوا، ولا يقعُوا في الرِّيبةِ والشُّبهَة، ولا يستغِلُّوا ثقةَ الناسِ بهم، وليذكُروا قولَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من أخذَ أموالَ الناسِ يُريدُ أداءَها أدَّى اللهُ عنه، ومن أخذَها يُريدُ إتلافَها أتلفَه الله»؛ رواه البخاري.
ثم إن من السَّفَه - يا رعاكم الله -: قتلَ النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، وكلما ازدادَ المرءُ قتلاً ازدادَ سَفَهًا، وإن تعجَبوا - عباد الله - فعَجَبٌ سَفَهُ من يقتُلون شُعُوبَهم وبني جِلدَتهم ممن وصفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمثالَهم بأنهم سُفهاءُ الأحلام، ومن أفعالهم: أنهم يقتُلون أهلَ الإسلام، ويدَعُونَ أهلَ الأوثان، كما يجري لبعضِ إخواننا ممن قُتِلوا وعُذِّبُوا سَفَهًا بغير علم، وكم هي الحالُ المُؤرِّقةُ مع إخواننا في سورية والذين يُواجِهون أشدَّ أنواعِ الجَور والقتل والوحشية التي لا يرضاه الله ولا رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يُقِرُّها دينٌ ولا مِلَّةٌ ولا عُرْفٌ، قتلٌ وغدرٌ وعِنادٌ، وكلما قيل لهم: اتقوا الله ولِينوا بأيدي إخوانكم، جعلوا أصابعهم في آذانهم، وتأبَّطوا أسلحتَهم، وأصرُّوا واستكبَروا استِكبارًا.
وأمثالُ هؤلاء يصدُقُ فيهم قولُ ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -: "إذا سرَّك أن تعلمَ جهلَ العربِ فاقر قولَ الله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ[الأنعام: 140]"؛ رواه البخاري.
وبهذا المُناسَبة فإن الشكرَ موصولٌ لكل من كانت له يدٌ طُولَى في الإنكار على أولئك؛ من حكوماتٍ، وقادة، وعلماء، ومُفكِّرين، وشُعوب، وأخُصُّ منهم: الدول التي سحَبَت سُفراءَها، ووقفَت ضدَّ الظلم والعُدوان، ومنهم: هذه البلاد بقيادتها.
فإلى مزيدٍ من الجهود وممارسة تضييق الخِناقِ ضدَّ هذا التصعيدِ السَّفيه في نَزيفِ الدماء، وجمعِ الكلمة في اتخاذ خُطواتٍ مُتقدمةٍ تكون كفيلةً في حقنِ الدماءِ ورفع القتلِ والظلمِ.
بارَكَ الله في الجهود، وسدَّد الخُطى، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
قد قلتُ ما قلتُ، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عُدوان إلا على الظالمين، وأُصلِّي وأُسلِّمُ على عبده ورسوله محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فإن المُجتمعات الجادَّة الواعِية هي تلكم المُجتمعات التي تُحسِنُ التعامُل المُتكامِل، وتلمَّسُ مواقعَ الخللِ لدى بنِيها والمُنتَمين إليها؛ لتشكُر الناجِح وتُكرّمه، ولتُصلِح المُتعثِّر وتُقوِّمه، ومن ذلكم: أخذُها على أيدي سُفَهائِها، وإصلاح شأنهم، والقضاء على مظانِّ السَّفَه لئلا تغرقَ سفينةُ المُجتمع الماخِرة بقضِّها وقضيضِها.
السَّفيهُ آفةٌ في المُجتمع عالةٌ عليه؛ لأنه لا يعرفُ متى يجبُ أن يتكلَّم ولا متى يجبُ أن يسكُت.
السَّفيهُ يتطفَّلُ على كلِّ شيءٍ، ويتكلَّم ويهرِفُ في كل شيءٍ.
السَّفيهُ هو الرُّويبِضَةُ الذي يتكلَّمُ في أمرِ العامَّة، وينصِبُ نفسَه نِدًّا لذوي العلمِ والاختِصاصِ.
السَّفيهُ يسبِقُ طيشُه عقلَه، وغضبُه حلمَه، وغفلتُه يقظتَه، لا تزيدُه المُجاراةُ إلا هذَرًا، ولا المُداراةُ إلا بطَرًا، ولا أمانُ العقوبةِ لا هرَفًا وتماديًا.
وأما السَّفيهُ في الأخلاقِ فدواؤُه السكوتُ، ومُتاركتُه بلا جوابٍ أشدُّ عليه من الجوابِ في الغالبِ، سفيهُ الخُلُق إذا ردَدتَ عليه فرَّجتَ عنه، وإذا خلَّيتَه فإنه يموتُ كمَدًا، قال عنه الشافعيُّ - رحمه الله -:
يُخاطِبُني السَّفيهُ بكلِّ قُبحٍ
وأكرَهُ أن أكون له مُجيبًا
يزيدُ سفاهةً وأزيدُ حِلمًا
كعودٍ زادَه الإحراقُ طِيبًا
فالسَّفيهُ - عباد الله - كالضَّرعِ إن حلبتَه درَّ، وإن تركتَه قرَّ.
وقد كان عُميرُ بن حبيبٍ ممن أدركَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فكان يقولُ لبَنِيه: بنِيَّ! إياكم والسُّفهاء؛ فن مُجالستهم داءٌ، من يحلُم عن السَّفيه يُسَرُّ، ومن يُجِبْهُ يندَمُ، ومن لا يرضَى بالقليلِ مما يأت به السَّفيهُ يرضَى بالكثيرِ.
ولا خيرَ في عقلٍ إذا العلمُ غائبٌ
ولا خيرَ في علمٍ يكونُ بلا عقلِ
فلا بُدَّ من علمٍ وعقلٍ كلاهُما
يصُدَّان عنَّا ذا السَّفاهَةِ والجهلِ
هذا وصلُّوا - رحمكم الله - على خيرِ البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، صاحبِ الحوض والشفاعة؛ فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المُسبِّحة بقُدسِه، وأيَّه بكم - أيها المؤمنون -، فقال - جل وعلا -: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب : 56]، وقال - صلواتُ الله وسلامه عليه -: «من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها شرًا».
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحابته والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمُشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، ونفِّس كربَ المكروبين، واقضِ الدينَ عن المَدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حيُّ يا قيُّوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم أصلِح أحوالَ المُسلمين في كل مكانٍ، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في سُوريا، اللهم كُن لإخواننا المُستضعفين في سُوريا، اللهم كُن لهم ولا تكُن عليهم، اللهم أعِنهم ولا تُعِن عليهم، اللهم اشفِ مرضاهم، وفُكَّ أسراهم، وارحم موتاهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللم شأن من ظلمَهم في سِفال، وأمرَه في وبالٍ، يا حيُّ يا قيُّوم يا رب العالمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفُقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
سبحان ربِّنا رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-22-2012 05:40 PM

غيابُ القيم في ظل الفتن
ألقى فضيلة الشيخ عبد الرحمن السديس - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "غيابُ القيم في ظل الفتن"، والتي تحدَّث فيها عن القِيَم والأخلاق الحميدة التي جاء بها الإسلام، ورسولُ السلام - عليه الصلاة والسلام -، ونبَّه على ضرورة التمسُّك بها، مُشيرًا إلى ما يحدُثُ في هذه الأيام من تطاوُلٍ على الذات العليَّة، والمقامِ النبوي، وأيضًا مُندِّدًا بما يحدُثُ من بعضِ الحُكَّام الظلمةِ والطُّغاة الذين سامُوا شعوبَهم سوءَ العذابِ، مُستشهِدًا في ذلك بالآيات الكريمة، والأحاديث الصحيحة، وبعضِ الأشعار المُعبِّرة.

الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمدُك ربي ونستعينُك ونستغفرُك ونُثنِي عليك الخيرَ كلَّه.
حمدًا وشُكرًا يا إلهي وخالِقِي
وليس بذاكَ الشكرِ نُوفِي فضائِلَك
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نلهَجُ بها اعتقادًا واعترافًا، ونرشُفُ من معينِها أزكَى المناقبِ عَلَلاً واغتِرافًا، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله أسمَى العبادِ شمائلَ وأوصافًا، اللهم فصلِّ وبارِك عليه، من نحَلَ البريَّةَ دُررًا من الشِّيَم أصنافًا، ومن بديعِ القِيَم أصدافًا، وعلى آله الطيبين الطاهرين الأُلَى كانوا على الحقِّ أُلاَّفًا، وصحابتِهِ الغُرِّ الميامين نُبلاً وألطافًا، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ يرجو من الرحمن جنَّاتٍ ألفافًا، وسلِّم ربَّنا تسليمًا كثيرًا ما انهمَرَ غيثٌ وكَّافًا.


أما بعد، فيا عباد الله:
خيرُ ما يُوصَى به تنافُسًا واستِباقًا: تقوى الله - عز وجل - خوفًا وإشفاقًا؛ فتقوى الديَّان تعمُرُ القلبَ إشراقًا، وتُزكِّي الأركانَ ندًى وإيراقًا، والروحَ خضوعًا وائتِلاقًا، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].
وما لبِسَ الإنسانُ أبهَى من التُّقَى
وإن هو غالَى في حِسانِ الملابِسِ
وإن التُّقَى للمرءِ زادٌ ورِفعةٌ
وخيرُ ضِياءٍ في ظلامِ الحنادِسِ
أيها المسلمون:
في مُلتَهَبِ القضايا العالمية الكاسِرة، والمِحَن السياسية الهاصِرَة، والفِتنِ المُدلهِمَّةِ الكاسِرة تنبجِسُ قضيةٌ تأصيليَّةٌ جِدُّ مهمَّة، أصلُها ثابتٌ مُنيف، وفرعُها باسِقٌ ورِيف، لها دلالاتٌ كعذبٍ رحيقٍ، ورَسمٌ وضِيءٌ رقيق، كيف وقد قامَ الإسلامُ على جانبٍ منها متين، ورُكنٍ لسعادة البشريَّة ركين.
ولكن من أسَفٍ لاعِجٍ غاضَت أنهارُها، وانطَفَأت أنوارُها لدى كثيرٍ من الناس دون خجلٍ أو إحساس، تلكُم - يا رعاكم الله - هي: قضيةُ القِيَم المُزهِرَة، والشِّيَم الأخَّاذة المُبهِرَة التي أعتَقَت الإنسانَ من طيشِه وغُرُوره إلى مداراتِ الحقِّ ونورِه، ومن أوهاقِ جهلِه وشُروره إلى علياءِ زكائهِ وحُبُوره.
وأنَّى يخفَى على شريفِ علمِكم أن الإسلامَ وحده إياه لا غيرَه ولا سِواه هو مَوئِلُ القِيَم والفضائل، والمهدُ البديعُ لشُمِّ المُثُلِ والخلائِل، قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[الأنعام: 161].


معاشر المسلمين:
وفي إرشاد العالَمِ إلى أعالي القِيَم، وقِمَم الشِّيَم جاء الإسلامُ بالمُساواة بين الأجناس، والتراحُم بين الناس في تآلُفٍ وتعارُف ينبُذانِ التعادِيَ والتخالُف، يقول الباري - جلَّ اسمُه -: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات: 13].
وكذا شِيمةُ إحقاقِ الحقِّ وإن لم يُطَب؛ إذ به قِوامُ العالَمِ وأمنُه وانتِظامُه، وقُطبُ رَحاهُ ومَرامُه، وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ[الإسراء: 105].
ومن مذخورِ تلك القِيَم ورِكازِها: الحثُّ على إقامةِ فُسطاطِ العدل، ذلكمُ المَعينُ الرقراق الذي يُسعِدُ العبادَ، ويُخصِبُ البلاد، وتطمئنُّ بهيبتِهِ القلوبُ، وتنجلِي به غياهِبُ الكُرُوب؛ بل تعدَّى الأمرُ العدلَ إلى الإحسانِ، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ[النحل: 90].
مُطلَقُ العدلِ والإحسانِ في الأسرة والمُجتمع والأوِدَّاء مع الرعيَّةِ أو الأعداء؛ بل في العالمين على حدٍّ سواءٍ.
وإذا العدالةُ في العالَمين تحكَّمَت
جاءَت لهم بنعيمِها النَّعماءُ
نالُوا الحقوقَ كبيرُهم كصغيرِهم
فالكلُّ في بابِ القضاءِ سَواءُ
إخوة الإسلام:
أما دفعُ الظلمِ واجتِثاثُ أُصولِه، ودَحرُ جلاوِزَته وأُسطُوله، فقيمةٌ أصَّلَتها الأديان، ودانَ بها بنُو الإنسان على اختلافِ مذاهِبهم ومشارِبهم، وعزَّزَها الإسلامُ ونصرَها، وتوعَّدَ من خالَفَها وغمَرَها، وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا[طه: 111]؛ لأن الظلمَ يُتبِّرُ الديارَ، وعُقباه أشدُّ فتكًا من النار، يقول - عليه الصلاة والسلام -: «إن الناسَ إذا رأَوا الظالمَ فلم يأخُذوا على يديه أوشكَ أن يعُمَّهم الله بعقابٍ منه»؛ رواه أبو داود والترمذي.
وقال - صلى الله عليه وسلم - فيما أخرجه البيهقيُّ وابن حبان في "صحيحه" -: «شهِدتُ في دار عبد الله بن جدعان حِلفًا لو دُعِيتُ إلى مثلِهِ في الإسلام لأجبتُ».
وهذا الحِلفُ ينتصِفُ إلى الوَضيعِ من الرفيعِ، وللمظلومِ من الظالِم، ومن ذي المرتبة لذي المتربَة.
أما مُثُلُه وقِيَمُه - عليه الصلاة والسلام - أوانَ السِّلمِ والأمان، والحربِ والطِّعان؛ فإنها دستورُ المبادِئِ النفائِس، والفرائِدِ العرائِس؛ عن بُريدَةَ - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّر أميرًا على جيشٍ أو سرِيَّة أوصاه في خاصَّتِهِ بتقوَى الله ومن معه من المُسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزُوا بسمِ الله، وفي سبيل الله، ولا تغُلُّوا، ولا تغدِروا، ولا تُمثِّلُوا، ولا تقتُلوا وَليدًا»؛ رواه مسلم. وفي روايةٍ: «ولا شيخًا ولا امرأةً».
الله أكبر، الله أكبر! إنها الأخلاقُ الإنسانية، والشمائلُ المُحمدية.
إذا غَزَا فالرِّفقُ يغزُو قبلَه
والرِّفقُ أعتَى جحفَلٍ جرَّارِ
إخوة الإيمان:
وفي هذا الأوانِ العَصيبُ استِناخَ الظلمُ ليلاً حالِكًا في طُغاةٍ سامُوا شُعوبَهم الظلمَ والاستِبداد، والطُّغيانَ والاستِعباد، وصمُّوا عن صوتِ الحقِّ والرشاد، ولجُّوا في الجُحودِ والعِناد.
فيا للهِ! كيف ضاعَت القِيَم وغابَت الشِّيَم؟! أين النُّهَى والرأيُ الأسَدُّ؟! حَتامَ الارتِكاسُ في مُستنقَع الطُّغيان والبطشِ الأشَدِّ! حتى غدَت تلك الرُّبَى الشَّهباء والخمائِلُ الفَيحاء بين الأنقاضِ والأشلاءِ، وأهوالِ الدموعِ والدماءِ.
يا قومِ نادُوا طُغاةً عمَّهم أفَنٌ
أن ليس هذا من الأخلاقِ والقِيَمِ
إن المبادئَ والأخلاقَ سُنَّتُها
تبنِي الشُّعوبَ وترعَى حُرمةَ الأُمَمِ
وما وحشيَّةُ الإنسانِ وقسوتُه إلا مِرآةُ حِقدِه وانتِكاستُه، هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ[ص: 55].
نعم، لنا اللهُ مولانا نُؤمِّلُه
عند الرخاءِ وفي الشِّدَّاتِ والنُّوَبِ
ربٌّ يغارُ ومن يطلُبهُ يُدرِكهُ
لا أرضٌ تقِيهِ ولا قصدٌ إلى هَرَبِ
عباد الله:
شُرَفاءَ العالَم، عُقلاءَه وأحرارَه في كل مكانٍ! لقد تحتَّم وآن تعزيزُ القِيَم وإعلاءُ الشِّيَم، وإحياءُ الذِّمَم بين بني الإنسان، والائتلافُ حول معاقِدِ الحقِّ والعدلِ والأخلاقِ، لا حول الذَّوَاتِ والطوائِفِ والأعراقِ.
وأن يُحقَّقَ الإِخاءُ الإنسانيُّ والأمنُ العالَميُّ، المُجرَّدُ عن المطامِعِ والدوافِع، المُبرَّأُ عن الأغراضِ المدخولةِ والمنافِع، وأن يكون لله احتِسابًا، ولآصِرةِ الإنسانيةِ انتِسابًا، فلن يرسُو العالَمُ المنكوب في مرافِئِ العدلِ والسلامِ إلا بدحرِ الظلمِ والعُدوان، وإن شذَّ من شذَّ ومانَ دون حُجَّةٍ أو بُرهان.
وأن يكون الانتِصارُ للقِيَم طيَّ الأفكارِ والأرواحِ لا الأدراجِ ومهبِّ الرياح، إلا يكُن فعلَى الدنيا العَفاء، وسطِّرُوا على أطلالِ الهيئاتِ والمجالسِ والأُمَم عباراتِ الفناءِ.
ليس السلامُ ترنُّمًا يحلُو لِمَن
عشِقَ السلامَ لجَرسِهِ يتسمَّعُ
إن السلامَ مواقِفٌ تُبنَى على
أُسُس العدالةِ لا تُخانُ وتُقطَعُ
أين تجريمُ الإرهاب، وتحريمُ الإرعاب؟! أين شِيَمُ الإنصافِ والنُّصرةِ والسلام التي أعلَنَت بياتًا شتائيًّا حَولاً كاملاً لا أمَدَ لانقِضائه، وتحرُّكًا تقليديًّا لا أملَ لانطِوائِه، حِيالَ إخواننا المكلومين في سوريا.



نبكِي على تلك الرُّبَى في
الشامِ حيثُ الجُرحُ غائِر
ونَهيمُ في أرجائِها
بين المساجِدِ والمنائِر
فاللهُ المُستعان.
وإلى متى يستمرُّ الاستِبدادُ والطُّغيان المُمنهَجُ يحصِدُ أرواحَ الأطفال والشيوخ، وأبطالَ العِزَّة والشموخ، ولا حول ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
هُمُ الذين لك اللهمَّ قد صبَرُوا
وكلُّهم لك فيما كانَ مُحتسِبُ
فلا يُغَرَّ بما يلقَونَ طاغيةٌ
فلن يكون لغيرِ المؤمنِ الغَلَبُ
فالصُّبحُ آتٍ وإن طالَ الدُّجَى زمنًا
والغيثُ يُرجَى إذا ما اسودَّتِ السُّحُبُ
فلِزامًا على أصحابِ المُبادَرات والقرار غَذُّ السيرِ بمَضاءِ الصارمِ البتَّار، لانتِشالِ البلَدِ الجريح، والوطنِ من مُدَى الخَديعة والاستِكبار الصريح، اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا[فاطر: 43].
يا ربِّ سلِّم أهلَها
واحمِ المواطِنَ والمنازِلَ
واحفَظ بلادَ المُسلمين
عن الميامِنِ والشمائِل
يا ربِّ صُن أعراضَهم
ونُفوسَهم من كلِّ قاتِل
وغدًا إذا الحقُّ اعتَلَى
حتمًا سيزهَقُ كلُّ باطِل
أمة الإسلام:
وفي ظلِّ تعزيزِ قِيَمنا الربَّانية الومَّاضة التي تتأبَّى على التدليسِ والمُوارَبَة والتلبيسِ: العدلِ، والصدقِ والوفاءِ، والرِّفقِ والصفاء، والأمانةِ، والإحسان، والإخاء، وسِواها من كرائمِ الشِّيَم الغرَّاء، وإبَّان غرسِها أزاهِير ضوَّاعةً في أفئِدَة المُجتمعات والأجيال.
ستنطلِقُ بنا - بإذن الله - أشعةُ هدايةٍ وحياةٍ نحوَ أمةٍ عالمية مُترَعةٍ بالوِفاقِ والازدِهار، مُتألِّقةٍ بمعاني الإباء والنصرِ الغِزار، في حًصَانةٍ ذاتيَّةٍ فريدة عن متاهاتِ الضلالةِ والصَّغَار والقِيَم المنبوذَةِ الحِقار التي قَذَفَت بها الشبكات والتِّقَانات، وكثيرٌ من مواقعِ التواصُل الأفِكات، في سباقٍ محمومٍ من التقليعاتِ والتغريدات.
فالانتِصارُ للقِيَم سَنَنُ العَودة الظافِرَة بالأمة لنقودَ العالَمَ بفُولاذِيِّ الهِمَّة، ونكون فيه كما أرادَ الله لنا الهُداةَ الأئمة، ونسُوقَه إلى أفياءِ السلامِ والعدلِ بالخُطُمِ والأزِمَّة.
وبعدُ، أيها المسلمون:
هل صيحةٌ في اللهِ تُوقِدُ عزمَنَا
فندُقُّ ما حاكَ الضلالُ وزوَّرَا؟!
هل غضبةٌ للهِ تجمَعُ شملَنَا
لنقُودَ هذا العالَمَ المُتحيِّرَا؟!
هذا الرجاءُ وذاكَ الأمَلُ، ومن اللهِ - سبحانه - نستلهِمُ سدادَ القول وصوابَ العمل، إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[يوسف: 100].
أقول قولي هذا، وأستغفرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم، فاستِغفروه وتوبوا إليه واشكُروه، إنه كان حليمًا غفورًا.



الخطبة الثانية
الحمد لله، زكَّى القلوبَ والأعمالَ بأسنَى القِيَم، وأشكُرُه - سبحانه - على إنعامه المِدرارِ الأَتَمّ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مِعراجُنا إلى شُمِّ القِمَم، وصلواتُ ربي الطيباتِ المُبارَكات على النبيِّ الكريمِ هادِي الأُمَم، وآلهِ وصحابتهِ معادنِ المناقِبِ وأسمَى الشِّيَم، والتابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ ما جلَّت الأنوارُ حالِكَ الظُّلَم، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واستمسِكوا جميعًا بعُرى الخِصالِ الحميدة والقِيَم؛ تفوزوا الفلاحَ والمجدَ الأعَمَّ.
إخوة الإيمان:
القِيَمُ الإسلامية هي مِعراجُ الروح لبناءِ الشخصيةِ السَّوِيَّة العالمية؛ شخصيَّةٍ مُبارَكةٍ مُتماسِكة، راسِخةٍ مُتناسِقة، وجيهَةٍ غير مُتشاكِسة، وأُسوتُنا المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، هو المُضمَّخُ من القِيَم بأعظمِ الحظِّ والنصيبِ؛ كيف وقد ترقَّى بالإنسانية شطرَ الكمالات، والمعالِي المُشمخِرَّات.
وإننا لنُزجِي للعالَمِ الذي اعتسَفَ كثيرًا من القِيَم، وأبادَها كالرِّمَم؛ تذكيرًا بلُمَعٍ من شِيَمه الباهِرَة، وسيرتِه الطاهِرة؛ فقد كان - بأبي هو وأمي - عليه الصلاة والسلام - كان الصِدقُ أليفَه، والحِلمُ حليفَه، والعدلُ طريقَه، والتواضُع رفيقَه، وإحقاقُ الحقِّ رحيقَه، أما الأمانةُ فسجيَّتُه، والرحمةُ الفيَّاضة فشِيمتُه، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[الأنبياء: 107].
ملأتَ الكونَ أخلاقًا ونورًا
وقد كانت معالِمُه يَبَابًا
إذا ما الطُّهرُ صافَحَنا شَذَاهُ
غَدَا أصفَى الوَرَى قلبًا ثِيابًا
إذا ما الحِلمُ عطَّرَنا رُواهُ
سَباكَ العفوُ صبرًا واحتِسابًا
ومن أهمِّ ما يُعزِّزُ القِيَم في وقتِ جَفافِ منابِعِها، ويُعلِي الشِّيَم في زمنِ التطاوُلِ على مرابِعِها؛ تربيةُ النشءِ وتوجيهُ الجيل وشبابِ الأُمَّة على التأسِّي والاقتِداءِ بالحبيبِ المُصطفى - صلى الله عليه وسلم -، ووجوبِ تعظيمِهِ ومحبَّتِه، وتوقيرِه وطاعتِه، وطبعُهُم على إجلالِه وإعظامِه، وذَودُهم عن بُؤَرِ الجُنوحِ الفِكريِّ النَّزِق، والتمرُّدِ الأرعَنِ على الأُصول والثوابتِ الشرعية، والقِيَم النبوية المرعيَّة.
فمن اللَّوعَة والأسَى، والخَطبِ الذي نجَمَ - وبحمدِ الله - ما عسَى: التطاوُلُ على الذاتِ العليَّة، وجنابِ سيدِ البريَّة - بأبي هو وأمي - صلى الله عليه وسلم -.
إنا إذا سِيْمَ الرسولُ أذِيَّةً
تُلفَى لدينا أُهبَةٌ وكِفاحُ
ودِماؤُنا دون الرسولِ رخيصةٌ
ففِداؤُه المُهجاتُ والأرواحُ
ولكن بفضلِ اللهِ، ثم بفضلِ الله؛ وُئِدَت في مِهادِها؛ بل قبل ميلادِها، مِصداقًا لقول الحق - تبارك وتعالى -: إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ[الحجر: 95].
ألا بُعدًا، وبُعدًا، ثم بُعدًا
لمن يرمِي النبُوَّةَ بالسِّهَامِ
برِئْنَا من سَفَاهَتِهِ وعُذْنَا
بربِّ الكونِ من سُوءِ الخِتامِ
وهذا، وإن الأمةَ لترفعُ التقديرَ أعبَقَه، والدعاءَ أصدقَه لمقام خادمِ الحرمين الشريفين - أيَّدَه الله - كِفاءَ غيرتِه وانتِصارِه للمُقدَّسات، ومواقفِه الصارِمةِ البَلْجاء حِيالَ إخوانه في بلاد الشام، وما نضَحَت به مشاعِرُه من نُبْلٍ وصفاءٍ، وغَيرةٍ على قِيَم الحقِّ والعدلِ والاتِّحادِ والإخاءِ، ودعوتِه الصادقةِ إلى حقنِ الدماءِ، وكذا مواقِفُه الحكيمةُ الحازِمة ممن تطاوَلَ على المقام الإلهي، والجَنابِ المُصطفوِيّ.
اللهم فاجعل ذلك له في موازين الحسنات، ورفيعِ الدرجات، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعَوَات.
ولا غرْوَ أيها الإمام الهُمام، دُمتَ مُوفَّقًا مُؤيَّدًا مُسدَّدًا.
فعِندكم دينٌ وفيكم شِيَمٌ
خَزرجِيَّاتٌ ومجدٌ لن يُرامَا
ونفوسٌ لم تُطِق صبرًا على
ظالمٍ وتأبَى أن تُضامَا
هذا، وصلُّوا وسلِّموا - رحمكم الله - على من سمَا في العالَمين قدرًا وجَنابًا: خيرِ الوَرَى آلاً وصِحابًا، صلاةً تعبَقُ مِسكًا وتَطيابًا، كما أمرَكم المَولَى العزيزُ الجليلُ في مُحكَم التنزيلِ، فقال تعالى قولاً كريمًا لُبابًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
فصلِّ ربِّي وسلِّم كلَّ آوِنةٍ
على المُشَفَّعِ وانشُر طِيبَه فِينا
وآلهِ الغُرِّ والأصحابِ ما حَفِظُوا
عهدَ النبيِّ وبَرُّوه مُوفِّينا
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على الرحمة المُهداة، والنِّعمةِ المُسداة: نبيِّنا وسيِّدنا وقُدوتنا محمدِ بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر الطُّغاةَ والظالمين، وسائرَ المُفسدين والمُلحِدين وأعداء الدين، واجعل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا سخاءً رخاءً وسائرَ بلاد المُسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لما تحبُّ وترضى، وخُذ بناصيتِه للبرِّ والتقوى، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحة التي تدُلُّه على الخير وتُعينُه عليه، اللهم وفِّقه ونائِبَه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاحُ البلاد والعبادِ.
لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ الأرض وربُّ العرشِ الكريم، حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل، حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل، حسبُنا الله ونِعمَ الوكيل.
إلهَنا، إلهَنا، إلهَنا! عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤُك، وتقدَّسَت أسماؤُك، ولا إله غيرُك، منك الفَرَج، وأنت المُستعان، وإليك المُشتكَى، ولا حول ولا قوةَ إلا بك.
اللهم ارفع عن إخواننا في بلاد الشام، اللهم ارفع عن إخواننا في بلاد الشام، اللهم انصر إخواننا في سوريا، اللهم انصر إخواننا في سوريا، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، اللهم احقِن دماءَهم، وصُن أعراضَهم وأموالَهم، وأدِم أمنَهم وأمانَهم يا ربَّ العالمين.
نَدرأُ بك اللهم في نُحور أعدائِهم، ونعُوذُ بك اللهم من شُرُورهم.
اللهم إنا نسألُك أن تغفِرَ لموتاهم، اللهم اغفِر لموتاهم، اللهم اشفِ مرضاهم، اللهم عافِ جَرحاهم، اللهم عافِ مُبتلاهم يا رب العالمين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين الذين سفَكوا دماءَ المُسلمين، الذين سفَكوا الدماء، ونَثَروا الأشلاء، ولم يرحَموا الشيوخَ والأطفالَ والنساءَ، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونك، اللهم أنزِل عليهم بأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيُّ ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقِك، فلا تمنَع عنا بذنوبِنا فضلَك، اللهم إنا نستغفرُك إنك كنتَ غفَّارًا، فأرسِل السماءَ علينا مِدرارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
ربَّنا لا تُؤاخِذنا بما فعلَ السُّفَهاءُ منَّا، ربَّنا تقبَّل منَّا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوَّابُ الرحيم، واغفر لنا ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين الأحياءِ منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزَّة عمَّا يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله ربِّ العالمين.

ابوحاتم 03-22-2012 05:44 PM

الشام .. فضلها وتاريخها
ألقى فضيلة الشيخ صالح بن محمد آل طالب - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "الشام .. فضلها وتاريخها"، والتي تحدَّث فيها عن الشام وفضلها من الكتاب والسنة، وذكرَ بعضَ الدلائل النبوية عنها، ثم أشادَ بصبرِ وجلَد أهلِها على مرِّ العصور، ونبَّه إلى ضرورة التحلِّي بالصبر على هذا الابتلاء مُعدِّدًا بعضَ فضائل الصبر.

الخطبة الأولى
الحمد لله، الحمد لله الذي تحُولُ بأمره الأحوال، يُداِلُ الأيام فكم من دُولٍ أدلَّ عليها ثم أدالَ، وكم من زُمرةٍ تسلطَنَت وظنَّت خُلودَ سُلطانها فزلَّت ثم زالَت ومُلكُها زال، أحمدُ ربي - سبحانه - وأُثنِي عليه وأشكُرُه وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهد أن لا إله إلا الله الكبيرُ المُتعال، يُمهِلُ من غيرِ إهمال، وهو شديدُ المِحال عظيمُ النَّكَال، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، أكرمُ الرسلِ وأتمُّ الرجال، صلَّى الله وسلَّم وباركَ عليه وصلَّى على الصحبِ والآل.
أما بعد:
فإن خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، وشرَّ الأمور مُحدثاتُها، وكلَّ مُحدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة.
ثم إن خيرَ الوصايا: الوصيةُ بتقوى الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا[الأحزاب: 70، 71].

أيها المسلمون:
حين دحا الله الأرضَ وأجرى يدَ الخلقِ على الخليقة، جعل فيها بلادًا وذرأَ فيها بشرًا، ثم اصطفى الله من هذه البلاد بلادًا، ومن البشر بشرًا، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ[القصص: 68]، فكانت مكةُ والمشاعِرُ وطَيبةُ الطيبة، وكان شامًا منها بلادُ الشام.
واصطفى الله من البشر أنبياءَه ورُسُله، وقضى لبلاد الشام حظًّا وافرًا منهم، فجعل أرضَها مدرجَ الأنبياء، ومُتنزَّلَ الوحيِ من السماء، هي أرضُ المحشَرِ والنشَر، وحين يبعثُ اللهُ المسيحَ ابنَ مريم في آخر الزمان لا ينزلُ إلا فيها، عند المنارة البيضاء شرقِيّ دمشق؛ رواه مسلم.
طُوبَى للشام! ملائكةُ الرحمن باسِطةٌ أجنحتَها عليها، إنها بلادٌ بارَكَها الله بنصِّ الكتاب والسنة؛ فهي ظِئرُ الإسلام وحاضِنَتُه، وعاصِمتُه حينًا من الدهر، سُطِّرَت على أرضها كثيرٌ من دواوين الإسلام، ودُفِن فيها جموعٌ من الصحابةِ ومن عُلماء المُسلمين.
كم ذرَفَت على ثراها عيونُ العُبَّاد، وعُقِدَت في أفيائِها ألوِيَةُ الجهاد، وسالَ على دفاتِرِها بالعلوم مِداد، وجرَت على ثراها دماءُ الشهداء: صحابةً وأخيارًا وأصفياء، وتداوَلَ الحُكمَ فيها ملوكٌ وسلاطين،أضافوا للمجدِ مجدًا وللعِزِّ عِزًّا.
كُسِرَت على رُباها حملاتٌ صليبيةٌ تقاطَرَت عليها مائتي عام، قارَبَ أعدادُ الجُند فيها سُكَّانَ بلاد الشام كلِّها.
إذا عُدَّت حضاراتُ الإسلام ذُكِرَت الشام، وإذا ذُكِر العلمُ والفضلُ والفتوحُ ذُكِرَت الشام، هي أرضُ الأنبياء، وموئِلُ الأصفياء، وما زارَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلادًا خارجَ الجزيرة إلا بلاد الشام.
وفي آخر الزمان عندما تكون الملحَمَةُ الكُبرى يكونُ فُسطاط المُسلمين ومجمعُ راياتهم بأرضِ الغُوطَة فيها مدينةٌ يُقال لها: دمشق، هي خيرُ مساكن الناسِ يومئذٍ؛ كما أخرجه الطبراني من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولقد أدركَ الصحابةُ - رضي الله عنهم - دعاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «اللهم بارِك لنا في شامِنا، اللهم بارِك لنا في شامِنا»؛ رواه البخاري.
وقوله - صلى الله عليه وسلم -: «إذا فسدَ أهلُ الشام فلا خيرَ فيكم، ولا تزالُ طائفةٌ من أمتي منصورةً على الناسِ لا يضرُّهم من خذَلَهم حتى تقومَ الساعةُ»؛ رواه الترمذي.
فلم يلبَثُوا بعد رحيله - صلى الله عليه وسلم - إلا قليلاً، حتى توجَّهَت قلوبُهم إلى الأرض التي بارَكَها الله، ووصَّى بها رسولُ الله، فخفَقَت إليها بيارِقُ النصر، ورفرَفَت في روابيها ألوِيةُ الجهاد، وسُطِّرَت ملامِحُ من نورٍ، ونشرَ الإسلامُ رِداءَه على الشام، تُزجيه طلائعُ الإيمان، يتقدَّمُهم خالدُ بن الوليد، وأبو عُبيدة بن الجرَّاح، وشرحبيلُ بن حسنة، وعمرو بن العاص، ويزيدُ بن أبي سفيان، والقَعقاعُ بن عمرو، وضِرارُ بن الأَزوَر، وفيهم ألفُ صحابيٍّ منهم مائةٌ ممن شهِدَ بدرًا، وتوالَى عليها الصحبُ الكِرامُ.
قال الوليدُ بن مُسلم: "دخلت الشامَ عشرةُ آلافِ عينٍ رأَت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -".
عيونٌ بعد طُهر المدينة ترى نظرةَ الشام، ولا غَروَ؛ فقد اختارَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، ووصَّى بها الخُلَّصَ من أصحابه؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: «سيصيرُ الأمرُ إلى أن تكونوا جنودًا مُجنَّدةً، جُندٌ بالشام، وجندٌ باليمن، وجندٌ بالعراق». قال ابنُ حَوالةُ - رضي الله عنه -: خِر لي يا رسول الله إن أدركتُ ذلك. فقال: «عليك بالشامِ؛ فإنها خِيرةُ الله من أرضه، يجتبِي إليها خِيرتَه من عباده، فأما إن أبيتُم فعليكم بيَمَنكم، واسقُوا من غُدُركم؛ فإن الله توكَّلَ لي بالشامِ وأهله»؛ أخرجه الإمام أحمد، وأبو داود.
وصارَت الشامُ عاصِمةَ الإسلام، قامَت فيها أولُ ممالكِ الإسلام وأعدلُ ملوك الإسلام، شعَّ منها نورُ العلم، وبُسِط فيها رِداءُ العدل، ونُشِرَت فيها قِيَمُ الحق والحرية، وسطَّر المُسلمون هنالك أروعَ الأمثِلة في حُسن الجِوار، وكرمِ التعامُل مع الآخرين.
وحفِظَ المُسلمون لأهل الأديان ذِمَمهم، وتركُوا لهم مذاهبَهم ومعابِدَهم، فعاش الناسُ في تسالُمٍ وأمانٍ، أحرارًا في أرضهم ومُعتقَدهم، ونالَت الشامَ بركةُ العدل، فرغَدَ عيشُها، ووفَرَ رِزقُها، حتى قال عُمرُ بنُ عبد العزيز وهو مُتربِّعٌ على عرشها: "انثُروا الحبَّ على رؤوس الجِبال حتى لا يُقال: جاعَ طيرٌ في بلاد المُسلمين".
وتكسَّرَت على رُباها جُيوشُ التَّتَر، وعلا فيها نورُ الإسلام وانتصَر، حتى صارَ السائلُ يسألُ ابنَ تيمية - رحمه الله -: "هل المُقامُ بالشام لظهور الإسلام بها أفضلُ أم بمكَّة والمدينة؟".
ثم مضَى الدَّهرُ، ودالَت الأيام، وظهرَ على الأمر فيها مَن بظهورِه استحَالَت حالُها؛ فما الشامُ بالشامِ التي تعهَد، صوَّحَ نبتُها، وذَبَلَ زهرُها، وضاقَ بأهلها العيشُ، وترحَّلَ الأمنُ من مرابِعِها، واقتطَعَ الأعادي جُزءًا من أراضيها، وما زال في أرض الشام العُلماءُ والصالِحون، ومنهم من تفرَّقَ في الديار؛ تفرَّقوا عن أوطانهم مطرودين، تُلاحِقُهم يدُ الظلمِ والبَغيِ، عيُونُهم تفيضُ بالدمعِ، والغُرباءُ أكثرُ ما يكونون شفقةً على أهلهم وديارِهم، وهم يرَون في الشاشات أماكن يعرِفونها من بلادهم، لهم فيها ذكرياتٌ وشُجونٌ، تقصِفُها الطائِرات، وتدكُّها المدافِع.
أيها المسلمون:
الشامُ ترِكةُ الفاتحين من الصحابة والتابعين، ووديعةُ المُتقدِّمين من المُسلمين للمُتأخِّرين، تاريخُها مُلهِم، وحاضِرُها مُؤلِم، وأهلُها لهم في الصبر حكايا تطُول عسَى صبرُهم إلى خيرٍ يَؤول.
وإننا في الوقتِ الذي نستحضِرُ فيه ذلك المجد وذلك التاريخُ القديم لنقفُ على جُرحَيْن غائِرَيْن في بلاد الشام، دمِيَا فاعتلَّت بنزفِهما الأمةُ، كِلا الجُرحَيْن رَطبٌ، ومع ذلك تعملُ المناجِلُ فيهما عملَها: جُرحُ فلسطين، وجُرحُ سُوريا، وبينهما نُدوبٌ هنا وهناك، وهي أيامُ تمحيصٍ وابتِلاءٍ.


أيها المسلمون:
كيف يستطيعُ إنسانٌ في هذه الأيام أن يتجاوَزَ مذابِحَ القِيَم في شامِنا الحبيب وهو يرى غدرَ القريب، وخُذلان البعيد، وخِيانةَ الراعي للرعيَّة، مُقدَّراتُ الشعب ومُكتسباتُه تُوظَّفُ لسحقِه وإذلالِه، وسِلاحُه الذي يدفعُ به غائِلَةَ العدُوِّ عاد على أوداجِ الشعبِ ذبحًا وتقطيعًا، تُسحَقُ الأمةُ لمصلحةِ أفرادٍ ما بالَوا بها يومًا، لقد كُشِف المستورُ، وترنَّحَت الشعارات، وتبيَّن أن العدوَّ الذي وراء الحُدود أرحمُ أحيانًا من العدو الذي في داخل الحُدود.
نساءٌ وأطفالٌ لم يحمِلوا حتى الحجرَ، نثَرَت صواريخُ الغدر حجارةَ منازلهم، وتشظَّت تحت الرُّكام أجسادُهم، ترى الأذرُع مبتورة، والأجسامَ تحت رُكامِ المنازل مقبور، في صُورٍ تُنبِئُ عن مقدار خواءِ نفوسِ مُرتكبيها من الإنسانية والمُثُل، وتجرُّدِ أفعالهم من الشِّيمَةِ والنُّبْلِ، جرَت دماءُ الشاميين جرَيَان دجلة والفُرات، ليس على عدوٍّ ظاهرٍ؛ بل على يدِ مُدَّعِي بعثِ العروبة وحِراسةِ العرب على وجهٍ لا يحتملُ العُذر ولا تستُرُه المُبرِّرات.
أيها الشاميُّون الكرام:
سلاحُكم له كرامةٌ، فلا يُدنَّس بالنَّيلِ بهِ من إخوانكم، وقوتُكم ذُخرٌ للعرب، فلا تتقوَّوا بها على أهلِيكم، واجعَلوا سلاحَكم لأهلِكم حامِيًا، وعن أرضِكم مُدافِعًا، لا عُذرَ لكم أمام الله والتاريخِ أن تعود فَوهات البنادِق على صُدروكم، ويُذيقَ بعضكم بأسَ بعضٍ، وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا[النساء: 93]، وحِّدوا الصفوف، واجمَعوا الكلمة، واستعِينوا بالله واصبِروا.
عباد الله:
إن فضلَ الشام وكونَها ثغرَ الإسلام يُحتِّمُ على المُسلمين التنادِي لنُصرة أهلها ودفعِ البَغيِ عنهم، ورفعِ الضَّيْمِ عنهم، ولقد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاحَ الشام مِعيارًا لصلاح الأمةِ كلها، مما يُحتِّمُ على المُسلمين - كلِّ المُسلمين - أن يدفَعوا بما استَطاعوا لكي لا تُغيِّرَ يدُ الفسادِ وجهَ الشام الجميل، وتبقى كما تاريخُها إيمانٌ وعلمٌ وحضارةٌ ونورٌ، لا يجُوعُ فيها طيرٌ كما أراد عُمر، ولا يُروَّعُ فيها بشرٌ؛ وفاءً للصحابة الفاتحين، والعُلماء الأماجِد الذين توسَّدوا ثَرَى الشامِ في رَقدة الدنيا الأخيرة، وقِيامًا بحقِّها كِفاءَ ما وهبَتْه العربَ والمُسلمين.
ولقد نادى العُقلاءُ الغيورون على مصالِحِ الأمة، وارتفعَ صوتُ خادمِ الحرمين الشريفين من أولِ ساعةٍ يُنادِي بتحكيم الحقِّ والعدل، والمنطقِ والحِكمة والعقل، وتقديمِ المصالحِ العامة العُليا على المصالحِ الشخصيةِ حقنًا لدماءِ المُسلمين، وحِفظًا لوَحدة صفِّهم وأراضيهم، ودفعًا للخلافات الطائفية والمذهبية، وثباتًا على مواقفِ الدين والأخلاق، ووقفَ - حفظه الله - صادِعًا بكلمةِ الحقِّ والعدلِ مع إخوانه وأصدقائِهِ الغَيورين.
فسدَّدَ اللهُ المساعِي، وأصلحَ الشأن، وجعلَ العواقِبَ إلى خيرٍ.
وإنَّا لنُؤمِّلُ في صُبْحٍ يَطوِي الليلَ الخانِقَ، وتتنفَّسُ له الأزهارُ، وتُشرِقُ به شمسُ الخلاص، والأملُ بالله كبير أن تعُودَ إلى بُشراها الأيام، والسماءُ تُرجَّى حين تحتجِبُ.
عسى اللهُ أن يُبدِّلَ ليلَكم صُبحًا، وخوفَكم أمنًا، ولاءَكم عافيةً، وأن يُولِّي عليكم خِيارَكم، ويكفِيَكم شرَّ شِرارِكم، وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[يوسف: 21].
باركَ الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.



الخطبة الثانية
الحمد لله الوليِّ الحميد، يخلُقُ ما يشاءُ ويحكُمُ ما يُريد، وهو العدلُ يفعلُ ما يشاءُ ويحكُمُ ما يُريد، بيده العطاءُ والمنعُ، والابتِلاءُ والمُعافاة، - سبحانه وتعالى وتقدَّسَ - لا تخرُجُ أفعالُه وأوامرُه عن الحِكمةِ والرحمةِ والمصلحة، ونحن عبيدُه بنو عبيدِه بنو إمائِهِ، ماضٍ فينا حُكمُه، عدلٌ فينا قضاؤُه، وهو - سبحانه - أحكمُ الحاكمين، وأرحمُ الراحمين، لا يقضِي لأوليائِه قضاءً إلا كان خيرًا لهم، ساءَهم ذلك القضاءُ أو سرَّهم، وله الحِكمةُ البالِغةُ المحمودةُ في كل ما يجرِي على المُؤمنين حتى وإن كان القضاءُ في ظاهِرِه بلاءً وشرًّا، فإن في طيَّاته من الحِكَم والمصالِحِ ما لا يُحصِيهِ إلا اللهُ، وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[البقرة: 216].
وإذا أيقنَ المؤمنون بهذه الحقيقةِ، وتعرَّفوا أوجُهَ الخير والرحمةِ فيما يُصيبُهم؛ امتلأَت قلوبُهم بالثباتِ والصبرِ، وبالرجاءِ والأملِ والثقةِ بوعدِ الله، والاطمِئنانِ إلى حُسن تدبيرِه واختِيارِه، فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا[النساء: 19].
إن الجُرحَ غائِر، والمُصابَ عظيم، والألمَ شديد، ولكنَّ الوعيَ الذي أحدَثَه هذا الدمارُ في الأمةِ كبير، ولئن اشتَكَت الشامُ؛ فلقد تداعَى لها جسدُ الأمةِ بالحُمَّى والسَّهَر، وظهر التلاحُمُ بين المُسلمين، وسرَت الحياةُ في جسدهم الواحِد، وضجَّت المساجِدُ بالدعاء، واستيقَظَت في الأمةِ مشاعِرُ دفينة، مشاعِرُ كادَت أن تنطمِس، وكادَت أن تقضِيَ عليها شهواتُ الحياة، ولطالَما حاولَ أعداءُ الإسلام تخديرَها بالمُلهِيات ووسائل الترفيهِ - زعَموا -.
وإذ بها تستيقظُ من جديدٍ، وتتأجَّجُ في القلوب، وهي ترى دماءَ الأحِبَّةِ تجري على أرضِ الشامِ المُبارَكة، وعادَ الناسُ عودةً صادقةً إلى الدين، وبانَ صِدقُ الصادقين، وظهر خُذلان الخاذِلين، واهتزَّت ثقةُ العالَمِ بمُنظَّمته الدولية، وتبيَّن أنها لا تتحرَّكُ إلا وفقَ مصالِحها الأنانية، لا يُؤثِّرُ في قلوبِ أربابِها صريخُ الأطفال، وأنينُ الجرحَى والمُعذَّبين.
واستيقَنَت قلوبُ المؤمنين بقولِ الحقِّ - سبحانه -: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ[آل عمران: 160].
رُوِي عن عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - أنه أنشَدَ:
ولا تجزَع إذا ما نابَ خَطْبٌ
فكَم لله من لُطفٍ خفِيِّ
وكم يُسْرٍ أتَى من بعد عُسْرٍ
ففرَّجَ كُربةَ القلبِ الشَّجِيِّ
وكم أمرٍ تُساءُ به صباحًا
وتأتيكَ المسَرَّةُ بالعَشِيِّ
إذا ضاقَت بك الأحوالُ يومًا
فثِق بالواحدِ الفردِ العلِيِّ
أيها المؤمنون:
إن الله تعالى يُريد منَّا عند كل مُصيبةٍ أو نازِلةٍ أن نُكفكِفَ العَبَرات، وأن نمسحَ الأحزان، وأن نُجدِّدَ التوبة، وألا نهِنَ ولا نيأَس، وأن نُدافِعَ القدرَ بالقدر، وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[آل عمران: 139].
معاشر المُسلمين:
إن التعرُّف على أوجهِ الخيرِ والرحمةِ في هذه الأحداث، والرضا بقضاء الله –عز وجل - والتسليمِ لقدره لا يعني التواكُل والعَجز، والرِّضا بالفساد والذِّلَّة والمهانة، وتركَ الأخذِ بأسبابِ النصرِ والعِزَّةَ والكرامَة، ولكنَّه يُقوِّي اليقينَ بوعد الله - سبحانه -، والثقةَ بنصره، والاطمئنانَ إلى قضائِهِ وتدبيرِه.
الابتِلاءُ رفعةٌ وتطهيرٌ وتمحيصٌ، والشهادةُ اختيارٌ واصطِفاءٌ، وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى[القصص: 60].
الألمُ يُولِّدُ الأمل، وبقدر ما يشتدُّ الكربُ يحصُلُ اليقينُ بقُرب الفرَج، واعلَم أن النصرَ مع الصبر، وأن الفرجَ مع الكَرب، وأن مع العُسرِ يُسرًا.
بالصبرِ يكونُ المَدَدُ من السماء، بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ[آل عمران: 125].
وبالصبرِ يذهبُ أذى الأعداء، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا[آل عمران: 120].
ولقد أثنَى اللهُ على الصابرين في البأساء والضرَّاء وحين البأس، فقال - سبحانه -: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[البقرة: 177].
إنه لا بُدَّ من الصبر ولا بَديلَ عنه، لا بدَّ من الصبرِ على ما تُثيرُه الأحداثُ من الألمِ والغَيظ، ومن اليأسِ أحيانًا والقُنوط، لا بُدَّ من الصبرِ ومن المُصابَرة، مُصابَرة الظالمين الذين يُحاوِلون جاهِدين أن يفُلُّوا من صبر المؤمنين.
وإذا كان الباطلُ يُصِرُّ ويصبِرُ ويمضِي في الطريقِ، فما أجدرَ أهلَ الحقِّ أن يكونوا أشدَّ إصرارًا، وأعظمَ صبرًا، إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا[النساء: 104].
فيا أهل الشام! اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[الأعراف: 128].
إن الله - عز وجل - قد تكفَّلَ لنبيِّه بالشام وأهله، من تكفَّل الله به فلا ضيعَةَ عليه، وإن وصفَ الشام في الكتاب والسنة بالبركة لمُبشِّرٌ بأنه لن يطُولَ فيها أمَدُ الفتنةِ والطُّغيان؛ لأنها موطِنُ برَكةٍ وأمنٍ وإيمانٍ
ولقد كان الشامُ مقبرةً لأعداءِ الأمةِ والكِبار؛ ففيها انكسَرَ الصليبيُّون والتتار، وفيا يُغلَبُ الروم - كما في حديثِ المَلحَمة الكُبرى -، وفيها يُهلَكُ الدجَّال ومن تبِعَه من اليهود، وقد جعل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فسادَ الشام مُؤذِنًا بذهابِ الخير من الأمة، وجعل صلاحَها مُبشِّرًا بصلاح أمرِ الأمةِ كلها، وها هي اليوم تجِيءُ البُشريات والليالي بالأماني حافِلات.
وإننا لنُقسِمُ بالله - عز وجل - جازِمين مُوقِنين بما عوَّدَنا ربُّنا من نُصرة أوليائِهِ والدفاع عنهم إذا أخَذوا بأسبابِ النصر، بأن الكربَ والشدَّةَ لن تطُول على قومٍ أنزَلوا حاجتَهم بالله، وهتَفوا: يا اللهَ، ما لنا غيرُك يا اللهَ! والله تعالى يقول: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[آل عمران: 101]، وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ[الروم: 47]، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ[الصافات: 173]، وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ[الحج: 40]، إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ[غافر: 51].
أيها المؤمنون:
إن انتظار الفرَجِ من أعظم العبادات، وإن اليأسَ من رحمةِ الله من كبائرِ الذنوبِ،وعلى المؤمنين ن يملأَ قلوبَهم الفألُ بقُربِ الفرَجِ واليقينُ بنهايةِ الظالمين، فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا[مريم: 84].
ولقد يُريد اللهُ لعباده نصرًا وفرَجًا أعظمَ مما يظُنُّون، وتمكينًا أدوَمَ مما ينتظِرون، وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[الطلاق: 3].
هذا؛ وصلُّوا وسلِّموا على النبي المُصطفى والرسول المُجتبى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولِك محمدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، اللهم ارضَ عن الأئمة المهديين، والخلفاء الراشدِين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبع سنَّتهم يا رب العالمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحرِهِ، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه يا قويُّ يا عزيزُ.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، اللهم وحِّد به كلمةَ المسلمين، وارفع به لواءَ الدين، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده وسدِّدهم وأعِنْهم، واجعَله مُبارَكِين مُوفَّقِين لكل خيرٍ وصلاحٍ.
لا إله إلا الله العظيمُ الحليمُ، لا إله إلا الله ربُّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السماوات وربُّ العرشِ الكريم، لا إله إلا أنت، عزَّ جارُك، وجلَّ ثناؤُك، وتقدَّسَت أسماؤُك، اللهم يا مَن لا يُهزَم جُندُك، ولا يُخلَفُ وعدُك، ولا يُردُّ أمرُك، سُبحانك وبحمدِك.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلِح أحوالَهم في سوريا، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهدى، اللهم احقِن دماءهم، وآمِن روعاتهم، وسُدَّ خَلَّتهم، وأطعِم جائعَهم، واحفَظ أعراضَهم، واربِط على قلوبهم، وثبِّت أقدامَهم، وانصُرهم على من بغَى عليهم، اللهم فُكَّ حِصارَهم، اللهم فرَجَك القريب، اللهم فرَجَك القريب.
اللهم إنا نستودِعُك إخواننا في سوريا، اللهم إنا نستودِعُك دماءَهم، ونستودِعُك أعراضَهم، ونستودِعُك أعراضَهم يا مَن لا تضيعُ ودائِعُه، اللهم إنا نستنزِلُ نصرَك على عبادك المُستضعفين المظلومين، اللهم انتصِر لليتامَى والثَّكَالَى والمظلومين، اللهم رُحماكَ بهم رُحماك يا أرحم الراحمين، ويا ناصِر المظلومين.
اللهم عليك بالطُّغاة الظالمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَكَ، اللهم إنا نستنزِلُ بطشَك على القوم المُجرمين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم انصر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكان، واجمعهم على الحق يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
اللهم اغفر ذنوبنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالنا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم، إنك سميعُ الدعاء.
نستغفِرُ الله، نستغفِر الله، نستغفِرُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الحيَّ القيُّومَ ونتوبُ إليه.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزِل علينا الغيثَ ولا تجعلنا من القانِطين، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغِثنا غيثًا هنيئًا مريئًا سحًّا غدَقًا طبقًا مُجلِّلاً عامًّا نافعًا غيرَ ضارٍّ، تسقِي به العباد، وتُحيِي به البلاد، وتجعلُه بلاغًا للحاضرِ والبادِ.
اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ.
ربَّنا تقبَّل منا إنك أنت السميعُ العليم، وتُب علينا إنك أنت التوابُ الرحيم.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.

ابوحاتم 03-23-2012 10:54 PM

العسر مع اليسر
ألقى فضيلة الشيخ أسامة بن عبد الله خياط - حفظه الله - خطبة الجمعة بعنوان: "العسر مع اليسر"، والتي تحدَّث فيها عن الفتن والمِحَن التي تمرُّ بها أمةُ الإسلام وبلادُه، وبيَّن أن تلك الفتن لن تدوم طويلاً؛ حيث ذكر الأدلة الدامغة من الوحيَيْن التي تُبيِّن أن بعد العُسر يُسرًا، وأن الفرجَ مع الكرب، وأن الله مُزيح الهمِّ ومُزيل الغمِّ.

الخطبة الأولى
الحمد لله الذي يجعل بعد العُسر يُسرًا، أحمده - سبحانه - حمدًا يزيدُنا به نعَمًا وخيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يخلُقُ ما يشاءُ ويختارُ المُتفرِّدُ في الكون نهيًا وأمرًا، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله خيرُ الخلق طُرّا وأعظمُهم بِرًّا، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحبه أصوبِ السالكين إلى الله وأهداهم سَيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله - عباد الله -، واذكرُوا أن للمتقين في الدنيا حياةً طيبةً، ولهم في الآخرة جناتٍ تجري من تحتها الأنهار.
أيها المسلمون:
تيسيرُ العسير، وتذليلُ الصعب، وتسهيلُ الأمور أملٌ تهفُو إليه النفوس، وتطمحُ إلى بلوغ الغايةِ فيه والحَظوةِ بأوفى نصيبٍ منه، وإدراكِ أكملِ حظٍّ ترجُو به طِيبَ العيشِ الذي تمتلكُ به أزِمَّةَ الأمور، وتتوجَّهُ به إلى خيراتٍ تستبِقُ إليها، وتنجُو من شُرورٍ تحذَرُ سوءَ العاقبة فيها.
ولذا فإن من الناسِ من إذا أصابَه العُسر في بعض أمره رأى أن شرًّا عظيمًا نزلَ بساحته، وأن الأبوابَ قد أُوصِدَت دونه، والسُّبُلَ سُدَّت أمامه، فتضيقَ عليه نفسُه، وتضيقَ عليه الأرضُ بما رحُبَت، ويسوءَ من ظنِّه ما كان قبلُ حسنًا، ويضطربَ من أحواله ما كان سديدًا ثابتًا مُستقِرًّا، وربما انتهى به الأمرُ إلى ما لا يحِلُّ له ولا يليقُ به من القولِ والعمل.
أما المتقون الذين هم أسعدُ الناس وأعقلُهم فإن لهم في هذا المقام شأنًا آخر، وموقفًا مُغايِرًا بما جاءَهم من البيِّناتِ والهُدى من ربِّهم، وبما أرشدَهم إلى الجادَّة فيه نبيُّهم - صلوات الله وسلامه عليه -، إنهم يذكُرون أن ربَّهم قد وعدَهم وعدَ الصدقِ الذي لا يتخلَّف، وبشَّرَهم أن العُسرَ يعقبُه يُسرٌ، وأن الضيقَ تردُفُه سَعَة، وأن الكربَ يخلُفُه فرَجٌ؛ فقال - سبحانه -: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[الشرح: 5، 6]، وقال - عزَّ اسمه -: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا[الطلاق: 7].
وهو موعودٌ مُقترِنٌ بشرط الإتيان بأسبابٍ عِمادُها وأساسُها وفي الطليعةِ منها: التقوى التي هي خيرُ زاد السالكين، وأفضلُ عُدَّة السائرين إلى ربِّهم، ووصيةُ الله تعالى للأولين والآخرين: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ[النساء: 131].
وهي التي تبعثُ المُتَّقي على أن يجعل بينه وبين ما نهى الله عنه حاجزًا يحجُزُه، وساترًا يقِيه، وزاجِرًا يزجُرُه، وواعِظًا في قلبه يعِظُه ويُحذِّرُه.
فلا عجبَ أن تكون التقوى من أظهرِ ما يبتغي به العبدُ الوسيلةَ إلى تيسير كلِّ شُؤونه، وتذليلِ كل عقبةٍ تعترِضُ سبيلَه أو تحُولُ بينَه وبين بلوغِ آماله، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا[الطلاق: 4].
ومع التقوى يأتي الإحسانُ في كل دروبِه؛ سواءٌ منه ما كان إحسانًا إلى النفس بالإقبال على الله تعالى والقيام بحقِّه - سبحانه - في توحيده وعبادته بصرفِ جميعِ أنواعِها له وحده - سبحانه - محبَّةً وخوفًا ورجاءً وتوكُّلاً وخضوعًا وخشوعًا وإخباتًا وصلاةً ونُسُكًا وزكاةً وصيامًا وذِكرًا وصدقةً؛ إذ هو مُقتضى شهادة أن لا إله إلا الله التي تعني: أنه لا معبودَ بحقٍّ إلا الله، وتلك هي حقيقةُ التصديقِ بالحُسنى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى[الليل: 5- 7].
ومما يبسُطُ مدلولَ هذا ويُوضِّحُه: أن يعلمَ المرءُ أن الله تعالى قد اتَّصَفَ بصفاتِ الكمال، وأنه - كما قال الإمامُ ابنُ القيِّم - رحمه الله -: "يُجازِي عبدَه بحسبِ هذه الصفات؛ فهو رحيمٌ يحبُّ الرُّحَماء، وإنما يرحمُ من عباده الرُّحَماء، وهو ستِّيرٌ يحبُّ من عباده السّتر، وعفوٌّ يحبُّ من عباده من يعفُو عنهم، وغفورٌ يحبُّ من يغفِرُ لهم، ولطيفٌ يحبُّ اللُّطفَ من عباده، ويُبغِضُ الفظَّ الغليظَ القاسِي الجَعظَرِيَّ الجوَّاظ، رفيقٌ يحبُّ الرِّفقَ، حليمٌ يحبُّ الحلمَ، برٌّ يحبُّ البِرَّ وأهلَه، وعدلٌ يحبُّ العدلَ، قابِلُ المعاذِير يحبُّ مَن يقبَلُ معاذيرَ عباده، ولذا فهو يُجازي عبدَه بحسبِ هذه الصفاتِ وجودًا وعدمًا؛ فمن عفا عفا عنه، ومن غفرَ غفرَ له، ومن رفقَ بعباده رفقَ به، ومن رحِمَ خلقَه رحِمَه، ومَن أحسنَ إليهم أحسنَ إليه". اهـ.
ومن هذا الإحسانِ - يا عباد الله -: التيسيرُ على المُعسِر إما بإنظاره إلى ميسرةٍ، وإما بالحطِّ عنه، كما جاء في الحديثِ: «ومن يسَّرَ على مُعسِرٍ يسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه".
فإذا جمعَ إلى ذلك: التضرُّعَ إلى خالقه ودعاءَه بما كان يدعُوهُ به الصفوةُ من خلقه؛ كدُعاء نبيِّه موسى - عليه وعلى نبيِّنا أفضل الصلاة والسلام -: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي[طه: 25- 28]، وكذلك دعاءُ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - الذي كان يدعُو به عند تعسُّر الأمور، وذلك قولُه: «اللهم لا سهلَ إلا ما جعلتَه سهلاً، وأنت تجعلُ الحَزْنَ إذا شئتَ سهلاً».
مُلتزِمًا في ذلك آدابَ الدعاءِ وسُننَه؛ من إخلاصٍ لله، ومُتابعةٍ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وابتداءٍ بحمده - سبحانه - والثناءِ عليه، والصلاة والسلام على نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، واستِقبالٍ للقبلة، وإلحاحٍ في الدعاءِ، وعدمِ الاستِعجالِ فيه بأن يقول: دعوتُ فلم يُستجَب لي، ومع سُؤال الله وحده دون سِواه، واعترافٍ بالذنبِ، وإقرارٍ بالنِّعمة، وتوسُّلٍ إليه بأسمائه الحُسنى وصفاتِهِ العُلَى، أو بعملٍ صالحٍ سلَفَ له، أو بدعاءِ رجلٍ صالحٍ حيٍّ حاضرٍ، ورفعِ اليدين، والوضوءِ إن تيسَّرَ، وإطابةِ مطعمه بأكل الحلال الطيِّب واجتِنابِ الحرام الخبيثِ، واجتِنابِ الاعتِداءِ في الدعاءِ بألاَّ يدعُوَ بإثمٍ، ولا بقطيعةِ رحِمٍ، وبألاَّ يدعُوَ على نفسه ولا على أهله أو ماله أو ولده، وبعدم رفعِ الصوت فوق المُعتاد وفوق الحاجة.
هنالك تُرجَى الإجابة، وتُستمطَرُ الرحمةُ الربانية، ويُرتَقَبُ اليُسرُ، ويُفرَحُ بفضل الله وبرحمته، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[يونس: 58].
نفعَني الله وإياكم بهديِ كتابه، وبسُنَّة نبيِّه - صلى الله عليه وسلم -، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية
إن الحمد لله نحمده ونستعينُه ونستغفرِه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد، فيا عباد الله:
جاء في بَسطِ مدلولِ قولِ الله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا[الشرح: 5، 6] قولُ بعضِ أهل العلم بالتفسير: "هذه إشارةٌ عظيمةٌ أنه كلما وُجِدَ عُسرٌ وصعوبةٌ؛ فإن اليُسرَ يُقارِنُه ويُصاحِبُه، حتى لو دخلَ العُسر جُحرَ ضبٍّ لدخلَ عليه اليُسرُ فأخرجَه، كما قال تعالى: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا[الطلاق: 7]، وفي تعريفِه بالألف واللام الدالةِ على الاستغراقِ والعموم دليلٌ على أن كل عُسرٍ وإن بلغَ من الصعوبةِ ما بلغَ ففي آخره التيسيرُ مُلازِمٌ له". اهـ.
وإنها لَبشارةٌ عظيمةٌ - يا عباد الله - لمن أصابَه العُسرُ، ونزلَ به الضُّرُّ، وأحاطَ به البلاءُ، واشتدَّ عليه الكربُ من أهل الإسلام قاطِبةً، ومن أهل الشام خاصَّةً الذين سِيموا سُوءَ العذاب بغيًا وعَدوًا وظُلمًا؛ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ[فاطر: 43].
فليُبشِروا باقترابِ النصرِ، وتنفيسِ الكربِ، وتفريجِ الشدَّة، وكشفِ الغُمَّة، ورفعِ البلاءِ، والعافيةِ من البأساء والضرَّاء.
ألا فاتقوا الله - عباد الله -، وأحسِنوا الظنَّ بالله، وثِقُوا بوعده الحق الصادقِ الذي لا يتخلَّفُ ولا يتبدَّلُ أن مع العُسرِ يُسرًا.
واذكروا على الدوامِ أن الله تعالى قد أمَرَكم بالصلاةِ والسلامِ على خير الورَى، فقال - جل وعلا -: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمدٍ، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر الآلِ والصحابةِ والتابعين، ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك يا خيرَ من تجاوزَ وعفا.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزةَ الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائرَ الطُّغاةِ والمُفسدين، اللهم دمِّر الطُّغاةَ والمٌفسدين يا رب العالمين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفَهم، وأصلِح قادتَهم، واجمع كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.
اللهم انصر دينكَ وكتابكَ وسنةَ نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - وعبادكَ المؤمنين المُجاهِدين الصادقين. اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين، وهيِّئ له البِطانةَ الصالحةَ، ووفِّقه لما تُحبُّ وترضى يا سميعَ الدعاء، واجزِه خيرَ الجزاء عن مواقفِهِ الإسلاميةِ الحكيمةِ الحازِمةِ مع قضايا المُسلمين كافَّةً ومع قضيةِ المُسلمين في سُوريةَ خاصَّةً يا رب العالمين.
اللهم إنا نجعلُك في نحور أعدائك وأعدائنا يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلُك في نُحورهم ونعوذُ بك من شُرُورهم، اللهم إنا نجعلُك في نُحورهم ونعوذُ بك من شُرُورهم، اللهم اكفِنا شرَّ أعدائِك وأعدائِنا بما شِئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ، اللهم اكفِنا أعداءَك وأعداءَنا بما شِئتَ.
اللهم اكشِف عن أهل سُورية ضُرَّهم، ونفِّس عنه كربَهم، ويسِّر عُسرَهم، وفرِّج ضِيقَهم، واستُر عوراتهم، اللهم استُر عوراتهم وآمِن روعاتهم، اللهم استُر عوراتهم وآمِن روعاتهم، ونجِّهم مما يخافون يا رب العالمين، واكفِهم بما شئتَ شرَّ أعدائهم، واكفِهم بما شئتَ شرَّ أعدائهم، وارحَم ضعفَهم، اللهم ارحَم ضعفَهم، واجبُر كسرَهم، واشفِ جرحاهم، اللهم اشفِ جرحاهم، واكتُب أجرَ الشُّهداء لقتلاهم، وفُكَّ قيدَ أسراهم، وأطعِم جائِعَهم، واستُر عارِيَهم، وقِنا وإياهم شرَّ الفتن، اللهم قِنا والمُسلمين جميعًا شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطَن يا رب العالمين.
اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خيرٍ، والموتَ راحةً لنا من كل شرٍّ.
اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلِّغنا فيما يُرضيكَ آمالَنا، واختِم بالصالحات أعمالَنا.
اللهم إنا نعوذُ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميعِ سخطك.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف: 23]، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[البقرة: 201].
وصلَّى الله وسلَّم على عبده ورسوله نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


الساعة الآن 01:31 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.7, Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir